جميل حتمل..صورة الكاتب في شبابه الحزين/ بشير البكر
ولد جميل حتمل في دمشق في تشرين الثاني/ نوفمبر 1957، وعاش هناك حتى العام 1982، ثم غادر إلى باريس ليعود إلى مسقط رأسه في تابوت، بعدما رحل في العاصمة الفرنسية في تشرين الأول/اكتوبر 1994، جراء معاناة ضعف القلب والشرايين، فاقمتها احباطات شخصية وحنين حاد إلى سوريا. وشكل رحيله المفاجىء صدمة لمن عرفوه، وهو كاتب القصة المتميز والصحافي النبيه والانسان الحميم الذي يتابع، بلا كلل، أخبار أصدقائه ومعارفه، ويهتم بها إلى حد كبير. وهذ عمل شاق ويحتاج إلى تركيز وطاقة استثنائية في ذلك الوقت ولم يكن قد تم اختراع الايميل والهاتف الخليوي وحتى الفاكس. وهذا لا يقف عند الأخبار، بل ينسحب إلى الصحف والكتب والاسطوانات.
وكانت مكتبة جميل الشخصية إحدى أغنى المكتبات على صعيد الإصدارات الجديدة، ويندر أن يصدر كتاب في سوريا أو لبنان ولا يصل إلى جميل في بعض الأحيان قبل عرضه في المكتبات، وهكذا الأمر بالنسبة إلى الصحف والمجلات وخصوصاً الثقافية. وكان يؤرشف موادها ويحتفظ بصور “فوتوكوبي” لأصحابها الذين يبحث عنهم أحياناً كي يزودهم بها. وكان هذا النشاط يحتاج إلى موازنة خاصة يتحملها والده، ألفريد حتمل، الذي أحاطه برعاية خاصة، وقدم له كل الدعم لتطوير وتنمية مواهبه الثقافية قبل أن يبدأ جميل في سن 17 عاماً بالاعتماد كلياً على نفسه.
وكان اهتمام جميل الثقافي مبكراً جداً، ففي فترة الدراسة الثانوية، وقبل أن يحصل على شهادة البكالوريا كان قد نشر العديد من القصص التي تنم عن موهبة وتميز، وتعرف عن طريق المراسلة على كتاب كثيرين، وما أن حاز شهادة البكالوريا والتحق بالجامعة حتى صار بسرعة في قلب الوسط الثقافي في دمشق، والذي كان في النصف الأول من السبعينات يشهد نشاطاً ملحوظاً على صعيد الكتابة والرسم والمسرح والموسيقى، وبرزت أسماء جديدة بعدما خرجت سوريا من حرب تشرين الأول أفضل حالاً من حرب حزيران/يونيو 1967. وكان النصف الأول من السبعينات يشبه، إلى حد ما، أجواء الستينات، لجهة ضعف الرقابة الرسمية على الثقافة وتدخل أجهزة الأمن في الحياة الثقافية، وهذا بدأ تدريجياً في النصف الثاني من السبعينات، بعد أن تدخل النظام السوري في لبنان ضد المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية البنانية بموافقة الولايات المتحدة، وبضوء أخضر من اسرائيل.
