انتحار سارة حجازي ووهم “الإسلام الكول”/ وليد بركسية
بوضوح لا لبس فيه، يدل الجدل المحتدم في مواقع التواصل الاجتماعي، حول انتحار الناشطة المصرية سارة حجازي في كندا، إلى مصدر التطرف الحقيقي في مجتمعات الشرق الأوسط، حيث نشر الآلاف آيات قرآنية وأحاديث نبوية في تبريرهم لموقف متشنج يرفض المثلية الجنسية والانتحار بوصفهما من “الكبائر”، ما يستوجب الشماتة على أقل تقدير، حتى لو كانت الرسالة الأخيرة من حجازي عاطفية تسامح فيها كل من كان قاسياً معها وأوصلها يوماً بعد يوم، إلى لحظة بات فيها الموت خياراً أكثر أماناً من الحياة.
وفي معرض الرد على الكراهية والحقد المنتشرين، لا يجب البحث عن معنى الرحمة، ولا التفتيش عنها في الآيات القرآنية، مثلما عمد البعض، ولا التحسر على الشعور الإنساني الذي لو كان موجوداً بشكل أكبر لكان بالإمكان إنقاذ حياة أشخاص كثر وضعوا حداً لحياتهم أو قتلوا بشكل مباشر بسبب اختلافهم، سواء كان الاختلاف جنسياً أم جندرياً أم سياسياً أم دينياً، لأن ذلك الخطاب المعتمد على فرضية وجود “الإسلام الكول” حيث يتقبل مسلمون ملتزمون دينياً، الآخرين، من منطلق “لكم دينكم ولي دين”، لا يشير إلى المشكلة الأساسية المتمثلة في النصوص المقدسة التي يمتلئ بها الإسلام، وتحلل عقاب المخالفين لتعليماته الصارمة في ما يسمى “حدود الله”، والتي تصل بالطبع إلى حد القتل.
ولا يعدو وجود “الإسلام الكول” كونه وهماً يأتي الرد عليه من قبل المسلمين أنفسهم الذين لم يكتفوا بالشماتة من حجازي، بل هاجموا مَن تعاطف معها وترحّم على روحها، حتى لو كان ذلك بطريقة إسلامية تمنت لها السلام والطمأنينة عندما تلاقي الله في الجنة. ويمكن حتى اللحظة سماع الصرخات تدوي في الفضاء الإلكتروني: “أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض”، وهي كلمات ليست مجرد تغريدات لحظية بل هي جزء من سورة البقرة في القرآن، ويستند إليها المسلمون اليوم في تبريرهم لعدم التساهل مع المخطئين.
وأمام هذا الجدار السميك من المحرمات المقدسة، فإن معركة الحريات الأساسية في المنطقة تبدو قاتمة لأن الجدل كله ما زال يتمحور حول الحق في الحديث عن تلك القضايا من أساسه، والتهمة جاهزة دائماً وهي الإساءة للذات الإلهية أو ازدراء الأديان، ولا أفضل من قضية حجازي نفسها للدلالة على هذا الواقع، حيث تم اعتقالها العام 2017 من قبل السلطات المصرية في قضية “علم الرينبو”، علماً أنها أعلنت مثليتها الجنسية العام 2016 وأطلقت حملات اجتماعية لدعم المثليين منها “أدعم الحب”، وفتح ذلك المجال لاضطهادها حتى بعد إطلاق سراحها، ما أوصلها في النهاية إلى الانتحار.
