مقالات

جميل حتمل وسردية الوطن: شخصيات تعاني الغربة وتواجه أزمات مصيرية/ أحمد عزيز الحسين

يمكن تقسيم قصص الكاتب السوري جميل حتمل (1956- 1994م) لغاية الدرس النقدي إلى ثلاث مجموعات: تتكون الأولى من (25) قصة، وتتحدث عن وطن مفجوع ترك جروحًا غائرة وندوبًا مُدماة في نفوس مواطنيه، وجعل شخصياته المشروخة تواجه أزمات مصيرية تتعلق بكينونتها ووجودها وهُـويتها ومستقبلها، وتتكون الثانية من (29) قصة، وترصد مواقف هذه الشخصيات من هذه الأزمات، وكيف دخلت في صراع ضارٍ مع السلطة القامعة لتحقيق ذواتها، ومواجهة أزماتها، وكيف أفضى بها ذلك إلى السجن وتلقي مقادير لا تُحتَمل من العذاب النفسي والجسدي، وتتكون المجموعة الثالثة من (17) قصة، وتتناول ما آلت إليه مصاير هذه الشخصيات من خيبات وإحباطات بعد أن أفرجت عنها السلطة، وحكمت عليها بالنفي إلى أمكنة قصية وباردة وموحشة، وأفضت بها إلى الاغتراب والضياع، أو إلى الانتحار والموت.

ومن الممكن للقارئ المتمعن أن يلحظ أن ما سرده حتمل في قصصه كلها يشكل نتفًا من سيرته الذاتية، وفصولًا من حياة وطنه الصغير سوريا، ويسرد قصصًا ومتونًا مُنتقاة بعناية شديدة من مدونة اجتماعية وسياسية واقتصادية لهذا الوطن في شرط تاريخي معين، وظروف موضوعية محددة.

وحتمل يقتنص في الغالب حدثًا محددًا من الواقع، أو من التجربة التي عاشها، ثم يُدرِجه في حبكة محكمة البناء، ويمنحه بعد ذلك شكلًا محددًا يتناسب مع السياق الذي شكله، والبنية التي صاغها، ويميل في معظم ما كتبه إلى ترك نهايات قصصه مفتوحة كي يقوم المتلقي بإكمالها؛ فتغدو القصة فضاءً مفتوحًا لتعدد القراءات؛ إذ تُتيح خواتيمها السردية إمكانية الحوار المستمر مع القارئ، ومواكبة الواقع المرجعي الموار من حوله.

وقد لحظ الدكتور عبدالرحمن منيف، الذي قدم لمجموعة أعماله الكاملة، ما ينطوي عليه نتاجه من أهمية استثنائية لكونه يعطينا صورة عن طبيعة المرحلة التاريخية التي عاشها، وكتَب عنها، وهي المرحلة التي تعج بالهزيمة والأحلام المجهِضة والعذاب(١)؛ ولكونه يعكس تجربة صاحبه المريرة في الحياة، ويسجل شهادة على العصر العربي الصعب، بكل ما فيه من انكسارات وتحديات، واحتمالات أيضًا، وذكر أن جميل حتمل بمقدار ما هو فرد في تعبيره عن معاناته الشخصية، هو أيضًا نموذج لعدد غير قليل من أبناء جيله: جيل الأحلام الكبيرة والخيبات الأكبر، كما لحظ مدى علاقة هذا النتاج بالرواية، وكيف أن قصصه تُتابع عالمًا داخليًّا يكاد يكون واحدًا أو متشابهًا، وتعكس مناخات متقاربة، وتكاد تستقي مُعجمها اللغوي من مفردات تنهل من نبع واحد، وتصدر عن تجربة واحدة، وتواجه الهم نفسه في أغلب الأحيان، وسأله: لماذا لم يكتب رواية يمكن أن تعبر عن تجربته ومعاناته دفعة واحدة ما دامت الأجواء والشخصيات متقاربة إلى هذا الحد، ومسكونة بالهاجس نفسه؟ فأجاب بأن «الرواية حِمْلٌ لا أقوى عليه، ثم إن الرواية تحتاج إلى زمن قد لا أملكه!»(ح/ 10). وكان حتمل بذلك يضع الإصبع على ما آل إليه حاله من مصير مفجع وغربة قاتلة بعد نفيه عن وطنه، وكيف شكل ذلك ضربة قاصمة أصابت جسده وروحه في الصميم، وجعل إحدى شخصياته تهتف بقلب مُلتاع، وهي مُقصَاة عـن وطنها: «تعبتُ يا الله. وأريد أنْ أعود إلى مدينتي، أو إلى بيتي القديم. تعبتُ من المترو والأنفاق والوحدة، وبرد الشتاء الداهم، وحريق القلب الآخذ بالانطفاء. تعبتُ، وأريد كل مساء أن أهمس لابني بمساء الخير.