عاش جميل في حي القصاع الدمشقي الذي يعد من أحياء الطبقة الوسطى، والقريب إلى وسط المدينة في منطقة المرجة والسبع بحرات، وعلى مسافة أقرب إلى أحد أجمل أحياء دمشق، باب توما الذي كتب فيه الشعراء من نزار قباني ومحمد الماغوط، وحتى مظفر النواب. وعرف اليتم في طفولته، إذ رحلت والدته وتركته إلى جانب شقيقه جمال وشقيقته رجاء، ولحسن حظ هذه العائلة الصغيرة أن الأب كان موجوداً. والد جميل، ألفريد حتمل، كان شخصاً على قدر كبير من الكياسة. ودود، كريم، مثقف، وكان رساماً متميزاً، وجدت أعماله صدى كبيراً في الأوساط الثقافية، فهو فنان فطري لم يتعلم في كلية فنون، بل علم نفسه بنفسه، وبنى علاقة خاصا بالألوان، وكان مسكوناً بألوان البيئة التي ولد فيها، وهي بيئة فلاحية من سهل حوران. وساهم في تشكيل جمعيات فنية عديدة، مثل أصدقاء دمشق ومركز أحمد وليد عزت ونقابة الفنانين، وحتى أنه درس الفن أكثر من عشرين عاما في معاهد عديدة. وكان ألفريد، أباً وأمّاً وأخاً وصديقاً لأولاده، وصديقاً لأصدقائهم. وفي كثير من الحالات كنا نقصد المنزل، نحن أصدقاء جميل، ولا نجده هناك، ويستقبلنا ألفريد بحفاوة، ويهتم بنا في ما يخص الطعام والنوم، وحتى المصاريف العاجلة أحياناً كالسجائر. وحين كانت تنعقد حلقات النقاش بيننا في صالون البيت، كان يتركنا وحدنا، رغم أننا نتناقش في قضايا سياسية ممنوعة. ولم يكن يبدو عليه الخوف، وهو الحذر واللبق. وآخر مرة رأيته في دمشق، كانت في ليلة 16 حزيران 1979.
وكان هذا التاريخ مفصلياً في سوريا، إذ قام تنظيم الطليعة المقاتلة بارتكاب مجزرة مدرسة المدفعية في حلب الذي ذهب ضحيتها 80 ضابطاً علوياً. كنا عائدين مساء، جميل والفنان فؤاد كمو وأنا، من عشاء سمك في باب توما، مشياً على الأقدام باتجاه منزل أهل جميل، وإذ بدورية مخابرات تستوقفنا، وتسوقنا مشياً على الأقدام الى فرع الأمن السياسي بقرب بيتهم. ومكثنا هناك حتى الساعة الرابعة صباحاً. وأطلقوا سراحنا حين تأكدوا أننا لسنا من الأخوان المسلمين، لكنهم طلبوا منا أن نرجع في اليوم الثاني لاستكمال التحقيق. وأذكر أننا حين تركنا الفرع، سِرنا على الأقدام نحو منزل آل حتمل وأيقظنا ألفريد الذي هدأ من روعنا، وأعد لنا قهوة وجلب لنا السجائر، وكان رابط الجأش، وهذا شجعنا على تجاوز الخوف والصدمة.
غادرت سوريا بعد ذلك إلى بيروت، وعملت في الإعلام الفلسطيني الموحد-وكالة وفا للأنباء، وبقي جميل في دمشق، لكنه كان يتردد الى بيروت، ويمكث فترات طويلة، وكنا نلتقي طيلة الوقت. فهناك ما يجمعنا غير الصداقة والهم السياسي، هو الكتابة، وعبّرنا عن ذلك من خلال تشكيل مجموعة ثقافية معارضة، تكونت من مجموعة من الشباب الذين يكتبون الشعر والقصة، وأصدرنا ما عرف بـ”الكراس” الأدبي. وهو عبارة عن نشرة ثقافية تضم نصوصاً، وخرج إلى الضوء مع أحداث تل الزعتر كوقفة تضامن واحتجاج، وصدرت منه عشرة أعداد. وكان الفريق الأساسي يتكون من جميل حتمل، وائل سواح، حسان عزت، فرج بيرقدار، رياض الصالح الحسين، خالد درويش، موفق سليمان، فادية لاذقاني، بشير البكر. وشارك فيه من الخارج ممدوح عدوان وعلي الجندي، لكن تلك التجربة لم تستمر طويلاً، ولاحقنا الأمن. واعتُقل رياض الصالح الحسين وخالد درويش من حلب، وكان من المقرر اعتقالي في الوقت ذاته لأني كنت أدرس في كلية الزراعة في جامعة حلب، لكن صودف وجودي في دمشق فاختفيت عن الأنظار حوالى الشهر، وكان جميل هو الذي يهندس عملية التخفي، وانتهت المسألة حين تم الافراج عن رياض وخالد وأوقفنا مشروع الكراس، الذي شكل تجربة فريدة لجهة دور المعارضة الثقافية في الاحتجاج السياسي، والتي حسب النظام حسابها رغم أنها لم تكن منظمة، وكانت عبارة عن محاولات بجهود فردية.
