إشكالات العمل الثقافي السوري: من الرابطة الى الرابطة!/ نبيل سليمان
بعيد الاستقلال أسس عدد من كتاب سورية الشباب أول تمثيل نقابي لهم. وفي نهاية خمسينيات القرن الماضي تبدد التمثيل حتى نهاية الستينات، حيث قام التمثيل الثاني. ولما زلزلت سورية زلزالها وأخرجت أثقالها قام تمثيل ثالث إلى جانب الثاني. وبيان ذلك فيما يلي:
رابطة الكتاب السوريين:
في عام 1951 بادر عدد من الكتاب إلى تأسيس رابطة الكتاب السوريين ومنهم: حنا مينه وشوقي بغدادي والفنان فاتح المدرس وصلاح دهني وسواهم ممن كان أغلبهم في صدارة المشهد الأدبي لعقود تلت. وقد غلب على الرابطة الطابع اليساري الماركسي والقومي. وبالتوازي مع الرابطة بادر آخرون في دمشق إلى تأسيس رابطة وحي القلم، ورابطة الأدب الجديد، وجماعة الكتاب لتقدميين، وجماعة أهل القصة. وخارج العاصمة قامت رابطة الأدب السوري الجديد في اللاذقية، وأسرة الكواكبي في دير الزور، وأسرة الأصدقاء في حلب. أما رابطة الكتاب السوريين فقد تحولت في مؤتمرها الذي انعقد في دمشق عام 1954 إلى رابطة الأدباء العرب التي تولى شوقي بغدادي أمانتها العامة حتى حلّتها سلطات دولة الوحدة السورية المصرية (الجمهورية العربية المتحدة) عام 1959. ومن غير السوريين الذين حضروا مؤتمر 1954 حسين مروة ومحمد دكروب من لبنان وعبد العظيم أنيس من مصر وسواهم. وإثر ذلك، وفي العام نفسه، انعقد المؤتمر الأول للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب في بيروت.
اتحاد الكتاب العرب:
من سنوات الوحدة السورية المصرية 1958 – 1961 إلى سنوات حزب البعث ما قبل حافظ الأسد، أكملت السلطة هيمنتها على المجتمع، فجرى تأميم الصحافة وتعطيل المجتمع المدني. وفي عام 1969 بادر عدد من الكتّاب، وبالتوجيه السلطوي، إلى تأسيس اتحاد الكتاب العرب. وفي طليعة المؤسسين كان زكريا تامر وعلي الجندي وحيدر حيدر وصدقي اسماعيل وممدوح عدوان وحنا مينه وسواهم.
وقد ترأس الاتحاد وزير التربية سليمان الخش، وفي هذه الفترة انتسبت إلى الاتحاد، حتى إذا بدأت المرحلة الأسدية من حكم حزب البعث عام 1970، ترأس الاتحاد صدقي اسماعيل، ورفع حافظ الأسد شعار (لا رقابة على الفكر إلا رقابة الضمير). وقد تُرجِم الشعار بإسناد مهمة رقابة الأعمال الأدبية إلى الاتحاد، بدلاً من وزارة الإعلام، وسرعان ما صار الكتّاب يترحمون على زمن رقابة الوزارة.
رابطة الكتّاب السوريين:
في سنة 2012 بادر عدد من الكتاب والكاتبات ممن غادروا البلاد إلى تأسيس رابطة الكتاب السوريين، بالاسم القديم نفسه، وانتخب صادق جلال العظم رئيساً للرابطة التي سرعان ما بلغ عدد أعضائها 374.
التمثيل والاستقلال:
في العقد الخامس من القرن الماضي كانت رابطة الكتاب السوريين، ووريثتها رابطة الكتاب العرب، كاملتي الاستقلال عن السلطة. وكان لهما من مصداقية التمثيل درجة عليا، دون أن يمنع ذلك قيام هيئات أخرى لتمثيل آخرين. ولا ننسَ هنا أن الاستقلالية كانت تتأثر بدرجة ما بالانتماء أو الميل الحزبي لأعضاء فاعلين ويساريين بعامة، سواء أكانوا شيوعيين أم قوميين عرب من بعثيين أو مستقلين.
مع قيام اتحاد الكتاب العرب في حضن السلطة تراجعت الاستقلالية سريعاً، حتى إذا تولى علي عقلة عرسان رئاسة الاتحاد عام 1977 أنهى الاستقلالية، ودمغ الاتحاد بالدمغة السلطوية، وذلك بإغراقه بالأعضاء الذين يضمن ولاءهم، ويفتقر أغلبهم إلى ما يؤكد نسبه الأدبي. وقد تفاقمت هذه (الجريمة) طول ثمانية وعشرين عاماً من ترؤس عرسان للاتحاد. ولئن هدأت حملة التنسيب من بعد، فما كان لتبعية الاتحاد للسلطة أن تتراخى، بينما كان تطويب المجتمع وتعطيل حياته السياسية والنقابية قد أنجز، وجعل البلاد على أهبة الاحتراق بفتيل الفساد والقمع.