تعبْتُ؛ فأعدْني يا الله ولو جثةً…أعدني»(٢).

فكيف سرد حتمل وطنَه المعذب، وما الصورة التي قدمها لهذا الوطن؟

يلحظ القارئ المتمعن أن قصص حتمل تصور في المجموعة الأولى المشار إليها آنفًا، شخصيات هلامية مُفتتة دمرها الحزن، وقتلها اليأس؛ فاستسلمت لواقعها، وانصرفت إلى العويل والنحيب، وقد لاحق الكاتبُ تقزمَها أمام واقعها، واستسلامَها لسطوته وجبروته، وما آلت إليه من مصير قاسٍ ومؤلم، كما في قصة «درج الأيام المنفردة» التي يبوح فيها البطل بما لديه من عواطف وانفعالات معلنًا أنه يعيش «الانهيارات كاملة»، وأنه يكتب ليمنع نفسه من التلاشي، وهو يعترف بأن داخله مُنهَك ومكسور ومُمزق وبحاجة إلى حب وحنان، ولكنه لا يعثر على من يحتويه، أو يخفف من معاناته، فيبقى وحيدًا منفردًا وبلا أحد، يعاني من رماد الأيام ودخان القلب”(ح/78)، ويقرر الانتحار أخيرًا في هدأة الليل ردًّا على الضغط الذي يعاني منه، والكابوس الذي يجثم على صدره.

شخصيات تعاني الغربة

وفي قصة «لهذه الليلة فقط» ثمة شخص آخر يعاني من الغربة والوحدة والرطوبة، ويفتقر إلى حضور الآخر في حياته، ويتمنى لو يُتاح له التنعم بلقاء الآخرين، ونيل محبتهم، ولكن ذلك لا يحدث في الواقع، بل يبقى على صعيد التخيل والحلم لا أكثر. ويحلم شخص ثالث في قصة «وردة… وردة حمراء» بلقاء امرأة، وبعلاقة طيبة معها، وإهدائها وردة، ولكن هذه الأمنية تبقى حلمًا وأمنية، ولا يُتاح لها أن تتحقق؛ لأن المرأة ليست موجودة، وإنما هي مُتخيلة؛ ولأن الشخص نفسه مُفلِس، ولا يملك حتى ثمن وردة، وللتدليل على معاناته يجعله الكاتب يسكن في غرفة رمادية، وحارة موحِشة ومظلِمة، ويدل اللون الرمادي في القصة على خواء حياة البطل من العواطف والمشاعر الجياشة، ويرشح بالوحشة والغربة والوحدة، ويشير إلى حاجته إلى حبيبة تُدفئ قلبه، وإلى آخر يتواصل معه. ويُبدي الشخصُ نفسُه هنا كراهية شديدة لمدينته القانعة بحياتها الرتيبة المملة، ويهجو أناسها المحايدين غير المبالين.