وهكذا، يحيل الجدل وكيفية تفجره وتطوره الدراماتيكي في “تويتر”، من مناقشة المثلية والانتحار، إلى مناقشة معنى أن يكون المرء مسلماً، إلى نقاش مواز حول المعنى الحقيقي للحرية إن كانت بمفهومها المقبول مجتمعياً يجب ألا تنتهك المقدسات، بالإضافة إلى النقاش حول الحق في توجيه انتقادات للدين نفسه، لا تسييسه فقط، حتى لو كان الشقان السابقان في المنطقة العربية، شيئاً واحداً بسبب التداخل العميق بين السياسة والدين ضمن بنية الأنظمة الاستبدادية الحاكمة، التي تطرح نفسها أمام الجمهور المحلي كحارس للقيم والتقاليد، وتغذي بذلك المخاوف المحافظة، من التعبير عن المثلية الجنسية إلى الإلحاد وصولاً إلى الحديث عن التغير المناخي وقيم العائلة، التي يهددها مثلاً الانتحار. ويشكل هذا الجو المغلق وصفة مثالية، ليس فقط لتكرار حصول المآسي الفردية، بل أيضاً للتطرف والإرهاب.
ولا يعني ذلك عدم وجود تطرف مشابه لدى المؤمنين بالأديان الأخرى، لكن الجدل في القضية يبدو إسلامياً – إسلامياً، خصوصاً أن حجازي محسوبة في “تويتر” على المسلمين السنّة تحديداً، لأنها كانت فتاة محجبة حتى العام 2015، ما يجعل “خطيئتها” ضمن هذا المنطق، أكبر من لو كانت صاحبتها مجرد فتاة مثلية أقدمت على الانتحار ولم تكن مسلمة أصلاً.
وإن كان بعض المسيحيين المتعصبين في المنطقة العربية مثلاً، يقدمون الكثير من الآراء الممتلئة بالهوموفوبيا مثل المخرج شربل خليل في لبنان، على سبيل المثال، فإن الفرق يكمن ربما في نقطتين. الأولى هي أن المسيحية كدين لا تتضمن مثل الإسلام حدوداً وعقوبات أرضية يتم بها ترهيب المخالفين للتعاليم الدينية، بل تفصل بين رفض “الخطيئة” ورفض مرتكبيها. والثانية هي حقيقة أن دساتير الدول العربية عموماً هي دساتير تستند على الدين الإسلامي كمصدر للتشريع، حتى لو كنت الأنظمة السياسية الحاكمة تدعي العلمانية، مثلما هو الحال في سوريا أو تونس أو مصر.
وفيما يُعتبر “داعش” والتنظيمات الشبيهة به، منظمات إرهابية، فإن ذلك يعود لخروجها عن السيستم العام. أي أن كثيرين يعتبرون أفعال التنظيم في تنفيذ الحدود الشرعية ضد المثليين وغيرهم، أمراً طبيعياً، لكن المشكلة تكمن في مَن ينفذ تلك الحدود، والمقصود أن الدول القائمة هي من يجب أن تحكم وفق الضوابط الشرعية، لا المتمردين والأفراد الذين يعطون لأنفسهم تلك السلطة. وباستثناء الدول الأكثر راديكالية، كالسعودية وإيران، لا تقوم كل الدول بتطبيق العقوبات الشرعية الأكثر قسوة، كالإعدام والرجم والجلد، بل تمارس سياسات التضييق والاعتقال والملاحقة والتهديد، ما يفتح الباب لجدل داخلي بين المسلمين أنفسهم حول شرعية تلك الدول كمدخل تستخدمه الجماعات الجهادية سواء للتجنيد أو لإعطاء نفسها الشرعية اللازمة.
ولا بد من التذكير مجدداً، بأن “الأزهر” نفسه رفض تكفير “داعش” مراراً، لأن الدموية التي طبقها التنظيم لم تكن مجرد اجتهادات شخصية أو عنفاً مجانياً، بل كانت تطبيقاً للنصوص الدينية بحرفيتها لا أكثر، وإن خلق ذلك صدمة لدى كثير من المسلمين بسبب رؤية تعاليم دينهم تطبق فعلياً في القرن الحادي والعشرين، فإنه لم يتطور نحو حركة أكثر جدية تدافع عن حقوق الإنسان، بدل الحركات التي اتبعت أسلوب دفن الرؤوس في الرمال وطالبت بتحسين صورة المسلمين التي شوهها “داعش” فقط.