لقد انتفخ الاتحاد حتى بلغ عدد أعضائه 1441 منهم في سورية 886 والباقي من الكتاب العرب، فنظام الاتحاد يسمح بالعضوية للعرب غير السوريين. وعلى الرغم من هذا (الانتفاخ) ظل عدد من الكتاب المرموقين خارج الاتحاد، مثل عبد السلام العجيلي ومحمد كامل الخطيب وبوعلي ياسين والياس مرقص ومنذر مصري… أم من الأجيال الجديدة: مثل هالة محمد وسمر يزبك وسوسن جميل حسن وديما ونوس وروزا ياسين حسن ولقمان ديركي و…
ولأن السلطة هي قدوة الاتحاد، فقد كان مجلس الاتحاد الذي ينتخب المكتب التنفيذي، مكوناً دوماً من ثلاثة عشر عضواً من حزب البعث الحاكم مقابل اثني عشر لغيرهم، ممن ليسوا إلا صدى لهم، لا فرق بين مستقل أو شيوعي أو ناصري، وذلك أسوة بالجبهة الوطنية التقدمية التي ابتدعها حزب البعث في سورية والعراق، قناعاً لأحاديته.
والأمر كذلك، لم يكن ثمة فارق بين الانتخاب والتعيين، وفيهما معاً تفعل الذراع الأمنية ما تشاء. وهكذا تسقط دعوى الاستقلالية، ودعوى مصداقية التمثيل لمصالح الأدباء والمثقفين، وبخاصة ممن هم خارج الاتحاد، إلا إذا اعتبرت المصالح فقط: الضمان الصحي، ومكافآت النشر في دوريات الاتحاد أو في كتبه، والضمان الاجتماعي المتمثل في تقاعد هزيل وفي مساعدة ذوي الميت. والحق أن الاتحاد يقدم من ذلك قدراً، ومن قبل وفرت جمعية الاتحاد السكنية سكنى لكثيرين.
لكن المصلحة الكبرى للكاتب، قبل هذا الفتات وبعده، هي في الحماية المعنوية، مما يتصل بالرقابة وحرية التعبير، وبالاعتقال أو المنع من السفر أو من الانخراط في الشأن العام على غير ما ترتضي السلطة. وهنا ينبغي أن يشار إلى أن الاتحاد ناشط في القضايا العربية، ولكن بما هو صدى للسياسة الخارجية للدولة، وعلى من يغرد خارج السرب أن يكون مستعداً لتحمل الوزر العظيم الذي لن ينفعه فيه الاتحاد، إن لم يضاعفه عليه، ومن أمثلة ذلك، وما أكثرها، فصل أدونيس عام 1995 من الاتحاد بدعوى مقاومة التطبيع مع العدو الصهيوني. وقد استقال من الاتحاد سعد الله ونوس وحنا مينه احتجاجاً على فصل أدونيس، وعلى الديماغوجية العرسانية (نسبة لعلي عقلة عرسان) التي فصلت من بعد هاني الراهب بالدعوى نفسها.
من سيرة عضو في الاتحاد:
قبل ذلك بقرابة العقدين كان المكتب التنفيذي للاتحاد، بالقيادة العرسانية قد فصلني من الاتحاد بدعوى الخروج على أهدافه. وهذه الأهداف في وثائق الاتحاد: إذكاء روح المقاومة، والصمود في وجه الأخطار التي تهدد الوجود العربي، ومجابهة الاستعمار والإمبريالية والصهيونية على الصعيد الثقافي والقومي والسياسي.
لحسن الحظ أن الجهات الأمنية لم تأخذ بتهمة خروجي على هذه الأهداف. فمن اعتقلوا خلال عقود، وقضوا عشراً أو عشرين من السنين في المعتقلات، بمحاكمة عُرْفية وصورية أو بغير محاكمة، كانت جريمتهم هي تلك التهمة المؤسسة على روايتي (جرماتي أو ملف البلاد التي سوف تعيش بعد الحرب) والتي صدرت في القاهرة عام 1977. ومن المضحك المبكي أن الرواية عُدّت في مهرجان في مدينة الاسماعيلية، كما أخبرني يومئذٍ الشاعر سمير عبد الباقي، مقاوِمة للتطبيع، بينما رأى فيها اتحاد الكتاب ما هو أدهى من التطبيع. والمهزلة أنني لم أُبلّغ بقرار الفصل إلا بعد قرابة السنتين، إذ أُرسِل إلى زوجتي بعد سفري إلى فرنسا عام 1980. وقد أعيدت لي العضوية بعد سنوات، وبعدما أثار قضية فصلي في مؤتمر للاتحاد شوقي بغدادي وهاني الراهب وممدوح عدوان.