وفي قصة «جثة خامسة» ثمة إنسان شائه ضعيف، أيضًا، من دون اسم ولا عائلة ولا أصدقاء، يفتقر إلى علاقة عاطفية متوازنة مع الآخر، ويُقيم علاقة عابرة مع خمس نساء، ولكن لا يُتاح لأي منها أن تستمر، أو تنجح بسبب العطب الداخلي الذي تعاني منه النساء في القصة، ويبدو الوطن، الذي يسرده النص، عاجزًا عن إنتاج نماذج سوية ومتوازنة، ولذلك يؤول مصيرها إلى الانتحار والموت للخلاص مما تعانيه.

وفي قصة «انفعال» ثمة حلم ومناجاة داخلية يعبر فيها البطل عما يتمناه من خلال الاتكاء على تقنية الاستشراف، وينتقل الكاتب بمهارة من ضمير المتكلم، الذي يعتمده لعقد ميثاق مع المتلقي، والإيحاء بأنه يروي بصدق بعضًا من سيرته الذاتية، ولا يلبث بعد ذلك أن ينتقل بحسن تخلص من تقنية الاستشراف إلى السرد بضمير الغائب، وهكذا يحدث نوع من التداخل والمزج بين ما يقوله السارد المشارِك «الذي يتكئ على ضمير المتكلم لتحقيق استشرافه للمستقبل»، وما يقوله الراوي العليم، الذي يعتمد على ضمير الغائب، ليؤكد لنا أن ما يهجس به السارد المشارك مستحيل التحقيق. والقصة تخلو من أية مفاتيح سردية دالة تشي بعملية الانتقال بين المستويين السرديين، وترشح بقدرة الكاتب على الإمساك بدفة السرد وعدم التدخل في السياق. ومع أن الكاتب اعتمد على الأسلوب المباشر الحر لعرض مناجاة بطله، ووضع هذه المناجاة ضمن علامة تنصيص للتأكيد على أمانته في نقلها، إلا أنه حذف العلامة نفسها بعد الانتهاء من عرض «المناجاة»، وداخَل بين صوت البطل «السارد المشارك» وصوت الراوي العليم عندما انتقل بمهارة من موقع سردي إلى آخر، ومن صوت البطل «السارد المشارك» إلى صوت الراوي العليم. وقد أحدث انتقاله بين الموقعين السرديين نوعًا من الصدمة للمتلقي، الذي أدرك وجود مفارقة واضحة بين ما يهجس به البطل من أحلام وما يعيشه من معاناة مُرة، إذ ليس حلمه بمن يحب سوى نوع من التخيل والهذيان الذي يصحو منه بإدراك الحقيقة المرة التي يعيشها وهي أنه وحيد ومغترِب ومُتعَب، ولذلك يفتح باب غرفته الرمادية، و«يدخل متراخيًا ويرتمي على السرير القديم، ويُسنِد رأسه إلى ذراعيه النحيلتين، ويهتز في نشيج متواصل»(ح/74).

غرفة بأطراف مدينة لا اسم لها

وفي قصة «رنين» ثمة شخصية مُهمشة وضعيفة أيضًا، تُقيم في غرفة بـأطراف مدينة ليس لها اسم، مع ما لذلك من دلالة على إلغاء كينونتها وهُويتها الفردية، وتعاني الشخصية في المتن الحكائي من الرتابة والكآبة، وتستسلم بشكل آلي لقوة متعالية تتحكم بحياتها، وتجعلها عجينة طيعة في يدها تفعل بها ما تشاء، وليس لهذه القوة هُـوية اجتماعية أو سياسية محددة، وإنما هي أداة لإصدار الأوامر الصارمة ليس إلا. ومن الملحوظ أن القوة المذكورة تتحكم بحياة الناس، وأن الناس يخضعون لها من دون قدرة على المقاومة.