وفي حالة حجازي، علق الأزهر بفتوى تتحدث عن “ضرورة أن يحمي الإنسان حياته ويحفظها من الهلاك، وأن طلب الراحة في الانتحار وهم”، مشيراً إلى أن “طلب الراحة في الانتحار ما هو إلا وهم، وهو من الكبائر ولا راحة في الموت لصاحب كبيرة، وليس بعد الموت توبة”. ولعل الرد الأمثل على ذلك يأتي باستذكار ما كتبته الأديبة البريطانية فيرجينيا وولف الموسيقية إيثيل سميث العام 1930: “بالمناسبة، ما هي الحجج التي يمكن أن تقام ضد الانتحار؟ تعلمين كم أنا متقلبة المزاج. حسناً: يباغتني، مثل صفق الرعد فجأة شعور حاد بعدم الجدوى التام لحياتي. هذا شيء يشبه الركض برأسك صوب حائط في نهاية حارة مسدودة. والآن ما هو التصرف حيال هذا الشعور؟ أليس من الأفضل إنهاؤه؟ لست بحاجة لأن أقول إن ليس لدي أية نوايا نحو أي خطوة في هذا الصدد: غير أني ببساطة أود أن أعرف ما هي الحجج ضد إنهاء الحياة”.
وبالطبع، فإن الحديث عن الديموقراطية كنظام سياسي قادر على الفصل بين الدين والدولة، أمر بديهي، لكن حتى الوصول إلى ذلك، قد لا يضمن تغييراً حقيقياً في مسألة الحريات، طالما أن جذور الدين الإسلامي نفسه، بوصفه نشأ أصلاً كحزب سياسي في شبه الجزيرة العربية خلال زمن شهد تحولات الطرق التجارية نحو مدينة مكة، تصر على ذلك الخلط، ما يجعل الديموقراطية كفراً وهرطقة، وهو ما تكرره شعارات تنظيم “القاعدة” في سوريا مثلاً، والشامتون بوفاة حجازي في “تويتر” أيضاً. ويحيل الجو كله إلى حاجة ملحة لطروحات نقض الفكر الديني لا إصلاحه فحسب بأسلوب “الإسلام الكول” الساذج.
وبالتالي قد لا يكون هنالك أي أمل بمستقبل أفضل، لا يضطر فيه الأفراد للانتحار والمعاناة، من دون التعامل مع الإسلام كعقيدة عنفية يتبرأ الجميع من الاعتراف بوجودها أو تمثيلها، باستثناء تنظيم “داعش” ربما، الذي قدم قبل انحسار دولته الدينية نسخة حرفية عن إسلام القرن السابع، أحيت المخاوف الوجودية لدى كل مكونات المنطقة الأخرى، بما فيهم السنة أنفسهم، من الذين ينظرون للإسلام نظرة أكثر تسامحاً وعصرية، في حقبة يتكثف فيها السؤال حول معاني الهوية والانتماء في كل أنحاء العالم، بفعل سقوط القوميات بتأثير التكنولوجيا وموجات الهجرة من جهة، وظهور خطابات رجعية تبدأ بالإسلام الراديكالي ولا تنتهي باليمين المتطرف في الدول الغربية.
وتقتصر الانتقادات التي تمس جذور الدين الإسلامي نفسه عبر الإنترنت، على مدونات يديرها عموماً مسيحيون بغرض التبشير بالدين المسيحي وليس لأغراض تنويرية بحتة، أو منتديات بدائية تخلو من الحوار الجاد، بالإضافة لبعض البرامج في “يوتيوب” كقناة “حمد تي في” التي قدم فيها الروائي المصري – الألماني برنامج “صندوق الإسلام”، وكل ذلك يواجه بالتكفير طبعاً، حتى من الناحية الأكاديمية كما حصل مع الباحث المصري سيد القمني الذي أثارت كتاباته غضباً تخطى الأجهزة الأمنية المصرية ووصل إلى تنظيم “القاعدة” نفسه.
المدن