وفي 31/1/2001، وفي غمرة ما عرف بربيع دمشق، وإثر إقامتي ندوة في منزلي، وعقب صدور روايتي (سمر الليالي) بأشهر، تعرضت لاعتداء جسدي من مجهولين معلومين، وكان لكثيرين وكثيرات فضل إعلان التضامن معي، إلا علي عقلة عرسان وبطانته في الاتحاد، الذين عاجلوني باعتداء معنوي أمرّ، إذ رددوا الشائعات التي حاولت تشويه سمعتي وتخويني. وفي سنة 2010، في مطار دمشق، وعلى مرأى من وليد إخلاصي وبندر عبد الحميد وعبده وازن وآخرين – وقد كنا ذاهبين إلى ندوة مجلة العربي الكويتية – منعت من السفر، وبلّغت الاتحاد الذي وقف متفرجاً، حتى إذا رُفِع المنع بتدخلات شخصية ادعى الاتحادُ الفضلَ فيه. لكنني لم أعد للاتحاد عندما اكتشفت ثانية، في مطار دمشق ايضاً، أنني ممنوع من السفر بأمر فرع أمني آخر. كما لم أعد للاتحاد عندما هاجم الشبيحة بيتي في قريتي، ودمروا سيارتي في 11/7/2011. ولم يكن موقف الاتحاد أفضل مع أيٍ ممن من تعرضوا إلى أي شكل من اشكال الأذى المعنوي أو الجسدي أو الرقابي. ولأحدٍ بعد ذلك أن يسأل عما أبقاني في الاتحاد كل هذا العمر، فهل يكفي القول: إنه الخوف وافتقاد البديل؟
السياسة تطغى على الثقافة:
إذا كانت سيرة اتحاد الكتاب العرب في سورية – وكما هو الامر أيضاً في سيرة الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب – هي سيرة طغيان السياسة على الثقافة، فلا يختلف الأمر، من حيث الجوهر، بالنسبة لرابطة الكتاب السوريين المعارضة التي تأسست سنة 2011، وبين أعضائها عدد ممن كانوا أعضاء الاتحاد، وعدد من الأصوات الجديدة التي رفضت الانتساب إلى الاتحاد.
غير أن بين الأعضاء أيضاً من ليس في رصيدهم الإبداعي أو الثقافي ما يؤهلهم، بل هم قادة أو ناشطون سياسيون معارضون، كما هو الأمر في اتحاد الكتاب السلطوي الذي كان بين أعضائه حتى أمس غير بعيد رفعت الأسد ومصطفى طلاس، وما أدراك ما رفعت الأسد وما مصطفى طلاس!
وقد حاولت الرابطة (الجديدة) أن تحل محل الاتحاد، سواء في الاتحاد العام أم في غيره، لكنها لم تتمكن، وسرعان ما خفت بريقها، وكادت أن تُنسى، على الرغم من تميّز المجلتين اللتين أصدرتهما (أوراق / دمشق). ومن أسباب الخفوت يبرز الارتهان للسياسة – ومن ذلك التمويل – وتعقيدات الزلزلة السورية التي أعلت في الرابطة المعارضة كما في الاتحاد السلطوي صوت الإقصاء والتخوين، وأعشت البصيرة لدى بعضهم حدّ الطائفية وحدّ النفخ في بوق العسكرة والأسلمة.
المستقبل:
منذ أكثر من عقدين، وفي مؤتمر لاتحاد الكتاب انعقد في مكتبة الأسد، تقدمت مع وليد إخلاصي وحسين العودات باقتراح ينهي مهمة الاتحاد الرقابية، ويطالب بإلغاء الرقابة المسبقة، وإسناد قضايا النشر إلى المحاكم العادية، وليس الاستثنائية بحسب قانون الطوارئ والأحكام العرفية. كما طالب الاقتراح بأن يفسح الاتحاد في هيكلته لتكوين روابط أو تجمعات، وبالسماح لمثل ذلك خارج الاتحاد. لكن مكر وخبرة رئيس الاتحاد (علي عقلة عرسان) الذي كان يدير المؤتمر، بلعت الاقتراح الذي لاقى ترحيباً.
إن ما طالبنا به في هذا الاقتراح هو اليوم مما ينادي المستقبل. وهكذا، من المأمول أن يفسح المستقبل لتشكيل أكثر من رابطة أو اتحاد أو هيئة، فأحادية وشمولية التمثيل سواء في الموالاة أم في المعارضة، تنادي زمناً تولى، هو زمن ما كان يعرف بالمنظمات الشعبية، وزمن قولبة المجتمع في اتحادات سلطوية وحزبية للفلاحين والعمال والشبيبة و.. والكتّاب، على النهج الستاليني سيء الذكر. وفي التبدل المنشود لا مطرح لهيمنة السياسي، وشتان ما بين الهيمنة وبين الاشتغال الثقافي بالشأن العام.
أما الصيغ الشائخة والشائهة فليست ذات جدوى، بل هي ضارة، ليس لأنه زمن العولمة، بل لأنه زمن التغيير نحو الديمقراطية والحرية والعدالة، على الرغم من كل المؤسات. ويتصل بذلك أن الاتحاد العام للأدباء والكتّاب العرب أيضاً لا يعبر عن جموع المثقفين والأدباء، ما دامت مكوناته كذلك، وعلى رأسها المكون السوري.
*روائي وكاتب سوري
ضفة ثالثة
تعليق واحد