وفي «قصة عن فلاح… أي فلاح»، ثمة، أيضًا، نماذج مختلفة لوطن منخور تهيمن عليه سلطة شمولية عاتية، وتُفلح في تحويل إنسانه الطيب المتواضع إلى امتداد قاهـر لها، وفي «أصابعها تلك» يهجس البطل بماضٍ جميل لم يعد موجودًا، وبحبيبة هجرته عند مفترق شارع ولم تقل وداعًا. ويختلط في القصة الواقع بالحلم، والمعيش بالمتخيل، ونكتشف من الخاتمة السردية أن الحبيبة التي يتخيل البطل وجودها في حاضره للتعويض عن الحرمان الذي يعاني منه ليست موجودة، وأن الحوار الذي يُجريه معها يتم في الحلم لا في الواقع، وهذا يدل على توحد الشخصية وغربتها، وانقطاع الصلة بينها وبين الفضاء الاجتماعي الذي يُحيط بها؛ ويُحول القصة إلى مفارقة مبكية وسخرية سوداء من واقع مُر لا منجاة من سطوته، والهرب منه.

ويبدو البطل في قصة «برد الأيام الماضية… برد الأيام الآتية» عاجزًا عن الحب هو الآخر، وغير قادر على الاستمتاع بلحظة سعادة أُتِيحت له مع حبيبته، وينتهي إلى البكاء بدلًا من الفرح حين يُتاح له الاقتراب منها، ولا يبدو الحزن في القصة مُسوغًا، أو له أسباب منطقية في المتن الحكائي، وإنما يتجلى صفة ملازمة للبطل منذ أن ولد شأنه في ذلك شأن كثير من أبطال حتمل، ولعل هذا هو الذي دفع عبدالرحمن منيف إلى وصف حتمل بأنه «أمير للحزن»(ح/8): حزنه، وحزن شخصياته، وحزن الآخرين.

ويُصور الهجر والفراق في قصة «النبتة» على أنه يباس وموت، كما يغدو الآخر – أو المحبوب – هو الحياة ذاتها، ولا حياة ندية من دونه، وتنهض بنية القصة على التوازي بين النبتة المقطوعة من جذورها وبيئتها، والبطل المنبت عن جذوره ووطنه، ويغدو موت النبتة في القصة معادلًا موضوعيًّا لموت الحبيب، وترميزًا فنيًّا موحيًا لتشظي وطن، وموت كل ما يُفضِي إلى توهج المشاعـر المتأججة فيه، وتعكس قصة «ألوانه حقًّا» حضور الأب الفنان في حياة السارد الشاب الذي استعان بضمير المتكلم لجعل الواقع امتدادًا للحلم، وإلغاء الحدود الفاصلة بينهما في لعبة سردية ذكية، وقد اعتمد الكاتب في بناء تقنية الحلم على تقنية الاستشراف اللغوي للدلالة على إمكانية تحول الحلم إلى حقيقة وواقع موضوعي يمكن الإمساك به.

وتُقيم قصة «بيت طيني في حي العمارة» نوعًا من التوازي بين قطبين مُتضادين مكانيًّا واجتماعيًّا، ويتكئ الكاتب في بناء قصته على الوثيقة لتأسيس نوع من المفارقة والتضاد بين الاسم الذي يحمِله البطل في القصة وهو سعيد الفرحان، وما يؤول إليه حاله في الواقع من فجيعة ومصير مؤلم، إذ إن المتن الحكائي يؤكد أن البطل خرج من النص مقهورًا وحزينًا ومُشردًا مع أن اسمه سعيد الفرحان، كما أن اسم المكان في النص، وهو حي العمارة، يرشح بالبناء والارتقاء إلى أعلى، ويفترض أن يصل بصاحبه إلى تحقيق ذاته، ويساعده في المحافظة على كينونته، مع أنه في القصة انتهى مُهمشًا ومطرودًا، ومن دون بيت يحميه من التشظي الذي آل إليه في الخاتمة السردية للقصة.