وفي بيروت استعدنا نشاطنا، مستفيدين من جو الحرية النسبي والمنابر الفلسطينية واللبنانية. وبقي جميل منشدّاً إلى العمل في داخل سوريا، في حين أني كنت أرى أمامنا أفقاً آخر. وكانت فترة مطلع الثمانينات صعبة جداً في سوريا، حيث المواجهات بين النظام والأخوان المسلمين، ومطاردة المعارضة اليسارية والقومية، وجرى اعتقال أعداد كبيرة من رابطة العمل، وكان جميل يكرس كل وقته لمتابعة هذا الأمر. وهناك حكاية تروى هنا حول عدم انتسابه. ومفادها أن الفنان يوسف عبدلكي صديق جميل الحميم، وأحد الذين أثروا فيه في حياته، عارض انتساب جميل الى الرابطة لأنه مريض بالقلب، وكان يخشى عليه أن يقع في يد الأمن ولا يحتمل التنكيل الذي كان يتعرض له أعضاء الرابطة ويوسف أحدهم، حيث سجن سنوات عديدة بسبب انتمائه السياسي. ومع ذلك، انتسب جميل للرابطة وكان نشيطاً جداً وتم اعتقاله، ولم يمكث طويلاً بسبب تدهور وضعه الصحي، وجرى الإفراج عنه وغادر إلى باريس للعلاج العام 1982، ورجع إلى دمشق لفترة قصيرة العام 1985، وسمحت له السلطة بالسفر إلى باريس وكأنها كانت تراهن على أنه سيموت في الخارج، وهذا ما حصلـ، ولم يعد إلا في تابوت.
وكان بُعد جميل عن دمشق واحداً من متاعبه الرئيسية في باريس. ومرض جميل الرئيسي اسمه دمشق، ومثل كل عشق، لا دواء له. وبقي جميل، أكثر من عقد من الزمن، يتواصل مع دمشق من باريس بطرق كثيرة، الكتابة، الصداقة، الحب. لكن الأحوال لم تستقر على بر نهائي، فتارة تبعث على الأمل، وفي أحيان أخرى تثبط الهمم وتنشر الإحباط. وتفاقم تعب قلب جميل في هذه المعادلة ورحل في لحظة كان القلب فيها غير قادر على تحمل عملية جديدة، بعدما أمضى أياماً في مستشفى كوشان في باريس. هناك على سرير المرض، كان يتمتع برهافة عالية، كأنه يدرك أنه يعيش أيامه الأخيرة، وكتب في أيامه الأخيرة قصصاً معبرة ذات كثافة عالية من الحزن الذي طبع كل حياته، “قصص المرض، قصص الجنون”، كثف فيها حياته القصيرة، حياة كاتب شاب حزين، ويعبّر الاهداء (إلى النساء اللواتي رتب رحيلهن ليفتقدهن)، عن حس فجائعي مكسور تجاه المرأة. الأم التي رحلت باكراً، الزوجة التي لم يكمل الطريق معها وافترقا بعد حب وطفل. وانسحب ذلك على بقية العلاقات التي كانت مأزومة، ولم تساعد الكاتب الشاب في غربة باريس.