الهلع من السلطة القامعة

وتتحدث قصة «الخال ابن ستي نصرة» عن والد لديه ابنان: واحد يُستَشهَد في سبيل الوطن، والثاني يُوضَع في السجن، ويُعذب إلى أن يموت مما يُفضِي بوالده إلى الهلوسة والجنون، وتعكس القصة هلع الشخصية من السلطة القامعة، وخوفها من حضورها الطاغي، وتشي بوجود سلطة تحولت إلى قوة قامعة تتحكم بحياة الناس، وتزرع فيهم الهلع والرعب أينما حلوا وكيفما تحركوا؛ بحيث لا يجرؤ أحدهم على التفوه بكلمة ضدها، أو بالاعتراض على ما تقوله لهم، أو تفعله بهم، وتبدو السلطة في القصة قوة قمع مفارقة للكون تتحكم بمصاير البشر، وتُسيرهم من دون أن يكون لها تجل نصي في الغالب، أو نموذج مُشخص يرمز لها، أو صوت يمثلها في المتن الحكائي.

وليس هناك مقاربة تفصيلية لحياة السجين عند حتمل، أو تصوير فني متعمق لهذه الحياة، وإنما هناك إشارة خاطفة إلى التأثيرات التي تركتها تجربة السجن في حياته على المستويين الجسدي والنفسي. ويبدو السجين عند حتمل شخصية مُسطحة تفتقر إلى العمق، أما السجان فهو آلة قمع وحسب، إنه مجرد حواس مُوظفة لخدمة السلطة التي تقتصر على مراقبة ما هي مُكلفة به من تفاصيل يومية في حياة السجين، ولا تقع عيناها إلا على ما يتطلبه عملها من دأب وحرص على المتابعة، ولا تسمع إلا ما يمكن أن يجعلها امتدادًا كابحًا للسلطة وأداة طيعة في يديها، ولذا لا يبدو لنا السجان في نصوص حتمل كائنًا بشريًّا عاديًّا يعاني ويتعذب، وله مشكلات حياتية شأنه في ذلك شأن البشر العاديين، وإنما يبدو متعاليًا فوقه، ومنتميًا إلى السلطة الضارية لا إلى الناس.

وتسرد لنا «قصة ربما كتبها آخرون» حال امرأة تُضطر على الرغم من حبها لحبيبها الشهيد، إلى التخلي عنه واستبدال آخر به بعد أن تغير كل شيء في الوطن، وجعل من استمرار حبها له غير ممكن، أو من تمسكها بالوفاء له مستحيلًا؛ فالوطن الذي واجه العدو، وهُـزِم ضده في المتن الحكائي للقصة، ما لبث أن أبرم معاهدة معه، وصار صديقًا له، وأصبح من المستحيل على الحبيبة الاحتفاظ بوفائها لحببيها الشهيد بعد أن دمر الوطن النصي معنى شهادته، وغدا من المستحيل على هذا المعنى أن يستمر في الوطن الجديد الذي عقد مصالحة مع قاتل شهدائه، وساحق مواطنيه.

وتنهض قصة «الوقت باكر جدًّا» على المفارقة المؤلمة الواخزة، وترصد مصيرًا مفجعًا لأرملة بطل استُشهِد في سبيل الوطن، لكن قادته ومسؤوليه الكبار حولوها إلى امرأة عاهر لهم، وأخذوا يلِغُـون في جسدها كل مساء، وقد رصد النص، من خلال متابعة ما آلت إليه السيدة، مصيرَ المرأة، ومن خلالها مصير الوطن في ظل سلطة لا ضمير لها ولا قِيم، وحرص الكاتب على تسمية الشخصية النسائية في القصة بـ«السيدة نهى»، لا لكي يُكسبها ذاتًا مُحددة، ويعترف بكينونتها، وإنما ليُشير إلى أن لقب «السيدة» الذي أخذت تُعرَف به في الحي الراقي الذي تقطنه، ويُطلَق عليها من قبل جيرانها، إنما هو سخرية مُبطنة من ارتقائها المريب، وأداة للنيل ممن حولها إلى عاهرة، ودليل ساطع على هجائها، وهجاء المرحلة التي جعلتها تبيع جسدها لضباط الوطن ومسؤوليه الكبار مع أنها امرأة شهيد ضحى بروحه في سبيل الوطن.

وقد حرِص الكاتب في هذا القسم من القصص على تحريك بطله ضمن فضاء محدد هو الشارع، أو المقهى، أو الرصيف، أو البيت، وجعله يسكن في غرفة تحت درج، أو في قبو، أو على سطح بناية، وأبقاه مفتقرًا إلى المكان الحميم الدافئ، ومُصطلِيًا العذاب والوحشة في الأقبية الباردة والأنفاق والغرف الصغيرة الرطبة، كما جعله يشعر بحاجة ماسة إلى أسرة وحبيبة وأصدقاء وأهل ليدفعوا عنه الشعور بالوحشة والاغتراب، ويمنحوه العواطف الجياشة الحارة التي يحتاج إليها، كما أنه أهمل في هذا القسم أيضًا رسم شخصياته من الخارج، وأبقى ملامحها غير مُشخصة، وجعلها غالبًا من دون اسم تُعرَف به للتدليل على افتقارها إلى هُـوية تميزها، وكيان يحميها من الامحاء في الآخر، فإنْ أطلق عليها، أحيانًا، اسمًا مُحددًا فإنه يُبقيها من دون عائلة تُعـرَف بها، أو جذر اجتماعي تنتسب إليه للتأكيد على غربتها وضعفها وإمكانية تعرضها للتلاشي، وهو يميل أحيانًا إلى ذكر المهنة التي تعتاش منها، أو العمل الذي تمارسه، أو الوظيفة التي تشغلها لوضع اليد على ما يساعدها في تحقيق ذاتها، وحفظ كينونتها، كما أنه يحرص في بناء قصته على وصف المكان الذي تُقيم فيه مما يساعد المتلقي على فهم مُسوغات غربتها، ووقوعها فريسة للاكتئاب والوحدة؛ فالمكان إما أن يكون طرفيًّا واقعًا في ضواحي المدينة، أو غرفة باردة على سطح بناية أو ما يماثلها، وفي كل الحالات لا يساعدها هذا المكان على الاحتماء من خطر الخارج، ولا يوفر لها الملاذ الآمن والحميم الذي يُشعرها بأنها في مكان أليف يمكن أن يحميها من التفتت.

فضاء انتقالي

فالبطل في قصة «برد الأيام الماضية… برد الأيام الآتية» يفتقد المكان الذي يوفـر له لحظة هناء وسعادة في حياته؛ لأنه مُخترَق من قبل الآخرين، ولا تتوافر فيه شروط الأمن والحماية والطمأنينة، وهو غرفة طينية يشاركه فيها نزلاء آخرون، وأما الشارع الذي يمكن أن يلتقي فيه حبيبته فهو فضاء انتقالي يسمح له بلحظة لقاء عابرة لا دائمة، وحين يلتقي البطل حبيبته في غرفتها بعد جهد ومشقة لا يستطيع استثمار اللحظة المتاحة له، والمكان المتوافر بين يديه، ويمنعه الحزن الثاوي في صدره من ذلك؛ فينصرف إلى البكاء بحرقة وحزن بدلًا من الاستمتاع بلقاء حبيبته التي كان ينتظرها.