وكانت حياة جميل في باريس موزعة بين المرض والحنين إلى دمشق وسوريا، ومتابعة شؤون الرفاق المعتقلين. ولا يمكن رؤية هذه التيمات بمعزل عن حساسية جميل العالية، فقد صار، بعد تراكم المعاناة، شخصاً مرهفاً سريع التأثر إلى حد البكاء. لم يستطع احتمال الصدمات الشخصية فأثّرت في حالته الصحية. يقول جميل في احدى قصصه المتأخرة: قلبي يؤلمني الى الدرجة التي لن استطيع بها خلع ملابس النوم لارتداء غيرها. أنا متعب، وقلبي يتقلّص، يذبل وجعاً”. وهنا لا بد أن اسجل للتاريخ أن حياة جميل كانت ستكون أصعب بكثير، لو لم يكن إلى جانبه شقيقه جمال الذي قدم إلى باريس العام 1992، والذي شكل سنداً لجميل الرجل العاطفي والضعيف. وهناك الفنان التشكيلي يوسف عبدلكي وزوجته السينمائية هالة العبدالله، فقد كانوا بمثابة الأهل لجميل، وفي لحظاته الصعبة كان يجد بيتهم وقلوبهم مفتوحة طيلة الوقت، وهما اللذان واكبا وعايشا تفاصيل الأسابيع الأخيرة قبل الوفاة. وتعود علاقة جميل بيوسف وهالة إلى دمشق، وتطورت في باريس حتى صار كأنه الشخص الثالث لهذا الثنائي، لا ينفصل عنه. وكذلك يستحق التنويه الفنان التشكيلي صخر فرزات وزوجته الشاعرة عائشة أرناؤوط، فهما وقفا إلى جانب جميل في لحظاته الصعبة. وكانت لجميل عائلة أوسع من الصداقات الحميمة، أغلبها من الكتاب والفنانين، ومن هؤلاء الشاعر الراحل أمجد ناصر، والشاعر نوري الجراح، والشاعر سيف الرحبي، والمصور نصوح زغلولة، ونبيل عجان.
لم يعط جميل الكتابة الإبداعية وقتاً كافياً، وذلك بسبب وضعه الخاص، ومع ذلك فإنه كتب مجموعات قصصية أثّرت في عالم القصة القصيرة العربية. وحين يرد اسمه اليوم، فإن المنجز الخاص به يجري النظر إليه بتقدير خاص، ليس من باب العطف، بل من منظور المهنية التي كان جميل لا يساوم حيالها. وتشكل محطة باريس الأهم في حياة جميل القصيرة، وأنتج خلالها ابرز أعماله القصصية وكتاباته الصحافية التي أتاحت له بناء علاقات واسعة، وفتحت أمامه أبواب السفر نحو العالم العربي من المغرب وتونس والأردن وحتى اليمن، ولذا يعد جميل من أبرز أصوات جيله رغم رحيله المبكر. وقد جاءت قصص جميل حتمل ومقالاته، شهادة على العصر العربي الصعب- كما يقول عبد الرحمن منيف- بكل ما فيه من انكسارات وتحديات واحتمالات. ويضيف منيف: “في مجموعاته كلها، منذ القصة الأولى، وحتى القصة الأخيرة، يقدم لنا الراحل حتمل منظوراً روائياً، أو يحمّل القصة القصيرة مهمة تجعلها اقرب إلى رواية-السيرة الذاتية، إذ تعكس تجربته، وتتابع عالماً داخلياً يكاد يكون واحداً أو متشابهاً”. وتعكس التجربة هاجساً سياسياً كان قوياً جداً لدى جميل، ويكاد يحتل المساحة الأكبر من نتاجه طوال عشرين عاماً. ولا أبالغ إذا قلت أن جميل كان أكثر كاتب من جيل السبعينات وفاء لنبض تلك المرحلة على قول “الكتابة الحقيقية هي كتابة الوطن أساساً”، وهو الذي كتب مجموعة “حين لا بلاد” في بلاد حيث لا هواء.
المدن