والكاتب يُمايز في قصصه أحيانًا، بين صوت السارد وصوت الشخصية، ويجعل للشخصية ملفوظًا لسانيًّا ومنطوقًا مغايرًا للغة السارد الذي يتكئ على ضمير المتكلم أو الغائب في سرده للحدث. ويعمد أحيانًا إلى إفساح المجال لشخصياته كي تتكلم مباشرة من دون وسيط ظاهر بينها وبين المسرود له، معتمدًا في ذلك على تقنية المشهد، موهِمًا القارئ بأن ما تنطق به الشخصية قد تفوهت به فعلًا بعبارات عامية وردت على ألسنة أصحابها، وهو نوع من الوفاء لخطاب الشخصية التي توهم المتلقي بأنها تستمد لغتها من مرجع واقعي حي لا دور للكاتب في صياغته وتشكيله. ومن أمثلة ذلك هذا الحوار بين الولد وخاله في قصة «لسان أم ثلجة»:

خالي… خالي… لماذا اسمها أم ثلجة؟

العمى… اتركني أنام(ح/200).

وهذا يُفضي بنا إلى أن هناك مستويين لاستخدام اللغة في نسيج القصة عند حتمل: الأول هو لغة السارد الذي يتخفى الكاتب وراءه، والثاني هو لغة الشخصية التي تعكس في استخدامها للغة مستوى وعيها والوسط الاجتماعي الذي تتحدر منه، أو تنتمي إليه. والكاتب يُقيم نوعًا من التناوب السردي بين صوت السارد وصوت الشخصية أحيانًا، ويجعل كلا منهما يعبر عن مستوى وعي ومنظور سردي مغاير للآخر. كما أنه في أحيان أخرى يُقيم نوعًا من التماهي بين صوت البطل وصوت السارد المشارك، كما في قصة «درج الأيام المنفردة»، ومن الملحوظ أن الحمولة المعرفية لصوت السارد المشارك في هذا النص تتجاوز قدرته على المعرفة، كما تتجاوز الموقع السردي الذي يتبوؤه هذا السارد للولوج إلى وعي البطل، والنفاذ إلى ما يهجس به من أحلام، وما يكتنزه من انفعالات ورغبات. ويبدو الانتقال في القصة من موقع السارد المشارك إلى موقع الراوي العليم محكومًا بتدخل الكاتب ومعرفته وهيمنته على حركة السرد، ولا يتم هذا الانتقال بشكل عفوي بل من خلال الاستعانة بوضع ثلاثة مربعات تشكل تقنية طباعية تفصل بين صوت السارد المشارك وصوت الراوي العليم(ح/101)، في حين يتم هذا الانتقال في قصص أخرى من دون الاستعانة بمفاتيح سردية دالة، أو تقنيات طباعية، وهو تخل أملته رغبة الكاتب في تسهيل فعل القراءة والتلقي.

لقد قُدم الوطن في القصص السابقة فضاءً قامعًا للرأي، كابحًا للرغبات، قاتلا للأحلام، لا مجال فيه لحياة حرة كريمة، أو لحياة عاطفية متوازنة، وقد سرد الكاتب فيه من الوقائع ما يدل على أن المرأة فيه مُستباحَة الجسد، وأن أفراد الأسرة فيه معزولون عن بعضهم بعضًا، وأنه وطـن هـش تهيمن عليه سلطة عاتية لا تُقيم لمواطنيه شأنًا، وتعدهم رعايا وأرقامًا لا حق لهم في اختيار الحياة التي يعيشونها، أو الفكر الذي يعتنقونه؛ ولذا غدا من السهولة على هذا الوطن أن يقع فريسة للأمراض الاجتماعية والنفسية الفتاكة، وأن يُهزَم في أية مواجهة مع أعدائه المتربصين به، سواء أكانوا قادمين من الخارج أم قابعين في الداخل بانتظار الفرصة السانحة للوثوب عليه.

هوامش:

١) انظر: مقدمة لـ (المجموعات القصصية الخمس): جميل حتمل، المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، ط1، 1998م، ص 6، وسوف أكتفي في المتن بالإحالة إلى هذه الطبعة ورقم الصفحة مسبوقًا بالحرف (ح).

٢) المصدر السابق نفسه (المقبوس مثبت على الغلاف).

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى