عن كورونا في سورية، وباء العالم ووباؤنا السوري -مقالات مختارة-
وباء العالم ووباؤنا السوري/ ماهر مسعود
ليست الكتابة في الشأن السوري فعل رفاهية، ولا مجرد عمل وظيفي للبقاء، ولا هي فعل مقاومة، بالمعنى الكلاسيكي الرومانسي لمواجهة السلاح بالقلم ومقاومة الرصاص بالكلمات، بل هي غضبٌ ونفيٌ للعالم، من موقع الإدانة، ومن موقع القرف، ومن موقع تسجيل الانحطاط وعرضه دون أمل شخصي بالتغيير الموضوعي.
الكتابة في الشأن السوري هي تحدٍّ فردي لليأس الجماعي، وهي انغماسٌ في القهر الجماعي لمواجهة الجنون الفردي. لا تحتاج الكتابة الموضوعية إلى الانفصال عن الموضوع، وادّعاء الحياد والنطق باسم الحقيقة، بل إلى الصدق مع التحيّزات الشخصية، وإدراكها ضمن سياقها التاريخي، كما تقول سيمون دي بوفوار، وموضَعتها أمام التاريخ وأمام التفكير البشري الذي يخلق التاريخ.
يحتار الكاتب في الشأن السوري كيف يجمع تفاصيل الانحطاط الذي تبذره السلطة في تراب الواقع، وكيف يصوغ الألم الفاقع والمديد بالجمل القصيرة والصامتة، وكيف يجعل اللامعقول الواقعي قابلًا للتخيل العقلي، وكيف يكثّف الخذلان الإنساني الواسع بالرفض المسطّر على الورق، وكيف يمتصّ الغضب والحزن والقهر من وجوه الناس المتعبة، لكي يتقيّأه بصقًا في وجه السلطة ورعاتها ورعاعها، وفي وجه الغرب الديمقراطي والشرق الأوتوقراطي، وكل الأنظمة والشهود الساكتين عن المذبحة، والمشاركين في بقاء الأسد.. وباءِ سورية المزمن.
في الوقت الذي ينشغل فيه الإعلام العالمي بفشل الدول الكبرى والأنظمة الشعبوية وسياساتها وسياسييها في مواجهة الوباء “الصيني”؛ كوفيد19، ينتشر الوباء في سورية مثل النار في الهشيم، بينما يدفع النظام السوري الناس إلى الموت دفعًا، حيث يأخذ شعبه المحاصر كرهينة بقوة السلاح، ليُجري انتخابات مزيفة لمجلس الرعاع، ويرفع تجار الحرب والدم، من قتلةٍ ولصوص غير شرعيين، إلى قائمين بأعمال المجلس التشريعي، ثم يحتفل مندوبه الجعفري -بكل وقاحة وفجور- أمام مجلس الأمن بنزاهة الانتخابات. يسرق مساعدات الأمم المتحدة للشعب المحاصر، ويبيعها بيعًا لمن تخطى فقرهم عتبات الجوع. يسطوا على الأموال التي يرسلها لاجئو الخارج إلى لاجئي الداخل، ويفرض إتاوات على الداخلين والخارجين من بلدهم. يقلب قانون قيصر، من سلاحٍ ضده إلى سلاحٍ بيده، ويرفعه بوجه الشعب السوري والعالم أجمع: هذا الشعب ملكي أنا، سأقتله بسلاحي وسلاحكم وسلاحه الذي بين يديه. سأقتله بالوباء التاجي الجديد، سأنتقم منه ومنكم ببقائي حاكمًا فوق الجماجم وعلى الجماجم، فلا بديل عني سوى الفوضى، ولا بديل عن الفوضى سواي، إنها سوريا الأسد، وليست سوريا العظيمة. لا وجود لسوريا من بعدي، هذا ما أخبركم به والدي منذ عقود، ولم تأخذوه على محمل الجد.
لم يبقَ شيء لم يفعله السوريون ليتخلصوا من نظام العبودية القهري. عاشوا حربًا بطول الحربين العالميتين معًا. دفعوا دماءً تعادل أضعاف ما دفعه كلّ العرب أمام “إسرائيل”، وتخطوا عتبة المليون شهيد التي دفعتها الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي. عاشوا أكثر مما عاشته غزّة تحت الحصار الكامل، مع القصف اليومي، وشعار الجوع أو الركوع في الغوطة وداريا وحمص والزبداني ومضايا وغيرها، ثم رُحّلوا برعاية الأمم المتحدة. هُجِّر أكثر من نصفهم خارج البلاد وداخلها. شهدوا مجازر لم يشهدها التاريخ الحديث، منذ الهولوكوست، وبكل أنواع الأسلحة من السلاح الأبيض إلى غاز السارين. قُصفت مستشفياتهم ومدارسهم وأفرانهم، وحُرقت محاصيلهم وجثثهم أمام العالم، وبتوثيق المنظمات الدولية. تظاهروا سلميًا في البدايات والنهايات، وانتهى جيل كامل من المتظاهرين السلميين الأوائل موتًا تحت التعذيب. ماذا تبقى؟!
في الوقت الذي يفشل فيه العالم في مواجهة الجائحة الكورونية، نتيجة انعدام التعاون وانفراط العقد الجامع للنظام الدولي، ونتيجة السياسة الشعبوية لأقوى الدول الديمقراطية في العالم، والسياسة “الدستوبية” في الصين، والاستبدادية في روسيا، والسلطوية في الهند والبرازيل، لا بدّ من الاعتراف بأننا -السوريين- غير قادرين على مواجهة الوباء الأسدي المزمن وحدَنا، فضلًا عن الوباء المستجد الذي يساهم نظام الأسد في انتشاره، لمجرد بقائه محاصَرًا ومُحاصِرًا شعبه الموالي منه والمعارض، تحت نير الحكم المؤبد. ومثل الوباء التاجي، لا يمكن مواجهة الوباء الأسدي من دون مساعدة وتعاون، وهما غير متوفرين لا في المجتمع المحلي ولا في المجتمع الدولي.
هل كان سيتغير مصيرنا، لو استطعنا تنظيم أنفسنا بشكل أفضل، أو لو كانت المعارضة الهزيلة أكثر تماسكًا وأقل انحطاطًا؟ هل كان الثمن سيصبح أقل والزمن أقصر؟ لا يبدو ذلك مرجحًا، عند التفكير المعمّق في شروطنا وما مرّ علينا، فاللعنة السورية لم تتوقف عند التنوع الداخلي الذي قلبه الأسد ضدنا فحسب، والذي لا يمكن إثماره من دون انتقال سياسي سلمي على أقل التقديرات، ولا عند انعدام البديل السياسي الجاهز الذي انتهى فعليًا منذ الثمانينيات، مع موت الحياة السياسية سريريًا في سورية وتوزيع المعارضة بين السجون والمنافي والمقابر، بل نتيجة لعنة الجغرافيا والتاريخ السياسي معًا، فالتشابك الأمني الإقليمي الذي نصبه حافظ الأسد، وما زال ابنه يعيش على ترابطاته، جعل النظام يتأرجح بتلك الخيوط العنكبوتية المتقاطعة التي تربط “إسرائيل” بإيران، والسعودية بتركيا، ومصر بلبنان، والممانعة الحقيقية والأكثر قوة وثباتًا، التي رافقت السوريين منذ انفجار ثورتهم، هي ممانعة المحمية الغربية في الشرق الأوسط “إسرائيل” لسقوط النظام، حيث لم تترك فرصة منذ عام 2011 إلا أعلنت فيها صراحة، وعلى رأس الشهود، تفضيلها لنظام الأسد على أي معارضة، ديمقراطية كانت أم إسلامية. والمقاومة الحقيقة التي أظهرها “حزب الله” حتى اليوم هي مقاومة سقوط المشروع الشيعي الذي يربط إيران بالعراق وسورية ولبنان. وفي الوقت الذي تلتفّ فيه خيوط العنكبوت الإقليمية حول عنق الشعوب التي ثارت للحرية، وحوّلت ثوراتهم إلى صراع جيوسياسي، لا ناقة للشعب فيه ولا جمل، تتهاوى دولتا المقاومة والممانعة معًا، ليبقى الأسد ونصر الله واقفين فوق الخراب.
يمكننا أن نشتم المعارضة ونلومها، وأن نشتم دول الإقليم و”إسرائيل” وأميركا، والصهيونية والرجعية والخمينية، فجميعهم يستثمرون في دمائنا وحيواتنا، لكن المصير البائس والمُفزع للشعب السوري، وللشعب اللبناني، ليس له سوى عنوان واحد، هو الوباء الأسدي المزمن، الوباء الذي تفشّى في سورية والمنطقة والعالم، ولم يوجد له دواء بعدُ، ولم يجد العالم سبيلًا للتكاتف وإيقافه، بل اكتفت كل دولة على حدة في الاستثمار بدمويته القاتلة.
مركز حرمون
———————————————–
محاصرون بالرعب.. “كورونا” يزيد خسائر الأطفال السوريين/ منار أبو حسون – أحمد منينة – عبدو فياض –
بدأت أرقام الاصابات بكورونا في سوريا ترتفع بشكل كبير وسط تعتيم على حقيقة الحالات ووسط ضعف كبير في اجراءات الحماية والوقاية والمعالجة . محنة جديدة فرضت على الأطفال السوريين الذين سبق أن اختبروا الحرب والاعتقال والموت…
“كورونا هو رجل شرير يريد أن يقتلنا، ولكنّه يخاف من الكمامة ويهرب عندما نرتديها ونغسل أيدينا باستمرار ولا نلمس عيوننا وأنفنا وفمنا”، بهذه الحيلة تمكّنت عائشة، وهي ربّة منزل في ريف دمشق، من إقناع طفلها حسين بضرورة اتباع الإجراءات الوقائية الخاصة بفايروس “كورونا”.
بعد هذه الحيلة بات الطفل يقف على باب المنزل ويطلب ممن يدخل إليه ضرورة غسل يديه بالماء والصابون جيداً، ويوبّخ كل من لا يرتدي الكمامة حتّى لو كان والده.
بينما نجحت حيلة عائشة في إقناع طفلها (5 سنوات) باتباع الإجراءات الوقائية، إلا أنها فشلت في تخفيف الآثار السلبية التي خلّفتها إجراءات الفايروس وما تبعها من إغلاق وحظر تجول على حياته. تغيّرت شخصية حسين كثيراً وتأثّرت حالته النفسية، بات سريع الغضب، شديد التطلّب ومضطرب النوم، خفَّ نشاطه داخل المنزل وانطوى على نفسه في الشهر الثاني من الإغلاق.
ولكن حيلة عائشة، وإن نجحت داخل منزلها، فإنّها غير مجدية مع أبي رضا، الذي يعيش مع أولاده الستّة في خيمةٍ مساحتها ثلاثة أمتار مربّعة، وتحيط بها خيم متلاصقة من كل مكان. سمع الأربعيني بوصول الفايروس إلى الشمال السوري، ولكنّه لم يتمكّن من فعل شيء لحماية أسرته.
بدأت أرقام الاصابات بكورونا في سوريا ترتفع بشكل كبير وسط تعتيم على حقيقة الحالات ووسط ضعف كبير في اجراءات الحماية والوقاية والمعالجة . هذا الحال يهدد بسيناريو سيئ ينتظر السوريين قد يشابه ما تعرضت له ايطاليا.
خلق “كورونا” وما خلقه من حالات وفيات وأعراض صحية وما تبعه من إغلاق للمدارس وحظر التجوال ومنع من مغادرة المنزل، آثاراً لا تُحمد عقباها على الأطفال السوريين، ويحذّر خبير نفسي من أن هذه الآثار قد تكون بعيدة المدى .
طبياً، قد تظهر أعراض عدوى الإصابة بـ”كوفيد 19″ على الأطفال، وقد يعانون من الحمى وارتفاع درجات الحرارة وفق ما خلصت إليه دراسات عالمية، وعلى اعتبار أن الأطفال أقل عرضة للإصابة، إلا أن سوريا تشهد حالياً انتشاراً هائلاً للوباء لا تقديرات واضحة لمداه لكنها لم تشهد تبليغاً عن أي حالات لإصابة أطفال بالفايروس في مختلف المناطق. قد يكون ذلك لهشاشة الوضع الطبي، وعدم توفر أجهزة الفحص والتشخيص دور كبير في عدم تشخيص حالات مصابين.
من جهةٍ أخرى، توضّح مقابلات أجريناها مع عائلات على الجغرافيا السورية، الهوّة الواسعة في نمط حياة الأطفال بين مناطق سوريا المختلفة، فالأطفال في العاصمة دمشق، لا يعيشون نمط الحياة الذي يعيشه أقرانهم في مخيمات الشمال السوري، حيث تختلف الظروف الاقتصادية والاجتماعية، ويختلف شكل المسكن ونمط الحياة والبيئة.
هذا الواقع، يدفع اختصاصي نفسي للانطلاق نحو فكرة هدوء الآباء والأمّهات خلال تعاملهم مع الفايروس وعدم توتّرهم لأن أطفالهم بطبيعة الحال يتقمّصون تصرفاتهم.
تقول الرئيسة التنفيذيّة لـ”أنفذوا الأطفال” إنغر آشينغ: “نحن نعرف أن الأطفال الأكثر فقراً وتهميشاً عانوا الخسارة الأكبر، بسبب عدم توافر فرصة التعليم من بُعد لديهم أو أيّ نوع من التعليم على مدى نصف عام دراسي”.
ولكن في أي حال من الأحوال، فإن ذلك ينطبق على الأطفال في شتّى أنحاء العالم”، إلّا أنّه لا ينطبق على أطفال سوريا خصوصاً، فهؤلاء يعيشون ظروفاً لا تشبه ظروف الأطفال في أي بلدٍ آخر، كونهم مُنيوا بخسائر جمّة خلال النزاع.
وفقاً لتقرير صادر عن “يونيسيف” فإن ثلث الأطفال السوريين حرموا التعليم جراء الحرب، فيما حرم قسم كبير منهم الخدمات الصحية الضرورية.
ووثقت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” مقتل 29 ألفاً و296 طفلاً على يد الأطراف الرئيسية الفاعلة في سوريا، منذ آذار/ مارس 2011 حتى حزيران/ يونيو الماضي.
وبحسب تقرير صادر عن “لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا” بعنوان “لقد محوا أحلام أطفالي” فإن سنوات الحرب خلّفت من انتهاكات صارخة لحقوق الأطفال الأساسية، من بينها القتل والتشويه والجروح والتيتم والحرمان من التعليم وتحمّل وطأة العنف الذي ترتكبه الأطراف المتنازعة، إضافة إلى تشريد أكثر من 5 ملايين طفل داخل سوريا وخارجها.
التقرير أجرى مقابلات مع 5 آلاف طفل وشهود وأقارب ناجين وعاملين بالشأن الطبي بين 2011 وأكتوبر 2019 ووجد أن “قوات موالية للحكومة استخدمت الذخائر العنقودية والقنابل الحرارية والأسلحة الكيماوية التي تسببت بسقوط عشرات الضحايا من الأطفال”.
كما استُخدم الاغتصاب والعنف الجنسي مراراً وتكراراً ضد الرجال والنساء والأولاد والفتيات كوسيلة للعقاب والإذلال وبث الخوف بين المجتمعات، وفوق هذا الواقع المرير الذي يعيشه الأطفال السوريون، جاء الفايروس ليعمّق جراحهم.
“كورونا” فوق النزوح
ابراهيم (13 سنة)، نزح قبل أشهر من مدينة سراقب في ريف إدلب هرباً من القصف والمعارك، واستقرَّ في قرية صغيرة شرق إدلب. فقد منزله ومدرسته وأصدقائه، ولكن مع ظهور حالات لفايروس “كورونا” في محافظة إدلب، زادت خسائر الطفل، الذي حُرم مرّة أخرى الذهاب إلى المدرسة، كما حُرم لعب كرة القدم وأشياء أخرى.
يقول والده جهاد الابراهيم: “بعد وصول فايروس كورونا إلى إدلب، تغيرت حياة طفلي كثيراً، إذ مُنِع من الذهاب إلى المدرسة، والتحرّك خارج المنزل أو الذهاب إلى الحدائق واللعب مع رفاقه”، موضحاً أن النزوح في بداية الأمر ثم كوفيد 19 غيّرا الكثير في حياة الطفل.
قبل “كوفيد 19″، كان ابنه يذهب إلى المدرسة ويخرج للعب مع رفاقه ويتحرك بمنتهى حرّيته ولكن ذلك توقّف فجأة.
من أبرز الانعكاسات النفسية التي ظهرت على ابراهيم، العصبية الزائدة، والجلوس لساعات طويلة على الانترنت وألعاب الفيديو بحسب والده الذي قال: “أصبح يسهر حتى الخامسة فجراً على ألعاب الفيديو والانترنت، وينام طيلة النهار، كما طلب منّي شراء هاتف حديث له ليتمكّن من استخدام لعبة بابجي”.
يقول ابراهيم إنّه كان يلتقي مع أصدقائه يومياً بعد المدرسة في مكان معين ويذهبون للعب كرة القدم، لكنّه حُرم ذلك حالياً، كما حُرم الذهاب للاصطياف في بلدة دركوش في ريف إدلب الغربي، موضحاً أنّه يريد أن يمارس هذه النشاطات بعد زوال خطر كوفيد 19.
بحسب تقرير صادر عن “هيومن رايتس ووتش” في 13 آذار/ مارس 2020، فإن 2.6 مليون طفل تعرّض للتهجير القسري، وهناك حوالى مليونَي طفل خارج المدارس. كل ثلاث من أصل 10 مدارس في سوريا إما مدمّرة أو غير صالحة للاستخدام.
كما أشار التقرير إلى أن 4 من كل 5 أشخاص في سوريا يعيشون تحت خطّ الفقر، ما يتسبب في تجنيدهم في القتال، وعمالة الأطفال، وزواجهم.
خوف الأطفال
عندما ظهرت جائحة “كورونا” عالمياً لم تكن الطفلة جنى (11 سنة) من محافظة السويداء خائفة ولكن ازدادت مخاوفها عندما ظهرت الحالة الأولى في دمشق، لا سيما أن والدها يعمل في متجر لبيع الأحذية ويخالط الكثير من الناس، في حين أن جدّها وجدّتها مسنّين وبالتالي فإن خطر الفايروس يكون عليهما مضاعفاً.
كل ما تعرفه جنى عن المرض أنّ أعراضه مثل الأنفلونزا ويُفقد الشخص حاسة الشم، وأصبحت منذ بداية الحجر تمارس الرياضة وتأكل أطعمة صحية وتقوّي المناعة، وتغسل يديها بشكل مستمر لتقي نفسها من المرض، هذه المعلومات حصلت عليها جنى من التلفزيون، إذ كانت تجلس أمامه دائماً وتشاهد الأخبار مع والدها.
تقول جنى: “مع ظهور أول حالة خفت كثيراً على والدي ولكن عندما جلس معنا في المنزل بسبب إغلاق المحلات التجارية لم أعد خائفة كالسابق ولكن مع عودة أبي إلى العمل عاد الخوف إليّ، لأن أبي يخالط الكثير من الناس”.
حُرمت جنى الخروج من المنزل ورؤية من تحب من أصدقائها، كما أنّها عبّرت عن حزنها عندما أغلقت المدارس لأنها اشتاقت إلى أصدقائها الذين التزموا جميعاً منازلهم.
تقول والدة جنى: “الخوف والقلق والتوتر مشاعر سيطرت في بداية الأمر على ابنتي وأصبح الفايروس حديثها الأساسي”، مشيرة إلى آثار الحجر السلبية على نفسيتها، ولكن الأم تعاونت معها لتكون الأمور أفضل عبر ممارسة الرياضة في المنزل وغير ذلك.
وتلخّص والدة الفتاة، أبرز الاضطرابات السلوكية والنفسية عند الفتاة، الخوف وكثرة التوتّر والقلق، إضافةً إلى كثرة الحديث عن “كورونا”، والاهتمام الشديد بنوعية الأطعمة، كما زاد ألم رأسها لأنّ جنى لديها شحنات كهربائية زائدة في رأسها، كما لوحظ على الفتاة، الغضب السريع، والضجر الدائم والسهر ليلاً.
ختمت أم جنى أن القلق والتوتر يؤثران جداً في مرض الفتاة (زيادة الشحنات الكهربائية في الرأس) و”أعتقد أن خوفها وآثار الحجر سبب رئيسي في زيادة نوبات ألم رأسها”.
الطبيب النفسي محمد أبو هلال، رأى أن الحجر المنزلي زاد من السلوكيات “غير المقبولة اجتماعياً” للأطفال، بنسب متفاوتة مثل التنمر على من يقوم بالسعال، والعدوانية والصراخ وفرط النشاط وتخريب أثاث المنزل، إضافةً إلى التذمر المستمر.
وقال: “بسبب عدم وجود مساحات صديقة بما يكفي للأطفال في سوريا، جاء كورونا فزاد المشكلة على الأطفال، فتراجعت حركتهم وزاد انعزالهم عن أقرانهم في المنازل”.
كما أسفرت الجائحة عن ظهور علامات التوتر والخوف من المرض الذي تحوّل إلى “وسواس” وارتباك في التصرف بالشكل المناسب وفقدان الثقة بالآخرين.
وأضاف الطبيب: “عموماً تغيّرت مصطلحات الأطفال من اللعب والدراسة إلى مصطلحات الفايروس والكمامة والحجر المنزلي، وهو ما خلق سلوكاً جديداً لديهم”.
وهذا السلوك، تمثّل بحسب الطبيب في الانعزال وقلة المخالطة الاجتماعية، خسارة الطفل فرص التعلم من الأقران واللعب معهم، فرط بالحركة، العنف تجاه الآخرين في بعض الأحيان، البكاء بلا مبرر، المزاج المتقلب، رفض الانصياع للأهل والمشاعر السلبية تجاههم، إضافةً إلى النوم غير المنتظم بسبب تغير العادات اليومية والإكثار من استخدام الهاتف المحمول والألعاب الإلكترونية.
مسار إصابات تصاعدي
يأتي هذا التخوّف في وقتٍ تسجّل إصابات الفايروس التاجي مساراً تصاعدياً غير مسبوق في عموم مناطق البلاد.
في 10 آذار 2020، أعلنت وزارة الصحّة السورية تسجيل أول إصابة بالفايروس في البلاد، لحالة أتت من خارج سوريا. تبع ذلك انتقال العدوى وتصاعد عدد الحالات سواء داخل مناطق سيطرة النظام أو خارجها.
لدى أبي فراس الذي يعيش في العاصمة دمشق 4 أولاد، أكبرهم 13 سنة وأصغرهم خمسة أشهر، جميعهم زادت أعباؤهم خلال فترة تفشّي فايروس “كورونا”، فبات الرجل وزوجته عاجزين عن متابعة حالة أطفالهم النفسية والاجتماعية بعد هذه الفترة الطويلة.
أم فراس كانت تعمل ممرّضة ولكنّها تركت عملها منذ 5 سنوات، ويعمل زوجها في مجال التجارة الطبية.
كانت حياة الأسرة منظّمة، لكنها فقدت جزءاً من هذا التنظيم بسبب توقف الأطفال عن المدارس وعدم وجود التزامات أو انشغالات واضحة لهم.
تقول أم فراس: “أولادي كانوا يستيقظون في الثامنة صباحاً يذهبون إلى المدرسة ثم يعودون ويقومون بواجباتهم المنزلية وبعد ذلك يلعبون مع أصدقائهم ويناموا في الثامنة مساءً، مع تحديد أوقات للعب واستخدام الحاسوب ومشاهدة التلفزيون، ولكن اليوم بسبب غياب هذه الواجبات لم تعد حياتهم منظمة”.
يقول زوجها: “كنا نحاول تعبئة فراغهم بنشاطات داخل المنزل ولكن فترة إجراءات كورونا مستمرة منذ أشهر وليس من أسبوع أو اثنين، لذلك أصابنا نوع من التململ في متابعة يومياتهم”.
كان الابن الأكبر فراس متلوّعاً بكرة القدم، وينتظر يوم الجمعة بفارغ الصبر حتّى يذهب مع أصدقائه إلى الملعب من طريق المدرسة الشرعية التي كان يدرس فيها قبل تفشي الوباء، لذلك كان يومه شبه ممتلئ.
تحاول الأسرة إيجاد متنفّس واحد للأولاد، وهو أخذهم كل يوم جمعة إلى منزل جدّهم في ريف دمشق، هناك لا ازدحام، ويحصلون على فرصة آمنة للاحتكاك بناس ورؤية أقاربهم.
سارة (11 سنة) هي أخت فراس الصغرى، كانت مهووسة بالأعمال الورقية اليدوية، وتمضي بين ساعة وساعتين يومياً في إنجاز أشكال ورقية، ولكن الفتاة تقول إنّها خلال الحجر المنزلي أُصيبت بالملل من هذه الهواية ولم تعد قادرة على ملء فراغها بها.
تعرّفت الأسرة إلى مدرّس متطوّع كان يرسل الدروس عبر فيديوهات على “”تلغرام، في حين انشغل البعض في العائلة بعرض مسلسلات تاريخية داخل المنزل من أجل تمرير الوقت، “وصلت إلى مرحلة أصبحت فيها أتغاضى عن عدم تنظيم يومهم، وفي بعض المراحل كنت عصبياً نوعاً ما لأنّني أكون عائداً من العمل وبحاجة إلى الراحة بعد ضغوط العمل والخوف من انتقال الفايروس لأنني أحتك بمرضى غسيل الكلى، في حين يكون لدى أولادي طاقة كبيرة لتفريغها داخل المنزل”.
جراء كل ذلك، زادت عصبية الأطفال، وكثرت الشجارات والمشادات الكلامية بينهم. كما أن الأسرة تتخوّف من سيناريو أسوأ وهو تفشّي الوباء بشكلٍ أكبر في سوريا مع الزيادة اليومية في الإصابات، ولكن على رغم هذه الزيادة، بدأت الأسرة بالسماح للأطفال بالخروج ولكن مع تشديد الإجراءات الوقائية، فإبقاؤهم في المنزل طوال الوقت، بات مستحيلاً.
التعامل بحسب الفئات العمرية
يقول الاختصاصيّ النفسيّ طاهر ليلى، وهو قائد فريق الدعم النفسي والاجتماعي في “جمعية سامز الطبية”، إن “الأطفال يختلفون بحسب المراحل العمرية”، موضحاً أن “من هم دون الست سنوات، يمكن أن يفهموا القلق المحيط بهم، ولكن من الصعب أن يعرفوا معنى الحجر المنزلي والفايروس وعواقبه”. ويلفت إلى أن مهمة الأهل في هذا السياق هي نصحهم وإيجاد طرائق بسيطة لإيصال الأفكار لهم وشرح أهمية التباعد الاجتماعي، والسبب الكامن خلف جلوسهم في المنزل.
وقال: في هذا المرحلة العمرية، الطفل يشعر بالذنب عندما لا يخرج للعب أو لا يعانقه والده عند العودة من العمل، ولذلك يلقي اللوم على نفسه، من هنا ضرورة شرح هذه الأفكار له.
كما شدّد على ضرورة إبعاد الطفل من حقل الشائعات وتعريضه للمعلومات الحقيقية فقط عبر الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، لإبعاد التوتّر منه، لا سيما مع وجود انتقادات للحكومات عندما تعلن عن عدد الإصابات اليومي ما يساهم في زيادة القلق والتوتر.
ويرى ليلى، أن التعامل مع الأطفال في هذه الفترة، يتطلّب ألّا يكون الأهل قلقين، لأن الطفل يتقمّص شخصية والديه وبالتالي سيقلق مثلهم، لذلك عليهم التحلّي بالهدوء والتعامل مع الجائحة بالطرائق العلمية الوقائية.
ويوضح ليلى أن أكثر ما عقّد المشهد على الأطفال، أنّهم بحاجة إلى مساحة آمنة حرّة للتحرك فيها، وبسبب وجود الكثير من العائلات في المخيمات، وأخرى فقيرة تعيش في منزل صغير بسبب النزوح في سوريا، إضافة إلى عدم وجود كهرباء وانترنت ووسائل ترفيه قُيّدت مساحة الطفل وباتت لديه طاقة زائدة.
وأكمل الاختصاصيّ النفسي، أن عدم استهلاك الطاقة الموجودة داخل الطفل، يؤدّي إلى حزن واكتئاب وانعزال إضافة إلى أعراض القلق مثل الغضب المستمر والعناد أحياناً وزيادة التطلّب. هذا الضغط سيؤثر على مهارات الطفل الاجتماعية، والتي يحصل عليها من الاندماج في المجتمع والتواصل مع محيطه، ما يؤثّر في ذكائه الاجتماعي ويصبح خجولاً أو غير مبادر أو انطوائياً، أما إذا كان الطفل في المرحلة الدراسية الأولى وطالت فترة الجلوس في المنزل، فقد تتأثّر مهاراته اللغوية بحسب ليلى.
أُنجز هذا التقرير بدعم وإشراف الوحدة السورية للصحافة الاستقصائية – سراج
درج
———————
الأسد معفِّشاً كورونا/ عمر قدور
خرجت سلطة الأسد من حالة الإنكار تجاه تفشي كورونا في أماكن سيطرتها، لكنه “جرياً على عادتها” ذلك الخروج المحسوب جيداً والذي لا يشي بأدنى تغير في طبيعتها. الإنكار نفسه يأخذ صيغاً مختلفة، ففي البداية كان هناك إعلان عن حالات محدودة جداً جداً، يترافق باستعراضات من نوع غسيل الشوارع والأماكن العامة، أو حجر مناطق بأكملها بسبب إصابة وحيدة، من دون أن ننسى الإغلاق العام الذي أعلنته حين كانت تصر على عدم وجود إصابات، ثم التأكيد على ندرتها وعلى أنها جميعاً وافدة من الخارج وتحت السيطرة.
مؤخراً أخذت حالة الإنكار مظهراً جديداً، فالسلطة تعلن بشكل شبه يومي عن أعداد متقاربة من الإصابات، بينما تمتلئ صفحات محسوبة عليها بأخبار تتحدث عن أرقام مضاعفة. لكن ليس سوى السلطة من يملك تقرير الرقم الذي يُعتمد من قبل المنظمات الدولية، وحتى عندما تقرّ بأن الأرقام قد لا تكون دقيقة فهي تلقي باللوم على العقوبات الدولية المفروضة أصلاً على قطاعات لا تمس الغذاء والدواء. لقد حدث مثلاً أن علمنا بثلاث وفيات معروفة بالأسماء خلال يوم واحد، وقررت السلطة وجود وفاة واحدة فقط، فهي التي تقرر ما تشاء بصرف النظر عما نحن متأكدون منه، بل رغماً عما نحن متأكدون منه.
أغلب الظن أن هذه السلطة لم تكن تفعل خلال الفترة الماضية التي تفشى فيه الوباء غير التفكير في كيفية استثماره، وفي تعبير سوري شهير التفكير في كيفية تعفيشه، حيث يعني التعفيش سرقة كل ما يمكن سرقته من خلال الوباء وعلى حساب من يستحقون قليلاً من الرحمة. هكذا مثلاً خرجت بقرار يتيح لمغادري البلد والعائدين إليها إجراء اختبار بكلفة 100 دولار، مع إلزام العائدين بالمبيت ليلة في فندق محدد بالاسم بكلفة 100 دولار أخرى لليلة، ولا يلزمنا قدر مرتفع من النباهة لمعرفة أن ذلك الفندق مملوك لأحد حيتان السلطة.
إن كلفة إجراء الاختبار نفسه في فرنسا مثلاً تعادل 60 دولاراً قبل شمولها في الضمان الصحي، وهي أقل في غالبية البلدان ومجانية في بلدان أخرى، ومن المرجح أن سلطة الأسد حصلت على الاختبارات مجاناً بحسب إعلانات سابقة لمنظمة الصحة العالمية، أي أنها تتاجر بالمساعدات للحصول على العملة الصعبة. ومن معرفتنا بطبيعة السلطة، قد تكون هذه القرارات مدخلاً للتطبيق على قياس الفساد، ففي حين تعتذر المستشفيات الحكومية عن إجراء الاختبارات لعدم توفرها تكون متاحة للذين ينوون السفر، وبهذه الذريعة قد تكون متاحة للقادرين على الدفع سواء كانوا مسافرين أو لا. الفساد ذاته قد يدلنا إلى من يحالفهم “الحظ” أكثر من غيرهم بالحصول على أجهزة تنفس، بينما لم تعد صفحات التواصل الاجتماعي تخلو من مناشدات من أجل المساعدة في الحصول عليها.
في الأيام القليلة الماضية تكررت تحذيرات أطباء يعملون في المستشفيات المصابين أو المشتبه بإصابتهم من الذهاب إلى تلك المستشفيات، لأنهم لن ينالوا الرعاية المأمولة، ومن المرجح تعرضهم للإصابة إذا لم يكونوا مصابين. تكرار التحذيرات العلنية يعني عدم اكتراث السلطة بأدنى المعايير الصحية، ويعني أنها تفعل ذلك بوقاحة منقطعة النظير فلا تكترث بتلك الفضائح المنشورة على وسائل التواصل، وهي التي كانت إلى وقت قريب تعتقل أصحاب انتقادات أدنى مما هو مشاع الآن. يعطينا أحد إعلاميي النظام، من خلال صفحته على فايسبوك، فكرة أفضل عما يحدث، فهو يسعف صديقه المصاب إلى مستشفى المواساة ليرى هناك اكتظاظ قسم الإسعاف من دون تفريق بين الحالات، ولحسن حظه حصل على سرير مع جهاز تنفس، قبل أن ينصح طبيبٌ ذلك الإعلامي بإعادة المريض ليتلقى العلاج في البيت، فيترك المريض السرير الذي يُعطى فوراً بلا تعقيم مع جهاز التنفس لمريضة مصابة بهبوط في السكر. بحسب رواية الإعلامي يطلب منه الطبيب تصوير وصفتين معلقتين على الجدار يبدو أن المستشفى ينصح بهما كافة المصابين، ومن ضمن الأدوية هيدروكسي كلوروكين الذي أثار الجدل عالمياً، وصارت خطورته مؤكدة على بعض المصابين. ذلك المريض، بحسب شهادة صديقه الإعلامي، قد جرّب من قبل الاتصال دون جدوى بالرقم المخصص لمن يشتبهون بإصابتهم، ولم يكن حظه أفضل مع مستشفى الأسد الجامعي الذي ذهب إليه قبل الذهاب إلى المواساة، ليقضي نحبه بعد يومين، وبعد معاناة مع المرض والجهاز الطبي.
مع عدم استبعاد وجود أطباء وممرضين ذوي ضمائر يقظة، ومنهم أولئك الذين يحذّرون من الذهاب إلى المستشفيات، فإن تردي خدمات الأخيرة لا يعكس فقط تدهور القطاع الصحي عموماً، وإنما يعكس حالة اللامبالاة التامة إزاءه في ظرف يستدعي إعطاءه الأولوية. مظاهر الإهمال هذه لا يمكن أن يغلب وجودها إلا في مناخ عام من الفساد والاستهتار، وهذا المناخ يحظى ولو بنسبة ضئيلة من الكادر الصحي تساعد على تفاقمه، من دون أن ننسى عمل الكوادر الطبية ضمن شروط لا تؤمن لهم الوقاية. من معرفتنا بطبيعة هذه السلطة، لا يصدر ذلك كله عن إهمال فحسب، وإنما عن إهمال متعمد يذهب الفقراء ضحيته، ويعثر القادرون على الدفع على أماكن أفضل للتشخيص والعناية، ولا يُستبعد أن يكون في المستشفى نفسه أجنحة “فخمة” للقادرين على الدفع، وأخرى للبائسين المتروكين لحظهم مع مناعتهم الشخصية.
لم يكن من المنتظر يوماً ظهور سلطة الأسد بأقل مما هي عليه من السوء، وحتى الاستثمار في موضوع كورونا كان متوقعاً، وإن صعبَ توقعه على هذا المثل من الابتذال. لن نجد في مكان آخر مرضى يُدفعون لتفضيل الموت في البيت على الذهاب إلى المستشفى، ولن نجد أيضاً أهالي موتى قد يتكتمون على وفاة فقيدهم بفيروس كورونا لئلا يُبتزوا بخيار دفنه بعيداً من مدافن العائلة، لن نجد هذا النوع من التجارة بجثامين الموتى. وإذ تتملكنا الدهشة أمام هذا الإسفاف الفظيع إنسانياً فلا حيلة لنا سوى تمني أن يكون الوباء أقل رأفة بالضحايا، بينما في هذا الوقت “ونحن في دهشتنا وتمنياتنا الساذجة” هناك عصابة ربما أقصى ما تفكر فيه أن تعفيش كورونا لم يأتِ لها بالعائد الكافي، وينبغي ابتكار أساليب أشدّ للتعويض.
المدن
——————-
في تفاقم الجحيم السوري/ عمر قدور
يؤكد الوضع السوري ما قد يكون قاعدة عامة، وهي أن غياب الاحتمالات الجيدة يفتح تلقائياً على الاحتمالات الأسوأ. وهكذا، مع توالي الانحدار، ما كان يعتبر الأسوأ قبل حين قد يُرفع إلى مرتبة الأقل سوءاً. المخيف في هذا المسار أن المدى المنظور ينذر باستمراره، خاصة في الأشهر المقبلة التي من المرجح أن تشهد تفاقم الجحيم السوري إلى حد كان يصعب تخيله حتى قبل أشهر قليلة. واحد من الأمثلة شهدناه قبل مدة من انهيار الليرة السورية، ما يؤكد قاعدة الاحتمالات السيئة أن سعر صرفها قد تحسن مع استمرار التراجع الحاد في مستوى المعيشة. فضلاً عن الإجراءات القسرية التي اتخذتها سلطة الأسد وساهمت في رفع سعر الصرف، يشير الأخير إلى انخفاض حاد في الطلب على الدولار رغم الحاجة الحالية إلى الأخير لاستيراد السلع الأساسية، أي أن الأسوأ ليس ارتفاع سعر صرف الدولار وإنما انخفاض الطلب عليه بسبب التدني المريع في الاستهلاك.
في الأيام الأخيرة لم يعد تفشي كورونا احتمالاً مفزعاً، لقد أصبح واقعاً يصعب إخفاؤه، ومن مظاهره التحدث عنه علناً في صفحات موالية على وسائل التواصل الاجتماعي، بل نقل رسائل عن الأطباء تنصح بعدم ذهاب المصابين إلى المستشفيات لأن الأخيرة غير قادرة على تقديم شيء لهم سوى العدوى إن لم يكونوا مصابين حقاً. أرقام الإصابات التي صارت تعلنها سلطة الأسد لا تواكب ما يحدث، وهي محكومة بما هو معروف عنها من كذب، ومحكومة أيضاً بعجزها عن إجراء الفحوص وتقديم الحد الأدنى من الرعاية الطبية ضمن ما تبقى لديها من منشآت بعد أن تولت قواتها تدمير نسبة معتبرة منها.
لقد أدى تفشي الفيروس إلى تركيع دول ذات إمكانيات صحية واقتصادية لا تقارن بأطلال سوريا، وحتى الآن لا يتوفر له علاج أو لقاح، وما تفعله الأنظمة الصحية في معظم الدول هي مساعدة مناعة المصابين على المقاومة حتى الشفاء. الخصوصية السورية ليست فحسب في تدني الإمكانيات الصحية، وإنما أيضاً في آثار هذا التدني خلال السنوات الماضية، فكما نعلم نسبة كبيرة من ضحايا الفيروس هي من المصابين بأمراض أخرى، وهنا تلعب الرعاية الصحية السابقة دوراً مهماً في تقليل عدد الضحايا وهذا مفتقد في الحالة السورية حيث شهد العقد الأخير تدنياً حاداً في كل ما يتصل بالصحة العامة، ولدى كافة الشرائح العمرية.
أمر آخر أظهرته التجربة في دول أخرى “متقدمة”، هو التفشي الأكبر للفيروس لدى الشرائح الأفقر التي لم تملك مستوى جيداً من الرعاية الصحية السابقة، والتي لا تمكنها ظروفها من اتباع سبل الوقاية الموصى بها. في سوريا اليوم هناك 85% من السكان تحت خطر الفقر، أي أن السواد الأعظم منهم غير قادر على تكاليف الحد الأدنى من الوقاية. الاستهتار المعتاد بحياة السوريين قد تكون كلفته مضاعفة، فالبلد لم يلتقط أنفاسه بعد جراء النزيف البشري الهائل بين قتلى ومهجّرين، لكن لا يُتوقع إطلاقاً أن تحيد سلطة الأسد عن ذلك الاستهتار كأن تقدم الصورة الحقيقية عن الواقع وعن عجزها، أو أن تعلن البلد منكوباً وتطالب بلا شروط بمساعدات أممية.
الخبر الذي يُضاف إلى ما سبق من السوء أن القوى الكبرى ستكون خلال الأشهر القليلة المقبلة منشغلة بتحصين أوضاعها الصحية والاقتصادية، ولن تتخذ مبادرات خارجية ولو في الحد الأدنى المعتاد، ولن يكون لسوريا حضور إلا من خلال تطورات عسكرية محتملة. القوى التي لم تُظهر اكتراثاً بحيوات السوريين الذين يقصفهم الأسد، في وقت لم تكن فيه الظروف على النحو الحالي، هذه القوى لن تكترث اليوم بحيوات سوريين آخرين، وستقتصر رؤيتها للشأن السوري من زاوية الصراع الدولي والإقليمي فيها لا غير.
على صعيد متصل، قد تحتدم المواجهة الإسرائيلية-الإيرانية من البوابة السورية، فتل أبيب تسعى إلى الاستفادة القصوى من الوقت المتبقي حتى انتخابات الرئاسة الأمريكية، وطهران تتحاشى تصعيداً مباشراً من جبهة الجنوب اللبناني ربما تكون كلفته أعلى بكثير من استخدام الساحة السورية. لن تحدث مواجهة شاملة تكون قوات الأسد جزءاً منها، لكن تل أبيب أنذرت سلطة الأسد بأنها لن تبقى خارج طائلة العقاب في حال أتى الرد الإيراني من جهة الأراضي السورية. إذا تحقق هذا السيناريو فسيأتي الرعب من كافة أماكن تواجد القوات والميليشيات الإيرانية، وهي منتشرة من شمال سوريا إلى جنوبها. أية مواجهة عسكرية جديدة ستنعكس آثارها سلباً على وضع إنساني شديد الهشاشة، لكنه آخر ما يؤخذ في الحسبان من قبل كافة الأطراف المعنية.
لا تبذل موسكو جهوداً علنية لتجنب التصعيد بين حليفيها الإسرائيلي والإيراني، ولا تستغل وجودها العسكري لرسم خطوط حمراء أمام المتحاربَيْن. ما كان واضحاً خلال الأسابيع الماضية أنها أيضاً لم تعبأ بالأزمة الداخلية الخانقة لمناطق سيطرة الأسد، بعد أن وبخته على فساده بوصفه سبب الأزمة. القوة الوحيدة القادرة على فعل شيء ما لتحسين شروط الجحيم السوري غير راغبة في ذلك، وليس جديداً على السياسة الروسية هذا النوع من اللامبالاة، وقد يعززها انصراف جزء من التركيز إلى ليبيا، وجزء آخر إلى انتخابات الرئاسة الأمريكية في تشرين الثاني، وهي أقرب إلى تل أبيب بتفضيل بقاء ترامب على انتخاب الديموقراطي بايدن.
حدثان هما الأهم ينتظرهما العالم في خريف هذه السنة، صحياً توصلُ التجارب إلى إثبات فاعلية لقاح أو أكثر ضد كورورنا، وسياسياً معرفةُ المقيم الجديد في البيت الأبيض. عملياً سينقضي ما تبقى من السنة في انتظار الحصول على لقاح ناجع، مثلما ستنتظر القوى الدولية والإقليمية تنصيب الرئيس الجديد في حال فوز الديموقراطيين لتبني على ذلك سياساتها. ستكون هذه الأشهر ثقيلة جداً على العالم بأسره، وهي أثقل على السوريين مع انفتاح جحيمهم على مزيد من السوء، والتواريخ المنتظرة لن يأتي شقها السياسي بحل سحري لهم، أما الخلاص الصحي المأمول فمن المستبعد جداً أن يكون عادلاً في توقيته.
المدن
—————–
كورونا حتى إشعار آخر/ بشير البكر
تتردّد منذ فترة مخاوف من أن العالم ربما يشهد موجة جديدة من فيروس كورونا في وقت قريب. وفي منتصف هذا الأسبوع، بدأت وسائل الإعلام الأوروبية تتحدث عن الأمر بوصفه واقعا، بعد أن قرّرت بريطانيا إعادة فرض الحجر على كل المسافرين القادمين من إسبانيا. وذكرت عدة صحف أن القارّة الأوروبية تستعد لموجة ثانية من تفشّي الفيروس، الأمر الذي من شأنه إعادة فرض الإجراءات الاحترازية. وفي تقرير أعدّه مراسلون في صحيفة الغارديان في العواصم الأوروبية، جاء أن بلجيكا تحذّر من أنه قد يتم فرض إغلاق كامل مرة أخرى، بعد ارتفاع ملموس في عدد حالات الإصابة. وينطبق الأمر ذاته على إقليم كتالونيا الإسباني، مع تحذيراتٍ باحتمال عدم السيطرة على التفشي خلال عشرة أيام، وكذلك هو الأمر بالنسبة لفرنسا وألمانيا.
ولم يأت تقرير الصحيفة من فراغ، بل إنه مبني على تقديرات صادرة عن أوساط علمية. ويمكن التوقف عند الحالتين، الألمانية والفرنسية، حيث سجل البلدان تقدّما كبيرا في مكافحة الوباء خلال شهري مارس/ آذار وإبريل/ نيسان، وبدأت العودة التدريجية إلى الوضع شبه الطبيعي في مايو/ أيار. ولوحظ في الأسبوعين الأخيرين ارتفاع حادٌّ في الإصابات بين الشباب، وهناك مخاوف رسمية من أن العطلة الصيفية ستكون محطةً حاسمةً وخطيرة في هذا الشأن، بسبب زيادة الحركة والتقارب الاجتماعي والاكتظاظ، وحصول حالة استرخاءٍ في أوساط الشباب على وجه خاص، حيث انتهت فترة وضع الكمّامة.
تفاءل العالم في ذروة استشراء الفيروس أن يختفي مع ارتفاع درجات الحرارة، وظهرت تصريحات من أوساط طبية عن احتمالات قوية بأن يندثر الفيروس، واعتبر بعضهم أن عدم انتشاره الواسع في قارة أفريقيا مردّه إلى عامل الطقس. وتبين تهافت هذه الأطروحة، وما تزال بلدان تتمتع بطقس حار، مثل دول الخليج العربي والعراق وتركيا، تسجل معدلات عالية نسبيا. وهناك نظرية أخرى تحتاج إعادة نظر، قالت إن هناك ذروة يصل إليها الوباء، ومن ثم يبدأ بالتسطح والنزول تدريجيا. وقد حصل هذا في بعض البلدان، مثل اليابان وكوريا الجنوبية، بينما انعكست الآية في دول أخرى، مثل إيران التي عاد معدل الإصابات فيها إلى الارتفاع بمعدلات تفوق الموجة الأولى التي ضربتها في الشتاء الماضي.
وتفاءل العالم بأن الخريف المقبل يمكن أن يشهد التوصل إلى لقاح يصبح في متناول البشرية قبل نهاية العام الحالي، ولكن ليس هناك ما يبشر بذلك، على الرغم من مؤشرات كثيرة إلى تقدم يحصل في هذا الميدان، وبالتالي سيتعيّن على العالم أن يجتاز عام 2020، وهو يحمل معه هذا الفيروس الذي تقترب حصيلة الإصابات به من 17 مليوناً والوفيات من 700 ألف. وكما هو ملاحظ، عادت الأرقام إلى الارتفاع، وهي مرشّحة لأن ترجع إلى مستوياتٍ قريبة من بدايات ظهور الفيروس، إذا ما استمر الأمر على هذا المنوال. وهناك دول مرشّحة أكثر من غيرها، كما هو الحال في الولايات المتحدة والبرازيل والهند وروسيا. وتشكل هذه البلدان ما يقارب ثلث الإصابات العالمية. وباستثناء روسيا التي يتراجع فيها عدد الإصابات ببطء، فإنه يواصل الارتفاع على نحو مقلق جدا في الدول الثلاث الأخرى.
استشراء الوباء في دول متقدمة وغنية، مثل الولايات المتحدة، فأل سيئ، ويثير مخاوف كبيرة في حال خرج عن السيطرة في بعض البلدان التي لا تتمتع ببنى صحية متقدّمة، مثلما هو الحال في البرازيل التي سجلت أرقاما قياسية في الإصابات والوفيات. ولا يقل الوضع خطورة في بعض بلدان العالم العربي، وخصوصا في سورية والعراق. وفي حين بدأ يتفشى في سورية التي تفتقر للبنى التحتية الصحية، فإن عدد الإصابات يتفاقم بشكل كبير في العراق، وخصوصا في الجنوب المجاور لإيران.
العربي الجديد
——————
كورونا النسخة السورية الأخطر/ فاطمة ياسين
بدأت وزارة صحة النظام في سورية بالاعتراف بأن المناطق التي تدخل تحت إدارتها قد طرقت أولى مراحل المعاناة، فالبيان قال قبل أيام إن عدد المصابين بفيروس كورونا وصل إلى 717 في عشر محافظات، ونوّه إلى أن هذا العدد هو ما رصدته الوزارة، وقد يكون هناك حالات أخرى غير مرصودة! يؤكد البيان وجود الوباء في عشر محافظات. وعلى الرغم من أن العدد المذكور قليل نسبيا، فالتلميح واضح إلى أن العدد الحقيقي أكبر من ذلك، وتحديده المحافظات العشر يعني أن المرض قد توسع إلى أكبر مساحة ممكنة، وليس هناك استثناءات على الإطلاق. أما أخطر ما في البيان هو التلميح العميق إلى أن إمكانات النظام الصحية تعاني بشدّة، وقد تكون غير قادرة على مواجهةٍ من هذا النوع. وقد برّرت الوزارة ذلك بالطبع بحالة الحصار التي قال البيان إن سورية تعاني منها .. يلقي البيان الكرة في ملعب كل شخص، ويتنصّل من مسؤوليته أمام الجائحة التي يبدو أنها تسرّبت وانتشرت.
يمكن التشكيك بكل بيانٍ يقدّمه النظام، حتى هذا البيان الذي يفصح عن زيادةٍ في عدد المصابين، فمن المتوقع أن يكون العدد أكبر بكثير، سواء الحالات التي يعرف النظام عنها، أو المنفية في تجمعات الصفيح والفقر والبؤس الذي يحيط بالمدن، خصوصا أن هناك إصابات ووفيات ضمن الطواقم الطبية، فقد نعت مواقع موالية، قبل أيام، طبيبة قيل إنها توفيت جرّاء إصابتها بالفيروس، كما أفادت وسائل إعلام النظام نفسها الأسبوع الماضي بأن سبعةً من متطوعي الهلال الأحمر قد تبين أن فحوصاتهم التي أجروها في مستشفى المجتهد جاءت بنتيجة موجبة. وفي ظل هذه المخاوف، أوقفت جامعة دمشق جولات طلاب كلية الطب البشري الميدانية، لعدم تمكّنها من توفير إمكانات الفصل الآمن بينهم، في اعترافٍ آخر بأن مستويات المرض قد وصلت إلى حد مجاهرة واحد من أعتى أجهزة الإعلام في العالم علنا بعجزه عن المواجهة، مع توجيه المواطنين إلى تدبّر أنفسهم.
ويطرح انتشار كورونا بشكل كبير في مناطق النظام مشكلة إضافيةً وضغطا آخر، فالأزمة الاقتصادية المزمنة التي يعاني منها النظام شهدت، في الفترة الأخيرة، تفاقما خطيرا أدّى إلى انهياراتٍ في أنظمة النقد، أودت بسعر صرف الليرة السورية إلى أدنى مستوى، وهي تواصل الانخفاض بلا توقف، ما يجعل الذين يعيشون في كنف النظام في فاقةٍ دائمة، مع عجز النظام التام عن إيجاد أي حلٍّ لتحسين وضعهم الاقتصادي، وهو المعزول دوليا، بالإضافة إلى المشكلات المتفرعة، والتي ترفع الضغط إلى حدّه الأقصى، كانقطاع الكهرباء المستمر، وعدم وجود المياه في فصل الصيف ذي الحرارة المرتفعة. كل هذه عوامل تجعل من إجراءات مواجهة المرض تفشل بالكامل، فسعر القناع الذي يستعمل مرة واحدة يشكل عبئا على الناس، وقد يكون أكثر من نصف السكان غير قادرين على تأمينه يوميا، وخصوصا بوجود عائلة كبيرة.
هذا البلد الذي دمره ساسته بحرب خاضوها على مدى عشر سنوات لم تبقَ فيه بنى صحية، فضلا عن البنى الاقتصادية التي مسحها الفساد بالدرجة الأولى، وما زال مستشريا فيها، فلم يبق ما يقي السوريين الذين وجدوا أنفسهم أسرى في مناطق النظام، وعليهم الآن الاختيار بين الضيق الاقتصادي والاستسلام للمرض المرشح للتفاقم بسرعة عالية، في ظل عدم وجود وسائل وقاية، أو عدم القدرة على شرائها في حال توفرها، خصوصا وأن الداعم والممول الرئيسي (إيران) يعاني هو الآخر من الأعراض نفسها، وغير قادر على مساعدة نفسه، ولا تبدو الصين مهتمة بالمساعدة خارج إطار مجلس الأمن. والمرجح أن الروس سيختفون في قواعدهم العسكرية المحصنة هروبا من مواجهة الوباء الذي يرتع في شوارع موسكو، تاركين النظام لمناعته.
العربي الجديد
——————
كورونا سوريا..الحلول الصحية للأغنياء فقط/ نور عويتي
شهدت مدينة دمشق وريفها في الأسابيع الآخيرة طفرة بأعداد المصابين بفيروس كورونا، وسط انهيار تام للقطاع الصحي وعجز النظام السوري عن السيطرة أو الحد من الأزمة الصحية التي تجتاح مناطق سيطرته.
وأعلنت وزارة الصحة في حكومة النظام السوري تسجيل 45 إصابة جديدة بكورونا، في أعلى حصيلة يومية تعلن عنها. وقالت إن الإصابات ارتفعت إلى 892 إصابة، وهي أرقام مشكوك فيها من قبل مسؤولي النظام نفسه.
وبدلاً من العمل على توعية المواطنين بخطورة الوضع الراهن، عمد النظام السوري إلى التعتيم الإعلامي حول الأرقام الحقيقة للمصابين وعدد الوفيات بفيروس كورونا، وتاجر بأرواح مواطنيه، فاستغل احتياجات الناس الصحية ليعقد صفقات ربحية.
أولى تلك الصفقات، كانت احتكار النظام لفحوص كورونا والمتاجرة فيها، حيث أعلنت وزارة الصحة السورية عن توافر المسحات للراغبين بالسفر خارج سوريا في عدد من المراكز ضمن العاصمة في الوقت الذي خلت فيه المشافي المحلية من الفحوص. وقامت بتسعير الاختبار الواحد بمئة دولار أميركي.
أضاف ذلك إلى معاناة الطواقم الطبية في مشافي العاصمة وزاد من عشوائية العمل فيها، فبات معظم الأطباء يلجؤون إلى طرق بديلة للكشف عن الفيروس. ويقول أحد الأطباء في مستشفى الأسد الجامعي ل”المدن”: “ليس لدينا فحوص للكشف عن الفيروس على الإطلاق. لذلك أصبحنا نعتمد بكشوفنا على التصوير الشعاعي للرئة بعد مطابقة الأعراض، وبعدها نقوم بفحص نسبة الأوكسجين في الدم. ووفقاً للصور والتحاليل نبني تشخيصنا للحالة، وهو تشخيص غير دقيق بالطبع، ويتطلب مجهوداً مضاعفاً”.
وأضاف أنه “حتى إذا تبين أن الشخص يحمل الفيروس وأنه يحتاج لجهاز تنفس، فإننا أصبحنا غير قادرين على تدارك الأمر، فالمشفى ليس قادراً على استيعاب أكثر من 10 في المئة من الحالات التي نستقبلها يومياً”.
الحلول البديلة التي يطرحها النظام في الأسواق متوفرة للأغنياء فقط. عدد كبير من أسطوانات الأوكسجين عرضها ليتاجر بها في المراكز الطبية، وأوحى للناس أن الحل الأمثل في الوقت الحالي هو بتجهيز مشافٍ منزلية. ورفع سعر هذه المعدات الطبية بشكل كبير جداً، حتى وصل سعر أسطوانة الأوكسجين سعة 22 ليتر إلى 270 ألف ليرة سورية، وسعر أسطوانة الأوكسجين سعة 12 ليتر إلى 215 ألف ليرة سورية، ليصبح هذا الحل مقتصراً على فئة محدودة من الشعب السوري.
وعلى الرغم من تبرع العديد من الجمعيات الخيرية في دمشق بثمن الأوكسجين لبعض المصابين، وعلى الرغم من محاولة بعض التجار التدخل لإيجاد حلول رخيصة، مثل معمل “أوكسجين النبك”، الذي أعلن عن استعداده لإعادة تعبئة الأسطوانات بسعر رمزي، يتراوح بين 1000 و2500 ليرة سورية؛ إلا أن العائق يبقى بالحصول على الأسطوانة والجهاز الطبي المرفق بها.
وحتى في حال تمكن المواطن من تأمين الجهاز يقع في مشكلة آخرى وهي توافر الكهرباء لتشغيل الجهاز، خصوصاً أنه في الأيام الأخيرة تعمّدت محافظة دمشق قطع التيار الكهربائي عن جميع المناطق لساعات طويلة، ليصل مجمل ساعات تشغيل التيار الكهربائي يومياً إلى ست ساعات كحد أقصى.
وفي هذا السياق تحدثنا شاهدة من العاصمة دمشق قائلة: “دفعت ما يقارب نصف مليون ليرة سورية لتأمين أسطونة أوكسجين وتجهيزاتها لشقيقتي المصابة بفيروس كورونا، إلا أن الكهرباء غير متوافرة معظم الوقت لتشغيل الجهاز، ولا يمكن تشغيله على المولدات العادية، فكان يتوجب علي أن أقوم بشراء مولد خاص لتشغيله ويبلغ ثمنه ما يقارب 700 ألف ليرة سورية، وذلك فوق قدرتي المادية. لذلك استسلمنا للأمر الواقع، ونحن مضطرون لتعريض حياة أختي للخطر، ووضعها على الجهاز عند توافر الكهرباء فقط”.
حالة الهلع في دمشق وصلت الى أقصاها، بعد أن تناقلت وسائل إعلام محلية وعربية تسريباً منسوباً إلى معاون مدير صحة دمشق، يفيد بأن إجمالي إصابات بفيروس كورونا في دمشق وريفها يصل إلى 110 ألاف إصابة، وأن عدد الوفيات وصل إلى مايقارب ال832 خلال الأسبوع الفائت.
وتسببت هذه التسريبات بخروج كل من وزارة الصحة ومكتب دفن الموتى بتصريحات متناقضة؛ فوزارة الصحة لم تنفِ ما سُرب من تصريحات، وإنما اكتفت بالتصريح بأن الأعداد التي تصرح عنها رسمياً هي التي ثبتت إصابتها من خلال تحليل “PCR”. أما مكتب دفن الموتى فهو لم ينكر أرقام الوفيات المذكورة في التسريبات، ولكنه أنكر أن يكون سبب الوفاة هو فيروس كورونا، وادعى بأن ازدياد أعداد الوفيات في دمشق الأسبوع الماضي ناجم عن موجة الحر التي تجتاح البلاد.
وأبلغ شاهد عيان “المدن” بما يجري في مقبرة زين العابدين في دمشق قائلاً: “قبل يوم واحد من عيد الأضحى، دُفن ما يقرب من خمسين شخصاً في المقبرة. ويتم الدفن بطريقة خاصة، فلا يتم تغسيل الموتى ولا الصلاة عليهم، ولم يرافق الموتى أي من أقربائهم، وإنما تأتي بهم سيارات تابعة للمستشفيات مع فريق مكون من أربعة أشخاص يلبسون سترات وبزات واقية، وجرى دفنهم بعد صلاة المغرب لعدم لفت الانتباه؛ وكأنهم ينفذون عملية سرية”.
المدن
————————-
برعاية الأسد الوباء يقتل جميع السوريين/ علي سفر
هنا، وفي هذا المكان كتبت قبل عدة شهور عن طرافة ما يقوم به السوريون، حينما يشبّهون فيروس كورونا ببشار الأسد.
آنذاك، كانت سوريا بعيدة عن لغة الأرقام المتصاعدة لعدد المصابين بالوباء، وكان السياق مرتبطاً بالكوميديا السوداء لجهة ادعاءات مؤسسات النظام عن أنها باتت مرجعاً عالمياً في الإجراءات الصحية، وأنها قامت بإغلاق الحدود، وأنها تتابع الأوضاع بشكل دقيق، وأنها تقوم بوضع الموانع في وجه تمدد الفيروس نحو البلاد! حيث وصلت مفاعيل هذه الموانع إلى قيام إدارة محافظة حلب بحفر متر في مدخل المدينة، وقامت بملئه بالمعقمات، لكي تكون السيارات الداخلة إلى المدينة نظيفة، لا تحمل أية أمراض معدية، بما فيها كوفيد 19-كورونا!
الجهل في فهم طبيعة الفيروس، والعجز عن إدراك قدرته على إصابة كل البشر، مظهران حكما طريقة تعامل النظام وغيره من قوى الأمر الواقع ميدانياً وسياسياً، مع الوباء منذ البداية!
هنا، للأسف ستنقلب وبشكل رهيب البلاغة، حين سنتذكر تصريح بشار الأسد في بداية 2011 الذي قال فيه إن سوريا ليست تونس وليست مصر وليست ليبيا، وإنها لن تتأثر بالربيع العربي!
ولكن سوريا كانت الأنموذج الأشد قسوة للثورات العربية، ومحاولات الشعوب التحرر من براثن القمع والديكتاتورية!
ومع حالة الإنكار التي صاحبت وجود كوامن وبؤر أولية للمرض المستفحل عالمياً، ها هي سوريا تتحول إلى واحدة من أكثر الحالات مأساوية في تعرضها للخسائر البشرية بسببه!
سخر السوريون دائماً من الأسد ونظامه، لكنهم في المقابل كانوا يدفعون أثماناً عظيمة لقاء رفضهم لأن يستمر وعائلته بحكمهم، وقد سخروا من فيروس كورونا، وهاهم يدفعون الأثمان أيضاً! ليس بسبب استهتارهم بالوباء، بل بسبب تراخي الأسد ونظامه بكل مؤسساته، حتى الطبية، وعدم الجدية في التعاطي مع قدرة الفيروس على التمدد.
فمنذ الإغلاق “غير الجدي” الأول، مروراً باحتجاز المسافرين العائدين، وصولاً إلى لهاث النظام، الذي أربك حتى داعميه إلى إجراء الانتخابات البرلمانية، وكسر سلسلة التباعد الاجتماعي بين السوريين، وما تبع ذلك من اطمئنان الناس في أيام عيد الأضحى، حيث تناقلت المواقع الإخبارية صوراً للتجمعات البشرية في دمشق، كانت تشي فعلياً بعدم وجود أي خطوات جدية لصد المرض!
كل الإجراءات التي فرضت على السوريين فرضاً، كانت تعاني أساساً من أبرز الأعراض التي تدمر البلاد، أيُ بلاد وليس سوريا فقط، وهو؛ فقدان الثقة بين الدولة وبين مواطنيها!
والجميع في سوريا يدركون أن كل شيء هنا مرتبط بالسياسة، حتى أشد عتاة مؤيدي الأسد، ولكن فهم هؤلاء للأمر يبدو معكوساً؛ فإذا كانت طريقة تعاطي الحكومات مع جائحة الفيروس ستتسبب بسقوطها، فإن انتشار الفيروس في مدينتي دمشق وحلب، لن يُسقط النظام، بل سيُسقط السكان المصابين فقط!
وفي ظل الحرب المستمرة ضد الشعب السوري منذ عشر سنوات تقريباً، من سيجرؤ على رفع شعار محاسبة المتسببين بالكارثة؟
فأحزاب الداخل ولاسيما تلك المرتبطة بأجهزة الأمن، تجتمع وتتحالف ضد البعثيين الذين “زوروا” انتخابات مجلس الشعب! بينما تروج أحزاب وقوى سياسية معارضة أخرى إلى أن قانون قيصر “الإمبريالي” هو سبب انتشار الفيروس، بسبب إجراءات الحصار على مؤسسات النظام!
وفي الوقت ذاته، تنادي مؤسسات عالمية مختصة النظام من أجل أن يعلن حالة الطوارئ الصحية في البلاد، ولكنه لا يستجيب! وهكذا تنتظر البلاد مصيبة جديدة برعاية أسدية كاملة، حيث أشارت أقوال منسوبة إلى رئيس قسم الدراسات الوبائية في وزارة الصحة الألمانية، عن أن عدد الإصابات الفعلي في سوريا وصل حوالي مليوني ونصف حالة، وأن الجائحة في البلاد تأخذ مجرى الانفجار الأفقي والعمودي، الأمر الذي يقود إلى “كارثة كبرى لم يشهد لها العالم مثيلاً”!
مؤسسات المعارضة في الخارج بدورها، لم تكن بعيدة عن فشل النظام وعجزه، فرغم محاولتها القيام بإجراءات للحد من انتشار المرض في مناطق الشمال الخارجة عن سيطرة النظام، إلا أنها لم تكن جدية فعلياً، حيث تظهر الصور كيف أن الحياة كانت تجري بشكل طبيعي، بينما على بعد كيلومترات قليلة كانت ثمة إصابات تتصاعد أعدادها!
وأظن أنه لن يكون بعيداً الوقت الذي تصبح فيها مفردات المرض متساوية بين الجميع، ضمن التقسيم الحالي؛ أي المناطق التي يسيطر عليها النظام، وتلك التي تسيطر عليها المعارضة بكل أشكالها!
كما أن تأثيرات الانتشار التصاعدي للمرض المتوقعة، لن تبقي أيّا من القوى العسكرية المنتشرة على الأرض بعيدة عن التعرض للسعاته المميتة!
ما يؤدي في النهاية إلى طرح سؤال قاسٍ يهمسه الجميع داخل أنفسهم، كانت لديهم دوافع وطنية أم لم تكن، ويتصل بإمكانية خلق فضاء عابر أو ممرات آمنة بين الجميع، تُمكن المؤسسات الصحية والطبية النفاذ إلى الموارد والتعاون من أجل إيقاف الوباء!؟
يدرك كاتب هذه السطور مدى عمق الخنادق التي حفرتها جرائم النظام بين السوريين، ولكن وقبل أن يستنكر أصحاب الرؤوس الحامية طرح فكرة كهذه، عليهم أن يروا كيف أن العلاقات الاقتصادية بين المناطق السورية ما زالت تعمل وإن بطرق مخفية!
وعليه فإن القبول أو التواطؤ الضمني مع أمور كهذه، يجب أن يكون علنياً طالما أن مسببات الموت في سوريا لم تعد فقط قذائف ورصاص وبراميل متفجرة!
بل باتت أشد وطأة وكارثية، حيث لن تحمي الملاجئ أحداً، من هواء ينقل الوباء في كل الاتجاهات!
—————————–
سوريا.. ثلاث حكومات وكورونا واحدة/ هوازن خداج
مع انتشار (كوفيد-19) اتّجهت الأنظار نحو المناطق الأكثر توتراً والتي تفتقر للموارد الممكنة للحدّ من انتشاره، ومنها سوريا الغارقة في حرب عبثية تجاوزت عتبة “أقسى الحروب”، ليزداد وضعها سوداوية مع انتشار الإصابات في كافة المناطق، فالعجز الصحي والافتقار للموارد، على مستوى الإدارات والحكومات فيها، يُرسّخ انعدام الفرص لإنقاذ شعب تُرك لاحتمالات الموت وسبله، ولكنّه لا يلغي سعيهم للحفاظ على شرعيتهم الأخلاقية والسياسية وقت الأزمة، أمام أنصارهم وحلفائهم، بنشر التحذيرات التي لا طائل منها سوى قهر المقهورين وتركهم لمواجهة مصيرهم مع كارثة إنسانية جديدة.
الواقع الصحي الكارثي
منذ اشتعال الحرب، شكّل استهداف القطاع الصحي من قبل النظام والأطراف المنخرطة في الحرب، جزءاً من الكوارث الإنسانية السورية، ونشرت منظمة الصحة العالمية، في تقرير لها، أنّ سنوات الحرب في سوريا دمرّت نظام الرعاية الصحية، فأكثر من نصف المستشفيات العامة ومراكز الرعاية أُغلقت أو لا تعمل بكامل طاقتها، ويتجاوز عدد المحتاجين للمساعدة 11.3 مليون شخص، ثلاثة ملايين منهم يعيشون بأمراض مزمنة وإصابات وإعاقات خطيرة.
الواقع الصحي الحرج لا يقتصر على الدمار في البنى أو على ما رافق الحرب، من انتشار كبير للأوبئة والأمراض المندثرة أو القليلة كالأمراض السارية، مثل: السلّ، والأمراض البيئية كاللاشمانيا، والملاريا، والتهاب السحايا، والتهاب الكبد، أو على هجرة عدد كبير من الكوادر الطبية، بل يمتدّ نحو تردّي الخدمات في القطاع الطبي قبل الحرب بسبب الفساد والإهمال والأوساخ، حيث أطلق السوريون على مشافي الدولة اسم المسالخ الوطنية، لتثبت الصفة مع الحرب في تحولها الفعلي إلى مسالخ بشرية، بحسب ما وصفه الناجون من التعذيب والجرائم ضد الإنسانية في المشافي العسكرية وبمشاركة أطباء.
تكتّم واستهتار النظام
خطورة الوضع السوري لم تقتصر يوماً على كارثية الحرب، بل في استمرار نظام يستغلّ أرواح السوريين بكافة السبل، هذا ما يمكن تبيّنه من تكتّمه وإنكاره وجود الوباء طيلة شهرين، ليكون جزءاً من كارثة مضافة لخدمة مآربه، فمنذ منتصف شباط/ فبراير، انتشرت شائعات في وسائل التواصل الاجتماعي السورية، بأنّ فيروس كورونا وصل إلى سوريا عبر إيران ووكلائها، لأنّ إيران كانت أولى الدول في انتشار المرض بالشرق الأوسط، وقامت بعض المبادرات الفردية التآزرية لحماية السوريين من التجمع، إلا أنّ تبنّيها بعيداً عن توجيهات النظام، كونها تشكل سقوطاً آخر له في تجنيب السوريين المأساة، قابلها تعمّد النظام طمأنة شعب أنهكه الموت والجوع والخوف، ثم مبادرة متأخرة بنشر حملات التوعية، حول ضرورة النظافة وتجنّب الاحتكاك المباشر، ورغم قلة التعويل عليها في ظل ظروف الحياة السورية، لكنها تشكل جزءاً من كارثية استمرار النظام وسياساته الذي يتعمد تكميم أي فعل مجتمعي بعيداً عن سطوته.
لقد أعلن النظام عن أول حالة وفاة في 22 آذار/ مارس، محاولاً الاستفادة من الكورونا، كفرصة لحشد الدعم المحلي والدولي، والدعوة إلى رفع العقوبات الاقتصادية، رغم أنّها لا تستهدف القطاع الطبي، فهو كغيره متروك لتغوّل الفساد والاستثمار بمستلزمات حياة السوريين، فالمواد الغذائية ومعدّات التعقيم كلها يتسلمها رجل الأعمال وعضو “مجلس الشعب” محمد حمشو، الشريك لنظام أثبت عجزه طيلة الفترة الماضية، وما زال يتعمّد التلاعب بأرقام المصابين والضحايا، ففي الوقت الذي صرّحت فيه وزارة الصحة في 30 آذار/ مارس، عن وجود عشر حالات فقط، كان هناك تصريح لأطباء سوريين عما لا يقلّ عن خمسين مريضاً ماتوا في مستشفى واحد فقط في دمشق.
كما أنّ أرقام المصابين التي تزداد تصاعداً، لم تمنع النظام من فتح مراكز الاقتراع لانتخابات مجلس الشعب، أو كما يطلق عليه السوريون، مجلس “المنافقين”، فاللامبالاة بكل الوضع السوري المزري والاستهتار بحياة السوريين ينتقل من مرحلة لأخرى تختلف بالتوصيف وتحميل المسؤولية للغير أو للشعب نفسه، وتتشابه بالموت الذي ساد كافة المناطق.
التنافس بين حكومتي الإنقاذ والمؤقتة على الشرعية
تخضع مناطق سيطرة المعارضة السورية في الشمال، لإدارة حكومة “الإنقاذ” المدعومة من هيئة تحرير الشام، في أجزاء من شمال إدلب وغرب حلب، وهناك أكثر من 4 ملايين شخص يعيشون تحت سيطرتها، من بينهم أكثر من مليوني شخص من النازحين، ويتحتّم عليها مواجهة عواقب الوباء على أرض الواقع، في ظلّ نظام صحي مدمَّر، بسبب الهجوم المتكرر على المراكز الصحية من قبل النظام ورورسيا، وعدم القدرة على تنفيذ التدابير التي من شأنها أن تحدّ من انتشار المرض.
لكن المشكلة الفعلية تكمن في التنافس بينها وبين الحكومة المؤقتة على إدارة مستلزمات الوقاية من المرض، وتتضارب التقارير بينهم، ففي الوقت الذي تصرّح به بعض الجهات الإعلامية حول مبادرة هذه الحكومة، منذ 14 آذار/ مارس، في تقديم إرشادات التدابير الوقائية وحملات التوعية، وافتتاح مراكز عزل في (سرمدا وجسر الشغور وكفر كرمين)، وإنشاء لجنة استجابة للطوارئ للتنسيق بين جميع وزاراتها وغيرها، تجد تصريحاً مضاداً حول تجاهلها لحياة السكان في المناطق الخاضعة لسيطرتها، في شمال غرب البلاد، وعدم اتّخاذها لقرارات تقضي بإيقاف وتعليق المدراس والجامعات، تفادياً لـ”كورونا”، وعدم استجابة أصحاب العقائد للوقاية، ومعارضتهم لإغلاق المساجد، وقد طعن البعض في “الحكومة المؤقتة” المنافسة والمدعومة من تركيا في هذه الادعاءات، معتبراً أنّ “حكومة الإنقاذ” تقوم باستغلال المبادرات المموّلة من قبلها في إطار مكافحة فيروس كورونا، ونسبت لنفسها الفضل في نجاح تلك المبادرات بدل تحالفهما لتخفيف الكارثة.
وبالعموم، تبقى الإرشادات أو المبادرات أيّاً كانت الجهة المسؤولة عنها، مجرد دعايات دون ضوابط، ولا تقدّم شيئاً لانتشال السوريين، ويبقى تفاوت القدرات مؤشراً على سوء الإدارة الأخلاقي والسياسي، فقدرة الحكومة المؤقتة يعتبر الأوسع، نتيجة ما تتلقّاه من دعم مادي وسياسي، لكن بقاءها، كحكومة شكلية للإدارة التركية، وتهم الفساد التي طالت أعضاءها منذ تشكيلها، يجعلها لا تختلف عن النظام في طرق إدارة الأزمة، واعتبارها حدثاً جديداً للاستفادة منه لكسب شرعية واهية، فعجزها عن تنفيذ أيّ من أولوياتها خلال الفترة الماضية، لم يسمح بالتعويل عليها في ألا تكون عبئاً إضافياً وأداة طيّعة لحصار وقتل السوريين، لخدمة أجندات الدول الراعية، ولن يكون وارداً في إدارة كارثة إنسانية لفيروس، شكل تحدٍّ لدول كبرى.
حالة العجز في الرعاية الطبية لا تقتصر على مناطق الحكومات، فالواقع الطبي لا يختلف في روج آفا عن قريناتها، فمهما تشظّت المناطق السورية العجز واحد ومستمرّ، ومهما اختلفت معاناة السوريين في حياة شحيحة، من منطقة إلى أخرى، ومن خيمة تشرّد إلى جدران منزل، المأساة واحدة.
في خارطة المشكلات المختلفة الفقر، واللامساواة والحروب والإرهاب، لم يكن يعوز هذا العالم كورونا، وفي تراجيديا البؤس السوري، لم تكن الكورونا سوى استكمال لسبل الموت، ففي بلد غارق بالدماء والاقتتال لم تكن الرغبة بالحياة قادرة على زيادة الاحتمالات، في تحقيق واقع أفضل طيلة السنوات الماضية من الحرب، ولن تكون رغبة الحياة قادرة الآن على الحدّ من خطورة انتشار فيروس كوفيد-19، ليتساوى احتمال الموت والحياة لشعب يقتسم البؤس، وتقتسم حكوماته الغنائم والتصريحات حول خطورة الوضع الحالي.
ليفانت – هوازن خداج
——————————
الوباء موجود والدواء مفقود.. كورونا يستفحل بحلب والنظام يواجهه بالحل الأمني/ عمر يوسف – شمال سوريا
“اذهب واحجر نفسك في المنزل.. لا يوجد أماكن لدينا”. بهذه الكلمات خاطب أحد الممرضين في مستشفى الرازي بمدينة حلب المريض أحمد الأحمد، الذي نقله ذووه إثر نوبة ضيق تنفس ألمت به منذ 3 أيام بعد تفاقم إصابته بفيروس كورونا في المدينة الخاضعة لسيطرة النظام السوري.
وقال الأحمد (اسم مستعار) إنه لم يتمكن من الحصول على غرفة في المستشفيات الحكومية لمتابعة حالته الصحية المتدهورة، واضطر إلى التواصل مع طبيب مختص من أجل تأمين أسطوانة أكسجين وجهاز تنفس اصطناعي في منزله.
وأكد للجزيرة نت أن أدوية مقويات المناعة، مثل فيتامين سي، وخافضات الحرارة أصبحت مفقودة في السوق بسبب احتكار التجار ورفع أسعارها إلى مستويات قياسية، وإن توفرت فيبلغ سعر علبة فيتامين سي الفوار نحو 4 آلاف ليرة سورية (نحو دولارين أميركيين)، وأصبح من شبه المستحيل الحصول على أدوية المسكنات الخافضة للحرارة في الصيدليات والمستشفيات.
وأعلنت وزارة الصحة في حكومة النظام -في آخر إحصائية- أن أعداد المصابين في حلب بلغ 95 إصابة، إلا أن بعض الأهالي والأطباء من المدينة شككوا في هذا الرقم، مؤكدين أن العدد أكبر بكثير من المعلن؛ نظرا لمعرفتهم بأقارب مصابين بالفيروس يتجاوز عددهم العشرات، ومعظمهم لم يجدوا غرفة للحجر والعلاج في المستشفيات.
ويعتقد مدنيون من حلب أن النظام السوري يعتمد الحل الأمني في مواجهة وباء كورونا، مستخدما أذرعه الأمنية من المخابرات والأفرع الأمنية لمنع الحديث عن المرض وانتشاره، وتسجيل وفيات بالوباء على أنها أمراض قلب وسكر.
المسحات الطبية لا تنسجم مع عدد حالات المشتبه في إصابتهم، وفق أطباء وإعلامي موال للنظام (مواقع التواصل)
بؤرة وباء
ورجح طبيب من حلب (رفض الكشف عن اسمه) أن أعداد المصابين بالمدينة تقدر بمئات الحالات، كون المستشفيات والمراكز الطبية لا تقوم بمسحات طبية سوى لـ10% من المراجعين المشتبه في إصابتهم، عدا الحالات التي لا تخضع لأي علاج أو كشف طبي وتقوم بمخالطة المدنيين.
وأكد الطبيب للجزيرة نت أن مسنا يدعى فاروق مولوي توفي أمس متأثرا بإصابته بالفيروس بعد رفض جميع المستشفيات بالمدينة استقباله، وهو ما يعكس حجم تفشي الوباء، وعدم القدرة على استيعاب المزيد من المرضى.
وحذر من تحول المدينة إلى بؤرة للوباء بسبب ضعف إجراءات العزل من قبل السكان، وضعف النظام الصحي في المدينة، وعدم قدرته على مواجهة الأعداد المتزايدة، داعيا الأهالي لتوخي الحذر وعدم الخروج من المنزل إلا للضرورة القصوى.
وزارة الصحة أعلنت السبت تسجيل 65 إصابة جديدة، مما يرفع الإصابات في مناطق النظام إلى 1125 (مواقع التواصل)
أثر الحصار
ويرجع الإعلامي الموالي للنظام السوري ومراسل القناة السورية شادي حلوة ضعف الإمكانات الطبية وقلة المسحات إلى الحصار والعقوبات المفروضة على سوريا، الأمر الذي انعكس على توفير أجهزة التنفس الاصطناعي والأدوية اللازمة لعلاج مرضى الفيروس في مناطق النظام.
ويرى الإعلامي أن وزارة الصحة لا تملك الإمكانات اللازمة لإجراء ألف أو ألفين مسحة يوميا، معتبرا أن فكرة الحجر الصحي غير واردة، لأن هناك أشخاصا يعملون بنظام المياومة (اليومية)، وفي حال توقفهم عن العمل لن يتمكنوا من إطعام عائلاتهم.
وحتى مساء السبت أعلنت وزارة الصحة في حكومة النظام السوري تسجيل 65 إصابة جديدة، مما يرفع عدد الإصابات المسجلة في مناطق سيطرة النظام إلى 1125 إصابة، وهي أعلى حصيلة منذ تسجيل أول إصابة في مارس/آذار الماضي.
الجزيرة
————————————
بين كورونا وصفحة الوفيات ودفن أحلامنا… دمشق تغرق في العتمة/ لبنى صويلح
يبدو حائط فيسبوك اليوم كجدار طويل لتعليق النعوات، فاستكمالاً لسلسلة صفحات فيسبوكية تعنى بيومياتنا المأساوية، بدأت بصفحة “يوميات قذيفة هاون”، تأتي اليوم صفحة “وفيات دمشق” لتلحق بزميلاتها من صفحات مواكبة يوميات الحزن السوري، ولكنها للأسف الأكثر نشاطاً، لأن الحدث الطاغي اليوم هو الموت.
وإذا كانت السجالات في أي بلد تدور حول أحداث مختلفة تنتمي للحياة، فالسجال الأكثر تداولاً في سوريا الآن هو عدد الوفيات المسجل يومياً بسبب كورونا، فبدل أن يتركّز الازدحام على الأماكن المرتادة عادة في الأعياد، تنتشر صورة للطوابير المتزاحمة أمام مكتب دفن الموتى.
نعيش ذروة كورونا اليوم، حيث كل شيء يصل إلينا متأخراً، حتى الأوبئة. حمّى البحث عن أدوية، أسطوانات أوكسجين، أسرة في المستشفيات وأماكن للدفن في المقابر، مع خوف محموم من الوصم كمصاب كورونا.
الوباء اليوم ليس مزحة، فأن تصاب به هو الخطوة الأخيرة في طريق الذلّ، هو أن تكمل مسيرة الحياة الشاقة بموت كذليل، يتقاذفون جثتك، يشتمونك ويمقتونك، كقطعة زائدة يريدون التخلص منها.
وفي حين أن كورونا يحصد كل يوم أعداداً هائلة من الشباب والشابات، فاضطرابات ما بعد الصدمة والندوب التي حفرتها سنوات قهر وظلم لم توزع حصصه بالتساوي، تُفقدنا شباباً توقفت عضلة القلب عندهم لأنها لم تعد قادرة على الاحتمال، أسباب الموت كثيرة اليوم ولكن لا قصاص يعيد أحداً للحياة.
دمشق الحر والعتمة
لا يخيم الظلام على الأخبار فقط، فدمشق تعيشه بشكل ملموس أيضاً، وهي تغرق في العتمة في ليالي الصيف الحارة مع غياب الكهرباء، وكيلا تخرج أخبار البلاد عن نطاقها العبثي، يطلّ علينا خبر تدخّل قنديل البحر شخصياً في إعتام المدينة، عن طريق منع وصول مياه البحر إلى المكثف للتبريد، حيث تأتي المؤامرة على البلاد من أعماق البحار أيضاً.
الحر وانعدام الكهرباء والفقر يجعل الناس لا تكترث بكورونا، وتفترش الحدائق وأي مكان يمكن ارتياده مجاناً، وإن كان الاتكال الأخير اليوم على وعي الشعب لمواجهة الوباء، يتناسى المعوّلون عليه أن الوعي لا ينبت فجأة بعد تكريس الجهل على مدى عقود.
الحياة الافتراضية
تدار الحياة هنا افتراضياً: معارك افتراضية، هاشتاغات، أصوات عالية صاخبة، وتحليل كل شيء، من أهم خبر سياسي إلى أكثر الأحداث هامشية. تخفت هذه الأصوات كلما ابتعدت عن الشاشات واقتربت من الشارع الحقيقي، حيث تتلاشى الأصوات ليعمّ الصمت والخرس الطاغي على كل شيء، ليقتصر الحديث على آخر ما وصلت إليه الأسعار، عدد ساعات قطع الكهرباء، الأدوية المفقودة ومستجدات كورونا، فالناس لا طاقة لها على الكلام، وبالكاد تلتقط أنفاسها المختلطة بلهاثها المرافق لتعب هائل تراكم عبر سنوات، وإحساس باللاجدوى يلقي بصبغته على كل شيء، وسأم يتجول يومياً حول الشوارع الثلاثة التي يمكن أن توصف “بالحيوية”، نسبة إلى مقاييس تخص دمشق وحدها.
التنافس على التعاسة
مع كل خبر تتجدد خطابات الكراهية، فنحن دائماً في شجارات حول من يستحق الموت والتعاسة أكثر، حيث لا مخيلة متبقية لمناقشة استحقاقات السعادة. يعتقد من لازال في البلاد أنه حمل على كاهله كل الأعباء، ودفع الأثمان عمن غادروا تاركين له كعكة الموت ليبتلعها وحده، ويعتقد من في الخارج أيضاً أنه دفع أثماناً باهظة لم يدفعها من لم يغادر.
تقارب الصورة الأخيرة للبلاد في مخيلة سوريي الخارج، البلاد في السنة التي غادروها، وكما لا يستطيع من في الداخل تخيل حياة الاغتراب واللجوء، لا يمكن لمن غادر منذ سنوات أن يفهم سوريا الحقيقية، “سوريا 2020″، بعيداً عن خيالاته وأمانيه وتحليلاته، مهما كان متابعاً لما يجري في البلاد اليوم.
الياسمين الدمشقي
يبدو التباكي على حرائق دمشق غريباً للبعض بعد كل ما مرّ على البلاد، من فَقَد بشراً وحياة لن تهمه الأحجار وما سيتبقى من تاريخ هذه الحضارة بعد ألف عام. هناك حقبة انتهت، لا شيء يعود للوراء. هذا ما لا نتمكن من استيعابه، نحن من نعيش على حافتها، ربما لن يتبقى منّا سوى القليل من آثار شعب عاش هنا مع تحليلات متناقضة حوله، وبضعة تدوينات عن أناسٍ كانوا يتغنون بالياسمين الدمشقي، ثم في آخر أيامهم بدؤوا يشتمونه ويصبون غضبهم عليه كرمز هام للأيام “الخوالي”، أو ربما يبحث عنا البعض في روايات التاريخ كما نبحث اليوم عن تاريخ أجدادنا السريان في الكتب.
أقيم منذ فترة عرض مسرحي يدَّعي إحياء تاريخ الرحابنة، يمكن اعتبار العرض تكثيفاً لكمّ البؤس والتردي الذي انعكس بدوره على الثقافة، يمكن اعتباره أيضاً نموذجاً يبين مستوى العروض المسموح تقديمها على المسارح في دمشق اليوم، أو في مقاربة أدق، غياب المعايير في أي شيء، ومن ضمنها معايير تقديم أي منتج فني أو إبداعي. ولكن الأكثر إثارة للاستغراب هو استخدام كلمة “إحياء” التي يستهل بها العرض عنوانه السريالي جداً، في بلاد مخصصة ليس لدفن الجثث فقط، بل أيضاً لدفن الأحلام والمواهب والآمال.
* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف
رصيف 22
————————————–
=====================
===============================
تحديث 20 آب 2020
—————————————-
كورونيات سوريّة/ عمر قدور
كيف يمكن لأحد ما أن يبتدع فكرة إعادة شراء وبيع الكمامات المخصصة للاستعمال مرة واحدة؟ بكل آسف هذا إبداع سوري خالص، إذ هناك أمام أبواب بعض المؤسسات التي تُلزم مراجعيها بارتداء الكمامة أشخاص يبيعون الراغبين، ولدى خروجهم من المؤسسة يعرضون عليهم شراءها بسعر متدنّ عن سعر المبيع من أجل إعادة بيعها لزبائن مقبلين. أليست الحاجة أمّ الاختراع؟ هذا مثلٌ يجسّد تلك المقولة بأقسى ما يمكن تخيّله من فظاظة أو وحشية، فنحن أمام الحاجة بمعناها المدقع، أو أمام العوز الذي يقترح تجارة باهظة التكلفة صحياً، وهي ليست بالتجارة المخفية لأن المشتري والبائع متواطئان في عملية تخفف العبء الاقتصادي عن الأول المضطر على الأرجح لتغليب حاجته إلى ثمن الغذاء على احتياطات صحية يراها من الكماليات.
هل هناك بقعة في العالم تحدث فيها مضاربات على أجهزة التنفس في المستشفيات؟ مع الأسف تشير الأخبار إلى أن هذا الاختراع الشيطاني القذر قد أخذ طريقه إلى بعض مَن يُطلق عليهم تلطفاً وصف “ضعاف النفوس”، ففي المستشفيات الخاصة تكلفة الليلة في العناية الفائقة هي بحدود ربع مليون ليرة سورية، ومع أن الأثرياء فقط قادرون على دفع الكلفة فقلّة الأسرّة فتحت باب خفياً للمضاربات ولمن يدفع من وراء الكواليس مبالغ أعلى من المعلن. صراع الوجود هذا متصل بتوفر 325 سريراً للعناية الفائقة، أي مع إمكانية تقديم أجهزة التنفس للحالات الحرجة، في جميع مستشفيات سوريا العامة منها والخاصة، وكما نعلم لم تعد الحدود مفتوحة أمام الأثرياء للعلاج خارج البلاد.
قبل قرابة أسبوع بشّرت إعلامية موالية بارزة مستشفيات حلب بوصول الأكياس المخصصة لدفن ضحايا كورونا، ومن صفحتها وصفحات أخرى شديدة الموالاة سنحصل على أسماء لبعض أولئك الضحايا، اشتُهرت منها قائمة بالضحايا الأطباء الذين قيل أن عددهم وصل الثمانين، بينما هناك حوالى 65 موثّقين بالاسم، أحدهم شاب يبلغ من العمر 36 عاماً، من دون احتساب ضحايا الطاقم التمريضي. ضخامة عدد ضحايا الطاقم الصحي لا تشير فقط إلى المستوى المرتفع جداً لتفشي الفيروس، وإنما أيضاً إلى مستوى الوقاية التي يحظى بها الطاقم، والتنويه بمناقبية أولئك الذين يعملون ضمن شروط صعبة جداً “ومنهم له من الشهرة والكفاية ما يغنيه عن العمل ضمن الخطر” لن ينقذ زملاءهم في الظروف ذاتها التي أودت بهم.
تذكّرُ الأرقام الواردة أعلاه مهم للمقارنة، فحتى ليل الأحد كانت الحصيلة الرسمية المعلنة من قبل وزارة الصحة هي 64 وفاة جراء الفيروس مع تسجيل 1677 إصابة، أي أن حصيلة الوفيات حسب وزارة الصحة أقل حتى من وفيات الأطباء الموثّقة بالأسماء. الكذب المكشوف بوقاحة سيبرره إعلاميو الأسد بأن الإحصائيات المعلنة تقتصر على أولئك الذين أتت تحاليلهم إيجابية، وهذا لا يمنع وجود آلاف من المصابين وربما الوفيات ممن لم ينالوا حظوة التحليل، ولم يُحتسبوا تالياً على المصابين أو الضحايا. بالطبع لا يجيب التبرير عن واقع توفر الاختبارات للراغبين في السفر مقابل دفع 100 دولار، ولا عن الصور التي وردت من المراكز المخصصة لهم والتي تُظهر اكتظاظاً مستغرباً في مثل هذه الظروف، فكما نعلم وجهة السفر الوحيدة المتاحة هي لبنان، والحدود معه ليست مفتوحة على مصراعيها سواء للسفر إليه أو عبوراً منه إلى وجهة أخرى.
وزارة أوقاف الأسد أعلنت استئناف صلوات الجمعة والجماعة في دمشق وريفها بدءاً من فجر الأحد، بعد تعليق دام أسبوعين، بينما تفيد كافة المؤشرات بتفاقم الوباء في العاصمة وريفها، وتشير مواقع طبية محسوبة على الموالاة إلى أن استمرار الخط البياني في التصاعد لأسبوع آخر يعني الانهيار الصحي التام. أبواق الأسد إذا أشارت مضطرة إلى الواقع تلقي باللوم على العقوبات الدولية، خاصة العقوبات الأمريكية بموجب قانون قيصر، رغم أن العقوبات تستثني المواد الطبية والغذائية. الأهم أن سلطة الأسد وأبواقها لا تعترف بالواقع المتهالك إلا من أجل المطالبة برفع العقوبات، مع إدراكها أنه مطلب غير قابل للتنفيذ. أحد الأبواق لا يفتقر إلى “الفطنة” لينشر في الجريدة التي يرأس تحريرها تحليلاً مفاده استعجال ترامب الإعلان عن الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي للتغطية على إعلان بوتين عن اللقاح الروسي، ربما ظناً منه أن النجاح الروسي المزعوم سيقدم السلوى لآلاف الضحايا السوريين إن كان بينهم من يقرأ الجريدة.
المناطق الخارجة عن سيطرة الأسد بقيت في منأى عن الوباء، حتى أتتها العدوى من مناطق سيطرته، ورغم ما هو معلن لجهة إغلاق المعابر من قبل قسد ومن قبل الفصائل المسيطرة على إدلب وعفرين وشرق الفرات فإن خطوط التهريب والمستفيدين منها تكفلا بتسرب حالات الإصابة، وقد وصل بعضها إلى النقاط الأخطر، أي إلى مخيمات للنازحين تندر فيها أصلاً أدنى شروط النظافة، وتعاني من الاكتظاظ الشديد ضمن المخيم وضمن كل خيمة على حدة. يعيش في مخيمات إدلب وحدها قرابة مليون لاجئ، وعدد أسرّة العناية الفائقة فيها 20 سريراً، ولا يختلف الحال كثيراً في محافظة الحسكة التي تمتلك مستشفياتها 18 سريراً مماثلاً. الفيتو الروسي في مجلس الأمن كان قد خفّض عدد المنافذ التي تدخل منها مساعدات الأمم المتحدة إلى منفذ وحيد خارج سيطرة الأسد، ما يضع الثقل على قوتي النفوذ المسيطرتين، التركية والأمريكية، وحتى الآن لم يبدر عنهما ما ينبئ بتفادي الكارثة المحتملة، بل يصعب استبعاد هجوم روسي على إدلب ليزيد من هولها.
تأخذ منظمة الصحة العالمية بالإحصائيات “الرسمية” التي تعلنها وزارة صحة الأسد، ولم نسمع مؤخراً من مكتبها في دمشق أي تحذير من التردي الحاصل، وهذا هو حال جميع المؤسسات الأممية التي حابت الأسد طوال السنوات الماضية. الخبر الوحيد الذي بمثابة المضحك المبكي هو انعقاد مفاوضات اللجنة الدستورية في جنيف، إذا لم يعرقله انسحاب لوفد الأسد، وكأن هذه هي الأولوية السورية الآن. لن تعلن سلطة الأسد البلاد منكوبةً، وقد لا تفعل ذلك سلطات الأمر الواقع الأخرى، وكأن استرخاص حيوات السوريين صار قاعدة يعمل بموجبها الداخل والخارج. من السهل على أي منا القول أن العالم الذي تفرج على إبادة وتهجير ملايين السوريين قبل كورونا لن يكترث وهو في مصابه بحيواتهم، لكن ما ينقذ أرواح السوريين اليوم ليس بتكلفة ثقيلة حتى على منظمات الإغاثة والصحة الأممية، وأقل ما يستحقه هذا البؤس ألا نتوقف عن التذكير به.
المدن
————————————–
كورونا في حلب/ مصطفى أبو شمس
تبدع صفحات «حلبية» عديدة على وسائل التواصل الاجتماعي في صناعة الأخبار المتعلقة بفيروس كورونا المستجد، ,تعتمد في معظمها على «القص واللصق» دون التحقق. وبعد رصد منشورات الأسابيع القليلة الماضية في ست صفحات، هي الأكثر متابعة من قبل سكّان المدينة اليوم، لم نجد أخباراً مختلفة أو متنوعة، بلّ صبّت جميعها في نقل أنباء متعلقة بالفيروس والمرض، وبالترويج لبعض المنتجات أو الأقوال التي تفتقد للدلائل العلمية والطبية، لتحمل تعليقات المتابعين انتقادات لاذعة لهذه المعلومات، وسخرية من القائمين عليها. لكننا لم نجد أي خبر يدل على التذكير بأساليب الوقاية، أو ما تقدمه مديرية الصحة من خدمات، باستثناء أسماء المشافي العامة والخاصة وبعض الممرضين الملتزمين ضمن جمعيات للمساعدة، وأرقام هواتفهم التي لا يرد عليها أحد في الغالب، بحسب التعليقات، بالإضافة إلى أماكن بيع أسطوانات الأكسجين والأدوية المفقودة.
كورونا ينتشر في حلب
سنخفي أسماء من تحدثنا معهم لأسباب تتعلق بسلامتهم، وسنعتمد في هذا التقرير على تحليل الصفحات الإخبارية على وسائل التواصل الاجتماعي، وشهادة أحد المصابين بكورونا، وحديث مع أطباء ومِخبري، إضافة إلى رأي بعض السكّان.
ينتشر في مدينة حلب اليوم قول بأن السكّان فيها ثلاثة أنواع: مصاب بكورونا وشفي منها، مصاب حالياً، وفي طريقة للإصابة الحتمية. وإن كانت هذه المقولة تعميماً غير مثبت بأرقام، إلا أن تداولها الواسع يشير إلى الانتشار الكبير للمرض، الذي بدأ الحديث عنه، بعد فترة من العناد في إخفاء الإصابات، على لسان صحفيين وإعلاميين وأطباء ومواقع تواصل اجتماعي تغصّ بالأخبار المتعلقة بالوباء، بما فيها تزايد أخبار الوفيات التي يعتقد أنها نجمت عن كورونا.
تلك الأخبار، إضافة إلى هشاشة الواقع الصحي، وغياب القدرة على تحقيق الحجر والتباعد الاجتماعي في مدينة يعمل معظم سكانها في ورش صغيرة وظروف اقتصادية سيئة، مع الاستهتار بالأساليب الوقائية اللازمة بما فيها ارتداء الكمامات، كلّها ظروفٌ تزيد من الخطر القادم، الذي يقدره أحد الأطباء بإمكانية تضاعف أعداد المصابين لعشرات الآلاف خلال الأشهر القادمة، والوفيات إلى الآلاف، إذا ما قارنا عدد سكان المدينة الذي يزيد عن ثلاثة ملايين بحالات دول انتشر فيها المرض وتمتلك قطاعاً صحياً أفضل بكثير من المتوافر في حلب.
تخبرنا وزارة الصحة في حكومة النظام أن عدد العدد الإجمالي للمصابين بكورونا حتى يوم أمس الثلاثاء 1844 حالة منها 246 في حلب. وقد توفي من إجمالي المصابين في البلد بحسب الوزارة 73 شخصاً، فيما كانت صفحات قد تداولت وفاة واحد وستين من الكوادر الطبية (طبيب -صيدلي)، يضاف إليهم الإعلان عن وفاة طبيبين وصيدلي خلال اليومين الماضيين، وهو ما يعني وفاة عشرة أشخاص فقط من خارج القطاع الصحي إذا قارنا ذلك مع الأرقام المعلنة.
ليست الأرقام الصادرة عن وزارة الصحة مخالفة للحقيقة، فهي فعلياً توثق عدد الحالات المصابة التي تم إجراء المسحة الطبية لأصحابها، في ظل غياب المخابر التي يمكن من خلالها طمأنة المرضى واكتشاف إصابتهم من عدمها.
في حلب لا توجد مخابر لإجراء المسحات سوي مخبر وحيد في مشفى زاهي أزرق في منطقة بستان الباشا، وهو مخصص للسوريين الراغبين بالسفر، والذين يتوجب عليهم دفع مئة دولار لإجراء التحليل والحصول على الوثيقة، تدفع في أحد فروع المصرف التجاري السوري بعد مراجعة مديرية الصحة.
ويقول من تحدثنا معهم إنه لا وسيلة سوى الاستدلال بالأعراض لمعرفة إن كان الشخص مصاباً أم لا، ويتساءلون عن سبب غياب وجود المسحات الطبية سوى للمسافرين، وبقدرة يومية تصل إلى تسعين مسحة، في حين يترك الآلاف من أبناء المدينة لقدرهم. أما في المخابر الخاصة، فتبلغ قيمة التحليل نحو مئة وخمسين ألف ليرة. ويعتقد بعض من تحدثنا إليهم أنه لا يوجد أي اختبار حقيقي للمسحات في هذه المخابر الخاصة، وإنما هي وسيلة استغلال جديدة. يتساءلون أيضاً عن وسائل الاختبار التي تم تزويد الحكومة بها من قبل منظمة الصحة العالمية مجاناً، وعن الجهات التي تذهب إليها المبالغ التي يدفعها الناس. في هذه الظروف، تختلط الإشاعات والأخبار غير الموثوقة بالحقائق، التي لا يمكن تمييزها في ظلّ الغياب الكامل للشفافية والثقة.
الأخبار الكاذبة وسيلة دعائية
«فيتامين C، الزنك، فيتامينD، أزيترومايسين، نوع من أنواع البخاخات مجهول الاسم، لقاح سويسري، حبة البركة، الشاي الأخضر، الثوم والبصل، الكثير من الأدعية»؛ يكفي أن تكتب أحد هذه المفردات وتضيف إليها كلمة حلب، حتى تطالعك عشرات الصفحات التي تتحدث عن فعاليتها في علاج الفيروس، مُذيلة ذلك بتجارب وكلام منسوب لأحد الأطباء.
وعند سؤالنا لأحد أطباء الصدرية، قال إن هذه الأدوية والمستحضرات والأعشاب جميعها لا تنفع في علاج الفايروس، وإن الترويج لها يدخل في باب الدعاية التي وصفها بـ «السيئة»، باستثناء فيتامينD الذي يلعب دوراً في عمل النظام المناعي، ومضاد الالتهاب أزيترومايسين الذي يوصف في بعض الحالات وباستشارة طبية، نظراً لما يحمله من آثار جانبية قد تسيء إلى صحة المريض إن لم يكن بحاجته، وكذلك دوائي «تام فلو» و«ديكساميتازون»، إلا أن الأخير ينفع في حال نقص الأكسجة وتطبيق الأكسجين للمريض.
يقول الطبيب إن هذه الشائعات تأتي من مصدرين، الأول طبي وذلك لعجز الأطباء عن إيجاد دواء مناسب ما يجعلهم يسعون للتجريب، وهو ما يراه خاطئاً إذا لم يستند إلى الدراسات العلمية التي تنتشر في كل يوم عن مراكز وصفها بـ «المحترمة»، وثانيها من قبل بعض التجار والصيدليات لترويج أصناف معينة، وغالباً ما يقع الطبيب العاجز فريسة طمأنة المريض، فيضطر لكتابة بعض الفيتامينات للتخفيف من توتره ودرجة الخوف لديه.
وكانت أسعار هذه الأدوية قد تضاعفت إلى عشرة أضعاف خلال الفترة الماضية، ولجأ المواطنون لتخزينها في منازلهم، وشهدت الصيدليات ازدحاماً كبيراً وفقداناً لبعضها، إذ وصل سعر علبة الفيتامين C إلى تسعة آلاف ليرة، وفي أفضل الأحوال أربعة آلاف ليرة، علماً أن سعرها الحقيقي لا يزيد عن ستمائة ليرة سورية، وكذلك بالنسبة لباقي الأدوية ومواد العطارة.
يقول من تحدثنا معهم إنهم غير مقتنعين بجدوى هذه الأدوية، لكن الترويج لها يدفع كثيرين لشرائها رغم ظروفهم المالية السيئة. ويُحمّل الطبيب مسؤولية ذلك لمديرية الصحة التي غاب عن برامجها التوعوية توضيح هذه الأخبار الكاذبة، وملاحقة مروجيها، وسؤال الأطباء والصيادلة عن مصدر معلوماتهم ومعاقبتهم على ذلك، لأن ذلك يدخل في باب «الغش» ومخالفة أخلاقيات المهنة.
وسائل التواصل تبث الذعر وتؤثر على العلاج
يُجمِعُ من تحدثنا معهم على أن التخفيف من القلق والتوتر ضروري خلال انتشار الأوبئة، إذ تزيد الأخبار من «الهوس المرضي» لديّ كثير من السكان وتدفعهم لمحاكاة الأعراض، وإثارة الفوضى والازدحام حتى في غياب الأعراض. كذلك نشر التعليقات الكاذبة، وهو ما يؤثر على الكوادر الطبية، التي تعاني في الأصل من الخوف من العدوى. ويقولون أيضاً إن تحذيرات كثيرة وصلت إلى مسامعهم عن ضرورة تجنب الذهاب إلى المشافي كونها مليئة بالفيروس، وإن غير المصابين سيصابون في حال ذهابهم بالعدوى. كذلك أغلق كثير من الأطباء عياداتهم، ويرفض قسم كبير منهم استقبال المرضى الذين يُشَكّ بإصابتهم.
يتحدث الحلبيون في التعليقات عن أرقام كبيرة تطلب من المرضى للحصول على سرير في أحد المشافي الخاصة، بعد امتلاء المشافي العامة بالمرضى، تصل إلى ثلاثمائة ألف ليرة سورية لليلة الواحدة.
قطاع صحي هشّ
خُصِّصَت ثلاث مشافٍ عامة في حلب لاستقبال مرضى كورونا، وهي الرازي وزاهي أزرق والباسل، إضافة إلى مركزين للحجر الصحي في مشفيي الرازي وابن خلدون، وثمانية عشر مشفىً خاصاً، فيما تنتشر عبر صفحات التواصل الاجتماعي أرقامٌ لأطباء وممرضين خاصين أو ضمن «فريق عليك العافية»، وأرقام بائعي أسطوانات أكسجين وصيدليات تتوفر فيها الأدوية، وبعض الأماكن التي تعير الأسطوانات.
يقول الطبيب إن عدد أجهزة التنفس الاصطناعي «المنفسة» في المشافي الخاصة يبلغ واحداً وأربعين جهازاً، وفي المشافي العامة يزيد العدد عن ذلك، معظمها في حالة غير سليمة. كذلك تتوفر «منافس» من صناعة محلية باسم «أمل»، والتي لم تعتمدها وزارة الصحة، وتباع بنحو خمسمائة دولار، وأثار عدم اعتمادها حنقاً على الحكومة من قبل الأهالي، الذين رأوا أنها يمكن أن تكون حلاً بعد الترويج لمواصفاتها الجيدة.
يخبرنا الطبيب إن الأصل في القصة ليس وجود المنافس، بل وجود مختصين قادرين على الإشراف عليها. والمنفسة هي غير جهاز الأكسجين الذي يُستخدم لمساعدة المرضى الذين انخفضت أكسجتهم؛ المنفسة جهاز لتوفير تهوية ميكانيكية عندما يعجز المريض عن الشهيق والزفير، ويتم استخدامها في الحالات الحرجة بشدة، وليس في حالة نقص الأكسجة. يؤكد الطبيب أن ما تقوم المشافي بفعله حالياً ضمن هذه المنافس فقط هو تزويد المريض الذي تتراجع أكسجته بشدة بالأكسجين بضغط شديد، وهو ما يمكن فعله في المنزل من خلال ماسك جيد وجرة أكسجين، دون تلك الكلفة العالية والذعر الذي يسببه الحديث عن كارثة عدم توافر المنافس.
يرى الطبيب أن المشافي لا تفعل أكثر من ذلك، فلماذا يتقاضون هذه المبالغ الكبيرة؟ ويوهمون المريض بأشياء غير موجودة في الأصل.
ووصل سعر جرة الأكسجين لنحو أربعمائة ألف ليرة، إلا أن حملات تطوعية وبعض الجمعيات والمشافي توفرها مجاناً لمن يحتاجها في بعض الأحيان، ويقوم بعض الممرضين المتطوعين بزيارة المرضى الذين يعانون من أعراض المرض في منازلهم ومساعدتهم.
عند مرورك بجانب مؤسسة استهلاكية أو فرن خبز، أو مساء على المحلق (الصنم)، تجد آلاف الحلبيين قد تجمعوا حول بعضهم دون مراعاة أي قاعدة للتباعد الاجتماعي ودون كمامات أيضاً، وهو ما سيؤدي إلى زيادة المرض لا محالة. يقول من تحدثنا معهم، إن قلة قليلة من السكان يلتزمون ببعض القواعد، خاصة وأن ثمن الكمامة يزيد عن ثلاثمائة ليرة سورية، ويخبرنا الطبيب إن اتباع الأساليب الوقائية قد لا يجدي، ولكنه على الأقل يخفف من تعرض الأشخاص لكمية أكبر من الفيروس، وهو ما يرجح سبب وفاة أعداد كبيرة من الكوادر الطبية.
يقول الطبيب إن حلب في طريقها للوصول إلى ذروة الانتشار، ضمن الأساليب المتبعة حالياً، إذ لم تطبق قوانين الحجر ولم تفرض غرامات مالية على المخالفين. يقول إن ذلك يستحيل تطبيقه في المدينة، وهو ما أخبرنا به من تحدثنا معهم، إذ يعيش معظم سكان المدينة من عملهم في الورش الصغيرة والمعامل؛ يقول أحدهم «مو ليكون عنا تحليل لننحجر!». وكانت الطبيبة فرح فتّال قد لخصت عبر فيسبوك ما يحدث في مدينة حلب، وباللهجة الحلبية، بالقول إن الفيروس في حلب ينتشر بطريقة «يا غافل إلك الله» ويُعالَج بطريقة «ما حدا بيموت ناقص عمر».
موقع الجمهورية
——————————–
“نحن مراقبون وخائفون وأكياس الجثث نفذت”.. طبيب يكشف عن “كارثة كورونا” في سوريا
كشف طبيب سوري يعمل – لم يفصح عن هويته – عن وقوع كارثة إنسانية في بلاده بسبب تفشي فيروس كورونا المستجد، وقال في مقال نشرته صحيفة “الغارديان”، إن سوريا تواجه أزمة إنسانية غير مسبوقة، وأن البلاد على شفا كارثة بسبب تفشي المرض، وتراجع الخدمات الطبية في البلد الذي يعيش ما يقارب عقد من الحرب الأهلية.
وأشار إلى أن المستشفيات تعاني من النقص في الإمدادات الطبية، ومعدات الحماية الشخصية، والافتقار للأدوات الأساسية للتعامل مع هذه الجائحة.
وأضاف في مقاله: “ارتفعت أعداد الإصابات والوفيات بفيروس كورونا خلال الأسابيع الماضية، بشكل سريع، وهي أعلى بكثير من الأرقام الرسمية، التي تشير إلى 1593 إصابة و60 وفاة حتى 16 أغسطس، لا أحد منا يعتقد أن هذه الأرقام دقيقة”.
وتابع: “لدينا مئات الوفيات غير المؤكدة المرتبطة بفيروس كورونا كل يوم، مستشفيات حلب تعاني من نفاد أكياس الجثث، وربما يكون العدد الحقيقي للحالات المؤكدة في دمشق وحدها أكثر من 112500 إصابة، بحسب توقعات نائب رئيس الصحة في العاصمة”.
نعيش في كابوس
وزاد الطبيب، وهو الذي يعمل في إحدى المستشفيات الرئيسية في سوريا “أنا اختصاصي رعاية صحية أعمل في الخطوط الأمامية لمكافحة فيروس كورونا، نحن نعيش في كابوس، إن قائمة مقدمي الرعاية الصحية الذين توفوا بسبب الفيروس، تزيد في كل يوم، المستشفيات مكتظة بالمرضى، نقدم الخدمات الطبية في غرف قذرة دون أدوية كافية ومعدات قليلة لحماية أنفسنا، تعمل مستشفياتنا بسعة زائدة، حتى معدات الحماية الشخصية يطلب منا شرائها”.
وقال: “مقدمو الرعاية الصحية غير قادرين على التحدث والتعبير عن مخاوفهم، يراقب المشرفون الحكوميون ما نقوله وما نكتبه على وسائل التواصل الاجتماعي الخاصة بنا، نحن خائفون من مشاركة المعلومات حول انتشار المرض وعلاجه مع بعضنا البعض، نحن خائفون من الوباء لكننا خائفين أيضا من عواقب التحدث علانية”.
وأشار الطبيب السوري، إلى أن الكثير من مرضى “كوفيد 19” الذين لديهم أعراض، يفضلون البقاء في منازلهم بسبب تردي الخدمات الصحية في المستشفيات، فيما يحاول البعض شراء أجهزة التنفس الاصطناعي الخاصة بهم، مؤكدا أنهم يرون بعض المرضى الذين يرقدون في الشوارع وهم يبكون ويطلبون المساعدة، بحسب وصفه.
A man lies inside a hospital in Douma, outside Damascus, Syria, September 17, 2018. The town of Douma in eastern Ghouta was…
مناشدات سورية للمجتمع الدولي بالمساعدة في تقديم الإمدادات الطبية الأساسية لمكافحة كورونا
تدابير عاجلة
وأوضح أن الفحوصات للكشف عن فيروس كورونا في كل أنحاء سوريا، تقدر بـ 300 فحص في 5 مراكز تدار من قبل النظام السوري، مشيرا إلى أن الناس التي لديها المال يملكون الفرصة الكافية للحصول على فرصة إجراء الفحص بشكل أسهل من أولئك الذين لا يملكون المال.
وكتب الطبيب السوري بأن الناس لا يلتزمون بإجراءات التباعد الاجتماعي، وليس لديهم أي خيار إلا بمواصلة أعمالهم، ما يساهم في زيادة انتشار الفيروس.
وناشد ضمير العالم والمجتمع الدولي ووكالات الأمم المتحدة اتخاذ تدابير عاجلة لدعم المستشفيات السورية، ودعم نظام الرعاية الصحية، من خلال توفير المزيد من الفحوصات، وزيادة الإمدادات الطبية الأولية، ولوازم الحماية الشخصية للأطقم الطبية، إضافة إلى آلات الأوكسجين وأجهزة التنفس الاصطناعي.
وحث الاختصاصي السوري، نظام بلاده ومكتب منظمة الصحة العالمية في سوريا، على الإعلان على الالتزام بالشفافية، مضيفا: “نحتاج إلى معرفة المدى الحقيقي لعدوى كوفيد 19 في بلدنا، وإن إخفاء العدد الحقيقي للحالات والوفيات سيؤدي ببساطة إلى المزيد من الخسائر في الأرواح”.
===========================
تحديث 28 آب 2020
——————————-
كورونا سوريا… عالج نفسك بنفسك/ أحمد الأحمد
بعد أن أعلن وزير الصحة السوري سابقاً أن الجيش العربي السوري “قضى على كل الجراثيم”، وصلت البلاد على حال خطرة من انتشار الوباء . والسوريون يصارعون كورونا بأنفسهم من دون رعاية أو علاج …
خلال الأيام الماضية، كانت سيدرة (22 سنة) مضطرّة للذهاب إلى جامعة حلب لتقديم امتحاناتها في كلية الهندسة، علماً أنها في سنتها الجامعية الرابعة.
كانت الشابّة وجميع رفاقها يعلمون جيّداً أن فايروس “كورونا” يتفشّى في مدينة حلب بشكلٍ غير مسبوق، كحال معظم مناطق سوريا، إذ تشهد البلاد هذه الأيام ذروة في تفشّي الوباء، وسط إجراءات معدومة من وزارة الصحة التابعة للنظام السوري، فلا تأجيل للامتحانات الجامعية، ولا إجراءات إغلاق تُذكر بما في ذلك على صعيد التجمّعات غير الضرورية كالأعراس وحفلات أعياد الميلاد والمآتم.
قدّمت سيدرة امتحانها الأول ثم الثاني، وبعد أربعة أيام بدأت تظهر عليها أعراض ارتفاع شديد في درجة الحرارة، وحكّة وآلام في مفاصل الأطراف، وهي تشبه أعراض “كورونا”.
لأنَّ أسرتها التي تعيش في حي الشهباء في حلب غير قادرة على دفع 100 دولار لتحليل فحص “كورونا”، اضطرّت إلى تدبّر أمرها بنفسها.
اقتربت منها والدتها وطلبت منها إغماض عينيها ووضعت على أنفها قطعة بصل مفرومة وطلبت منها أن تستنشقها لتعرف ما إذا كانت حاسة الشم فعّالة أم لا.
لسوء الحظ، لم تنجح سيدرة في تمييز رائحة البصل، ما زاد الشكوك بإصابتها بالفايروس، فعزلتها العائلة داخل غرفة في المنزل وأخذت حذرها في التعامل معها.
بعد أسبوعٍ واحد، بدأت الأعراض تظهر على بقية أفراد العائلة، وفي الوقت ذاته، بدأت سيدرة تتعافى بعدما بقيت 8 أيام طريحة الفراش.
المشكلة أن الفايروس وصل إلى والدها الذي بدأ يعاني من موجة ضيق تنفّس شديد، حتّى أنّه كان يجوب المنزل بشكلٍ عبثي ليلاً في محاولة لاستنشاق الأوكسجين.
أدركت العائلة أن وضعه الصحّي يتدهور، فحاولت نقله إلى ثلاثة مستشفيات حكومية في حلب ولكن من دون جدوى، لأن ممرّات هذه المستشفيات كانت تغص بالمرضى، في حين أن الليلة الواحدة على السرير في المستشفى الخاص تعادل أكثر من 100 دولار، وهذا المبلغ لا تملكه العائلة.
إغلاق قبل الفايروس وإزالة القيود خلاله
تلقّت والدة سيدرة نصيحة من أحد الأطباء بعلاجه في المنزل، قال لها: “في سوريا لا يُعالَج مرضى كورونا في المستشفيات، الجميع يتعالجون في المنزل بسبب عدم اتساع المستشفيات لهم”.
انتقلت العائلة للخوض في رحلة يومية للبحث عن عبوة أوكسجين، إذ يحتاج والدها يومياً إلى عبوتين، وهما غير متوفّرتين إلّا في السوق السوداء بمبالغ مرتفعة، وتحصل عمليات البيع بعيداً من الأعين، تقول سيدرة لـ”ردج”.
بالتزامن مع تفشّي “كورونا” في معظم أنحاء العالم، خرج وزير الصحّة السوري في بدايات الأزمة ليقول: “لا كورونا في سوريا، لأن الجيش العربي السوري قضى على كل الجراثيم”. وفي تلك الفترة، اتخذت السلطات السورية إجراءاتٍ لمنع الفايروس من التفشّي، إذ عزلت المدن عن القرى ومنعت التنقل بين المدن، إضافةً إلى فرض حظر تجوال من السادسة مساءً إلى السادسة صباحاً، فضلاً عن إغلاق المطاعم ودور العبادة وصالات الأفراح والمآتم.
في أيار/ مايو الماضي، أعاد “الفريق الحكومي المعني بالتصدّي لفايروس كورونا” فتح الحياة من جديد حتّى ألغى جميع القيود، ليبدأ الفايروس بالتفشّي على نطاقٍ غير مسبوق.
المشكلة في تفشّي الفايروس في سوريا، تتمثّل بأن المدنيين لا يحصلون على أي مساعدة طبّية من الحكومة، إذ يبلغ سعر مسحة فايروس “كورونا” 100 دولار، بينما سعرها في لبنان ما يعادل 30 دولاراً وفي تركيا 19 دولاراً وفي الصين 7 دولارات.
كما أن المستشفيات جميعها ممتلئة وبالتالي لا علاج، وكذلك الحال بالنسبة إلى الأدوية التي إمّا مفقودة من الأسواق أو تُباع بأسعار مرتفعة جداً، مقابل الدخل المعدوم في سوريا، على ما تقول صيدلانية تُدعى بتول في حي الجميلية في حلب.
الوفيات بالجملة
بدأت الأنباء عن تفشّي الفايروس في حزيران/ يونيو الماضي، حين بدأت مواقع تواصل اجتماعي بتداول قوائم لأسماء أشخاص ماتوا بسبب الفيروس.
وفقاً لمراجعة قام بها “درج” لصفحة على “فايسبوك” اسمها “وفيات دمشق” تقوم بنشر النعوات للأشخاص الذين يموتون في دمشق، فإنّه انطلاقاً من تموز/ يوليو الفائت وحتّى الآن تضاعف عدد النعوات أكثر من مرّة، مقارنةً بالفترة التي سبقت تموز.
في تموز، شيّع سكّان العاصمة دمشق، 6 مشايخ دين، ومنهم الشيخ محمد نور الخطيب والشيخ عدنان مصطفى السيروان الذين توفيا يوم 13 تموز، إضافةً إلى وفاة الشيخ حسان طحان خطيب مسجد الفردوس في دمشق، يوم 14 تموز، والشيخ محمد مازن الدمشقي إمام مسجد حمو ليلى في حي ركن الدين بدمشق في 14 تموز أيضاً. وفي السابع عشر من الشهر ذاته، كانت وفاة الشيخين محمد أحمد المبرور إمام مسجد نافذ أفندي في حي المهاجرين، والمربّي الشيخ نظمي الدسوقي.
بعد ذلك، تحدث نائب رئيس جامعة دمشق صبحي البحري، عن وفاة 13 عضواً من الهيئة التدريسية بالجامعة بفايروس “كورونا”، وإصابة 60 آخرين من الهيئة ذاتها، البعض منهم تعافى، ولكن على رغم ذلك استمرّ الدوام الجامعي والامتحانات.
المفاجأة الأكبر كانت في أحد أيام آب/ أغسطس، عندما تم الكشف عن 23 شخصاً مصابين بـ”كورونا”، أتوا من سوريا لحضور اجتماعات اللجنة الدستورية السورية في جنيف السويسرية، وهو ما يكشف حجم الإصابات في داخل سوريا.
على رغم ذلك، لم تعلن الحكومة والفريق المتخصّص بمكافحة الفايروس أي إجراءات وقائية أو إغلاق أو تعليق للدوام.
الأطبّاء على خط المعاناة
قابل “درج” طبيباً يعمل في العاصمة السورية دمشق، مع مصابي الفايروس في المستشفيات، وهو أُصيب خلال احتكاكه المستمر مع المرضى لمدّة 11 ساعة يومياً.
الطبيب الذي رفض الكشف عن هويته قدّر عدد الإصابات الحقيقي بالفايروس في دمشق بما يزيد عن 100 ألف إصابة، لكنّه نفى أيضاً أن يكون هناك تكتّماً على عدد المصابين، إلّا أن عدم الإعلان عن الرقم الحقيقي يعود إلى عدم توفّر إمكانات في المستشفيات لأخذ أعداد كافية من المسحات، وبالتالي يبقى المرضى من دون إجراء تحاليل للكشف عن الفايروس، ومن دون أي علاج أو مساعدة طبّية.
بالاستناد إلى ما شاهده هذا الطبيب داخل المستشفى الذي يعمل فيه، فإن على المصابين بالفايروس في سوريا أن “يقلعوا شوكهم بأيديهم” في إشارة إلى أن على كل شخص أن يتدبّر أمره بنفسه ولا ينتظر المسحات والرعاية الطبية وأجهزة التنفس قائلاً: “لدى المستشفيات إمكانات بسيطة جداً تم استنفادها منذ أول ثلاثة أيام من ذروة الفايروس، وبالتالي بات بقية المرضى خارج حسابات المنظومة الصحّية”.
وتابع: “لا قدرة على تغطية أكثر من 5 في المئة من احتياجات المرضى لأجهزة التنفس الاصطناعي و2 في المئة بالنسبة إلى أسرّة العناية المشدّدة”، موضحاً أن المرضى يتم تكديسهم داخل الغرف بشكلٍ متقارب جداً بحيث تترك مساحة صغيرة من أجل تنقّل الأطباء والممرّضين بين الأسرّة، وأنّه في مرحلة ما تم وضع مرضى في ممرّات المستشفيات.
ورصد “درج” خلال إعداد هذا التقرير منشورات متواترة على مواقع التواصل الاجتماعي تفيد بوفاة حوالى 60 طبيباً في سوريا بسبب “كورونا” كما نشرت “منصّة الصحة السورية” قائمة بأسماء 55 طبيباً وستة صيادلة ماتوا بالفايروس.
وبحسب ما ذكر رئيس دائرة الرعاية الصحية في صحة دمشق، الطبيب شادي النجار، في 16 من آب، لإذاعة “شام إف إم” المحلية فإنه “ليست هناك قائمة أو رقم دقيق لوفيات الأطباء، لكن فقدنا خيرة كوادرنا الطبية والتمريضية جراء إصابتهم بكورونا”.
وأضاف النجار: “القائمة المتداولة لأسماء الأطباء المتوفين “تحتوي على أسماء صحيحة، وأعرفهم بشكل شخصي، وبعضهم زملاؤنا أطباء في مديرية صحة دمشق”.
المجتمع المدني يأخذ دوره
بالتزامن مع تدهور البنى التحتية الطبّية في سوريا، ظهرت مبادرات فردية وفرق تطوّعية، تعمل على تأمين عبوات أوكسجين للمرضى الأكثر احتياجاً في سوريا لمعالجتهم من داخل منازلهم، كما ساهمت هذه المبادرات في حملات التوعية وتوزيع كمامات ومعقّمات في الشوارع.
من بين هذه المبادرات، ما قامت به جمعية “ساعد”، التي عملت على تجهيز خط دفاع أمام الفايروس من خلال تدريب فرق للمساعدة في المجالات الطبّية واللوجستية عبر التعاون مع المخاتير لمساعدة كبار السن وذوي الاحتياجات الخاصّة، إضافةً إلى تأمين عبوات أوكسجين للمرضى الذين تطوّر معهم الفايروس إلى ضيق شديد في التنفّس.
وقامت هذه الجمعية بالتعاون مع مبادرات مشابهة بحملات تعقيم على وسائل النقل العام والمرافق الحياتية التي تعاني من ضغط سكّاني شديد.
قوم تعاونوا مازلو الاجتماع الساعة العاشرة تحت جسر الرئيسالهدف تعقيم جميع باصات النقل الداخلي والمكروياتتوزيع ٧٠٠٠ كمامة قطنية مجانا الشركاء#جمعية_الشباب_الخيرية#مؤسسة_حياة#مؤسسة_حدودي_السما#جمعية_التنمية_والتطوير_للخير#جمعية_ساعدتمت المهمة بنجاح واضيف عليها تعقيم المتحف الوطني بشكل كامل متحف ومكاتب وقاعات ومكملين الكمامة خط الدفاع الأول وسنوزعها مجانا على مدار الاسبوع
Posted by جمعية ساعد on Sunday, August 23, 2020
درج
———————————-
الوباء أداةً في يد الأسد/ مصلح مصلح
لم تخرج الاستراتيجية التي وضعها الأسد لمعالجة الآثار الصحية لتفشي كورونا بين رعايا دولته، عن تلك التي سبق له أن اعتمدها في معرض تصديه لانتفاضة السوريين 2011، والقائمة على مبدأ الإنكار. ففي حين قامت سياسة الإنكار في الحالة الأولى على كسب الوقت بقصد إعداد العدة لتعبئة أدوات القوة والقمع لارجاع السوريين إلى حظيرة الاستبداد الأسدية، فإن الإنكار في الحالة الثانية لم يخرج عن طبيعة الإنكار المترافق مع العجز عن فهم الظاهرة الكورونا، كما إيجاد الحلول المناسبة لها. الأمر الذي نتج عنه إصابة الذات العارفة “الرئيس” بالتوتر والضيق، على نحو لم يكن خروجها من هذا الضيق النفسي إلا عبر الميل للتعالي على الظاهرة، أي إنكارها عبر أساليب الخداع المعروفة، عبر ردها إلى الدعاية المغرضة والمؤامرة الكونية.
كان من المرتجى في مواجهة الأسد للكورونا أن يأخذ بعين الاعتبار آلام ومواجع رعاياه، التي تمخضت عن حربه السلطوية عليهم سواء عبر تدميرها لنسيجهم الاجتماعي، أو عبر تأثيرها على أمانهم الاقتصادي. وذلك عبر مسارعته لوضع حد على حركة الميلشيات الايرانية الحاملة للفيروس، كي يجنبهم كارثة صحية لا قدرة لهم على تحملها، إلا أن نزعته الأنانية القائمة على حماية سلطته على حساب الناس، جعلته لا يرى إلا مجده الشخصي ويتجاهل الناس الذين بنوه.
إن تحريم الأسد على كوادر المشافي الحكومية في بداية انتشار الجائحة استخدامهم لأية وسيلة وقائية لحماية أنفسهم، بحجة عدم التسبب بنشر الذعر بين المواطنين دون داع، كما عدم تحمسه لتأمينها لهم لاحقًا بحجة الحصار الاقتصادي. ناهيك عن فشله في توفير الحد الأدنى من شروط العزل الصحي للأماكن التي أقامها للمصابين أو المشتبه بهم، على نحو انقلبت لتكون مركزًا لتفشي الوباء بدلًا من منعه. وصولًا إلى تخريبه لحملات العزل الجماعي التي كان يصارع لإنجاحها في المساء، لينقلب على نتائجها في النهار، عبر لامبالاته في تنظيم تجمعات الناس في سعيهم للحصول على قوت يومهم من الخبز.
لم تكن تحمل في طياتها إلا معنى واحدًا، ألا وهو تخلي السلطة الحاكمة عن رعاياها، الذين أصرت على التعامل معهم كحشد كبير من الجنود الذين تم الزج بهم في المعركة دون أي حماية تذكر، ومن ثم التغاضي عن ظروف مقتلهم عبر التعلل بنسبة العشرة بالمائة الطبيعية التي قد تصيب الجنود في الحرب. الأمر الذي لا يجد المرء تفسيرًا له إلا عبر رده لاستراتيجية “مناعة القطيع” التي قررت القيادة الأسدية فرضها على الناس، دون أن يخطر على بالها أن العمل بتلك السياسة لا يعني التخلي عن مسؤولياتها في توفير الحد الأدنى اللازم لانجاحها، سواء عبر تأمين المعازل الصحية المناسبة، أو عبر إنشاء المزيد من المشافي الميدانية المجهزة بالأدوات الطبية، كما عبر نشرها للوعي الصحي بفائدة ارتداء الأقنعة الشخصية والحرص على التقيد بها.
بدت سياسة النظام الإعلامية القائمة على تكميم الأفواه ومنع الحديث عن أي أعداد لها علاقة بالكورونا، كما في حادثة استدعاء المخابرات لمدير مستشفى المجتهد سامر خضر، والطلب منه تغيير أقواله التي كان قد صرّح بها لاحدى الإذعات المحلية بما يتعلق بتفشي الكورونا في مشفاه، منسجمة مع توجهات القصر الرئاسي الذي كان يصر على إنكار الواقعة والتعتيم عليها، بما يخدم مخططاته القتالية في زج المزيد من المليشيات الايرانية في حربه على بقية السوريين المشردين في خيام إدلب.
من سياسة التشدد في إنكار ظاهرة الكورونا ورفعها إلى مصاف الأمن القومي، إلى سياسة التهليل باكتشاف أثرها المزلزل في حياة السوريين، حضرت الألاعيب السياسية وغابت الروح الأخلاقية في تحمل المسؤولية عن انتشارها على هذا النحو المروع. فالمهم لدى صانع القرار السوري هو تحميل وزر الكورونا منذ الآن لقانون قيصر الذي يحاصر السوريين في حياتهم، فلقد أثبت الأسد أن السوريين في عرفه ليسوا أكثر من أرواح ميتة، يتاجر بحضورها عندما يتعلق الأمر بتحقيقه لبعض المكاسب الإعلامية على جبهة قانون قيصر، ويختفون من السجل الروحي للبشرية، عندما يتطلب الأمر مقايضتهم مع بعض الانتصارات على الجبهة الشمالية.
لطالما كانت الحروب والأوبئة في نظر عالم السكان الإنجليزي مالتوس أحد العوامل الإيجابية في ضبط التوازن بين كميات الغذاء المحدودة التي تنتجها الأرض والتزايد السكاني الذي يفوق إنتاجها بمرات عدة، أما الحروب من وجهة نظرة الأسد فقد ارتبطت بذهنه بأفضل الوسائل لردع المجتمع من التمرد على مستبديه، كما إحدى وسائل التطهير الديموغرافي لخلق المجتمع المتجانس الذي يسبح بحمد حاكميه.
تبدو نظرية بشار الأسد في الأوبئة تفوق نظريته في الحرب، فإذا كانت الحرب الوسيلة المثلى لخلق المجتمع المتجانس، فإن الأوبئة الوسيلة الفضلى لضمان الفعالية القصوى له. فعن طريق الأوبئة ونجاعتها في الاصطفاء الفعال يتمكن الحاكم من الحصول على جسد الفرد الأكثر مردوية، بينما يتخلص من الأقل مردوية وفعالية، على النحو الذي يجعل منه سيدًا قويًا مطاعًا بحق. فبشار الأسد مأخوذ هذه الأيام بعظمة الأوبئة، التي لا تفتأ تبشر بعظمته الروحية، من حيث قدرتها السحرية على ترسيم الفرق بينه وبينه الناس، من حيث رفعه إلى مصاف الأخيار المتعالين عن المرض وعوارضه، وبين الحشد البشري من الرعايا المذعورين، المحاطين بكل أنواع النقص والفناء، الذين مهما علا شأنهم، تظل قميتهم الروحية أو الوجودية أقل بقليل من القيمة الروحية للجراثيم، التي امتدحها الرجل ذات يوم وهجها الناس الذين تعيش بين ظهرانيهم.
الترا صوت
————————————–
حياتي مع “الكورونا”/ عمار ديوب
العالم مشغول جداً بفايروس كورونا، هذا الذي وطّنَ نفسه في جهات الأرض كلها؛ فتوطّن في المجتمعات واستباحها، وشدّ أطرافها إلى بعضها، ونثرها في الوقت نفسه؛ فكان عادلاً في جمعه وفي نثره، إذ لم يميز بين شمال وجنوب، ولا بين شرق وغرب، ولا بين فقير وغني، ولا بين أسود وأبيض، ولا بين أنثى وذكر، ولا بين طفل وعجوز… ولم يبُقِ مجتمعاً عصيّاً ولا عاصياً، كأنه يريد أن يُقيم في عالمنا إقامة دائمة، كما أكد بعضهم، إما رغبة فيه، أو قرفاً وانتقاماً منه. حتى خطر على بالي: أنه يريد أن يكشف سيطرة الجشع والضحالة والتفاهة في عالمنا، وأن يفضح مأزقه ومأزقنا؛ وأن يدفعنا دفعاً إلى فهم: أن الأوان قد حان؛ لكي تكون قواعد قانون حقوق الإنسان، هي القانون الحاكم على مستوى العالم، وهي أساس سياسته ومرجعها، وهي محدد أخلاقه ومنبعها؛ الأمر الذي يستدعي العمل من أجل عالم بلا أعضاء مجلس أمن دائمين أولاً؛ فهو حق لكل عضو في هيئة الأمم بالانتخاب والتناوب، وثانياً ألّا يكون لأحد حق النقض؛ لأن النقض حق الأغلبية… وقد خطر على بالي: أن من دون ذلك سيمر العالم بتجربة مؤلمة ومريرة، هي قد تكون تجربتي الشخصية مكررة مليارات المرات.
إذاً، لا خيار أمام العالم إلّا مواجهة الفايروس الذي يفتك فيه، من دون أدنى استهانة بالخصم، كما لم أستهن بهذا الفايروس العالمي الذي يتحول إلى تجربة شديدة الخصوصية بقدر عالميتها وعموميتها، ولم أستسلم له: لقد رفضت أن يعتقلني في منزلي، واستسلمت للتباعد الاجتماعي، والجسدي، وارتديت الكمامة بعض الوقت خلال تجوالي النهاري، وحاورت الخوف وعاشرته بالرفقة الدائمة لقارورة الكحول، وبالتعقيم المستمر، حتى كأنّ هذا المستبد قد أمسك بخناقي وسيطر عليّ، ولقد حاولت ألا أقترب من أحد، وكنت أراقب المسافات بيني وبين الآخرين، وأحسبها، وأدققها، وهذا ما حدث مع من صادفتهم في الشوارع كافة، وعلى مدى أشهر طويلة وعديدة، ولقد كنت أسرع كثيراً؛ لأبتعد عن أي شخصٍ يخترق مسافة الأمان، ويهددها، والتي يجب ألّا تقل عن متر واحد. ولقد تعمدت السير في الشوارع المخصّصة للسيارات، أو الشوارع الخالية والمعتمة، وهجرت الأرصفة إلا للضرورات الحاكمة.
كما رصدت ساعات نشاط الناس، وحددت لحظات ذروة نشاطهم؛ فاخترت السير متأخراً، حين تخلو الشوارع من شر الفايروس الذي يتلبس الأخيار، واخترت السير السريع صباحاً، قبل أن يتكاثر الذاهبون إلى أعمالهم، وكأن الآخر قد أمسى جحيماً، كما قال سارتر، فهل كنت أنا الآخر الجحيم بعين الآخرين! ولقد كنت أراقب السوبرماركت، فلا أدخل من أجل شراء حاجاتي إلّا حينما ينخفض عدد المشترين؛ فالتبضع قضية لا يمكن الاستغناء عنها- للأسف- في عصر العلم ورأس المال المتوحش هذا!
أما في المنزل فلم أقطع صلتي بالناس تماماً، ولكنني خفضت منسوب الصداقات كثيراً؛ وقاطعت نادي الرياضة قطيعة نهائية باترة. أما غسل الأيدي فقد صار همي وديدني، هذا غير هوس تطهير يديّ بالكحول. نعم، إن هناك ما يشبه فوبيا الكورونا، وقد أصبت بها فعلاً وقولاً.
وقد حل يوم الرابع من آب، 2020، بعد مشواري الصباحي، حالما جلست على الشرفة، حيث شعرت ببرديّةٍ، قصمت ظهري، وارتجف جسدي بأكمله، كأن خنجراً أغمد فيَّ. مع ذلك، لم أعط الأمر أهمية تذكر؛ لقد توهمت أن ارتداء ملابس كافية كافٍ لدحر ما هو طارئ؛ فعمدت فوراً إلى ذلك. ولكن، لم تمض ساعة واحدة، إلّا وساخت ركبتاي، فأضحتا لا تقويان على حملي، وبدأت حرارتي بالارتفاع، واستمرت البرديّة، وحينها لو استطعت التدثر بكل صوف الدنيا لَما تأخرت عن ذلك للتخلص منها. ثم تراجعت البردية خلال الساعات اللاحقة، تاركة السيطرة لحرارة لاهبة استقرت، وتمكنت، وهذه كانت مشكلة أشد وألعن وأكبر.
إذاً، ها هو فايروس الكورونا: هكذا اعترفت أمام نفسي، وقد خارت قواي نهائياً، ولم يعد جسدي يطلب شيئاً، أي شيء، لقد أمسيت خرقة تافهة. اضمحلت شهيتي للطعام حتى انعدمت، وتعطلت حواس شمي وتذوقي بالتدريج، حتى صرت غريباً عني، وأصبح السيتامول هو السيد الذي لا بد منه كل ست ساعات، والمشروبات الساخنة، وكميات الماء الفاتر التي عليّ أن أشربها، حتى تحولت إلى جمل حقيقي، يبرك على سريره في غرفته تاركاً الصحراء لعواء الثعالب. ومع ذلك ما كانت الحرارة تنخفض، كنت أدفعها بالماء والسيتامول، ولكن جسدي يكاد يصبح جمراً، خصوصاً إن تأخرت بمواعيدهما.
ولقد علمت، وتأكدت: أن هذا لا تماثله أي تجربة سابقة، إن هذه الأعراض لم أعشها من قبل قط، لم أعشها حتى مع أشد حالات الكريب التي أعرف. ولقد تذكرت، أني، في إحدى السنوات، احتجت إلى أكثر من عشر إبر ديلكون للتخلص من الكريب، ولكن تجربتي الجديدة فاقت كل ألم عانيته سابقاً، حتى أن لا شيء يشبه ما يجري: فقدان الشهية، وفقدان الحواس، وضعف التركيز، والخوف مني على الآخرين؛ لأني تحولت إلى قنبلة موقوتة، مع أني مجرد كتلة لحمٍ، يتناقص وزنها بالتدريج، وهي تنتظر شيئاً ما في المستقبل، لكنها تجهل ما هو بالضبط. إنه الفايروس الفاتك، لقد سيطر عليّ تماماً، وأصبحت من رعيته: هذا ما قلته لنفسي.
وفي الليل كانت فرشة السرير تتحول إلى بركة ماء، وفي النهار أيضاً، حينما أنام قليلاً. ولقد تكاثر نومي وقلّ؛ فقد كنت أنام نوماً خاطفاً أو مخطوفاً، أوقات قصيرة كأنها جرعات تبلل الجسد وتمسكه حتى لا يتبخر؛ فالجسد بلا طاقة، والنوم سلوك لا شعوري، وجسدي المنهك يجبرني على الاستلقاء المستمر، وهي، بكل الأحوال، نصيحة عامة، مشاع بعد أن سكبت على النت سكباً. ثم تراجع ألم ركبتيّ، وتمكنت الحرارة من جسدي وسيطرت، وكنت في غاية الإجهاد والتعب والإرهاق؛ وبدأ الملل يتسلل إليّ، والتعاسة تثقل بقوةٍ على روحي. لقد كنت وحيداً أصارع ساعات اليوم وأقضيها، وتعطلت قدرتي على التفكير، والوقت لا يتقدم إلا على إيقاع الألم.
ولقد وصلت إلى اليوم الثامن، بعد أن أكلتني الحرارة أو كادت، وفقدت أكثر من عشرة كيلوغرامات، حينها هتفت روحي إلى صديقة؛ لتدبر لي طبيباً، فوصلتني بطبيبة، وهذا أفضل ما حدث لي في فترة الكورونا تلك؛ فأن أصاب بالكورونا، وأن يزورني طبيب ذكر، ويعالجني، فوالله إنها لكارثة كبيرة، تضمحل أمامها الكوارث كلها، وقد كانت لتكون الكورونا أرأف بحالي بالتأكيد! وقد زارتني الطبيبة حقاً وفعلاً، وكانت زيارتها هي العلاج وبدايته. لقد كنت أعتمد على تقديراتي الشخصية، فأتناول فيتامين c، والمشاريب الساخنة، وكنت آكل الخضار كخروفٍ مريض وهي تقديرات قاصرة وغير كافية، ولا بأي حالٍ من الأحوال. وقد أجرت الطبيبة كشفها الطبي الأوّلي؛ فتبيّن لها: أن حالتي لا تستدعي الانتقال إلى المستشفى، وأني أحتاج إلى بضعة معادن وفيتامينات، مثل: الزنك، وفيتامين دال، التي لا بد منها فوراً؛ لأني تأخرت عن تناولها! وسأبدأ بها، وسيكون الشفاء خلال عدّة أيام…هكذا تكلمت شهرزاد. ألم تكن الآلهة الأولى طبيبة!!
ومع تلك الزيارة البهية وأدويتها الجديدة، بدأت حالتي بالتعافي تدريجياً. وبدأ ينحسر السعال ويتراجع، وهو أصعب ما عانيت منه، فهو قد كاد يخنقني، ثم بقية الأعراض التي لم تأت قوية باستثناء انهيار ركبتيّ في الأيام الأولى، والحرارة المتفاخرة التي توهمتْ أنها قادرة على قتلي.
أما ودّ الأصدقاء والناس على الفيس بوك وعبر اتصال الخليوي، فهو أهم ما أشعرني بالدفء، والاطمئنان، وأقنعني من جديد: أن الحياة فيها الكثير من الحب والجمال، وأن فيها الكثير مما يُستحق أن يعاش لأجله.
لم أفكر بالموت أبداً
طبعاً، لم أفكر بالموت أبداً، رغماً عن فقداني الشهيّة بشكلٍ شبه كامل مدة أكثر من عشرة أيام. وقد تأكدت مما كنت أعرف: أن لديَّ رفض قديم لفكرة الموت والتفكير فيها، وقد كانت حكمتي، ولا تزال، أنه إمّا أن يأتي، وإمّا ألّا يأتي، وفي الحالتين لست من يقرّر ذلك، فلماذا أنشغل بقضيةٍ لا إرادة لي فيها؟ وهنا، أنا لا أعمّم فهماً خاصاً، ولكنني منسجم ومتوافق مع هذه الفكرة.
وحينما سجلت ملاحظة عن إصابتي على صفحتي الشخصية في الفيس، كان التفاف الناس حولي بكلماتهم العاطفيةٍ المُحبّة قوة داعمة لي، لمواجهة هذا الخطر الذي قتل ملايين الناس، ويستمر بقتلهم، بعد أن باعد بينهم، ورماهم في المشافي، وفي أماكن الحجر، والذي أخاف الدول العظمى، وشكك بجبروتها وادعاءاتها، بعد أن فتك بسكان معمورتنا.
في اليوم العشرين.. هزم العدو
أما في اليوم العشرين، فقد بدأ جسدي المثخن بطعنات رماح الكورونا بالتعافي؛ إذ شرعت الأعراض بالتراجع تدريجياً، واستقرت الحرارة في حدودها الطبيعية، وبدأت بتناول الطعام مثل سجينٍ مُنع عنه أياماً كثيرة، وعادت حاستا الشم والتذوق بدقة وحدة وصفاء، وبدأ جسدي يتقوى؛ فاستعدت مشيي السريع في المنزل، بعد أن كان إجهاداً لي. وقد يكون الأهم أني تخلصت من سماجة المشاريب الساخنة في هذا الصيف الحار.
إن اليوم العشرين كان عتبة نجاتي ومنصتها، فقد بدأت أشعر حينئذ: بأن حياة جديدة، بكل معنى الكلمة، قد بدأت؛ فقد لفظ جسدي الفايروس الحقير، وصرت أتذكر أيام مرضي الأولى، كمن يتذكر حالات قديمة: شعوري بأنني كنت عاجزاً بالكامل، وأني كنت أقرب إلى المشلول الذي ينتظر موته، مع أنني لم أفكر بالأمر أبداً.
وأما الآن: فوداعاً للجبار المخيف، المهاب من الجميع، سواء أكان صغيراً أم كبيراً، غنياً أم فقيراً.
لقد كانت تجربة، وهي تجربة جسدي؛ أي تجربتي أنا، وهي تجربة مرّة ومريرة بالتأكيد، ولكنها جعلتني وتجعلني أصفى وأقوى وأكثر تعاطفاً مع معاناة الناس أخوتي في أربع أركان المعمورة الذين كانت معاناتهم، وستكون، أكثر ألماً أو أقل، لكنه ألم، مهما كانت درجته وشروطه، يجب أن يدفعنا إلى التعاطف والتعاضد والتلاحم في مواجهة شرور السيطرة والاستغلال، وكوارث الطبيعة.
———————————
———————————–
الشمال السوري… من لم يمت بالقصف مات بكورونا!/ كارثة قادمة.. هل يمكن احتواؤها؟/ أحمد عبيد
كيف وصل الفيروس إلى هذه المنطقة المعزولة بفعل واقعها العسكري؟ وكيف انتشر بين قاطني المنطقة بشكل تدريجي؟ ما هي الإجراءات التي اتخذتها السلطات الحاكمة للتصدي للفيروس؟ ما هي القدرة الطبية في المنطقة للمواجهة؟ كيف ساهمت منظمات المجتمع المدني في مواجهة الفيروس؟ وكيف أثّر انتشاره على الأهالي اقتصادياً واجتماعياً؟ هذه الأسئلة وغيرها، يحاول هذا التحقيق الإجابة عنها.
“عملية تطبيق التوصيات للوقاية من الفيروس أمر شبه مستحيل في ظل انعدام أدنى مقومات الحياة الكريمة في المنطقة، فكيف نستطيع تطبيق مبدأ التباعد الاجتماعي في خيمة يقطنها 15 شخصاً بسبب عدم وجود مكان آخر يلجؤون إليه؟”. هذا ما يقوله لحكاية ما انحكت نقيب الأطباء الأحرار في الشمال السوري الطبيب وليد التامر، واصفا أحوال المخيمات في الشمال السوري بعد انتشار كورونا، حيث لم يفلح “العزل” الذي يعيشه قاطني الشمال السوري الخاضع لسيطرة فصائل المعارضة، بحمايتهم من انتشار فيروس كورونا فيما بينهم، رغم انقطاعهم عن معظم دول العالم منذ سنوات.
فما إن مرّت أشهر قليلة على إعلان الإصابة الأولى بفيروس كورونا، وبدأ بالاقتراب إلى حدود المنطقة شيئاً فشيئا، حتى أعلنت السلطات الصحية في محافظة إدلب، تسجيل الإصابة الأولى بالفيروس (9 تموز ٢٠٢٠)، فكيف وصل الفيروس إلى هذه المنطقة المعزولة بفعل واقعها العسكري؟ وكيف انتشر بين قاطني المنطقة بشكل تدريجي؟ ما هي الإجراءات التي اتخذتها السلطات الحاكمة للتصدي للفيروس؟ ما هي القدرة الطبية في المنطقة للمواجهة؟ كيف ساهمت منظمات المجتمع المدني في مواجهة الفيروس؟ وكيف أثّر انتشاره على الأهالي اقتصادياً واجتماعياً؟ أسئلة يعالجها هذا التحقيق الذي أعدته حكاية ما انحكت من مناطق سيطرة فصائل المعارضة شمالي غرب سوريا.
كيف وصل الفيروس إلى إدلب؟
أعلنت الحكومة السورية المؤقتة، في التاسع من تموز 2020، تسجيل أول إصابة بفيروس كورونا المستجد في المناطق الخاضعة لسيطرة فصائل المعارضة شمال غربي سوريا، وكانت قادمة من الأراضي التركية عبر معبر باب الهوى الحدودي، على عكس ما كان يتوّقعه الأهالي بوصول الفيروس إلى مناطقهم عبر المعابر التجارية مع المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري في ريفي حلب وإدلب.
وأصدرت “وحدة تنسيق الدعم” العاملة في مناطق سيطرة المعارضة، بياناً قالت فيه إن الإصابة الأولى في الشمال السوري، سُجلت لطبيب يعمل في مستشفى باب الهوى، كان قد دخل إلى الأراضي السورية في الخامس والعشرين من حزيران 2020.
وأشارت وحدة تنسيق الدعم في بيانها إلى أن الطبيب المصاب، والبالغ من العمر 39 عاماً، خضع للحجر الصحي في المشفى العامل فيه فور ظهور أعراض الإصابة بالفيروس عليه، مؤكدةً أنّ جميع الأطباء والمراجعين المخالطين للطبيب المصاب، أجري لهم اختبارات الكشف عن الإصابة، وأنها تتبع الحالة الصحية للأطباء المخالطين بانتظام.
وزير الصحة في الحكومة السورية المؤقتة “مرام الشيخ” قال في تغريدة عبر حسابه الشخصي في موقع التواصل الاجتماعي “تويتر” آنذاك: “يؤسفنا اليوم أن نعلن عن تسجيل أول حالة إيجابية لفيروس كورونا، لأحد الكوادر الصحة العاملة في أحد مشافي إدلب”، مضيفاً: “تم إغلاق المشفى وإغلاق السكن الخاص بالمشفى وتتبع المخالطين، وأخذ مسحات منهم وحجرهم، والدعوة لاجتماع طارئ لخلية الأزمة لتفعيل خطة الطوارئ”.
سرمين أولى المناطق المعزولة، والكوادر الطبية أوائل المصابين!
بلغت حصيلة المصابين بفيروس كورونا في مناطق سيطرة فصائل المعارضة، لغاية الثالث عشر من آب/ أغسطس، خمس وستين إصابة، بينها اثنتي عشر حالة نشطة، واثنتي وخمسين حالة تماثلت للشفاء، وحالة وفاة واحدة، في حين بلغ عدد المسحات التي أجريت لقاطني المنطقة خمسة آلاف وثلاثمائة وأربعين مسحة، وفقاً لبيان مختبر الترصد الوبائي التابع لبرنامج شبكة الإنذار المبكر والاستجابة للأوبئة في وحدة تنسيق الدعم.
وتوزعت الإصابات بفيروس كورونا في محافظتي حلب وإدلب حتى تاريخ العشرين من آب/ أغسطس، بحسب الخريطة التي نشرتها وحدة تنسيق الدعم، على مدن إعزاز والباب وعفرين وجرابلس بريف حلب الشمالي، ومدينتي إدلب وحارم وبلدة جبل سمعان بريف إدلب.
مدينة سرمين في ريف إدلب، سجّلت أولى المناطق التي تخضع للعزل الكامل منذ الإعلان عن الإصابة الأولى بفيروس كورونا في الشمال السوري، بعد إعلان مخبر الترصد الوبائي عن دخول سلالة خطيرة من الفيروس إلى المحافظة، في الخامس والعشرين من تموز/ يوليو، بعد اكتشاف إصابة في المدينة تعود لسيدة سورية دخلت سرمين قادمة من مناطق سيطرة النظام السوري في مدينة حلب، بطريقة غير شرعية.
مسؤول العلاقات العامة في وزارة الداخلية التابعة لحكومة الإنقاذ في إدلب، “أحمد الخضر” أوضح أن قرار عزل مدينة سرمين جاء بعد الكشف عن إصابة دخلت المدينة قادمة من مناطق سيطرة النظام في حلب، عبر مدينة عفرين بريف حلب الشمالي.
وأضاف الخضر: “تأكّدت وزارة الصحة في حكومة الإنقاذ من مخالطة السيدة المصابة لأكثر من مئة شخص من سكان المدينة منذ وصولها، ما دفع الصحة لفرض الحجر الصحي الكامل عليها، ريثما يتم تعافي المصابين والتأكد من سلامة الآخرين”.
في اليوم السادس لعزل المدينة الكامل، أعلن المجلس المحلي في سرمين، في الأول من آب/ أغسطس عن افتتاح معبرين للمدينة بهدف تخفيف الحجر الصحي عنها، الأول من الجهة الشمالية والثاني من الجهة الشرقية، محدداً ساعات عمل المعبرين بين التاسعة صباحاً والتاسعة مساءً.
رئيس المجلس المحلي في مدينة سرمين، علي طقش، قال إن قرار تخفيف الحجر تزامن مع سلسلة إجراءات اتخذها المجلس، كتثبيت نقطة للتعقيم، وأخرى لفحص حرارة المارّة، إضافة لمراقبة الأعراض التي تظهر على الأهالي، مؤكداً أن حركة الدخول والخروج ستبقى محظورة على كبار السن الذين تجاوزوا الستين من عمرهم، بحسب ما نقله موقع تلفزيون سوريا.
وبيّن رئيس المجلس المحلي في منشور عبر صفحته الشخصية في موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” إن القرار جاء نتيجة التشاور بين المجلس ووزارة الصحة والمعنيين في سرمين، مستنداً إلى نتائج المسحات الأخيرة التي أكّدت سلامة المخالطين، مشيراً إلى أن فتح الطرقات وإلغاء الحظر الكامل يتوقف على مدى التزام السكان بقواعد السلامة وعدم ظهور حالات جديدة.
وعاد المجلس المحلي في الرابع من آب/ أغسطس، لنشر بيان عبر صفحته الرسمية في موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، أعلن فيه بدء رفع الحجر الصحي عن المدينة تدريجياً، بعد تعافي المصابين من الفيروس، وذلك عقب التشاور مع وزارة الصحة في حكومة الإنقاذ، مطالباً الأهالي بإبلاغ منظومة الإنذار المبكر أو المشفى حال ظهور أي من أعراض الإصابة على أحد منهم، لا سيما المخالطين.
بعد يومين على رفع العزل عن مدينة سرمين، تناقل ناشطون أنباء تُفيد بتسجيل إصابة جديدة لسيدة في بلدة أرمناز بريف إدلب الشمالي، في السابع من آب/ أغسطس، كانت قادمة من مناطق سيطرة النظام السوري بدمشق.
ومن جهتها، أعلنت إدارة مشفى أرمناز عن إغلاق المشفى وفرض الحجر الصحي المؤقت على كادره الطبي، بعد مراجعة السيدة المصابة إلى المشفى، ومخالطة الكادر الطبي فيه، إضافة لحجر ستة من أفراد عائلتها.
وقال مدير مشفى أرمناز، الطبيب، أيمن العموري، إن العمل في المشفى توقف للحالات الباردة فقط، مؤكداً أن استقبال الحالات الإسعافية لا يزال مستمراً، إضافة لعزل الكادر المخالط لسيدة قادمة من دمشق، كانت تُعاني من أعراض ذات الرئة.
كيف استعدت السلطات الحاكمة في الشمال لمواجهة الفيروس؟
كغيرها من بلدان العالم التي اتخذت سلسلة من الإجراءات الوقائية والاحترازية للتصدي لفيروس كورونا، أطلقت الحكومة السورية المؤقتة، جملة من الإجراءات التي من شأنها الحفاظ على سلامة قاطني المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري شمالي غرب البلاد، مع اقتراب الفيروس من حدودها.
وزير الصحة في الحكومة السورية المؤقتة المعارضة، مرام الشيخ، قال لـ “حكاية ما انحكت”: “اتخذنا في وزارة الصحة، جملة من القرارات التي من شأنها الحرص على عدم وصول الفيروس إلى المناطق الخاضعة لسيطرة فصائل المعارضة شمالي سوريا في الدرجة الأولى، وأخرى هدفها تحقيق التباعد الاجتماعي بين الأهالي، والحفاظ على سلامتهم قدر الإمكان”.
وأضاف الشيخ: “القرار الأول صدر عن الحكومة المؤقتة بتاريخ السابع عشر من آذار/ مارس 2020، وقضى بإغلاق ثلاثة معابر مع مناطق سيطرة النظام السوري، وهي معابر “الحمران وعون الدادات، وأبو الزندين”، وتبعه توجيهات بعدم التساهل مع أي عملية تهريب، سواء أكانت للأشخاص أو البضائع، ولا تزال المعابر مغلقة حتى اليوم”.
وتابع وزير الصحة: “بما يخص المعابر الحدودية مع تركيا، فقد اتخذنا كافة الإجراءات والتدابير الاحترازية لمنع انتقال الفيروس إلى الشمال السوري، تجسدت بالأساليب الوقائية المشددة، وذلك بالتنسيق مع إدارات المعابر الحدودية”.
وبيّن الشيخ أن الحكومة السورية المؤقتة أصدرت قراراً آخراً بتاريخ السادس عشر من نيسان/ إبريل، وعمّمته على كافة الجهات الحكومية التابعة لها، نصّ على إيقاف حركة العبور للأشخاص والمركبات بين مدن وبلدات المناطق الخاضعة لسيطرة فصائل المعارضة، إضافة لمنع تجوّل من هم دون عمر الثانية عشر، وفوق الخمسة وستين عاماً، مشيراً إلى أنّ القرار لم يهدف إلى عزل المناطق، إنما كانت الغاية منه تطبيق سياسة التباعد الاجتماعي.
وزارة الصحة في الحكومة السورية المؤقتة أتبعت قراراتها بخطوات برزت في تشكيل خلية أطلقت عليها اسم “خلية الأزمة”، لتعمل بمهام شبيهة بتلك التي كُلف بها الفريق الحكومي المختص باتخاذ الإجراءات الخاصة بالتصدي لفيروس كورونا في مناطق سيطرة النظام السوري، إلى جانب الحملات التوعوية التي قدمت من خلالها نصائح إرشادية يومية باللغتين العربية والإنجليزية، من خلال المقاطع المرئية والصور والإنفوغراف الدوري، بحسب قول وزير الصحة لنا.
وأشار الوزير إلى أن وزارته دعمت أربعة مشافي يحتوي كل منها على خمسة وعشرين سريراً، وثمانية مراكز حجر صحي، يبلغ عدد الأسرة الإجمالي فيهم ثلاثمائة وثلاثين سريراً، إضافة لتأمين سبعين جهاز تنفس اصطناعي موزعين على جميع المراكز.
وعن الالتزام بالقرارات الصادرة، قال الشيخ إن الشرطة المحلية في ريف حلب، أخذت على عاتقها متابعة تطبيق القرارات الصادرة عن الوزارة بالتعاون مع مديرية صحة حلب، في حين توّلت مديرية الصحة في إدلب التابعة للوزارة مسؤولية تطبيق القرارات.
استجابة ناقصة!
ولكن من جهة أخرى، إن نقيب الأطباء الأحرار في إدلب، الطبيب وليد التامر، رأى أن الاستجابة لقرارات إغلاق المعابر مع مناطق سيطرة النظام السوري ناقصة جداً، وأن خاصرة المناطق الخاضعة لسيطرة فصائل المعارضة تعتبر رخوة للغاية.
يقول نقيب الأطباء لـ “حكاية ما انحكت”: “تُشكّل المعابر بين الشمال السوري ومناطق سيطرة النظام السوري، الخطر الأكبر على المنطقة، وبات الالتزام بإغلاقها بشكل نهائي حاجة ملحة لمنع انتقال العدوى إلى مناطقنا، لا سيما أن المناطق الخاضعة لسيطرة النظام باتت موبوءة بحسب التقارير الصادرة عن الوسائل الإعلام المحلية والعالمية”.
ويتابع التامر: “صدرت عدّة توصيات بهذا الخصوص، لتفادي كارثة طبية في حال انتقال العدوى، لا سيما وأنّ بعض المعلومات تتحدث عن عدم التزام سائقي الشاحنات بالإجراءات الطبية”.
ومن جهته، رأى مدير فريق منسقو الاستجابة الطارئة في إدلب، المهندس محمد حلّاج، أن إجراءات الاستجابة للقرارات على مستوى المؤسسات كانت جيدة حيث علقت مديرية التربية الدوام بشكل كامل لفترة معينة، الأمر الذي التزمت به أيضاً مديرية الصحة التي أقامت خيماً للعزل، وأخرى للفحص والتقييم الأولي، فضلاً عن اتخاذ أعلى درجات الحيطة في المشافي بشكل كامل، فيما لم يظهر المجتمع تجاوباً كبيراً بسبب عدم تنبه الناس لخطورة الفيروس.
وأضاف حلّاج في حديثه لـ “حكاية ما انحكت”: “افتتحت المنظمات الطبية مشاف خاصة، وخيم لعزل المصابين (أربعة مشافي خاصة، يحتوي كل منهم على أسرة يتراوح عددها بين عشرة إلى خمسة عشر سرير، ومخيمين للعزل يضم كل منهما قرابة الخمسين خيمة، كل منها تحوي سريرين)، ولكن القطاع الطبي يعاني من هشاشة كبيرة نتيجة استهداف المشافي بالقصف، وخروج عدد كبير منها عن الخدمة، وخسارة المناطق التي كانت تتواجد فيها مشاف تصلح لتقديم الخدمات الطبية، ما زاد مهمة مواجهة الفيروس صعوبة في المنطقة”.
تجهيزات طبية
تحاول المنظومة الطبية في المناطق الخاضعة لسيطرة فصائل المعارضة شمالي غرب سوريا، مواجهة خطر تفشي فيروس كورونا، والاستجابة لاحتياجات قاطني المنطقة الطبية، وسط ظروف سيئة جداً نتجت عن الحملة العسكرية الأخيرة التي شنّها النظام السوري وحلفاؤه على ريف إدلب الجنوبي، وما نتج عنها من نزوح قرابة المليون ومائتي ألف شخصاً، وخروج أكثر من سبعين منشأة طبية عن الخدمة، منذ نيسان/ إبريل 2019 وحتى اليوم.
يقول منسق الصحة العامة في مديرية صحة إدلب، الطبيب عبد الحكيم رمضان: “تضم محافظة إدلب قرابة الأربعين مستشفى قيد العمل، لكنها جميعاً تحت معايير أسفير الإنسانية بكثير، وبعدد أسرة يقسم بنسبة سرير واحد لكل ألف وخمسمئة واثنين وتسعين مدنياً”.
ويُضيف رمضان في حديثه لـ “حكاية ما انحكت”: “خصّصت مديرية الصحة ستة مشافٍ للاستجابة للحالات الحرجة والخطيرة من المصابين بفيروس كورونا، منها أربعة جاهزة للعمل بشكل مباشر، واثنتين قيد التجهيز، تضم جميعها ستة وعشرين جهاز تنفس اصطناعي للبالغين، إضافة لأربعة مراكز حجر صحي بدأت باستقبال الحالات المتوسطة والخفيفة، وستة وعشرين مركزاً لم ننته من تجهيزهم بعد، ليكون العدد الكلي في إدلب، ثلاثين مركزاً، في حين افتتحت حكومة الإنقاذ مركزين للحجر الصحي أيضاً، أحدهما في منطقة باب الهوى، وآخر في مدينة جسر الشغور، بالقرب من الحدود السورية التركية”.
ويتابع رمضان: “لدينا في إدلب مخبر واحد لإجراء الاختبارات الطبية اللازمة للكشف عن الإصابة بالفيروس، تقوم المنشآت الطبية بالطلب من المخبر إرسال فريق طبي لأخذ عينات الحالات المشتبه بإصابتها، فيما تعمل منشآت أخرى على أخذ العينات وترسلها بدورها إلى المخبر لإجراء الاختبارات اللازمة”.
وبحسب منسق الصحة في إدلب، فإن المديرية أقامت تدريبات نوعية لنحو ستمئة شخص من كوادرها الطبية، بين طبيب وممرض وآخرين من العاملين في المنشآت الطبية، على أن يكون هناك تدريبات إضافية في المرحلة القادمة.
ومن جهته، رأى نقيب الأطباء الأحرار في الشمال السوري الطبيب وليد التامر، أنّ غياب التنسيق بين الكوادر الطبية في مناطق سيطرة المعارضة من جهة، والسلطات الطبية التركية من جهة أخرى، يشكل العائق الرئيسي في مواجهة الفيروس، مشيراً إلى أن أعداد الحالات المسموح بإدخالها إلى تركيا محدودة جداً، وتحتاج لموافقة السلطات التركية، لاسيما في ظل الإجراءات المشددة على الحدود التركية بعد انتشار الفيروس فيها، في الوقت الذي لا تعادل وحدات العناية المشددة في الشمال السوري بأكمله، عدد تلك الموجودة في مشفى واحد في تركيا.
وقال نقيب الأطباء لـ “حكاية ما انحكت”: “لا يمكن تطبيق المعايير الطبية الوقائية التي طالبت بها منظمة الصحة العالمية للحد من انتشار كورونا، نظراً للكم الهائل من القاطنين في المنطقة، خاصة بعد تدمير ما يعادل 60% من المنشآت الطبية خلال الهجوم العسكري الأخير، ما ينذر بكارثة طبية بسبب الأعداد المتوقعة للمصابين في حال انتقل الفيروس إلى هذه الرقعة”، مبينا استحالة تطبيق توصيات التباعد الاجتماعي، خاصة في المخيمات، “فكيف نستطيع تطبيق مبدأ التباعد الاجتماعي في خيمة يقطنها 15 شخصاً بسبب عدم وجود مكان آخر يلجؤون إليه؟”، مضيفا بنفس الوقت أنه: “يمكن تطبيق التوصيات لجهة الحد من التجمعات في المساجد، والأسواق، والبازارات، والمدارس، والجامعات، ويجب إصدار قوانين تلزم الناس بالالتزام بعدم التجمع”.
وعن مسألة إعلان الأعداد الصحيحة للمصابين بفيروس كورونا يوّضح نقيب الأطباء: “لا مصلحة لأحد بإخفاء الإصابات، وأرى أن خدمات المنشآت الطبية في القطاع العام أفضل من المشافي الخاصة، والقطاع الطبي في مناطقنا أفضل بعشرة أضعاف من القطاع الطبي في مناطق سيطرة النظام السوري”.
وختم التامر: “أدعو لتفعيل اللجنة الوطنية للكورونا، لتوحيد الداتا بين المنظمات بحيث يتم إنشاء المراكز بحسب التوزع الجغرافي والسكاني، بالإضافة إلى التنسيق من حيث التجهيز، وإصدار النتائج من قبل الجهة المخوّلة إصدارها تفادياً للفوضى”.
ما رأي الشارع؟
سرور الشيخ نجيب، أحد أبناء مدينة إدلب، وهو طالب في معهد التمريض بجامعة إدلب (35 عاماً) رأى أن الجهود المبذولة من قبل مديرية صحة إدلب، والكوادر الطبية فيها كبيرة جداً بالنسبة للإمكانات المتوفرة، على الرغم من قلة المشافي المجهزة وأجهزة التنفس ومراكز الحجر الصحي في المحافظة.
وقال الشيخ نجيب لحكاية ما انحكت: “رغم قلة الإمكانات المتوفرة في مناطقنا، إلا أنّ الكوادر الطبية استطاعت إنشاء مراكز للحجر الصحي، وعملت على تجهيزها قدر المستطاع، ما يساعد في الحد من انتشار الفيروس، فضلاً عن إخضاع المصابين للعلاج، ولا يمكن للفرق تقديم أكثر مما تقوم به حالياً”.
بينما قال مفيد عبيدو، وهو مصور في مؤسسة شام الخيرية (26 عاماً): “الثقة بالقطاع الطبي في الشمال السوري الخاضع لسيطرة فصائل المعارضة ضئيل بعض الشيء، ولا يمكن تعميمه على المستشفيات ككل، فلدينا بعض المشافي جيدة نسبياً، واستطاعت كسب ثقة الأهالي، وقسم آخر اكتسب صفات السوء من الناحية الطبية والرعاية”.
ويضيف عبيدو لحكاية ما انحكت: “هذه الحالة كانت قبل انتشار الفيروس، لكن جميعنا نعلم الإمكانات المحدودة في مشافي المنطقة بما يخص علاج المصابين وتقديم الرعاية الطبية لهم، فمن قبل انتشاره كانت تركيا هي وجهة الحالات الطبية المُعقدة، أما اليوم فإن الدخول إليها بات من أصعب الخطوات”.
منظمات المجتمع المدني تُساند القطاع الطبي
تزامناً مع الإجراءات الطارئة التي اتخذتها مديريات الصحة التابعة للحكومة السورية المؤقتة المعارضة في محافظتي إدلب وحلب، أطلقت منظمات المجتمع المدني العديد من الخطط التي من شأنها المساهمة في الحفاظ على سلامة الأهالي من الإصابة بفيروس كورونا.
مدير منظومة الدفاع المدني السوري المعروفة باسم “الخوذ البيضاء” رائد الصالح، يقول لحكاية ما انحكت إن عمل المنظومة ينحصر في سياق الوقاية والتوعية بالدرجة الأولى، بالإضافة للتنسيق مع الجهات الطبية لجهة إنشاء مراكز حجر صحي، وتجهيز منظومة إسعاف خاصة بالتعامل مع المصابين بالفايروس، أما الخطوات الطبية المباشرة لمواجهة الفايروس من مخابر تحليل، وتجهيز مشافٍ، فهي مسؤولية القطاع الطبي.
ويضيف الصالح: “أطلق الدفاع المدني السوري في الثامن عشر من مارس/آذار 2020، حملة تطهير للوقاية من الفايروس ضمن سلسلة إجراءات تهدف لحماية المدنيين من الفيروس، شملت المرافق العامة من مدارس، ومشافي، و مخيمات، ومراكز إيواء، ومنشآت عامة، وذلك عبر قيام فرق مدربة تابعة للمنظومة برش مادةbenlı ، المعقمة”.
ويتابع مدير الدفاع المدني: “تم تعقيم أكثر من سبعة آلاف مرفق حيوي، إضافة إلى ألف ومئتي واثني وستين مخيماً، ونحو ألف وخمسمئة مدرسة، وأكثر من ستمائة نقطة طبية ومشفى، ومئات المرافق الحيوية الأخرى، خلال الحملة التي استمرت ثمانية أيام، وذلك تزامناً مع إطلاق حملة توعية تضمنت تنفيذ وقفات تحت عنوان “خليك ببيتك” بهدف حث المدنيين على الالتزام قدر المستطاع بالمنازل، وعدم الخروج إلا في حالات الضرورة، إضافة لنشر ملصقات تعرّف بالفايروس، وأعراضه، وسبل الوقاية منه، ناهيك عن قيام متطوعين ومتطوعات من الخوذ البيضاء بتوعية المدنيين بشكل مباشر، في ألف وثمانمائة وتسع وسبعين نقطة بين مخيمات وأماكن أخرى”.
المنظمات المدنية، والإنسانية، والطبية، العاملة في الشمال السوري، بينها الدفاع المدني السوري، أطلقت فريقاً حمل اسم “فريق الاستجابة الوطنية لجائحة الكوفيد -19 في سوريا” في الحادي والعشرين من أبريل/ نيسان 2020، لتنسيق الجهود ومتابعة الخطط، وضمان تسخير كل الموارد البشرية والمادية والمعرفية لمكافحة الفايروس في الشمال السوري، عبر التنسيق والتواصل مع كافة المعنيين في القطاع الصحي والقطاعات الأخرى، والتواصل مع الأمم المتحدة ومنظماتها، بحسب الصالح.
وبيّن الصالح أن مجموعة من المؤسسات والمنظمات السورية العاملة في الشأن الإنساني، أعلنت في السابع والعشرين من أبريل/ نيسان الفائت، إطلاق حملة إنسانية تحت اسم “نتكافل” بهدف دعم السوريين الذين أثقلت كاهلهم سنوات الحرب، وضاعفت معاناتهم خلال الفترة الحالية ظروف الوقاية من الفايروس في الداخل السوري وفي بلاد اللجوء المجاورة، والتي تهدف بشكل مباشر لتأمين دعم نقدي عاجل للعوائل، لاسيما نازحي المخيمات، والسّيدات المعيلات لعائلاتهن، وذوي الاحتياجات الخاصة، وكبار السّن، إضافةً إلى المعلمين في الداخل السوري ودول الجوار في لبنان، والعراق ، والأردن، وتركيا، وتسليط الضوء على أهم الاحتياجات الإنسانية لأولئك الذين يعانون من تردي الأوضاع المعيشية.
ماذا لو تفشّى الفيروس؟
وعن الخطوات البديلة للعمل في حال تفشي الفايروس، يشير الصالح إلى أن التنسيق مع القطاع الطبي جارٍ على قدم وساق لجهة تجهيز سيارات إسعاف، ونقاط إخلاء للمصابين بالفايروس إلى مراكز الحجر الصحي، كما يعمل الدفاع المدني على عدة مشاريع لمواجهة كورونا منها: استخدام الطابعات الثلاثية لصناعة أجهزة التنفس الصناعية، وقد انتهى من صناعة أول جهاز، وهو الآن ضمن مرحلة الاختبارات.
ويضيف الصالح أن الدفاع المدني بصدد صناعة واقيات وجه بلاستيكية، بعد الانتهاء من الاختبارات النهائية الخاصة بأجهزة التنفس الصناعية لمتابعة هذا المشروع. ويؤكد أن الدفاع المدني يمتلك القدرة على صناعة 2000 قطعة يومياً للكوادر الطبية وكوادر الخوذ البيضاء، فيما ما زالت تجارب أخرى قيد البحث: منها إنشاء أماكن تعقيم للأشخاص، وأخرى لصناعة خوذ قادرة على كشف حرارة الجسم وكشف المصابين عن بعد.
من جهته، يقول مدير مكتب إدلب في الهيئة العالمية للإغاثة والتنمية، محمد نجار، لحكاية ما انحكت إن الهيئة أنشأت فرقاً تطوعية ودربتها من أجل توعية الناس على مخاطر فايروس كورونا وكيفية الحد من انتشاره، بالتعاون مع مديرية الصحة في إدلب، كما قامت بتوزيع منشورات لتوعية الناس على مخاطر الفايروس، وزودت عدداً منهم بما أسمته “سلة كورونا”، وتحتوي هذه السلل على ما يقارب خمس وعشرين ألف كمامة، ومعقمات، وبعض الأدوية، كما حاولت الحد من حركة السكان عبر إنشاء فريق يهتم بتلبية حاجاتهم الخدماتية، ولكن هذه الخطة فشلت.
وعن سبب فشلها، يقول لحكاية ما انحكت: “فشلت بسبب عدم التزام الأهالي بشروط المبادرة والتخفيف من حركتهم، إضافة لرفضهم فكرة طلب تأمين المواد اللازمة من الفرق المخصصة والانتظار ريثما يتم تقديمها لهم، خاصة أن احتياجات الأهالي تقتصر على الآنية وليس التموينية، فتكون الطلبات قليلة جداً وطارئة نتيجة أوضاعهم الاقتصادية التي لا تمكنهم من الحصول على كميات كافية لعدة أيام من المواد الغذائية والمستلزمات المعيشية، إضافة لمشكلة الاتصالات التي يعاني منها قاطنو الشمال السوري الذين يعتمدون بشكل رئيسي على شبكة الانترنت الفضائي، وبالتالي فيتوجب عليهم الانتظار ريثما تصل الفرق المخصصة إلى أماكن تتيح لهم الحصول على شبكة الانترنت، كالمكاتب والمنازل”.
الناشطة الإنسانية “أحلام الرشيد” التي اختيرت بين أكثر مئة امرأة مؤثرة في العالم لعام 2017 من قبل بي بي سي، قالت لحكاية ما انحكت إن المراكز المخصّصة للمرأة والدعم النفسي اتخذت خطوات بديلة لعملها، حيث أصبحت منصة “كلاستر” تعتمد برامج معينة، تقدم أنشطة أون لاين للمراكز، سواء للمرأة أو للطفل، وتهتم بالدعم النفسي، ودعم الأسر، بالإضافة إلى أن معظم الدورات التدريبية أصبحت تقام أون لاين، وسيكون هناك برامج أكثر تطوراً بالنسبة إلى إدارة الحالة، واستقبال الحالات في الأزمة الراهنة.
وأوضحت الرشيد أن العمل المدني والفعاليات السياسية في الشمال السوري لا يزال سار، مشيرةً إلى أن تأثير الفيروس على الجوانب النفسية كان أكبر من تأثيره على الجوانب الصحية.
وأضافت الرشيد: “استطاع كورونا أن يرخي بظلاله على الحالة النفسية للمدنيين في تلك المناطق، بالإضافة إلى الحالة الاقتصادية والوضع الاجتماعي بشكل عام، حيث انحصر عمل المنظمات بجلسات التوعية بشكل فردي، كما توقف الكثير من الأنشطة التي كانت تقدمها المنظمات بشكل جماعي سواء داخل المراكز، أو خارجها، أو حتى ميدانياً كخطوات وقائية، لذلك خفضت بعض المنظمات عملها، فيما خفض البعض الآخر عدد الكوادر، واختار قسم منها مزاولة الأنشطة أون لاين، أو القيام بأنشطة توعوية بشكل فردي، كما شملت التدريبات، إن وجدت، أعداداً ضئيلة جداً لا تتجاوز عشرة أشخاص في القاعة الواحدة، بعد عمليات تعقيم، وارتداء ألبسة واقية”.
ومن جهته، رأى أحد أعضاء إدارة فريق منسقو الاستجابة الطارئة في الشمال السوري، أن مؤسسات المجتمع المدني لم تلعب دوراً في مسألة محددات حركة المدنيين بين مناطق درع الفرات، وإدلب، والريف المحيط بها، موضحاً أن هذا القرار عائد للسلطات المحلية التي تتحكم بحركة المعابر ومواقيت فتحها، الأمر الذي أدى إلى ازدحام على المعابر، خاصة عندما تم فتحها لساعات محددة فقط، وقامت حينها المنظمات بفحص حراري للمسافرين، إلا أن أعدادهم الكبيرة حالت دون تمكن المنظمات من فحص الجميع.
ولفت مدير الفريق إلى أن اقتطاع المنظمات لجزء من ميزانياتها بهدف رش مواد معقمة في المخيمات خطوة خجولة لأنها لا تحمل فائدة كبيرة لقاطني المخيمات مثل تزويدهم بالكمامات، وأدوية التعقيم، مضيفاً: “هذه الخطوة تهدف إلى جلب الدعم، والعمل يجب أن يكون ممنهجاً ومنظماً، كزيادة الوعي والارشادات عبر مكبرات الصوت، وتوزيع مواد تنظيف وكمامات، وبناء مراحيض منفردة في المخيمات”.
وكشف مدير الفريق عن عودة أعداد كبيرة من العائلات لمناطق سيطرة النظام، مرجعاً السبب إلى عدم توفر سكن ملائم في المناطق الخاضعة لسيطرة فصائل المعارضة، وغلاء الإيجارات، وعدم توفر الخدمات، مؤكداً أن أعداد العائدين بلغت حوالي مئة وسبعين ألفاً من ريف حلب الغربي، وما يقارب مئة وخمسين ألفاً من قرى جبل الزاوية بريف إدلب. والفترة تشمل ما بين تفشي الفيروس في مناطق النظام، وإعلان الحالات الأولى في الشمال السوري.
هل أثّر انتشار الفيروس على الأوضاع الاقتصادية؟
تأثير انتشار فيروس كورونا على الاقتصاد العالمي الذي خسر على المستويين المحلي والعالمي أكثر من 100 مليار دولار، انعكس سلباً على قاطني الشمال السوري، لا سيما تراجع وتيرة الحوالات المالية التي ترد إليهم من ذويهم المقيمين خارج سوريا بالدرجة الأولى، إضافة لارتفاع الأسعار الجنوني جراء تقييد حركة السفر والتجارة بعد إغلاق الحدود البرية، والبحرية، والجوية لمعظم البلدان، بحسب قول الباحث الاقتصادي “نيبال قلعة جي” لحكاية ما انحكت.
ويلخص قلعة جي تأثير كورونا على الشمال السوري بتوقف المساعدات التي تأتي للنازحين، بالإضافة إلى إغلاق المعابر مع كل من تركيا، والنظام، وقسد، وهذه العوامل تعني تراجع دخل المواطن في الشمال السوري بنسبة 20% على الأقل، الأمر الذي يمكن حلّه عبر زيادة ساعات العمل لتعويض نقص الإنتاجية والخسائر التي حلَت.
ويؤكد قلعة جي أن انهيار سعر صرف الليرة السورية غير مرتبط بإجراءات الحجر، إنما بقانون قيصر، وسياسات النظام القائمة على الفساد، بالإضافة إلى استنزاف موارد الدولة في الحرب على الشعب السوري، بالإضافة إلى إجراءات الحجر التي أدت إلى تراجع الطلب، وتراجع الاستثمار، بالإضافة إلى مداخيل الناس، الأمر الذي أدى إلى ركود اقتصادي على وشك التحول إلى كساد اقتصادي.
(في سوق مدينة إدلب دون اتخاذ أية إجراءات وقائية/ خاص حكاية ما انحكت)
من جهتها ترى أحلام الرشيد في حديثها لحكاية ما انحكت، إن وجود الفيروس انعكس سلباً على الوضع الاقتصادي للبلد، والوضع الاجتماعي للناس، وعلى مدى إنتاجية العمل وجودته، حيث اضطر الكثير من المدنيين للعمل من داخل المنازل نتيجة تعطيل المدارس، وتوتر العائلات، وهذا أدى إلى ضغوط نفسية كبيرة على العاملين وعلى المنظمات بشكل عام، فقد زادت الأعباء بشكل أكبر، وهذا ما صرح عنه الموظفون خلال استفتاء، أكدوا من خلاله أن العمل من المكتب أسهل بكثير من العمل في المنزل.
وهو ما يوافقها به قلعجي، إذ يقول: “ضرر كورونا لم يكن معتدلاً على الاقتصاد المحلي بل كبيراً، فالاقتصاد المحلي منهك أساساً، ولا يتمتع بمناعة لمواجهة أزمة كورونا، بعكس الاقتصاديات الأخرى التي يعتبر وضعها طبيعياً، وذلك يعود لتدهور الاقتصاد السوري بسياسات النظام الاقتصادية القائمة على الفساد، ناهيك عن قانون قيصر، بالإضافة إلى توجيه النظام لمعظم موارد الدولة نحو القطاع العسكري”.
وبحسب قلعة جي، فإن تعامل السلطات مع تفشي كورونا يختلف بين دولة وأخرى، ولكن الشكل العام للتعامل تمثل بدعم للقطاعات الاقتصادية المتضررة، ودعم جزئي كدفع أجور العمال العاطلين عن العمل، كالنموذج التركي الذي تمثل بدعم العمال المسجلين في التأمينات الاجتماعية، بالإضافة إلى دفع جزء من رواتب العمال خلال فترة الأزمة.
سمر جيرو وهي عاملة صحة نفسية في منظمة إنسانية (30 عاماً) المقيمة في مدينة جسر الشغور بريف إدلب الغربي، رأت أن الفئة التي تضرّرت من انتشار فيروس كورونا في الشمال السوري قليلة جداً، وأن انتشاره لم يؤثر مطلقاً على أوضاع الأهالي الاقتصادية، مؤكدةً أن الأهالي استمروا في أعمالهم دون توقف، لاسيما العاملين في مجال الزراعة، كون محاصيلهم لا تزال تُباع في أسواق عفرين وريف حلب الشمالي بأسعار جيدة، مع التزام قسم منهم بالتدابير الوقائية.
فيما رأى قصي الحسين خلال حديثه لحكاية ما انحكت، وهو صاحب مكتب صرافة وتحويل الأموال في مدينة إدلب (27 عاماً) أن ارتفاع سعر صرف الدولار الأمريكي أثّر على حوالي 90% من السكان، باستثناء قلة قليلة منهم، من العاملين في المنظمات ويتقاضون رواتبهم بالدولار، أو الذين تأتيهم حوالات مالية من أقربائهم في الخليج والدول الأوروبية.
كيف أثر انتشار الفيروس على الحياة الاجتماعية؟
في الواقع العام للحياة الاجتماعية في المناطق الخاضعة لسيطرة فصائل المعارضة، فإن المنطقة كافة تأثرت بفيروس كورونا، منذ بدأ بالتفشي في تركيا حتى تسجيل الإصابات الأولى في إدلب. إلا أنها، بالمقارنة مع أي منطقة أخرى داخل أو خارج سوريا، فإنها المنطقة الأقل تأثراً اجتماعياً، فالالتزام بالقواعد الاجتماعية المنصوص عليها كإجراءات وقائية هو أمر طوعي، ولا قانون يُلزم الأهالي بالتقيّد فيها.
إبراهيم السلوم وهو مدرس في مدرسة أطمة شمال إدلب (32 عاماً)، والمقيم في الشمال السوري بالقرب من الحدود السورية التركية، يقول لحكاية ما انحكت: “قبل ظهور الفيروس كنا نتمتع بعلاقات اجتماعية متماسكة، لا تخلو من الزيارات واللقاءات بشكل شبه يومي، إلا أنّ الوضع لم يبقى كذلك مع بدء تسجيل الإصابات في تركيا، كونها البلد الأقرب إلينا…، فانقطعت الزيارات بين معظم الأهالي بشكل كامل، ولاسيما بعد تسجيل الإصابة الأولى في إدلب”.
فيما بيّن فيصل العكلة وهو مهندس مدني (58 عاماً) المقيم في بلدة الدانا بريف إدلب الشمالي، أن تخوف الأهالي من انتشار الفيروس أقل من تخوّف القاطنين في المحافظات السورية الأخرى، أو حتى في جميع أنحاء العالم، كون المنطقة معزولة عن العالم بشكل تلقائي بسبب الواقع العسكري الذي تعيشه، مضيفاً: “على الرغم من التخوف القليل من انتشار الفيروس، إلا أن قسم كبير من الأهالي يتخذون التدابير الاحترازية كالالتزام بالتباعد الاجتماعي وارتداء الكمامات والتعقيم المستمر، إضافة لكون التربية أغلقت المدارس خلال الفترة السابقة لمنع انتشار كورونا بين الأطفال فيها أثناء الدوام الدراسي”.
ومن جهته، رأى حازم وهو بائع مواد بناء (35 عاماً) المُقيم في مدينة سرمدا بريف إدلب، أن حياة الأهالي قبل انتشار الفيروس كما بعده، فلم يتغير أي شيء على صعيد الحياة الاجتماعية لقاطني الشمال السوري، والإجراءات الاحترازية لن تلتزم بها سوى نسبة قليلة جداً، باستثناء الكوادر الطبية التي التزمت بها بشكل جيد منذ بداية انتشار الفيروس في تركيا.
التطورات العسكرية تزيد خطر الانتشار
“لا شك أن لتواجد قوات النظام السوري، والقوات الروسية، في محيط المناطق الخاضعة لسيطرة فصائل المعارضة، تأثيراً كبيراً لإفشال الجهود الطبية في التصدي لانتشار فيروس كورونا في الشمال السوري، وأنها شكلت عائقاً أمام الفصائل المقاتلة في اتخاذ الإجراءات الاحترازية اللازمة لمنع تفشي الفيروس”، يقول المتحدث باسم الجبهة الوطنية للتحرير “النقيب ناجي مصطفى” لحكاية ما انحكت.
ورأى مصطفى أنّ الخروقات المستمرة لاتفاقيات وقف إطلاق النار في الشمال السوري، أدّت إلى تهجير المدنيين من القرى في جبل الزاوية وبعض القرى الأخرى باتجاه المخيمات الحدودية مع تركيا، ما جعل التجمعات السكانية كبيرة جداً، ويصعب ضبطها وإلزام قاطنيها بالإجراءات الاحترازية.
وتابع المتحدث باسم الجبهة الوطنية: “تحاول فصائل المعارضة مواجهة الجائحة من خلال توعية المدنيين والمقاتلين لاتخاذ التدابير الوقائية اللازمة، فضلاً عن إيجاد آليات لمنع التجمعات، خاصة في بعض المؤسسات والمنشآت التي يضطر المدنيين أن يتجمعوا فيها للحصول على حاجياتهم”، مضيفاً: “نشرت الفصائل بعض أجهزة الكشف على الحواجز التي قد يتم العبور من خلالها لكشف أي إصابة في حال وجدت بين المسافرين والوافدين إلى هذه المناطق”.
وبيّن مصطفى أن التخوف من انتشار الوباء يتصاعد عند التجمع من أجل المظاهرات، ولكن إرادة الشعب السوري كانت أكبر من كل شيء في الحصول على الحرية، ورفض وجود القوات الروسية التي ارتكبت جرائم بالتعاون مع قوات النظام والميليشيات المساندة له، لا سيما بعد إعادة نشر الصور التي سربها الضابط السوري “قيصر” للشهداء تحت التعذيب.
وبحسب مصطفى، فإن السلطات التركية قدمت بعض المساعدات الطبية إلى عدد من المنظمات، وبعض المجالس المحلية والمشافي لمواجهة الفيروس، مشيراً إلى أنّ انتشار الفيروس سيكون تأثيره كارثياً على الشمال السوري نظراً للكثافة السكانية في المخيمات، بالتزامن مع شح المعدات الطبية كأجهزة التنفس وغيرها.
وحذّر الناطق باسم الجبهة الوطنية للتحرير، من أي عمل عسكري على إدلب لما سيحمل من تأثيرات سلبية تتمثل في موجات نزوح كبيرة، وتجمعات سكانية جديدة، مما يفاقم الكارثة الإنسانية في ظل شح المعدات الطبية والمساعدات الإنسانية المقدمة من المجتمع المدني، بحسب قوله.
سجون دون وقاية، وتحذيرات من كارثة محتملة!
مسؤولة ملف المعتقلين في الشبكة السورية لحقوق الإنسان “نور الخطيب” بيّنت لحكاية ما انحكت أن سجن إدلب المركزي يُعد من أكثر السجون ازدحاماً بأعداد السجناء والمحتجزين.
وأكَّدت الخطيب أن الشبكة لم تسجل اتخاذ أي تدابير وقائية للحد من انتشار الفيروس بين المحتجزين من قبل إدارة السجن، مضيفة: “على العكس تماماً، حصلنا على شهادات من معتقلين أُفرج عنهم مؤخراً، تبين من خلالها أن المهاجع لا تزال مكتظة بالموقوفين، إضافة لعدم الاهتمام الصحي وسوء التهوية في كامل السجن”.
وأضافت مسؤولة ملف المعتقلين: “ظروف سجن إدلب المركزي تنطبق على جميع السجون ومراكز الاحتجاز في إدلب وريفها، ولا شك أن هذه الظروف تتجه نحو الأسوأ بحسب اختصاص كل منها، فالسجون المخصصة لاحتجاز المتهمين بقضايا أمنية أو معتقلي الرأي وانتقاد هيئة تحرير الشام، تكون عادة عبارة عن أقبية ومغاور منعزلة تماماً، وتحت سطح الأرض، ما يجعل الشروط الصحية فيها شبه معدومة، وبالتالي فذلك يزيد احتمالية تفشي الفيروس بين المحتجزين”.
وختمت الخطيب: “لم تتخذ حكومة الإنقاذ المسؤولة عن السجون في إدلب، أي إجراء لإطلاق سراح المحتجزين كإجراء احترازي لنمع انتشار الفيروس، إنما كان إطلاق سراحهم مبني على عفو أصدرته حكومة الإنقاذ بمناسبة عيد الفطر لهذا العام، على خلاف ما روّج له”.
عشرات الإصابات سُجلت في الشمال السوري الخاضع لسيطرة المعارضة المسلحة، عقب الإعلان عن تسجيل الإصابة الأولى، معظمها كانت ناجمة عن الاختلاط بمصابين قادمين من مناطق سيطرة النظام في دمشق وحلب، رغم التصريحات الرسمية بإغلاق المعابر الواصلة بين مناطق سيطرة الطرفين، في الوقت الذي بيّن فيه نقيب الأطباء في إدلب أن الاستجابة لقرارات إغلاق المعابر ضئيلة جداً، وأن خاصرة المناطق الخاضعة لسيطرة فصائل المعارضة تعتبر رخوة للغاية، وسط ندرة الالتزام بالإجراءات الوقائية والاحترازية لمنع تفشي الفيروس من قبل قاطني المنطقة، لعبت الأوضاع الاقتصادية والمعيشية فيها الدور الأبرز في منع الأهالي من الالتزام بها، فضلاً عن غياب الدور التوعوي الكافي لتجنب الإصابة بالفيروس.
كاتب وصحفي سوري مقيم في اسطنبول
(تم دعم هذا التحقيق من خلال برنامج Check Global COVID-19 microgrants,، وبدعم من موقع ميدان)
حكاية ما انحكت
————————————-
=================================
========================
تحديث 08 أيلول 2020
——————————
جائحة كوفيد-19 تَرُجُّ العالم/ محمد الناسك
بينما تجتاح جائحة كوفيد-19 العالم، يكشف الفيلسوف السلوفيني، سلافوي جيجك، المعاني العميقة لوباء كورونا ويتأمَّل في مفارقاته المحيِّرة ويتكهَّن بعواقبه، ويرى أن آليات السوق لن تكون كافية لمنع الفوضى والجوع. إن مواجهة هذا التهديد يشجع على أشكال جديدة من التضامن، وهذا فحسب هو الذي يمكن أن يقود إلى مستقبل أكثر أمانًا.
كشف الناقد الثقافي والفيلسوف السلوفيني، سلافوي جيجيك (Slavoj Žižek)، في كتابه “جائحة كوفيد-19 تَرُجُّ العالم”، المعاني العميقة لجائحة كورونا التي تجتاح العالم، وتأمَّلَ في مفارقاتها المحيرة وتكهَّن بعواقبها. ويُبَشِّر جيجك بشيوعية جديدة، تختلف عن الشيوعية بمفهومها التقليدي وتلك التي تتبنَّاها الصين، للخروج من الأزمة وتفادي الانحدار إلى بربرية عالمية. ويُحَاجِج جيجك بأن بعض الإجراءات التي اتُّخِذَت في بريطانيا والولايات المتحدة، وما تدعو إليه منظمة الصحة العالمية، تؤيد دعواه التي جعلته هدفًا للنقد والسخرية من اليمين واليسار.
سلافوي جيجك واحد من أكثر الفلاسفة إنتاجًا وشهرة في العالم اليوم؛ وصفته مجلة المحافظين الجدد الأميركية “ذا نيو ريببلك” (The New Republic) بأنه “أخطر فيلسوف في الغرب”، والصحيفة البريطانية “ذا أوبزرفر” (The Observer) بـ”النجم المخلص لليسار الجديد”، وهو مثقف راديكالي. وكما يبيِّن عنوان أحد كتبه الجديدة، “Living in the End Times” (2010)، فإن اهتمامه الفلسفي هو الشعور واسع الانتشار بكارثة عالمية وشيكة وأسبابها الأيديولوجية الكامنة. وهذا ما جعله يركز في أعماله على الأزمة السياسية والاقتصادية والبيئية العالمية القائمة..(1).
يمزج، إلفيس بريسلي الفلسفة، كما وصفته صحيفة “نيويورك تايمز” (The New York Times)، في عمله بين الميتافيزيقيا الهيغلية والتحليل النفسي اللاكاني (نسبة إلى جاك لاكان ((Jacques Lacan) والجدلية الماركسية، لتحدي الأفكار السائدة والحقائق التي يُسلِّم بها اليسار واليمين(2).
صدر كتاب “جائحة كوفيد-19 تَرُجُّ العالم” عن دار النشر “أور بوكس”، وهي دار يسارية تنشر كتابًا أو كتابين في الشهر، ومعاييرها التحريرية صارمة. وقد وصفتها مجلة “دايزد” (Dazed) بأنها رد فعل جذري ومثير على الهيمنة الأمازونية (نسبة إلى شركة أمازون). وقد تنازل جيجك عن حقوق ملكية كتابه، وخصص عائداته لمنظمة “أطباء بلا حدود”.
يقع الكتاب في 146 صفحة من القطع الصغير، مقسم على 11 مقالًا، وليس فصولًا؛ لأن الكتاب تجميع لمقالات صحافية نشرها الكاتب في عدد من الصحف منذ بداية جائحة كورونا، وبعضها لا يتجاوز 900 كلمة. كما يضم الكتاب مقدمة وخاتمة. وجاءت عناوين هذه المقالات على النحو الآتي: “نحن الآن جميعًا في المركب ذاته”، “لماذا نحن متعبون دائمًا؟”، “نحو عاصفة كاملة في أوروبا”، “مرحبًا بالصحراء الفيروسية”، “المراحل الخمسة للجوائح”، “فيروس الأيديولوجيا”، “اهدأ وافزع”، “رقابة وعقاب نعم رجاء!”، “هل قدرنا البربرية بوجه إنساني؟”، “الشيوعية أو البربرية: هكذا ببساطة!”، “موعد في سامراء”، وهذا الفصل أضافه جيجك بعد أيام من صدور الكتاب.
يدعونا سلافوي جيجك إلى التساؤل: ما الخطأ في نظامنا حتى أخذتنا الكارثة على حين غرة على الرغم من أن العلماء ما فتئوا يحذروننا منها منذ سنوات؟(3).
1. فيروس التفكير في مجتمع جديد
يرى جيجك أن الجائحة ما كانت لتحدث لولا غياب حرية التعبير في الصين وحقوق الإنسان، وهذا ما تؤكده الصحافية المقيمة في هونغ كونغ، فيرنا يو (Verna Yu): “لو كانت الصين تُعلي من شأن حرية التعبير، لم تكن لتوجد أزمة فيروس كورونا. وسوف تتكرر مثل هذه الأزمات طالما لم تُحْتَرَم حرية التعبير والحقوق الأساسية للمواطنين الصينيين”….
لقد كان الطبيب الصيني لي وينليانغ ((Li Wenliang، مكتشف وباء الفيروس التاجي المستجد، بطلًا أصيلًا من أبطال عصرنا، في نظر جيجك، وهو نسخة صينية من شيلسي مانينغ (Chelsea Manning) أو إدوارد سنودن (Edward Snowden)، لذا لا عجب أن وفاته أثارت غضبًا واسع النطاق.
إن الأداء الكلي لجهاز الدولة الصيني، وفقًا لجيجك، يتعارض مع شعار ماو تسي تونغ القديم “ثِقْ في الشعب!” وبدلًا من ذلك، تعمل الحكومة على أساس أنه لا ينبغي للمرء أن يثق في الشعب: يجب أن يكون الشعب محبوبًا، ومحميًّا، ويحظى بالرعاية، ومراقبًا، لكن لا أن يُوثَق به. إن أخطر ما يمكن فعله اليوم في الصين هو الإيمان جديًّا بالأيديولوجية الرسمية للدولة.
قال الطبيب لي من على سريره في المستشفى قبل وفاته بقليل: يجب أن يكون أكثر من صوت واحد في مجتمع صحي، لكن هذه الحاجة الملحَّة لسماع أصوات أخرى لا تعني، في رأي جيجك، بالضرورة ديمقراطية متعددة الأحزاب على النمط الغربي، فهي تتطلب الإفساح في المجال لنقل ردود فعل المواطنين الناقدة فحسب.
ويرى الكاتب أن تطور الوباء في جميع أنحاء العالم، جعلنا ندرك أن آليات السوق لن تكون كافية لمنع الفوضى والجوع. إن الإجراءات التي تبدو لمعظمنا اليوم أنها “شيوعية” يتعين النظر فيها على مستوى عالمي: يجب أن يكون تنسيق الإنتاج والتوزيع خارج إحداثيات السوق. ويعتقد جيجك أنه حان الوقت لإسقاط شعار “أميركا (أو أيًّا يكن) أولًا”. وكما قال مارتن لوثر كنغ (Luther King) منذ أكثر من نصف قرن: “ربما نكون قد وصلنا جميعًا على متن سفن مختلفة، لكننا في القارب نفسه الآن”.
وشبَّه الكاتب مصير أوروبا في ظل تفشي جائحة كورونا بمصير سفينة الصيد الأميركية “أندريا جيل”(Andrea Gail)(4). إن ثمة علامات، يرى جيجك، تشير إلى أن القارب الذي يسمَّى أوروبا يقترب أكثر بكثير من الآخرين من مصير أندريا جيل؛ ففوق أوروبا تتجمع ثلاث عواصف وتندمج قوتها: وباء الفيروس التاجي في تأثيره البدني المباشر (الحجر الصحي والمعاناة والموت) وآثاره الاقتصادية التي ستكون أسوأ في أوروبا من أي مكان آخر؛ لأن القارة راكدة بالفعل، وهي أيضًا أكثر اعتمادًا من مناطق العالم الأخرى على الواردات والصادرات. أما العاصفة الثالثة في نظر جيجك فيمكن تسميتها “فيروس بوتوغان” (بوتين/أردوغان)؛ ذلك أن الانفجار الجديد للعنف في سوريا بين تركيا ونظام الأسد (المدعوم مباشرة من روسيا) جعل بوتين وأردوغان يستغلان معاناة الملايين من النازحين لمكاسبهم السياسية الخاصة.
ومن الأشياء القليلة الجيدة في الوباء، وفقًا لجيجك، أنه جعلنا ندرك بشدة الحاجة إلى تعاون عالمي. وهذا ما ذهب إليه أيضًا يوفال نوح هراري (Yuval Noah Harari): “يتوجب على البشرية الاختيار: هل سنسير على طريق الشقاق، أم سنسلك مسار التضامن العالمي؟ إذا اخترنا الشقاق، فإن هذا لن يؤدي إلى إطالة أمد الأزمة فحسب؛ بل قد يؤدي كذلك إلى كوارث أشد سوءًا في المستقبل. وإذا اخترنا التضامن العالمي، سيكون نصرًا، ليس على فيروس كورونا فحسب، بل على كل الأوبئة والأزمات التي قد تفتك بالإنسانية في القرن الحادي والعشرين”(5).
لقد تسبَّب الانتشار المستمر لوباء الفيروس التاجي في قَدْح شرارة وباء واسع النطاق من الفيروسات الأيديولوجية، كانت كامنة في مجتمعاتنا: الأخبار المزيفة، ونظريات المؤامرة البارانُووِيَّة، وانفجارات العنصرية. ووجدت الحاجة الطبية المبررة للحجر الصحي صدى في الضغط الأيديولوجي لإنشاء حدود واضحة ولحجر الأعداء الذين يشكِّلون تهديدًا لهويتنا(6).
يأمل جيجك أن يتيح فيروس كورونا انتشار فيروس أيديولوجي آخر وأكثر إفادة فيصيبنا فيروس التفكير في مجتمع بديل، مجتمع ما بعد الدولة القومية، مجتمع يحقق نفسه بأشكال التضامن والتعاون العالميين. وفي هذا الصدد، شخَّص الفيلسوف الفرنسي، إدغار موران (Edgar Morin)، أبعاد الجائحة: “فكونها أزمة كونية، فإنها تسلِّط الضوء على المصير المشترك لجميع البشر المرتبطين بالمصير الطبيعي والبيئي لكوكب الأرض؛ وتفاقم في الوقت نفسه أزمة البشرية التي لم تتمكن من تشكيل نفسها بإنسانية. وكونها أزمة اقتصادية، فإنها تخلخل كل المسلَّمات التي تحكم الاقتصاد وتهدد بأن تتفاقم لدرجة الفوضى والعوز في مستقبلنا. وباعتبارها أزمة وطنية، فإنها تكشف النقاب عن أوجه القصور في سياسة قدمت رأس المال على حساب العمل، وضحَّت بالوقاية والحيطة لزيادة الربحية والتنافسية. وباعتبارها أزمة اجتماعية، فإنها تسلِّط الضوء بشكل كبير على عدم المساواة بين أولئك الذين يعيشون في مساكن صغيرة مكتظة بالأطفال والآباء، وأولئك الذين تمكنوا من الفرار إلى إقاماتهم الثانية المحاطة بالخضرة. وباعتبارها أزمة حضارية، تدفعنا إلى إدراك أوجه القصور في التضامن والتسمم الاستهلاكي الذي طورته حضارتنا، وتدفعنا للتفكير في بلورة سياسة حضارية. وكونها أزمة فكرية، يجب أن تكشف لنا الثقب الأسود الهائل في تفكيرنا، الذي يجعل تعقيدات الواقع الواضحة غير مرئية لنا… ينبغي أن يشجع الحجر الصحي على رفع الحجر عن العقول”(7).
2. كورونا روح جديدة للشيوعية
يعتقد جيجك أن الفيروس التاجي سيجبرنا أيضًا على إعادة اكتشاف الشيوعية على أساس الثقة في الشعب والعلم. ولا يمكننا المضي في الطريق الذي نحن عليه الآن، فالتغيير الجذري مطلوب. وبخصوص الثقة في العلم، يرى موران أن كورونا يشكِّل “فرصة لاستيعاب أنه على النقيض من الدِّين، فإن العلم ليس سجلًا للحقائق المطلقة وإن نظرياته قابلة للتحلُّل تحت تأثير الاكتشافات الجديدة”(8). أما يوفال نوح هراري فيدعونا إلى الثقة كذلك في وسائل الإعلام ويقلب الآية فيطلب من الشعب أن يثق في السلطة: “لتحقيق مستوى من الامتثال والتعاون، فإنك تحتاج إلى الثقة. يتعين على الناس أن يثقوا في العلم، وأن يثقوا في السلطات العامة، وأن يثقوا في وسائل الإعلام. فطوال السنوات القليلة الماضية، تعمَّد السياسيون غير المسؤولين تقويض الثقة في العلم، وفي السلطات العامة، وفي وسائل الإعلام. والآن قد يستسلم الساسة غير المسؤولين أنفسهم لإغراء سلوك الطريق السريع نـحو التسلط، زاعمين أننا لا نستطيع أن نثق في قدرة عامة الناس على القيام بالتصرف السليم”.
ويدرك هراراي أن إعادة بناء هذه الثقة التي تآكلت طوال سنوات لا يمكن أن يحدث بين عشية وضحاها. ولكن هذه ليست أوقاتًا عادية… فبدلًا من بناء نظام رقابة، لم يفت الأوان بعد لإعادة بناء ثقة الناس في العلم، وفي السلطات العامة ووسائل الإعلام(9).
يحثنا سلافوي جيجك على التفكير في الحقيقة المحزنة، وهي أننا بحاجة إلى كارثة حتى نتمكن من إعادة التفكير في الخصائص الأساس للمجتمع الذي نعيش فيه. إن أحد الأسئلة المثيرة للاهتمام التي أثارها وباء كورونا، هو: أين تنتهي البيانات وتبدأ الأيديولوجية؟ وثمة مفارقة تتجلى في هذا المقام وهي أنه: كلما زاد ارتباط عالمنا، يمكن أن تؤدي كارثة محلية إلى إثارة خوف عالمي وفي نهاية المطاف كارثة. ففي ربيع 2010، عطَّلت سحابة منبعثة من ثوران بركاني طفيف في أيسلندا (اضطراب صغير في آلية الحياة المعقَّدة على الأرض) حركة الملاحة الجوية في معظم أوروبا. لقد كان ذلك تذكيرًا قويًّا بحقيقة أنه على الرغم من قدرة البشرية المدهشة على تحويل الطبيعة، فإن البشرية ليست سوى نوع واحد من الكائنات الحية على كوكب الأرض.
إن التأثير الاجتماعي الاقتصادي الكارثي لانفجار طفيف سببه هشاشة تطورنا التكنولوجي (الملاحة الجوية): ولو حدث ذلك قبل قرن من الزمان ما كان ليلاحظه أحد. إن التكنولوجيا تجعلنا، أكثر استقلالية عن الطبيعة من ناحية، ومن ناحية أخرى، أكثر خضوعًا لنزواتها. إن الأمر نفسه يسري على انتشار فيروس كورونا، فلو حدث قبل إصلاحات دينغ شياوبنغ، فربما لم نكن لنسمع به.
من المؤكد، في رأي جيجك، أن العزلة وحدها، وبناء جدران جديدة والمزيد من الحجر الصحي، لن يؤدي المهمة. فالحاجة ماسَّة إلى تضامن كامل غير مشروط واستجابة منسقة عالميًّا، وهو شكل جديد لما كان يُطلق عليه اسم الشيوعية. إذا لم نوجِّه جهودنا في هذا الاتجاه، فقد تكون ووهان اليوم أنموذجًا لمدينة مستقبلنا.
وربما يمكن للمرء أن يأمل في أن تكون إحدى العواقب غير المقصودة للحجر الصحي للفيروس التاجي في المدن في جميع أنحاء العالم هي أن بعض الناس سيستخدمون وقتهم -على الأقل الذي تم تحريره من النشاط المحموم- للتفكير في لا معنى (عبثية) مأزقهم.
ويُمَنِّي جيجك النفس بأن يتحلى بعض الإسرائيليين، في هذا الوقت من العزلة والهدوء القسري، بالشجاعة ليشعروا بالعار من سياسات نتنياهو وترامب باسمهم، وليس بالطبع أن يشعروا بالعار من كونهم يهودًا، بل على العكس من ذلك، الشعور بالعار مما تقترفه السياسة الإسرائيلية في الضفة الغربية في حق التراث الأثمن لليهودية.
ويرى الكاتب أن تكرار وسائل الإعلام بلا نهاية عبارة “لا داعي للذعر!” يتناقض تمامًا مع جميع البيانات التي نحصل عليها، والتي لا يمكن إلا أن تسبِّب الذعر، وأن الوضع يشبه حالة يتذكرها من شبابه في بلد شيوعي، عندما كان المسؤولون الحكوميون يطمئنون الجمهور بانتظام بأنه لا يوجد سبب للذعر. فكان الناس يعدون تلك التطمينات علامة واضحة على ذعر المسؤولين.
إن الذعر ليس الأسلوب المناسب لمواجهة تهديد حقيقي. عندما نأتي رد فعل ونحن في ذعر، فإننا لا نحمل التهديدات على محمل الجد، بل على العكس من ذلك، نحن نستهين بها. فكِّر فقط في مدى سخافة فكرة أن وجود ما يكفي من ورق التواليت سيكون مهمًّا في غمرة وباء مميت. إذن ما هو رد الفعل المناسب لوباء الفيروس التاجي؟ ما الذي يجب أن نتعلمه وما الذي يجب أن نفعله لمواجهته بجد؟
عندما ادَّعى جيجك أن وباء الفيروس التاجي قد ينفخ حياة جديدة في الشيوعية، تعرضت دعواه للتسفيه كما يقول، وعلى الرغم من أن نهج الدولة الصينية تجاه الأزمة قد نجح كما يبدو، أو على الأقل عمل بشكل أفضل بكثير مما يحدث الآن في إيطاليا، فإن المنطق الاستبدادي القديم للشيوعيين في السلطة أظهر أيضًا حدوده بوضوح.
ولكن، إذا لم تكن الشيوعية الصينية هي التي يُبَشِّر بها جيجك، فماذا يعني بالشيوعية؟ لفهم ذلك، يدعونا إلى قراءة الإعلانات العامة لمنظمة الصحة العالمية فحسب، وهذا آخرها:
قال رئيس منظمة الصحة العالمية، تيدروس أدهانوم غيبريسوس (Tedros Adhanom Ghebreyesus): “إن سلطات الصحة العامة في جميع أنحاء العالم لديها القدرة على مكافحة انتشار الفيروس بنجاح، وتشعر المنظمة بالقلق من أن مستوى الالتزام السياسي في بعض البلدان لا يتطابق مع مستوى التهديد. هذه ليست مناورة. هذا ليس وقت الاستسلام. هذا ليس وقت الأعذار. لقد كانت البلدان تخطط عقودًا لسيناريوهات مثل هذه. لقد حان الوقت للعمل وفقًا لتلك الخطط. من الممكن صدُّ هذا الوباء، ولكن من خلال نهج جماعي ومنسق وشامل فحسب يشرك الجهاز الحكومي برمته”.
ولتوضيح فكرته أكثر يضعها في سياق أوسع، فيقول: إن مثل هذا النهج الشامل يجب أن يتجاوز إلى حد بعيد آلية الحكومات التي تعمل بشكل منفرد، وأن تشمل التعبئة المحلية الجهات التي هي خارج سيطرة الدولة وكذلك التنسيق والتعاون الدولي القوي والفعال. كما يجب على الدولة التدخل كما تفعل في ظروف الحرب عندما تكون الحاجة لآلاف البنادق. كما ينبغي أن تسعى للتعاون مع الدول الأخرى، كما هي الحال في حملة عسكرية، يجب تبادل المعلومات وتنسيق الخطط بالكامل. وهذا ما دعا إليه كذلك يوفال نوح هراري: “فمثلما تُؤَمِّم البلدان الصناعات الرئيسة أثناء الحرب، فإن الحرب الإنسانية ضد فيروس كورونا قد تتطلب منَّا “أَنْسَنَة” خطوط الإنتاج الحيوية”(10).
إن وباء الفيروس التاجي لا يشير إلى حدود عولمة السوق فحسب، بل يشير أيضًا إلى الحدود الأكثر فتكًا من الشعبوية القومية التي تصر على السيادة الكاملة للدولة “لقد انتهى الأمر مع “أميركا (أو أيًّا يكن) أولًا!” لأن أميركا لا يمكن إنقاذها إلا من خلال التنسيق والتعاون العالمي. لست طوباويًّا هنا، أنا لا أنشد التضامن المثالي بين الناس، بل على العكس، فإن الأزمة الحالية تُظهر بوضوح كيف أن التضامن العالمي يصب في مصلحة بقاء الجميع وكل واحد منَّا. إن الخيار الذي نواجهه هو البربرية أو نوع من الشيوعية المعاد ابتكارها”.
خصَّص جيجك جزءًا غير يسير من كتابه للسجال مع الفيلسوف اليساري الإيطالي، جورجيو أغامبن (Giorgio Agamben)، الذي تفاعل مع وباء الفيروس التاجي بطريقة مختلفة جذريًّا عن أغلب المعلقين، وشجب تبني إجراءات طوارئ محمومة وغير منطقية وغير مبررة إطلاقًا للتصدي لوباء مفترض، فيروس كورونا، وهو مجرد نسخة أخرى من الإنفلونزا، وتساءل أغامبن: لماذا تبذل وسائل الإعلام والسلطات قصارى جهدها لخلق مناخ من الهلع، مما يثير حالة استثناء حقيقية، مع قيود شديدة على الحركة وتعليق الحياة اليومية وأنشطة العمل في مناطق بأكملها؟
ويرى أغامبن أن السبب الرئيس وراء هذه “الاستجابة غير المتناسبة” في الاتجاه المتزايد لاستخدام حالة الاستثناء كنموذج تحكُّم طبيعي هو أن الإجراءات المفروضة في حالات الطوارئ تسمح للحكومة بتقييد حرياتنا بموجب مرسوم تنفيذي.
من الواضح بشكل جلي، يقول الفيلسوف الإيطالي، أن هذه القيود لا تتناسب مع التهديد الذي تمثِّله، وفقًا لمركز اللاجئين النرويجي، أنفلونزا عادية، ولا تختلف كثيرًا عن تلك التي تؤثر علينا كل عام. قد نقول إنه بمجرد استنفاد الإرهاب مبررًا لاتخاذ تدابير استثنائية، فإن اختراع وباء يمكن أن يقدم الذريعة المثالية لتوسيع نطاق هذه التدابير بما يتجاوز أي قيود. والسبب الثاني هو “حالة الخوف، التي انتشرت في السنوات الأخيرة إلى وعي فردي والتي تترجم إلى حاجة حقيقية لحالات الذعر الجماعي، والتي يقدم الوباء مرة أخرى ذريعة مثالية”.
يصف أغامبن جانبًا مهمًّا من أداء سلطة الدولة في الوباء المستمر، ولكن ثمة أسئلة لا تزال مشرعة: لماذا تهتم سلطة الدولة بتعزيز مثل هذا الفزع الذي يصاحبه عدم الثقة في سلطة الدولة (“إنهم عاجزون، ولا يفعلون ما يكفي…”)، والذي يزعج التكاثر السلس لرأس المال؟ هل من مصلحة الرأسمالية وسلطة الدولة أن تثير أزمة اقتصادية عالمية من أجل تجديد عهدها؟ هل الإشارات الواضحة إلى أن سلطة الدولة نفسها، وليس فقط عامة الشعب، مذعورة أيضًا، مدركة عدم قدرتها على السيطرة على الوضع، هل هذه العلامات هي مجرد خدعة؟
وفقًا لجيجك، فإن رد فعل أغامبن ما هو إلا الشكل المتطرف لموقف يساري واسع الانتشار لقراءة “الذعر المبالغ فيه” الناجم عن انتشار الفيروس باعتباره مزيجًا من ممارسة السيطرة الاجتماعية مقترنة بعناصر العنصرية الصريحة، كما هي الحال عندما يشير ترامب إلى “الفيروس الصيني”. ومع ذلك، فإن مثل هذا التفسير الاجتماعي لا يجعل حقيقة التهديد تختفي. هل يجبرنا هذا الواقع على تقييد حرياتنا بشكل فعال؟ وبالطبع، فإن الحجر الصحي والإجراءات المماثلة تحد من حريتنا. لكن التهديد بالعدوى الفيروسية أعطى دفعة هائلة للأشكال الجديدة من العزلة المحلية والعالمية، وقد أظهر بجلاء الحاجة إلى مراقبة السلطة نفسها. وعن هذه المراقبة للسلطة، يقول يوفال نوح هراري: “إن تكنولوجيا المراقبة نفسها من الممكن استخدامها عادة ليس لمراقبة الأفراد فحسب؛ بل قد يستخدمها الأفراد أيضًا لمراقبة الحكومات”(11).
والناس، في نظر جيجك، على حق في تحميل سلطة الدولة المسؤولية: “لديك القوة، الآن أرنا ما يمكنك القيام به! التحدي الذي يواجه أوروبا هو إثبات أن ما فعلته الصين يمكن أن يتم بطريقة أكثر شفافية وديمقراطية. يجب ألا تُخْتَزَل الإجراءات التي يتطلبها الوباء تلقائيًّا إلى الأنموذج المعتاد للمراقبة والتحكُّم الذي روجَّه مفكرون مثل فوكو. ما أخشاه اليوم أكثر من الإجراءات التي تطبقها الصين وإيطاليا، هو أنها تطبق هذه الإجراءات بطريقة لن تعمل على احتواء الوباء، وأن السلطات ستتعامل مع البيانات الحقيقية وتخفيها.
ربما هذا هو الشيء الأكثر إزعاجًا والذي يمكن أن نتعلمه من الوباء الفيروسي المستمر: عندما تهاجمنا الطبيعة بالفيروسات، فإنها بطريقة ما ترد إلينا بضاعتنا الخاصة، وهي: ما فعلته بي، أفعله بك الآن”.
لا يعتقد سلافوي جيجك أن أكبر تهديد هو الانتكاس نحو البربرية المطلقة، ثم العنف الوحشي من أجل البقاء فضلًا عن الاضطرابات العنيفة… وما إلى ذلك. إن ما يخشاه، أكثر من البربرية المطلقة، هو البربرية بوجه إنساني، وفرض إجراءات قاسية من أجل البقاء، وتُضفَى عليها الشرعية بآراء الخبراء.
وأعرب الفيلسوف السلوفيني عن اختلافه مع جورجيو أغامبن الذي يرى في الأزمة المستمرة علامة على أن مجتمعنا لم يعد يؤمن بأي شيء سوى البقاء على قيد الحياة. فمن الواضح، أن الإيطاليين مستعدون للتضحية عمليًّا بكل شيء -ظروف الحياة الطبيعية والعلاقات الاجتماعية والعمل وحتى الصداقات والعواطف والمعتقدات الدينية والسياسية- لدرء خطر الإصابة بالمرض. إن مجرد البقاء على قيد الحياة -وخطر فقدانها- ليس شيئًا يوحِّد الناس، بل يعميهم ويفصل بينهم.
إن الأمور أكثر غموضًا، يقول جيجك؛ لأن خطر الموت يوحِّد الناس كذلك، فالحفاظ على التباعد الجسدي يعني أنك تُظهر الاحترام للآخر، لأنك قد تكون حاملًا للفيروس.
3. الشيوعية أو البربرية بوجه إنساني
يدعونا جيجك، ونحن عالقون في أزمة ثلاثية، طبية واقتصادية ونفسية، إلى تعلم التفكير خارج إحداثيات سوق الأسهم والربح وأن نجد طريقة أخرى لإنتاج ورصد الموارد اللازمة. وهذا ما يدعونا إليه كذلك إدغار موران: “أرجو أن يمنحنا هذا الوباء الاستثنائي والقاتل الذي نزل بنا، ليس فحسب، الوعي بأننا نؤخذ إلى داخل المغامرة غير المعقولة للبشرية، ولكن أيضًا بأننا نعيش في عالم يتسم بعدم اليقين ومأساوي في الوقت ذاته. إن الاقتناع بأن المنافسة الحرة والنمو الاقتصادي هما البلسم الاجتماعي يواري مأساة التاريخ الإنساني التي يفاقمها هذا الاعتقاد”(12).
ويرى جيجك في العرض الذي قدمه الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، لشركة كيورفاك للتكنولوجيا الحيوية لتأمين لقاح ضد فيروس كورونا لأميركا فقط حالة أنموذجية من الصراع بين الخصخصة/البربرية والجماعية/الحضارة. ومع ذلك اضطر ترامب، في الوقت نفسه، إلى التذرع بقانون الإنتاج الدفاعي للسماح للحكومة بتوجيه القطاع الخاص لزيادة إنتاج الإمدادات الطبية الطارئة، وأعلن عن اقتراح للسيطرة على القطاع الخاص.
هل يمكن للمرء أن يتخيل مثل هذا قبل الوباء؟ وهذه ليست سوى البداية: ستدعو الحاجة إلى تدابير أخرى من هذا النوع. وكذلك التنظيم الذاتي المحلي للمجتمعات إذا انهارت النظم الصحية التي تديرها الدولة تحت ضغط كبير. لا تكفي العزلة والبقاء على قيد الحياة فحسب، وحتى يكون ذلك ممكنًا، سيتعين على الخدمات العامة الأساسية مواصلة العمل: الكهرباء والماء والغذاء والدواء يجب أن تبقى متوافرة.
هذه ليست رؤية شيوعية خيالية، في رأي جيجك، إنها شيوعية تفرضها ضرورات البقاء على قيد الحياة. إنها للأسف نسخة مما أُطلق عليه في الاتحاد السوفيتي عام 1918 اسم “شيوعية الحرب”.
يقول الجميع اليوم إنه سيتعين علينا تغيير نظامنا الاجتماعي والاقتصادي. ولكن، كما لاحظ توماس بيكيتي (Thomas Piketty) في تعليق بصحيفة “لونوفيل أوبسرفاتور” (Le Nouvel Observateur)، فإن ما يهم حقًّا هو: كيف نغيره، وفي أي اتجاه؟ وما التدابير المطلوبة؟
تعرض سلافوي جيجك للسخرية والنقد من طرف آلان باديو (Alain Badiou) وبيونغ تشول هان (Byung-Chul Han) وآخرين كثر، من اليمين واليسار، لمَّا قال مرارًا بحلول شكل من أشكال الشيوعية نتيجة لوباء كورونا. إن الفكرة الرئيسة في خضم الأصوات التي انتقدت جيجك، هي أن الرأسمالية ستعود بشكل أقوى، باستغلال الوباء لتضخيم الكارثة؛ وسنقبل جميعًا بصمت سيطرة أجهزة الدولة على حياتنا بشكل كامل أسوة بالصين باعتبارها ضرورة طبية. لكن جيجك يُحَاجِج منتقديه بأن ما كان يبدو مستحيلًا سابقًا يحدث بالفعل: على سبيل المثال، في 24 مارس/آذار 2020، أعلن بوريس جونسون عن التأميم المؤقت لسكك الحديد في المملكة المتحدة. وأن ما أخبر به جوليان أسانج (Julian Asange) يانيس فاروفاكيس (Yanis Varoufakis) في محادثة هاتفية قصيرة يؤكد هذا: “هذه المرحلة الجديدة من الأزمة، على الأقل، توضح لنا أن أي شيء مباح، وأن كل شيء ممكن الآن”. ويوضح جيجيك أن كل شيء يتدفق في جميع الاتجاهات، من الأفضل إلى الأسوأ. “لذا، فإن وضعنا الآن ذو طبيعة سياسية بعيدة الغور: نحن نواجه خيارات جذرية”.
في ظل هذه الأوضاع يدعونا سلافوي جيجك إلى أن نتبع إيمانويل كانط (Emmanuel Kant)الذي كتب فيما يتعلق بقوانين الدولة: “امتثلْ، لكن فكِّرْ، حافظ على حرية الفكر” نحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى ما أسماه كانط “الاستخدام العام للعقل”(13). من الواضح أن الأوبئة ستعود، مقترنة بالتهديدات البيئية الأخرى، من الجفاف إلى الجراد، لذلك يجب اتخاذ قرارات صعبة الآن.
إن هذه المخاطر التي عدَّدها جيجك أوحت له بفكرة الشيوعية الجديدة. وهي، كما يقول، ليست حلمًا غامضًا، ولكن ببساطة مسمى لما يحدث بالفعل (أو على الأقل ينظر إليه الكثيرون على أنه ضرورة)، وهي تدابير يجري النظر فيها بالفعل وحتى فرضها بشكل جزئي. إنها ليست رؤية لمستقبل مشرق ولكن “شيوعية الكوارث” بوصفها ترياقًا لرأسمالية الكوارث. لا ينبغي للدولة أن تضطلع فحسب بدور أكثر نشاطًا، وتنظيم إنتاج الأشياء التي نحن في أمسِّ الحاجة إليها مثل الأقنعة، ولوازم الفحص وأجهزة التنفس، ومصادرة الفنادق والمنتجعات، وضمان الحد الأدنى لبقاء جميع العاطلين الجدد، وما إلى ذلك، إنما القيام بكل هذا عن طريق التخلي عن آليات السوق.
كما سيتعين على النظام الصحي المؤسسي الاعتماد على مساعدة المجتمعات المحلية لرعاية الضعفاء والكبار. وبالمقابل، سيتعين إقامة نوع من التعاون الدولي الفعال لإنتاج وتقاسم الموارد. إن هذه التطورات هي ما يقصده جيجك عندما يتحدث عن “الشيوعية”، ولا يرى أي بديل عنها سوى البربرية الجديدة. مع أنه لا يستطيع أن يقول إلى أي مدى ستتطور، لكنه، يعرف، فحسب، أن الشعور بالحاجة إليها يحصل بشكل عاجل في كل مكان، ويجري إعمالها، كما رأينا من طرف سياسيين مثل بوريس جونسون، وهو ليس شيوعيَّا بالتأكيد. ويذهب الكاتب إلى أن الخطوط التي تفصلنا عن البربرية تُرسَم بشكل أكثر وضوحًا.
إن ما يجري حاليًّا شيء نعده مستحيلًا، يؤكد سلافوي جيجك؛ فالإحداثيات الأساسية لحياتنا الطبيعية تختفي. كان رد فعلنا الأول على الفيروس هو النظر إليه على أنه مجرد كابوس سنستيقظ منه قريبًا. الآن نعلم أن هذا لن يحدث، سيتعين علينا أن نتعلم كيف نعيش في عالم فيروسي، يجب إعادة بناء طريقة جديدة للعيش بما ينطوي عليه ذلك من ألم.
وذهب سلافوي جيجك إلى أن الجائحة جعلت عجز السلطة مكشوفًا، وجعلت المسؤولين عن الدولة يشعرون بالذعر؛ لأنهم لا يعلمون أنهم لا يسيطرون على الوضع فحسب، ولكن أيضًا أننا، رعاياهم، نعرف ذلك.
وعلى الرغم من أن مَنْ هم في السلطة يحاولون جعلنا مسؤولين عن نتيجة الأزمة، ويصرون على أننا مسؤولون بشكل فردي عن الحفاظ على مسافة مناسبة من بعضنا البعض، وغسل أيدينا، وارتداء قناع وما إلى ذلك، فإن الحقيقة هي بالضبط على النقيض من ذلك. إن رسالتنا نحن الرعايا، إلى سلطة الدولة هي أننا سوف نتبع أوامرك بكل سرور، لكنها أوامرك، ولا يوجد ضمان أن طاعتنا لهم ستنجح نجاحًا كاملًا.
ويسائل سلافوي جيجك أولئك الذين يحذرون من أن سلطة الدولة تستخدم الوباء ذريعة لفرض حالة طوارئ دائمة، عن الترتيبات البديلة التي يقترحونها. ويرى أن الذعر الذي يرافق رد فعلنا على الوباء ليس شيئًا دبَّره أولئك الذين في السلطة، فبرغم كل شيء، لماذا يخاطر رأس المال الكبير بأزمة ضخمة من هذا النوع؟ لكن التركيز شبه الحصري على الفيروس التاجي في وسائل إعلامنا لا يعتمد على حقائق محايدة، فمن الواضح أنه يعتمد على خيار أيديولوجي. وفي هذا المقام ربما يمكن للمرء أن يسمح لنفسه بنظرية مؤامرة بسيطة.
ماذا لو كان ممثلو النظام الرأسمالي العالمي الحالي على دراية، بطريقة ما، بما يشير إليه المحللون الماركسيون النقديون منذ فترة: أن النظام كما نعرفه في أزمة عميقة، وأنه لا يمكن أن يستمر بشكله الليبرالي القائم المتساهل. ماذا لو كان هؤلاء الممثلون يستغلون الوباء بلا رحمة من أجل فرض شكل جديد من الحكم؟! والنتيجة الأكثر احتمالًا للوباء هي أن الرأسمالية البربرية الجديدة سوف تنجح. سيتم التضحية بالعديد من كبار السن والضعفاء ويُتركوا ليموتوا؛ سيتعين على العمال قبول مستوى معيشي أقل بكثير؛ سيظل التحكم الرقمي في حياتنا سمة دائمة؛ سوف تصبح الفروق الطبقية على نحو متزايد مسألة حياة أو موت. إلى أي مدى ستبقى الإجراءات الشيوعية التي يضطر أصحاب السلطة إلى اتخاذها الآن؟
وفي الأخير، يدعونا جيجك لئلا نضيع الكثير من الوقت في التأملات الروحية للعصر الجديد، في كيف “ستمكِّننا أزمة الفيروس من التركيز على ماهية حياتنا حقًّا؟”. سيكون الصراع الحقيقي حول الشكل الاجتماعي الذي سيحل محل النظام العالمي الجديد الرأسمالي الليبرالي، وهذا هو موعدنا الحقيقي في سامراء.
إن هذا الموعد الذي يدعو جيجك البشرية إليه في سامراء يبدو أنها ستُخْلِفه، وأن ما جاء به من قرائن تدل على أنها تسير في اتجاه الشيوعية التي يُبَشِّر بها، ثمة أضعاف مضاعفة من القرائن تشي بأنها تصرفت وتتصرف على النقيض مما يراه حتمية تتجه البشرية نحوها. وهذا ما يؤكده يوفال نوح هراري الذي يقول: إن المجتمع الدولي أصابه شلل جماعي، وكان المرء يتوقع أن يرى اجتماعًا لزعماء العالم لوضع خطة عمل مشتركة، وإن مؤتمر الدول السبعة بالفيديو انفضَّ دون أن يسفر عن أية خطة(14).
هل كان للمرء أن يتصور تخلي الاتحاد الأوروبي على أحد أعضائه المؤسسين، وهو إيطاليا، ويتركه فريسة للجائحة، وأغلقت دول الاتحاد حدودها، وأكثر من هذا يسرق بعضها بعضًا، في حين نجد دولًا من خارج أوروبا، مثل قطر والصين..، تمد يد العون إلى إيطاليا.
إن الإجراءات التي اتخذتها بعض الدول ورأى فيها جيجك تجسيدًا للشيوعية التي يُبَشِّر بها، إجراءات مؤقتة تقتضيها ظروف الأزمة، ولن تستمر. ولا يوجد ما يوحي بأنها ستستمر. إن البشرية تعيش مرحلة من عدم اليقين، وفقًا لإدغار موران، ستضطر معها إلى إعادة النظر في الكثير من المسلَّمات، لكنها لن تتجه نحو الشيوعية التي يُبَشِّر بها جيجك، فحاله كحال دون كيشوت (Don Quixote) يحارب طواحين الرأسمالية، بدل طواحين الهواء، بفكرة كانت مثالية فصرعها الواقع.
بينما يرى سلافوي جيجك، وهو يتحدث بلسان الواثق، حتمية الشيوعية لخلاص البشرية من جائحة كورونا، يدعونا إدغار موران إلى “إنسانية متجددة”، لكن بإثارة كثير من الأسئلة النابعة من مرحلة عدم اليقين التي تمر بها البشرية، وستحدد طبيعة الإجابة عن هذه الأسئلة المصير الذي اختارت البشرية التوجه نحوه: “ما الذي سنتعلمه -نحن المواطنين- من تجربة الحجر الصحي؟ وما الذي ستتعلمه السلطات العمومية؟ هل سنتعلم القليل؟ وهل سننسى كل شيء؟ هل ستكون نهاية الحجر الصحي بداية الخروج من الأزمة الكبرى أم بداية تفاقمها؟ هل ستكون طفرة أم ركودًا أم أزمة اقتصادية ضخمة أم أزمة غذاء عالمية؟ هل ستكون استمرارًا للعولمة أم انكفاء للاكتفاء الذاتي؟
هل ستتعزز مظاهر التضامن، التي كان لا حصر لها ومتفرقة قبل انتشار الوباء؟ هل سيستأنف الخارجون من الحجر الدورة الخدَّاعة والمتسارعة والأنانية والاستهلاكية أم ستزدهر من جديد حياة الود والمحبة نحو حضارة تتكشف فيها شاعرية الحياة، ويُزهر فيها “الأنا” في “النحن”؟
لا يمكننا أن نعرف ما إذا كانت السلوكات والأفكار المبتكرة ستكتسب زخمًا بعد الحجر، ولا نعلم ما إذا كانت ستحدث ثورة في السياسة والاقتصاد، أم أن النظام المترنح سيستعيد توازنه. يمكننا أن نخشى بشدة من تراجع عام كالذي حدث بالفعل خلال العشرين عامًا الأولى من هذا القرن (أزمة الديمقراطية، والفساد، والديماغوجية المنتصرة، والأنظمة الاستبدادية الجديدة، والنزعات القومية والمعادية للأجانب والعنصرية). تبقى كل هذه النكسات (والركود في أحسن الأحوال) واردة طالما لم يتبلور المسار السياسي-الإيكولوجي-الاقتصادي-الاجتماعي الجديد الذي تحكمه إنسانية متجددة. وهذا من شأنه مضاعفة الإصلاحات الحقيقية، التي ليست مجرد تخفيضات في الميزانية، بل هي إصلاحات في الحضارة والمجتمع مرتبطة بإصلاحات في الحياة”(15).
يبدو أن كتاب جيجك جُمع على عجل، ويظهر ذلك من أحد التعبيرات الصحافية: “قال رئيس منظمة الصحة العالمية… يوم الخميس …”. ولا أدري كيف سمح جيجك، الفيلسوف، لنفسه بالاقتباس من موسوعة ويكيبيديا، والتي يُمنَع على تلاميذ الابتدائي الاعتماد عليها. فقد نقل منها قصة “موعد في سامراء”، وهي من قصص ألف ليلة وليلة، وقد اقتبس هذه القصة سومرست موم، وغارسيا ماركيز. كما سمح جيجك لنفسه بتوظيف عبارة نابية لا يقتضيها السياق.
في المقال الخامس بعنوان “المراحل الخمسة للجوائح”، اقتبس جيجك أنموذج كوبلر (نسبة إلى إليزابيث كوبلر روس “Elisabeth Kubler Ross”)، المسمى “المراحل الخمسة للصدمة”(16)، لتفسير رد فعلنا على جائحة كورونا، وكان قد وظفه من قبل في كتابه:“Against the Double Blackmail: Refugees, Terror and Other Troubles with the Neighbors” على رد فعل أوروبا تجاه معضلة اللاجئين، علمًا بأن الفروق بين النازلتين تبدو لكل ذي عينين.
يُحسَب لسلافوي جيجك أنه حاز قصب السبق في تناول جائحة كورونا؛ لأنه مهموم بتحديات الواقع الراهن، ما يجعله يتابع تطوراته عن كثب ولا يدع قضية إلا ويدلو فيها بدلوه ويبدي فيها رأيه. وتتوزع إسهاماته بين الكتاب والمقالة، والمناظرة(17)، والمحاضرة، والفيلم الوثائقي(18).
معلومات عن الكتاب
عنوان الكتاب: جائحة كوفيد-19 تَرُجُّ العالم
Pandemic!: COVID-19 Shakes the World
المؤلِّف: سلافوي جيجك Slavoj Žižek))
مراجعة: الحاج محمد الناسك
دار النشر: أور بوكس (OR Books)
تاريخ النشر: 2020
اللغة: الإنجليزية
الطبعة: الأولى
عدد الصفحات: 146
نشرت هذه الورقة في العدد السابع من مجلة لباب، للاطلاع على العدد كاملًا (اضغط هنا)
محمد الناسك
باحث في مركز الجزيرة للدراسات.
مراجع
(1) Christopher Kul-want & Piero, Introducing Slavoj Žižek, Kindle Edition (London: Icon Books Ltd, 2012).
(2) Slavoj Žižek, Pandemic! COVID-19 Shakes the World, Kindle edition (London, New York: OR Books, 2020).
يقول الفيلسوف الفرنسي إدغار موران جوابًا عن هذا السؤال: “تسببت استراتيجية الإنتاج المبرمج، التي عوضت استراتيجية التخزين، في كثير من البلدان، من بينها فرنسا، في حرمان نظامنا الصحي من الأقنعة الطبية ومعدات الفحص وأجهزة التنفس الاصطناعي، زد على ذلك العقيدة الليبرالية التي أضفت الطابع التجاري على المستشفى وقلَّصت موارده، ما أسهم في المسار الكارثي للوباء”.
(3) Edgar Morin, Un festival d’incertitudes, Collection Tracts, Série Tracts de crise (no 54), Gallimard, (April 21, 2020): 4.
(4) للتوسع في قصة غرق هذه السفينة، انظر:
Sebastian Junger, The Perfect Storm: A True Story of Men Against the Sea (Norton & Company, 1997).
وقد حوَّل المخرج ولفغانغ بيترسون (Wolfgang Petersen)هذا الكتاب إلى فيلم سينمائي في سنة 2000 بالعنوان نفسه.
(5) Yuval Noah Harari, “The world after coronavirus, Financial Times,” March 19, 2020, “accessed, June 20, 2020”. shorturl.at/jrFG1.
(6) يقصد المهاجرين. للاستزادة، انظر للمؤلِّف:
Slavoj Žižek, Against the Double Blackmail: Refugees, Terror and Other Troubles with the Neighbors (Penguin Press, 2017).
وقد تطرق في هذا الكتاب لمسألة الهجرة والهوية الأوروبية.
(7) Morin, Un festival d’incertitudes, op. cit, 11-12.
(8) Ibid, 6.
(9) Harari, The world after coronavirus, op. cit.
(10) Ibid.
(11) Ibid.
(12) Morin, Un festival d’incertitudes, op. cit, 9.
(13) يرى إيمانويل كانط في مقاله الشهير “ما الأنوار؟” أن نشر الأنوار لا يحتاج سوى الحرية، ويعني بذلك حرية المرء في استعمال عقله استعمالًا عموميًّا في كل المجالات، وهذا الاستعمال ينبغي أن يكون دائمًا حرًّا، ولا يمتثل المرء لنداء “لا تفكر” الذي يأتيه من كل حدب وصوب: فالضابط يقول: “لا تفكر، بل قم بالتمارين!”، وجابي الضرائب يقول: ” لا تفكر، بل ادفع!”، والكاهن يقول: “لا تفكر، بل آمن!” (لا يوجد في العالم سوى سيد واحد يقول: “فكر كيف تشاء وفيما تشاء، إنما أطع!). إن هذا الاستعمال العمومي للعقل، يقول كانط، هو وحده القادر على نشر الأنوار بين الناس، بينما الاستعمال الخاص قد يكون في حالات عدة مقيدًا بشكل صارم، وهذا لا يعيق بوجه خاص تقدم الأنوار، ويقصد باستعمال المرء عقله الخاص استعمالًا عموميًّا أنه يستعمل عقله بوصفه مفكرًا أمام جمهور يتكوَّن بأكمله من عالم القرَّاء. ويسمي كانط استعمالًا خاصًّا ذلك الاستعمال للعقل من طرف المرء الذي يتولى مسؤولية أو وظيفة، وفي هذه الحالة ثمة آلية ضرورية تفرض على بعض أفراد الجماعة أن ينقادوا تمامًا، لخدمة الغايات العامة أو على الأقل عدم إفسادها، فلا مجال للتفكير، إنما للطاعة فحسب.
Immanuel Kant, “An Answer to the Question: ‘What is Enlightenment?’,”.
(14) Harari, the world after coronavirus, op. cit.
(15) Morin, Un festival d’incertitudes, op. cit, 14-15.
(16) عندما يصاب الإنسان مثلًا بمرض عضال أو يفقد قريبًا، أو حبيبًا، أو ثروة. وهذه المراحل هي: الإنكار، والغضب، والمساومة، والاكتئاب، والقبول. انظر:
“On Death and Dying” By Elisabeth Kubler-Ross.
(17) يمكن متابعة ما يسمى بمناظرة العصر:”Happiness: Capitalism vs. Marxism” بين جيجك وجوردن بيترسون (Jordan Peterson)، على الرابط الآتي: https://bit.ly/2Z5UXTp
(18) يمكن مشاهدة فيلم “The Pervert’s Guide to Ideology” الذي كتب قصته جيجك وكان الشخصية الرئيسة فيه، وأخرجته صوفي فينيس (Sophie Fiennes).
——————————–
وماذا بعدُ؟… معالمُ من عصر ما بعد الجائحة/ لطفية الدليمي
ماذا عن عصر ما بعد الجائحة الكورونية الراهنة؟ ربما يكون هذا السؤال هو الأكثر أهمية في سلسلة الأسئلة الاستحواذية، التي يتفكّر بها علماء المستقبليات وراسمو السياسات الاستراتيجية على مستوى العالم بأكمله. سأترسّمُ في الحيثيات التالية بعضاُ من المشهديات أو القراءات الفكرية، لجملةٍ من الموضوعات التي تستوجب إلقاء الضوء عليها لأهميتها في توصيف عصر ما بعد الجائحة :
ـ نهاية عصر الأنثروبوسين والشروع ببواكير عصر النوفاسين :
ليست آثار ونتائج الجائحة الكورونية كلها موتاً ودماراً وخراباً وصوراً كئيبة؛ بل أن لها بعض الجوانب الإيجابية المحمودة، ومن أهمّها التسريع بتنفيذ بعض المشروعات، التي ظلّت رهينة التنفيذ المستقبلي بسبب نقص الجرأة والدافعية لتنفيذها. ستشهد السنوات القليلة المقبلة الخطوات الأولى لولوج حقبة الأنسنة الانتقالية التي ستأذن بنهاية عصر الأنثروبوسين Anthropocene (وهو عصر صارت فيه السلوكيات البشرية ذات مفاعيل – إيجابية وسلبية – مؤثرة في الطبيعة). ومقدم عصر النوفاسين Novacene وهو عصر الذكاء الفائق الذي سيغدو فيه الإنسان البيولوجي مدعماً بالوسائط الميكانيكية والإلكترونية، وفقاً لتعريف عالم المستقبليات الأمريكي جيمس لفلوك.
2 ـ صعود العلم وانكفاء السياسة:
سيتيحُ انكفاء الجائحة الكورونية إمكانية غير مسبوقة في إعلاء شأن العلم، باعتباره ممارسة بشرية ذات وجهين: وجه براغماتي يسعى لتحسين حياة الإنسان على الأرض، وإمداده بالوسائل العملية القادرة على مضاعفة قدراته وسعادته، ووجه أخلاقي يقوم على إعلاء النزاهة والبحث الدؤوب، واعتماد النزعة الشكوكية في مقاربة المعضلات الوجودية، وعدم الارتكان لوجهة نظر واحدة أو رؤية محددة.
كلنا نعرف أن السياسيين مقامرون بصيغة أو بأخرى: هم يفضّلون النتائج السريعة التي يجتنون منها مكسباً على الجهود طويلة الأجل، التي تتطلّب تضحيات بالمواقف الآنية، وقد أبانت الجائحة الكورونية أنّ هذه البراغماتية السياسية البشعة، التي ولو كنّا ارتضيناها من قبل على مضض، فلن يكون مقبولاً الإبقاء عليها في مقبلات الأيام. من جانب آخر لابد لنا من إشاعة الاهتمام بالعلم والسياسات العلمية على أوسع نطاق، بعد أن أثبت العلم أنه مقاربتنا الوحيدة للتعامل المعقلن مع الطبيعة والكشف عن القوانين الحاكمة لعالمنا الفيزيائي، وسيتبع هذا الاهتمام غير المسبوق نكوص الأصوليات (الدينية والأيديولوجية) التي تعتمد اليقين مقابل الفكر الشكوكي، الذي يسمُ الفكر العلمي، وقد عبّر بروفيسور الفيزياء النظرية جم الخليلي، عن هذه الحقيقة بطريقة رائعة عندما كتب في مقالة حديثة له بعنوان «شكّ العلماء ويقين السياسيين» نشرها في صحيفة «الغارديان» البريطانية: «لم يكن هناك في يومٍ ما هو أكثر أهمية من إشاعة الفهم الخاص بكيفية عمل العلم: في السياسة يُنظرُ إلى الاعتراف بارتكاب خطأ ما على أنّه شكل من أشكال الضعف والوهن؛ في حين أنّ الأمر معاكسٌ لهذا تماماً في العلم، حيث يكون ارتكاب الأخطاء حجر الزاوية في المعرفة. إنّ استبدال النظريات والفرضيات القديمة بأخرى أكثر حداثة ودقّة، هو أمرٌ يتيحُ لنا اكتساب فهمٍ أعمق للمادة العلمية موضوع البحث، وفي الوقت ذاته نحنُ (أي العلماء) نطوّرُ نماذجنا الرياضياتية، ونشكّلُ تخميناتنا تأسيساً على البيانات والشواهد المتوفّرة لنا. بقدر ما يختصُّ الأمر بشيء جديد على شاكلة فيروس الجائحة الكورونية، فقد شرعنا من خط بداية واطئ من المعرفة، وكلما راكمنا المزيد من البيانات الجديدة، فإنّ نماذجنا وتخميناتنا ستستمرُّ في التطوّر والتحسّن» ثم يختتم مقالته بالعبارات المشرقة التالية: «إذا كنّا نتطلّعُ بحقّ لتجاوز معضلة الجائحة الفيروسية الراهنة، فيتوجّبُ علينا جميعاً أن نمتلك فهماً أساسياً للكيفية التي يعمل بها العلم، فضلاً عن امتلاك القدرة على الإفصاح بأننا (وفي خضمّ أزمة كبيرة مثل الجائحة الحالية) إذا ما أبدينا شكوكنا (إزاء نظرياتنا وسلوكياتنا العلمية الراهنة) عوضاً عن التظاهر باليقين، فإنّ هذا الأمر هو مصدر قوة لنا».
3 ـ خدعة هشاشتنا البشرية :
لعلّ عبارة (الهشاشة البشرية) هي أكثر العبارات التي تشيع في ظروف المعضلات الوجودية الكبرى، ويعمد المنافحون عنها إلى وضعها في سياق لاهوتي يشي بالمقدرة الكونية الفائقة والساحقة إزاء القدرة البشرية، وبما يؤكّد ضآلة الكائن البشري وتفاهته، وعدم تفكّره في هذه الحقيقة، إلا عند الجائحات التي تقرّبه من حقيقة موته المحتّم، وممّا يفاقم من حدّة هذه الهشاشة المزعومة الترديد الببغاوي لأسئلة من نمط: كيف يمكن لفيروس لا يرى بالعين المجرّدة أن يقتل إنساناً مدججاً بكلّ القدرات العلمية والتقنية الهائلة؟ واضحٌ أنّ من يطرحُ أسئلة بهذه الصياغات القصدية الملغّمة، إنما يمرّرُ فكرة مضمرة قوامها فكرة العقاب الأبدي الذي يستحقه الكائن البشري.
ليست الهشاشة البشرية عيباً أو منقصة: قد يشعر الإنسان بهشاشته في مواقف وجودية بعينها، وهو يواجه حقائق الموت والشيخوخة والمرض والعجز وفراق من يحب، إلخ غير أن هذا لا يلغي القدرات العظيمة المخبوءة في روح الإنسان، التي تتحفّز على نحوٍ غير مسبوقٍ متى ما استشعرت عوامل الخطر؛ وعليه فإنّ المنافحين عن فكرة الهشاشة البشرية، ليسوا سوى كائنات تتلذذ برؤية الإنسان محطّماً كسير الجناح، لتمرير أجنداتها التي تنشد مراكمة المكاسب على حساب معاناة البشر وموتهم، وتهشيم روح العنفوان والابتكار لديهم.
4 ـ نكوص الفكر الرغائبي والسرديات الكبرى :
تشيع في أيامنا الموبوءة بالجائحة الكورونية أفكار لا تعدو أن تكون تمثلات لفكر رغائبي Wishful Thinking يشيعه بعض أقطاب الفكر العالمي، تشومسكي مثالاً: انهيار الإمبراطورية الأمريكية، تصدّع التكتلات الكبيرة (الاتحاد الأوربي على سبيل المثال) وإعادة إحياء الدولة القومية المدعمة بصبغة دينية (على شاكلة الاتحاد الروسي) صعود الإمبراطورية الصينية كقطب أوحد بديل للقطب الأمريكي، إلخ. قد يحصل شيء من هذا في السنوات أو العقود القليلة المقبلة؛ لكنه لن يتخذ سمة السردية الكبرى (على شاكلة نهاية التأريخ) بقدر ما سيكون انعطافة هادئة تمليها ضرورات براغماتية لا أيديولوجية. الفكر الرغائبي والتمسّك بالسرديات الكبرى الجامعة المانعة ليس سوى خصيصة لصيقة بالعقل العاجز عن الفعل المشهود على الأرض.
5 ـ إعادة هيكلة التعليم والسياسات التعليمية:
من المتوقع أن هذا يكون التغيير الجذري الذي سيطالُ التعليم في السنوات القليلة المقبلة، هو المَعْلَمُ الأعظم الذي سيسودُ حياتنا في عصر ما بعد الجائحة الكورونية، وسيمثّلُ هذا التغيير بداية سلسلة ممتدة من التطويرات الثورية على جميع الأصعدة، وبخاصة في ميدان مغادرة المرجعية القائمة على الثنائية الأزلية (المعلّم/ المتعلّم) لصالح منظومات تعليمية يكون فيها المتعلّم مرجعية لذاته، يعرفُ متطلباته وكيفية التعامل معها، بطريقة كفوءة تختصر الكثير من الوقت والجهد والمال والموارد البشرية. أصبحت البرامج التعليمية الرقمية المجانية في السنوات الأخيرة معْلَماً أساسياً من معالم التعليم في عصرنا الحديث؛ فثمة برامج مهمة أذكر منها برنامجين مميزين هما الأكثر فرادة بين برامج التعليم الرقمي، من حيث مفردات البرامج والمنصات التفاعلية، والجهات الأكاديمية التي تدير هذه البرامج: البرنامج الأول هو ( Edx ) الذي يديره معهد ماساتشوستس التقني MIT وجامعة هارفارد، والبرنامج الثاني فهو Coursera الذي تديره جامعة ستانفورد إلى جانب جامعات عالمية مشهود لها بالرصانة العلمية. تُنشر بين حين وآخر تقارير إحصائية لبيان أعداد المستفيدين من هذه البرامج التعليمية، ويُلاحظ أن الصينيين والهنود وبعض أبناء جنوب شرق آسيا يأتون في طليعة المستفيدين من هذه البرامج الدراسية، وبخاصة في موضوعات الرياضيات والفيزياء والبرمجة الحاسوبية ولغات البرمجة وتعلّم اللغات الأجنبية (خاصة الإنكليزية)؛ الأمر الذي يكشف أن هؤلاء يعدّون العدّة منذ وقت مبكر في حياتهم، لترسيم صورة المستقبل الذي يريدونه لأنفسهم، وبخطوات محسوبة بدقة ووعي، وفي العادة يرى هؤلاء في تلك البرامج الدراسية كنزاً ثميناً عليهم الاستفادة منه إلى أبعد الحدود الممكنة، وليس غريباً أن نقرأ بصورة دورية عن شباب آسيويين يافعين في حدود العاشرة من أعمارهم – أو أكثر بقليل – وقد أكملوا برامج دراسية علمية وتقنية تكفي للحصول على درجة البكالوريوس بتفوق، وربما حتى الماجستير في أحيان أخرى.
6 ـ الثقافة البيئية ستكون عنصراً جوهرياً في رسم السياسات العامة:
قد يسمع الكثيرون – وهم غير مكترثين – بمفردات من قبيل: الاحترار العالمي، ارتفاع نسبة ثاني أوكسيد الكربون في الجوّ، ظاهرة غازات الدفيئة، ظاهرة النينيو، إلخ، ولا يكاد يرفّ لهم جفن، والحقّ أن تقصيراً معيباً يسمُ سلوكيات الأفراد إزاء هذه الظواهر، فضلاً عن ثقافتهم العامة في الموضوعات البيئية؛ إذ على الرغم من كثرة المواد الإخبارية والإعلامية بشأن التغيّرات المناخية الشاذة، فلا يبدو ثمة بديل عن جهد فرديّ مواظب لمعرفة أدقّ تفاصيل هذه الظواهر ومساءلة الوسائل التي تمكن الفرد من المساهمة في تقليل آثارها المهلكة، والفعل الجاد – كما نعلم- يأتي لاحقا للمعرفة الرصينة بكلّ أبعاد الموضوع، وإلى حد معقول بالنسبة للمواطنين من غير المتخصصين.
قد يظن البعض بأنّ ظواهر غريبة مثل هذه تستلزم جهودا عالمية وقدرات حكومية ضخمة، ولن يكون دور الأفراد مؤثّرا فيها؛ غير أن هذا خطأ كبير يُراد منه التعتيم على دور الأفراد، وعلينا ألاّ ننسى التأثير الجمعي للكتلة البشرية التي تتجاوز السبعة مليارات نسمة، أما ماذا يسع الفرد أن يفعل في هذا الشأن، فذاك موضوع قراءة اختصاصية، ولكن لا بأس من ذكر القليل المؤثر منها: ضبط استهلاك المياه، تقليل استخدام المحروقات العضوية، المساهمة في زيادة رقعة المساحات الخضراء، ترشيد استهلاك الطاقة الكهربائية، إلخ.
لم يعد الخوض في الموضوع البيئي ترفا، خاصة في أعقاب الجائحة الكورونية؛ فقد تنبّهت أغلب البلدان – المتقدمة والتي في طور الارتقاء – إلى خطورة هذه الظاهرة التي ستؤثر على مجمل السياسات العالمية في السنوات القليلة المقبلة، وبلغ الأمر حدّ اعتماد ما يسمّى (الثقافة البيئية) التي تعدّ اليوم فرعاً حيويّاً ضمن السياسات الثقافية، ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل بلغ حدوداً أكبر تتغلغل في معظم المفاصل الحياتية للمجتمع، وأذكر، على سبيل المثال، أنّ نوعاً أدبياً روائياًأصبح يدعى الرواية البيئية، نال حظوة كبيرة في السنوات الماضية وظهرت روايات كثيرة جعلت البيئة ثيمة رئيسية لها، هذا فضلاً عن الاهتمام التعليمي منذ المراحل المبكرة بتعليم الموضوعات البيئية، بسبب المعرفة الاستباقية بخطورة الموضوع وجوهريته لبقاء الجنس البشري واستدامة عناصر ديمومته الحيوية.
نحن على أعتاب كارثة بيئية خطيرة ومدمرة ستتفاقم مفاعيلها في السنوات القليلة المقبلة، وما لم نحشّد كلّ الجهود الفردية والحكومية لمواجهتها، فسنكون بمواجهة مشهد قيامي مريع في القرن الحادي والعشرين.
7 ـ مستقبلنا البشري يعتمدُ على سياسات إنسانية تشاركية بدلاً من سياسات القطائع الأيديولوجية والاقتصادية:
لا يمكننا نكران حقيقة أنّ الجائحة الكورونية انطوت على الكثير من التضحيات البشرية والخسائر المادية؛ لكنها تذكرة لنا بضرورة اعتماد سياسات تشاركية أوسع على الصعيد العالمي بدلاً من تكريس حالة القطائع الأيديولوجية والسياسات الأنانية الضيقة. كلنا بشر نستوطن كوكباً ليس سوى (نقطة زرقاء شاحبة) في الفضاء الكوني الشاسع، حسب توصيف كارل ساغان، وعلينا تقع مهمة حمايته وتوريثه بصورة مقبولة للأجيال اللاحقة. لنُصغِ ملياً إلى هذه الكلمات النبوئية المليئة بالحكمة المعتّقة وهي تردُ على لسان أحد حكماء (غوروهات) القرن العشرين، بيتر مدوّر Peter Medawar : «الأجراس التي تقرعها البشرية هي في معظمها مثلُ الأجراس المعلّقة في رقاب الماشية التي ترعى على مقربة من سفوح جبال الألب؛ فهي معلّقةٌ في رقابنا نحنُ سكّان هذا الكوكب، وسيكون بالضرورة خطأنا غير المغتفر، إذا ما أطلقت تلك الأجراس أصواتاً ناشزة لا تبعث على البهجة».
٭ كاتبة وروائية ومترجمة عراقية مقيمة في الأردن
القدس العربي
========================
========================
تحديث 09 تشرين الأول 2020
———————————-
كيف سنواجه الموجة الثانية من كورونا في منطقتنا؟/ عبد الله شاهين و تيسير الكريم
تشير ظاهرة «الموجة الثانية» -التي تملأ التقارير الإخبارية- إلى تجدّد حدوث ارتفاع مطّرد في عدد حالات الإصابة بفيروس كورونا المستجد. تمّ تعريف هذه الظاهرة بشكل متضارب وفضفاض في الأدبيات الطبيّة، وتشير الظاهرة عموماً إلى زيادة عدد الإصابات بعد الانخفاض الأولي في عدد الحالات ضمن مجموعة سكانية محددة جغرافياً (قرية أو ضاحية). حيث يتم اعتبار كل دورة من زيادة الحالات «موجة». وتعتبر جائحة انفلونزا H1N1 التي اجتاحت العالم ما بين عامي 1918-1919 مثالًا كلاسيكيًا على هذه الظاهرة. ونظراً لأوجه التشابه في عالمية تلك الجائحة والأعراض وطرق الانتقال؛ فإنّه كثيراً ما تتم مقارنة جائحة كوفيد-19 (COVID-19) بجائحة الأنفلونزا عام 1918. بدأ انتشار ذلك التفشي في ربيع عام 1918، وتبعه ظهور الموجة الثانية -والتي كانت الأكبر والأكثر فتكًا- في خريف عام 1918، وسُجّلت الموجة الثالثة في ربيع عام 1919. أصابت تلك الجائحة المعروفة باسم «الأنفلونزا الإسبانية» ثلث سكان العالم (حوالي 500 مليون من 1.6 مليار نسمة).
تعريف «الموجة» في ظل جائحة كورونا صعب التأطير. قد يعكس التغيّر في عدد الحالات هبوطاً مستمراً بعد وصولها الذروة، والزيادة التي قد تتبع الهبوط الأوّلي يمكن أن يُشار إليها على أنها ذروة أخرى. إلا أنّ التفاوت في معدلات الإصابات الجديدة مرتبط بعوامل أخرى؛ منها ما هو خاص بالجرثومة (على سبيل المثال: الأنفلونزا موسمية، وتحدث في فصل الشتاء بشكل أساسي)، ومنها ما هو مرتبط بالقدرة على التشخيص والتتبع (الزيادة في عدد الفحوصات المُجراة والتحسن في قدرة القطاع الصحي على تتبّع الحالات). لم يشهد العالم موجة عالمية واحدة من فيروس كورونا المستجد، بل إنّ الفيروس ينتقل -بسرعات مختلفة- من مكانٍ إلى آخر. كما أنّه لا يبدو أنّ هناك اختلافاً موسمياً ملحوظاً في وباء كوفيد-19، فلا دليل على أنّ عدد الحالات يتأثّر بالطقس أو الجغرافيا.
على الرغم من العدد الكبير للحالات المُسجّلة خلال الأشهر التسعة الأولى من هذا الوباء، فلا تزال الغالبية العظمى من السكان عرضة للإصابة. بالإضافة إلى ذلك، لا توجد إجابات محددة حول مدة المناعة الطبيعية التي تنتج عن الإصابة بالعدوى، كما أنّ عدد الحالات المُبلغ عنها لم ينخفض بدرجة كافية لتعريف «موجة» حقيقية في دورة حياة الجائحة. يبدو أن عودة ظهور الحالات مرتبطة بشكل مباشر بتخفيف إجراءات الإغلاق وإجراءات التباعد الاجتماعي في العديد من البلدان.
الحرب ووباء عام 1918
منذ فجر التاريخ والحرب والأمراض الوبائية شركاء في المصائب. تشير التقديرات إلى أن جائحة الأنفلونزا 1918 -التي صاحبت نهاية الحرب العالمية الأولى- أودت بحياة أكثر من 50 مليون شخص في جميع أنحاء العالم. أدت الحرب إلى اقتلاع وتشريد ملايين المدنيين، وأجبرتهم على العيش في مخيمات اللاجئين المكتظة. كما شهدت الحرب العالمية الأولى تعبئةً غير مسبوقة لأعداد كبيرة من القوات من داخل أوروبا ومن خارجها، ووجدت القوات، من جميع أنحاء العالم، نفسها محشورةً في تجمعاتٍ مكتظة. سافر الفيروس مع العسكريين من معسكر إلى آخر وعبر المحيط الأطلسي، ويعتقد الخبراء أنّ سفن النقل العسكرية كانت الناقل المحتمل للإنفلونزا عبر المحيط الأطلسي. بطبيعة الحال، فإنّ الاتصال الذي توفّره سفن النقل هذه باهت مقارنةً بعالمنا الحالي وشبكات الاتصال فيه، حتى في عصر عمليات الإغلاق وقيود السفر المتعلقة بـ COVID-19.
إنّ نظرةً أعمق للوفيات خلال جائحة أنفلونزا عام 1918 تشير بوضوح إلى أن سوء التغذية لعب دوراً حاسماً في اختلافات معدل الوفيات عبر البلدان. في الهند، على سبيل المثال، ضربت جائحة إنفلونزا عام 1918 هذا البلد بالتزامن مع جفافٍ واسع النطاق. كذلك، شهدت العديد من مقاطعات شمال غرب وغرب ووسط الهند مجاعةً خلال عام 1918، وشهدت هذه المقاطعات أيضًا أعلى معدلات وفيات أنفلونزا عام 1918. أيضاً، كان سوء التغذية المُزمن متورطًا في ارتفاع معدلات انتشار المرض والوفيات بين أطفال غواتيمالا خلال جائحة إنفلونزا H1N1 لعام 2009.
من الصعب تقييم تأثير تدمير البنية التحتية الذي سببته الحرب العالمية الأولى، حيث كانت البنية التحتية للصحة العامة في أوروبا والولايات المتحدة لا تزال في مهدها. من الواضح، مع ذلك، أنّ الحرب أدّت إلى اضطراباتٍ كبيرة في قطاعات النقل والإنتاج الصناعي، كما أنّ القدرة على مراقبة تقصي الحالات وعزل المصابين والإبلاغ عن تفشي المرض كانت ضعيفةً جداً. كان هذا واضحًا بشكلٍ خاص في البلدان الأوروبية بعد الصراع.
إنّ النزاعات الحديثة في كل من سوريا واليمن وغيرها تمثل حالةً متكاملةً تجمّعُ كل أسباب تفاقم الأوبئة؛ من اكتظاظ سكاني وسوء تغذية وتدمير للبنى التحتية في الأماكن التي يقطنونها. كل هذه العوامل تتضافر في المناطق الموبوءة بالنزاعات المسلحة، وتجعل من هذه الجائحة خطراً مُحدقاً ذا أثر أكثر فجاعة مما نشاهد في باقي العالم. وإنّ غياب الإحصائيات الدقيقة عن عدد الحالات والوفيات لا يعني بأي شكلٍ أنّ أثر هذه المصيبة ضئيل على المجتمعات المُحاصرة تحت هذه الظروف.
النظم الصحية وكوفيد-19 في حروب العالم العربي
لتوضيح تأثير تفشي الأوبئة، مثل وباء COVID-19، في النزاعات العسكرية في العالم العربي، فإنّه من المهم فهم ديناميكيات العنف والعوامل المؤسساتية الأخرى التي ساهمت في تشكيل الأزمات الإنسانية وأثرت على قدرة النظم الصحية على احتواء الوباء.
إن حجم العنف الناجم عن الحروب الأهلية الدائرة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (MENA) لا يمكن مقارنته بالحرب العالمية الأولى بالطبع، لكن الأزمات الإنسانية الناتجة في هذه البلاد تماثلها في الفداحة. لقد أدى النزوح الجماعي وتبدّد الموارد إلى إضعاف قدرة البلدان المتضررة على مكافحة تفشي الأوبئة، حتى قبل وصول جائحة COVID-19. على سبيل المثال، شهد اليمن الذي مزقته الحرب أكبر تفشٍّ لوباء الكوليرا تم تسجيله على الإطلاق مع أكثر من 2.2 مليون حالة مشتبه بها، و4000 حالة وفاة مرافقة.
في الواقع، توفر الحروب الأهلية الجارية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إمكانية استثنائية لتحليل كيف أدى التشرذم والتسييس في النظام الصحي -من بين عوامل أخرى- إلى خلق الظروف المثالية لانتشار الأمراض الفتاكة. لقد أجبرت الحروب الأهلية في سوريا واليمن وليبيا ملايين السكان المتضررين على الفرار من ديارهم، ومع ذلك لم يتمكن معظمهم من عبور الحدود. هناك 6.2 مليون شخص -بينهم 2.5 مليون طفل- نازحون داخل سوريا، وهي أكبر نسبة نزوح داخلي في العالم. وبالمثل، خلّف النزاع المسلح في ليبيا أكثر من 400 ألف نازح. وفي اليمن يعيش ما يقدر بمليون نازح في مخيمات مؤقتة ومتهالكة، وهم من بين أكثر من أربعة ملايين يمني فقدوا منازلهم. وعلى الرغم من الصراع الوحشي في البلاد، يعيش في اليمن حوالي ثلاثمائة ألف لاجئ وطالب لجوء فروا من العنف والاضطهاد في الصومال وإثيوبيا.
انتهى الأمر بالغالبية العظمى من النازحين ضمن هذه البلدان في مخيمات مكتظة وغير مخدّمة، حيث يفتقرون إلى خدمات الرعاية الصحية والطعام والمياه الصالحة للشرب ومرافق النظافة، مما يجعلهم من بين أكثر الفئات السكانية هشاشةً في العالم.
كما أدت النزاعات المستمرة إلى تفتّت المؤسسات الخدمية في هذه البلدان، وخلقت أرخبيلًا من حكومات الأمر الواقع المتناحرة فيما بينها داخل نفس الحدود. كشفت أزمة COVID-19 عن الخلل الوظيفي في المؤسسات الخدمية في هذه البلدان؛ حيث لم يكن النظام الصحي معزولاً عن هذا التأثير. في سوريا على سبيل المثال، انكمش النظام الصحي المركزي، القائم قبل الحرب، ليشمل فقط المناطق التي يسيطر عليها النظام، في حين أن المناطق الثلاث الأخرى (شمال غرب سوريا، وشمال شرق سوريا، والمناطق التي تسيطر عليها تركيا) خلقت كيانات صحية خاصة بها، ولكل من هذه الكيانات قيادة وموارد وهياكل مختلفة. وبالمثل، تقسّمت المؤسسة الصحية في اليمن وليبيا إلى نظامين صحيين متصارعَين في كلٍّ منهما.
إلى جانب الاستقطاب الحاد، أدى تفتّت النظام الصحي في هذه البلدان إلى تضاؤل الموارد المحدودة أصلاً، وإنهاك ما تبقى من مرافق الرعاية الصحية ومقدميها، مما زاد من الهشاشة والضعف في هذه البلدان. علاوة على ذلك، لم يتم الاعتراف بالكيانات الصحية الناشئة بنفس السويّة من قبل المانحين الدوليين، مما جعل أهليتها للحصول على المساعدة الإنسانية شديدة التفاوت، الأمر الذي أدى بدوره إلى زيادة التفاوت في الخدمات الصحية، وتركَ المزيد من الأشخاص بدون خدمات الرعاية الصحية الأساسية. على سبيل المثال، يسمح تفويض مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (UNOCHA) بتقديم المساعدة الإنسانية خلال الأزمات والكوارث، ولكن يوجِب «العمل بموافقة الدولة المتضررة». أتاح هذا التفويض للنظام في دمشق بالسيطرة على المساعدات الإنسانية ليس فقط في مناطق سيطرته، ولكن أيضًا التأثير في إيصال المساعدات إلى ملايين الأشخاص الذين يعيشون في مناطق سيطرة المعارضة. مثال آخر، فإن 30 مليون شخصاً في اليمن زوّدوا فقط بستّة مختبرات قادرة على إجراء اختبار كوفيد-19، يوجد منها مختبر واحد فقط في المحافظات الشمالية التي تسيطر عليها القوات الحوثية حيث يعيش أكثر من نصف سكان اليمن.
بالإضافة إلى التشرذم والاستقطاب، تعرّضت المرافق الصحية في مناطق النزاع المسلح في هذه البلاد لهجمات متعمّدة من قبل الأطراف المتحاربة، مما أدى إلى تعميق محنة المجتمعات المتضررة، وتدمير النظام الصحي المنهك أصلاً، والمساهمة في هجرة الكوادر الصحية المتخصصة. ففي سوريا، بين آذار (مارس) 2011 وشباط (فبراير) 2020، جرى الإبلاغ عن حوالي 600 هجوم عسكري على منشآت صحية، وقُتل حوالي 1000 عامل طبي (90٪ من الهجمات تنسب إلى القوات النظامية وحلفائها). بينما في اليمن، أفادت التقارير أن أكثر من ثلث الضربات الجوية منذ عام 2015 قد أصابت أهدافًا مدنية مثل المستشفيات والمدارس. حتى الآن تمّ الإبلاغ عن 130 هجومًا عسكريًا على الأقل على مرافق الرعاية الصحية والعاملين الصحيين (54٪ منها من قبل التحالف و41٪ من قبل مقاتلي الحوثي). لا يختلف الوضع في ليبيا، فمنذ بداية العام الجاري استهدف 15 هجوماً على الأقل المرافقَ الصحية وسيارات الإسعاف وعاملي الرعاية الصحية.
في المعركة ضد تفشي كوفيد-19، كانت النظم الصحية المنهكة في مناطق النزاع بشكلٍ خاص غير مستعدة لمواجهة هذه الأزمة. لا يزال 50% فقط من مرافق الرعاية الصحية في اليمن قيد الخدمة، مع وجود ثلاثة أطباء فقط وسبعة أسرّة في المستشفيات لكل عشرة آلاف شخص. في حين أنّ ما يقرب من 40% من المستشفيات في جميع أنحاء سوريا تعتبر معطلة، وأكثر من 70٪ من القوى العاملة في مجال الرعاية الصحية غادروا البلاد. أدى الصراع المستمر في ليبيا منذ عقدٍ من الزمن إلى إغلاق أكثر من 50 في المئة من مرافق الرعاية الصحية، لا سيما في المناطق الريفية.
جرى الإعلان عن أولى حالات الإصابة بفيروس كورونا المستجد في سوريا وليبيا في آذار(مارس) 2020، بينما أبلغَ اليمن عن أول حالة مؤكدة في نيسان (أبريل). تأثّرت الاستجابة للموجة الأولى من تفشي كوفيد-19 في هذه البلدان بعدّة عوامل، مثل عدم القدرة على إجراء الاختبار بشكل كاف، وسوء جمع البيانات، ونقص الاختصاصيّين المتمرّسين في الرعاية الصحية، والموارد المحدودة، والظروف التشغيلية غير الآمنة، ونقص التمويل المخصص لقطاع الصحة. على أيّ حال، لا ينبغي تجاهل السجل السيء للإدارة والقيادة عند السلطات الحاكمة في هذه البلدان، إذ توجد شكوك قوية على أنّ السلطات الصحية أخفت عن عمد معلومات وبيانات حيوية حول التأثير الحقيقي لكوفيد-19 على المجتمعات المتضررة. فعلى سبيل المثال، حذّرت السلطات في دمشق بشدة الأطباء في الخطوط الأمامية لتجنب أي مناقشات عامة حول حالات COVID-19، لأنّ القيام بذلك سيُعرّض «الأمن القومي» للخطر، وبعد أسابيع قليلة فقط أصبح تفشي المرض خارج نطاق السيطرة. وبالمثل، أعلنت سلطات الحوثيين في صنعاء، بشكلٍ غير معقول، عن عدد قليل من الحالات ووفاة واحدة في العاصمة، وهددت باحتجاز الأطباء والممرضات وغيرهم ممن تحدثوا عن الفيروس. كما أشارت العديد من التقارير من ليبيا إلى أن الإحصاءات الرسمية لا تعكس سوى جزءاً ضئيلاً من الانتشار الحقيقي عبر البلاد.
أدّى عدم مشاركة المعلومات بالتوقيت المناسب إلى تفاقم انعدام الثقة بين السلطات القائمة والناس، مما جعلهم أقل امتثالاً لإجراءات الوقاية وغيرها من التدابير الموصى بها. والأهم من ذلك، أنّ التأخير أو الامتناع عن مشاركة المعلومات الدقيقة في الوقت المناسب ترك مقدّمي الرعاية الصحية في الخطوط الأمامية دون احتياطات وقائية كافية، ما ساهم على الأرجح في ارتفاع معدل الوفيات نسبيًا بينهم. على سبيل المثال، وثّق النشطاء اليمنيون ما يقرب من 120 حالة وفاة بين العاملين في المجال الطبي منذ نيسان (أبريل) 2020، بينما تجاوز العدد في سوريا 70 مقدم رعاية صحية في نفس الفترة.
وغنيٌ عن القول إنّ العوامل الأربعة الرئيسية في الأوبئة (المجاعة، والتهجير، والازدحام، وانعدام الشفافية) كلها متوافرة في النزاعات المسلحة كتلك التي في اليمن وسوريا وليبيا.
عالم واحد.. تفشٍّ واحد
ما زالت البشرية ترزح تحت وطأة المصائب والأخطار على مدار التاريخ. لقد شهدت البشرية العشرات من الأوبئة والجوائح وقضت هذه المصائب على حيوات الملايين من البشر والعديد من الحضارات. إنّ أحد أهم الدروس المستفادة من أزمة كوفيد-19 هو أنّ عالمنا الحديث شديد الترابط، وبينما تتواصل مقارنة هذه الجائحة بجائحة إنفلونزا عام 1918 من حيث الانتشار، فإنّه تجب مقارنة الاستجابة لهذه الجائحة بشكل أكثر دقة بما فعله العالم لمواجهة تفشي فيروس إيبولا في عام 2013. لقد رأينا كيف -وفي غضون بضعة أشهر- وصلت العدوى التي نشأت في قرية ريفية في غينيا إلى الولايات المتحدة وأوروبا. يمكننا بسهولة طرح الحجة القائلة بأن عطسة طفل نازح في إدلب أو الحُديدة يمكن أن تزلزل الأرض في جنيف.
بالإضافة إلى الصدفة الحسنة، ساهمت الجهود المتعددة الأطراف من قبل الحكومات الغربية (وعلى رأسها الولايات المتحدة) من الحد من عدوى فيروس إيبولا التي قتلت ما يصل إلى 70 ٪ من المرضى المصابين. لقد كان سيناريو 1.4 مليون إصابة ومليون وفاة أحد السيناريوهات الممكنة والمحتملة.
إن جائحة COVID-19 هي اختبار صعب للمجتمع الدولي. لن تنجح الجهود والتدابير الوطنية «المحلية» للتغلب على الآثار القصيرة والطويلة الأجل لهذا التفشي، ولا يمكن تحقيق أية نتائج إلا من خلال التنسيق والتعاون العالميين. إنّ التضامن والتنسيق والتعاون ليس فقط ضماناً لرفاهية الناس، بل إنّ المستقبل السياسي والاجتماعي والاقتصادي لعقود قادمة مرهونٌ بهذه الاستجابة.
تضمّ المجتمعات المتضررة في مناطق النزاع المسلح أكثر السكّان ضعفاً في العالم في يومنا هذا. إنّ التصدي لهذه الجائحة في تلك المناطق المنكوبة خطوة أساسية لاحتواء تفشي المرض على مستوى العالم، حيث يمكن لمناطق النزاع المسلح أن تصبح بؤراً مستمرة ومداومة تنشر عدوى كورونا لسنوات طوال، ولا يمكن إطفاء الحريق حتى يتم إطفاء آخر شعلة. بالإضافة إلى ذلك، يجب أن تقترن استراتيجيات سد الفجوات الإنسانية بمقاربات شاملة لمعالجة التحديات المؤسسية والاقتصادية الملحة. يجب أن تكون نماذج التدخل الإنساني التقليدية خالية من القيود البيروقراطية، وأن يتم تحديثها لتلبية الاحتياجات المتزايدة بشكل كبير على المسرح الدولي. إن الفشل في احتواء تفشي COVID-19 في ظلّ الأوضاع الإنسانية المتردية سوف يستمر بتهديد الأمن الصحي العالمي، وعلينا أن نتذكر أن قوة السلسلة تساوي قوة أضعف حلقاتها.
د. عبد الله شاهين: طبيب وأستاذ مساعد في قسم الأمراض المعدية والوبائية في جامعة براون – الولايات المتحدة الأمريكية – وأستاذ منتسب لمركز دراسات حقوق الإنسان.
د. تيسير الكريم: طبيب وخبير في العمل الإغاثي في مناطق النزاعات المسلّحة والكوارث حول العالم، وزميل دولي لمركز حقوق الإنسان والدراسات الإغاثية في جامعة براون – الولايات المتحدة. مقيم في باريس، فرنسا.
موقع الجمهورية
————————-
شمال غرب سوريا أعزل في مواجهة جائحة كورونا/ حسين الخطيب
تواصل الجائحة انتشارها منذ فصل الصيف في منطقة شمال غرب سوريا حيث همش التدخل العسكري التركي في الشتاء الماضي دور “حكومة المعارضة”. وقد اتخذت تدابير للحجر الصحي و الحد من التنقلات، لكن الكثافة السكانية في المنطقة التي تعج باللاجئين، والوضع الاقتصادي الهش تحد من نجاعة هكذا قرارات.
اكتُشفت أول إصابة بفيروس كورونا بمناطق المعارضة لشمال غرب سوريا في 9 تموز / يوليو الماضي، لأحد الكوادر الطبية العاملة في أحد المشافي بمحافظة إدلب، حيث أصيب بها طبيب سوري من مدينة الباب بريف حلب الشرقي أثناء تنقله بين الأراضي السورية ومكان إقامته في تركيا. وكان ذلك بعد مضي أيام على ظهور أثار احتُمل أنها للإصابة بالفيروس، حيث عملت الفرق الطبية آنذاك على إرسال الاختبارات إلى المشافي التركية، لعدم وجود مراكز اختبارات للفيروس في المناطق المحررة، وتم عزل المخالطين إلى حين وصول الاختبارات الطبية. ويرتفع عدد الإصابات حتى غرّة أكتوبر 2020 إلى 4200 إصابة، من بينهم 200 وفاة، بينما شفيت 1103 حالة بشكل كامل بحسب التحديث الذي أصدرته وزارة الصحة للحكومة المؤقتة.
المعارضة السورية الحاضرة في المنطقة -أي الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية- هي وريثة المجلس الوطني السوري الذي أنشئ سنة 2011. لكن الانقسامات الداخلية وتطور الوضع العسكري على الأرض همشا دور المعارضة المدنية التي تتمتع اليوم بمساندة تركية. ويقتصر وجودها الرسمي في المنطقة على بضع مدن وبلدات متوزعة بين محافظات حلب وإدلب وحماة التي شهدت العمليتين العسكريتين التركيتين “غصن الزيتون” في 2018 و“درع الفرات” في 2017.
تدابير لمحاولة احتواء الجائحة
يعيش في مدينة إدلب وريفها وريف حلب الغربي وريف حماة الشمالي نحو 4.7 مليون سوري، بينهم 2.6 مليون نازحون يعيشون في المخيمات، أبرزهم هجروا من منازلهم خلال الحملة العسكرية الأخيرة التي سيطرت فيها قوات النظام السوري وميليشياته على ريف حلب الغربي والجنوبي ومعرة النعمان وسراقب وأريافهما في محافظة إدلب. بينما يعيش في منطقتي درع الفرات وغصن الزيتون نحو 2 مليون نسمة بينهم مهجرون ونازحون ومقيمون، بعضهم يقيم في مخيمات على الحدود السورية وقرب القرى والبلدات، وذلك بحسب ما صرح المتحدث الرسمي باسم جمعية “منسقو الاستجابة”، محمد الحلاج لموقع أوريان 21.
واتخذت وزارة الصحة في الحكومة السورية المؤقتة العاملة في مناطق المعارضة شمال غرب سوريا مجموعة من التدابير الوقائية للحد من انتشار فيروس كورونا المستجد، حيث أعلنت عن إغلاق نقاط العبور الداخلية التي تفصل بين مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية في منبج ومناطق الجيش الوطني في منطقة درع الفرات بريف حلب، وكذلك مع مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام في منطقة غصن الزيتون. كما تم حظر الاجتماعات والوقفات الجماعية، بالإضافة إلى تأجيل أنشطة الزفاف حتى إشعار آخر، كما عملت على فرض ارتداء الكمامات في الدوائر الحكومية، مع إلزام مرتادي المطاعم والمقاهي والحدائق العامة بالتقيد بقواعد التباعد الاجتماعي حرصاً على سلامتهم، وذلك وفق القرار الذي أصدرته وزارة الصحة في 13 آب /أغسطس الماضي والذي لا يزال ساري المفعول. وطلبت الوزارة العمل على ترك مسافة ثلاثة أمتار بين “البسطات” في أماكن التسوق والبازارات، مع إلزام أصحاب المحلات بارتداء الكمامات والقفازات حين تسليم المنتجات للزبائن، بالإضافة إلى حظر الخروج من المنازل للأشخاص الذين تجاوزت أعمارهم 60 عامًا، ولمن يعانون من أمراض مزمنة، ما لم تكن هناك حالة اضطرارية.
ووفق البيان، ستعمل وزارة الصحة في الحكومة السورية المؤقتة على تأمين الكمامات -التي تأتي عبر الحدود مع تركيا- مجانًا وكذلك بالنسبة لدفعات للأهالي، عبر التعاون مع منظمات طبية كمنظمة سوريا للإغاثة والتنمية، وتحالف المنظمات السورية غير الحكومية التي تضم عدة منظمات في الشمال السوري، وفرق تطوعية. كما افتتحت ورشات محلية لتصنيع الكمامات يمكن اقتنائها من الصيدليات، بدعم من منظمات محلية لتوفير فرص عمل.
حكومة مؤقتة ذات مجال محدود
فعلياً، لا تستطيع الحكومة المؤقتة تطبيق هذه القرارات لانقسام المناطق بين إدارة تركية بحتة -وهي منطقتا غصن الزيتون ودرع الفرات-، حيث تعتمد السلطات التركية على التعاون من خلال منسقين وولاة أتراك لكل مدينة أو منطقة، وبين إدارة حكومة الإنقاذ التابعة لتحرير الشام (“جبهة النصرة” سابقاً) بالنسبة لمنطقة إدلب وريف حلب الغربي وريف حماة. بينما يبقى التعاون إداريا فقط بين وزارة الصحة ومديريات الصحة في المحافظات لا أكثر.
وعملت المكاتب الطبية ومديريات الصحة بالتعاون الإداري فقط مع وزارة الصحة في مختلف مناطق المعارضة شمال غرب سوريا على أخذ إجراءات احترازية بالإمكانيات المتاحة لديهم، فتم تحويل عدد من المشافي إلى مراكز عزل للمصابين بفيروس كورونا، بالإضافة إلى مراكز للحجر الصحي خاصة بالمخالطين للمصاب، لتقييد حركتهم للتحقق من سلامتهم.
ووفقاً لما قال رئيس المجلس العلمي لأمراض الباطنة في مديرية صحة إدلب الدكتور وسيم زكريا لـ “أوريان 21”: “تم تخصيص ثلاثة مشافي للعزل بسعة 75 سرير عادي 40 سرير عناية مشددة و36 جهاز تنفس اصطناعي، وهناك مشافي أخرى قيد التطوير والتجهيز بقوام 200 سرير و92 سرير عناية مشددة و92 جهاز تنفس”. لكن هذه المراكز كما مراكز العزل الصحي العشرة في منطقتي درع الفرات وغصن الزيتون، لا تفي بالغرض امام أعداد السكان في المنطقة.
كما أن وزارة الصحة لا تستطيع تنفيذ هذه التدابير إلا من خلال حصولها على دعم من قبل المنظمات، وهذا ما أكده وزير الصحة في الحكومة السورية المؤقتة الدكتور مرام الشيخ لـ “أوريان 21” قائلا: “تقدم الوزارة تقدم الخطط وتقوم بعرضها على المنظمات المتواجدة في المناطق المحررة، ومن بينها منظمة الصحة العالمية، وإذا تمت الموافقة على هذه الخطط تقوم فرق الوزارة الطبية بدراستها مع منظمة الصحة العالمية لتنفيذ عمليات الاستجابة بما يخدم أهالي المنطقة واحتياجاتهم”. وبين خلال حديثه أن “الدعم الطبي لمكافحة جائحة كورونا ضعيف جداً ولا يرقى إلى 40 % من الدعم المفروض توفيره”.
ومما يزيد من ضعف الجهاز الطبي في المنطقة اعتماد المؤسسات والمراكز الطبية على دعم المنظمات غير المنتظم والمتقطع، وتستقل إدارة أي مشفى عن الآخر على الرغم من وجودهما في منطقة واحدة لأسباب متعلقة بالجهات المانحة. الأمر الذي أدى إلى فشل المراكز الطبية في تلبية حاجات المواطنين بسبب عدم توفر الأطباء في العيادات بشكل دائم لقلتهم وارتباطهم بأعمال بمشافٍ أخرى، بالإضافة إلى القصف المتكرر للنقاط الطبية الذي تسببه الطيران الروسي والنظامي على حد سواء.
هشاشة الوضع الاقتصادي
كما أن اكتظاظ السكان المقيمين في شمال غرب سوريا يجعلهم يفتقرون لأدنى مقومات الرعاية الصحية مع تلوث تام لمياه الشرب والطعام، بالإضافة إلى سبل التدفئة غير الصحية شتاءً، التي ستعمل على إنشاء بيئة حاضنة للفيروس، وهذا ما يثير مخاوف الأهالي مع انخفاض درجات الحرارة بشكل تدريجي. وسيواجه الأشخاص الملتزمون بالإرشادات الوقائية والمضطرون للبقاء في منازلهم أو خيمهم كارثة مادية، إذ لا يمكنهم تأمين الحاجيات الأساسية للمنزل إلا من خلال العمل، لأن غالبية السكان يعتمدون على العمل الحر، وذلك بسبب اعتماد المنطقة على الزراعة وعدم وجود مصانع أو حكومة قادرة على توفير فرص الشغل، إذ تصل نسبة العاطلين عن العمل إلى 80 %، بينما يتمتع 20 % بعمل دائم كالموظفين في التربية والتعليم والقطاع الطبي والشرطة الذين يحصلون على منح مالية شهرية بمنطقتي درع الفرات وغصن الزيتون، بحسب ما أفاد الناطق باسم منسقو الاستجابة محمد الحلاج لموقع أوريان 21. يجلس محمد أكرم على دراجته النارية أمام مخيم الكرامة الذي يقيم به في ريف إدلب، قرب الحدود السورية التركية، ينتظر لساعات طويلة ليصعد أحد السكان لإيصاله إلى إحدى قرى المنطقة مقابل مبلغ مالي لا يتجاوز 500 ليرة سورية، أي ما يعادل 0.25 سنت أمريكي، يقول: “إنني أعمل بشكل جيد في بعض الأيام أستطيع جمع مبلغ 3000 ليرة سورية ما يعادل 1.5 دولار أمريكي، بحسب عدد الرحلات على الدراجة وغالباً ما يصعد معي مرضى الكلى والأعصاب لإيصالهم إلى المشافي القريبة، لكنه لا يحقق أرباحا تكفي أسرته المكونة من 8 أشخاص لأنه يقيم في خيمة لا تتوفر فيها أدنى مقومات الحياة.
تحدث موقع “أوريان 21” مع محمد أسعد وهو أحد العمال الذين يعملون باليومية في مدينة إعزاز شمال حلب ويطلق على عمله “العتالة” -وهي حمل وتنزيل المنتجات الغذائية وحبوب القمح وغيرها من الأشياء التي تحتاج إلى النقل-، وهو مدرس لغة عربية سابق لم يستطع إيجاد فرصة عمل كمدرس لإعالة أسرته المتكونة من خمسة أفراد. وقد ذكر محمد أنه يستطيع كسب مبلغ رمزي بشكل يومي لا يتجاوز 1000 ليرة سورية أي ما يعادل 0.50 سنت أمريكي وهذه تكفي فقط لتأمين ربطة خبز واحدة مكونة من ثمانية أرغفة وسعرها يصل إلى 900 ل. س ما يعادل 0.40سنت، والتي تكفي وجبتي طعام لأسرته، مما يدفعه للوقوف في مركز تجمع العمال وهو عبارة عن موقف على قرب أحد كراج للسيارات في مدينة أعزاز من الصباح حتى حلول المساء، على أمل الحصول على فرصة عمل.
هذا ولا تزال الحدود السورية التركية مفتوحة أمام الحركة التجارية لتأمين احتياجات السكان في المنطقة، إلا أن السلطات التركية منعت عبور السوريين إلا للحالات الاضطرارية والإسعافية والمرضى الذين يحتاجون إلى عمليات لا يمكن إجراؤها في المناطق المحررة. أما في حال أغلقت الحدود، فإن الشمال الغربي من سوريا سيواجه كارثة إنسانية مرجحة للاتساع مع منظومة صحية هشة وتوقف المواد الغذائية الأساسية.
حسين الخطيب
صحفي سوري من حلب.
=======================
===========================
تحديث 15 تشرين الأول 2020
————————————–
كيف سنواجه الموجة الثانية من كورونا في منطقتنا؟/ عبد الله شاهين و تيسير الكريم
تشير ظاهرة «الموجة الثانية» -التي تملأ التقارير الإخبارية- إلى تجدّد حدوث ارتفاع مطّرد في عدد حالات الإصابة بفيروس كورونا المستجد. تمّ تعريف هذه الظاهرة بشكل متضارب وفضفاض في الأدبيات الطبيّة، وتشير الظاهرة عموماً إلى زيادة عدد الإصابات بعد الانخفاض الأولي في عدد الحالات ضمن مجموعة سكانية محددة جغرافياً (قرية أو ضاحية). حيث يتم اعتبار كل دورة من زيادة الحالات «موجة». وتعتبر جائحة انفلونزا H1N1 التي اجتاحت العالم ما بين عامي 1918-1919 مثالًا كلاسيكيًا على هذه الظاهرة. ونظراً لأوجه التشابه في عالمية تلك الجائحة والأعراض وطرق الانتقال؛ فإنّه كثيراً ما تتم مقارنة جائحة كوفيد-19 (COVID-19) بجائحة الأنفلونزا عام 1918. بدأ انتشار ذلك التفشي في ربيع عام 1918، وتبعه ظهور الموجة الثانية -والتي كانت الأكبر والأكثر فتكًا- في خريف عام 1918، وسُجّلت الموجة الثالثة في ربيع عام 1919. أصابت تلك الجائحة المعروفة باسم «الأنفلونزا الإسبانية» ثلث سكان العالم (حوالي 500 مليون من 1.6 مليار نسمة).
تعريف «الموجة» في ظل جائحة كورونا صعب التأطير. قد يعكس التغيّر في عدد الحالات هبوطاً مستمراً بعد وصولها الذروة، والزيادة التي قد تتبع الهبوط الأوّلي يمكن أن يُشار إليها على أنها ذروة أخرى. إلا أنّ التفاوت في معدلات الإصابات الجديدة مرتبط بعوامل أخرى؛ منها ما هو خاص بالجرثومة (على سبيل المثال: الأنفلونزا موسمية، وتحدث في فصل الشتاء بشكل أساسي)، ومنها ما هو مرتبط بالقدرة على التشخيص والتتبع (الزيادة في عدد الفحوصات المُجراة والتحسن في قدرة القطاع الصحي على تتبّع الحالات). لم يشهد العالم موجة عالمية واحدة من فيروس كورونا المستجد، بل إنّ الفيروس ينتقل -بسرعات مختلفة- من مكانٍ إلى آخر. كما أنّه لا يبدو أنّ هناك اختلافاً موسمياً ملحوظاً في وباء كوفيد-19، فلا دليل على أنّ عدد الحالات يتأثّر بالطقس أو الجغرافيا.
على الرغم من العدد الكبير للحالات المُسجّلة خلال الأشهر التسعة الأولى من هذا الوباء، فلا تزال الغالبية العظمى من السكان عرضة للإصابة. بالإضافة إلى ذلك، لا توجد إجابات محددة حول مدة المناعة الطبيعية التي تنتج عن الإصابة بالعدوى، كما أنّ عدد الحالات المُبلغ عنها لم ينخفض بدرجة كافية لتعريف «موجة» حقيقية في دورة حياة الجائحة. يبدو أن عودة ظهور الحالات مرتبطة بشكل مباشر بتخفيف إجراءات الإغلاق وإجراءات التباعد الاجتماعي في العديد من البلدان.
الحرب ووباء عام 1918
منذ فجر التاريخ والحرب والأمراض الوبائية شركاء في المصائب. تشير التقديرات إلى أن جائحة الأنفلونزا 1918 -التي صاحبت نهاية الحرب العالمية الأولى- أودت بحياة أكثر من 50 مليون شخص في جميع أنحاء العالم. أدت الحرب إلى اقتلاع وتشريد ملايين المدنيين، وأجبرتهم على العيش في مخيمات اللاجئين المكتظة. كما شهدت الحرب العالمية الأولى تعبئةً غير مسبوقة لأعداد كبيرة من القوات من داخل أوروبا ومن خارجها، ووجدت القوات، من جميع أنحاء العالم، نفسها محشورةً في تجمعاتٍ مكتظة. سافر الفيروس مع العسكريين من معسكر إلى آخر وعبر المحيط الأطلسي، ويعتقد الخبراء أنّ سفن النقل العسكرية كانت الناقل المحتمل للإنفلونزا عبر المحيط الأطلسي. بطبيعة الحال، فإنّ الاتصال الذي توفّره سفن النقل هذه باهت مقارنةً بعالمنا الحالي وشبكات الاتصال فيه، حتى في عصر عمليات الإغلاق وقيود السفر المتعلقة بـ COVID-19.
إنّ نظرةً أعمق للوفيات خلال جائحة أنفلونزا عام 1918 تشير بوضوح إلى أن سوء التغذية لعب دوراً حاسماً في اختلافات معدل الوفيات عبر البلدان. في الهند، على سبيل المثال، ضربت جائحة إنفلونزا عام 1918 هذا البلد بالتزامن مع جفافٍ واسع النطاق. كذلك، شهدت العديد من مقاطعات شمال غرب وغرب ووسط الهند مجاعةً خلال عام 1918، وشهدت هذه المقاطعات أيضًا أعلى معدلات وفيات أنفلونزا عام 1918. أيضاً، كان سوء التغذية المُزمن متورطًا في ارتفاع معدلات انتشار المرض والوفيات بين أطفال غواتيمالا خلال جائحة إنفلونزا H1N1 لعام 2009.
من الصعب تقييم تأثير تدمير البنية التحتية الذي سببته الحرب العالمية الأولى، حيث كانت البنية التحتية للصحة العامة في أوروبا والولايات المتحدة لا تزال في مهدها. من الواضح، مع ذلك، أنّ الحرب أدّت إلى اضطراباتٍ كبيرة في قطاعات النقل والإنتاج الصناعي، كما أنّ القدرة على مراقبة تقصي الحالات وعزل المصابين والإبلاغ عن تفشي المرض كانت ضعيفةً جداً. كان هذا واضحًا بشكلٍ خاص في البلدان الأوروبية بعد الصراع.
إنّ النزاعات الحديثة في كل من سوريا واليمن وغيرها تمثل حالةً متكاملةً تجمّعُ كل أسباب تفاقم الأوبئة؛ من اكتظاظ سكاني وسوء تغذية وتدمير للبنى التحتية في الأماكن التي يقطنونها. كل هذه العوامل تتضافر في المناطق الموبوءة بالنزاعات المسلحة، وتجعل من هذه الجائحة خطراً مُحدقاً ذا أثر أكثر فجاعة مما نشاهد في باقي العالم. وإنّ غياب الإحصائيات الدقيقة عن عدد الحالات والوفيات لا يعني بأي شكلٍ أنّ أثر هذه المصيبة ضئيل على المجتمعات المُحاصرة تحت هذه الظروف.
النظم الصحية وكوفيد-19 في حروب العالم العربي
لتوضيح تأثير تفشي الأوبئة، مثل وباء COVID-19، في النزاعات العسكرية في العالم العربي، فإنّه من المهم فهم ديناميكيات العنف والعوامل المؤسساتية الأخرى التي ساهمت في تشكيل الأزمات الإنسانية وأثرت على قدرة النظم الصحية على احتواء الوباء.
إن حجم العنف الناجم عن الحروب الأهلية الدائرة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (MENA) لا يمكن مقارنته بالحرب العالمية الأولى بالطبع، لكن الأزمات الإنسانية الناتجة في هذه البلاد تماثلها في الفداحة. لقد أدى النزوح الجماعي وتبدّد الموارد إلى إضعاف قدرة البلدان المتضررة على مكافحة تفشي الأوبئة، حتى قبل وصول جائحة COVID-19. على سبيل المثال، شهد اليمن الذي مزقته الحرب أكبر تفشٍّ لوباء الكوليرا تم تسجيله على الإطلاق مع أكثر من 2.2 مليون حالة مشتبه بها، و4000 حالة وفاة مرافقة.
في الواقع، توفر الحروب الأهلية الجارية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إمكانية استثنائية لتحليل كيف أدى التشرذم والتسييس في النظام الصحي -من بين عوامل أخرى- إلى خلق الظروف المثالية لانتشار الأمراض الفتاكة. لقد أجبرت الحروب الأهلية في سوريا واليمن وليبيا ملايين السكان المتضررين على الفرار من ديارهم، ومع ذلك لم يتمكن معظمهم من عبور الحدود. هناك 6.2 مليون شخص -بينهم 2.5 مليون طفل- نازحون داخل سوريا، وهي أكبر نسبة نزوح داخلي في العالم. وبالمثل، خلّف النزاع المسلح في ليبيا أكثر من 400 ألف نازح. وفي اليمن يعيش ما يقدر بمليون نازح في مخيمات مؤقتة ومتهالكة، وهم من بين أكثر من أربعة ملايين يمني فقدوا منازلهم. وعلى الرغم من الصراع الوحشي في البلاد، يعيش في اليمن حوالي ثلاثمائة ألف لاجئ وطالب لجوء فروا من العنف والاضطهاد في الصومال وإثيوبيا.
انتهى الأمر بالغالبية العظمى من النازحين ضمن هذه البلدان في مخيمات مكتظة وغير مخدّمة، حيث يفتقرون إلى خدمات الرعاية الصحية والطعام والمياه الصالحة للشرب ومرافق النظافة، مما يجعلهم من بين أكثر الفئات السكانية هشاشةً في العالم.
كما أدت النزاعات المستمرة إلى تفتّت المؤسسات الخدمية في هذه البلدان، وخلقت أرخبيلًا من حكومات الأمر الواقع المتناحرة فيما بينها داخل نفس الحدود. كشفت أزمة COVID-19 عن الخلل الوظيفي في المؤسسات الخدمية في هذه البلدان؛ حيث لم يكن النظام الصحي معزولاً عن هذا التأثير. في سوريا على سبيل المثال، انكمش النظام الصحي المركزي، القائم قبل الحرب، ليشمل فقط المناطق التي يسيطر عليها النظام، في حين أن المناطق الثلاث الأخرى (شمال غرب سوريا، وشمال شرق سوريا، والمناطق التي تسيطر عليها تركيا) خلقت كيانات صحية خاصة بها، ولكل من هذه الكيانات قيادة وموارد وهياكل مختلفة. وبالمثل، تقسّمت المؤسسة الصحية في اليمن وليبيا إلى نظامين صحيين متصارعَين في كلٍّ منهما.
إلى جانب الاستقطاب الحاد، أدى تفتّت النظام الصحي في هذه البلدان إلى تضاؤل الموارد المحدودة أصلاً، وإنهاك ما تبقى من مرافق الرعاية الصحية ومقدميها، مما زاد من الهشاشة والضعف في هذه البلدان. علاوة على ذلك، لم يتم الاعتراف بالكيانات الصحية الناشئة بنفس السويّة من قبل المانحين الدوليين، مما جعل أهليتها للحصول على المساعدة الإنسانية شديدة التفاوت، الأمر الذي أدى بدوره إلى زيادة التفاوت في الخدمات الصحية، وتركَ المزيد من الأشخاص بدون خدمات الرعاية الصحية الأساسية. على سبيل المثال، يسمح تفويض مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (UNOCHA) بتقديم المساعدة الإنسانية خلال الأزمات والكوارث، ولكن يوجِب «العمل بموافقة الدولة المتضررة». أتاح هذا التفويض للنظام في دمشق بالسيطرة على المساعدات الإنسانية ليس فقط في مناطق سيطرته، ولكن أيضًا التأثير في إيصال المساعدات إلى ملايين الأشخاص الذين يعيشون في مناطق سيطرة المعارضة. مثال آخر، فإن 30 مليون شخصاً في اليمن زوّدوا فقط بستّة مختبرات قادرة على إجراء اختبار كوفيد-19، يوجد منها مختبر واحد فقط في المحافظات الشمالية التي تسيطر عليها القوات الحوثية حيث يعيش أكثر من نصف سكان اليمن.
بالإضافة إلى التشرذم والاستقطاب، تعرّضت المرافق الصحية في مناطق النزاع المسلح في هذه البلاد لهجمات متعمّدة من قبل الأطراف المتحاربة، مما أدى إلى تعميق محنة المجتمعات المتضررة، وتدمير النظام الصحي المنهك أصلاً، والمساهمة في هجرة الكوادر الصحية المتخصصة. ففي سوريا، بين آذار (مارس) 2011 وشباط (فبراير) 2020، جرى الإبلاغ عن حوالي 600 هجوم عسكري على منشآت صحية، وقُتل حوالي 1000 عامل طبي (90٪ من الهجمات تنسب إلى القوات النظامية وحلفائها). بينما في اليمن، أفادت التقارير أن أكثر من ثلث الضربات الجوية منذ عام 2015 قد أصابت أهدافًا مدنية مثل المستشفيات والمدارس. حتى الآن تمّ الإبلاغ عن 130 هجومًا عسكريًا على الأقل على مرافق الرعاية الصحية والعاملين الصحيين (54٪ منها من قبل التحالف و41٪ من قبل مقاتلي الحوثي). لا يختلف الوضع في ليبيا، فمنذ بداية العام الجاري استهدف 15 هجوماً على الأقل المرافقَ الصحية وسيارات الإسعاف وعاملي الرعاية الصحية.
في المعركة ضد تفشي كوفيد-19، كانت النظم الصحية المنهكة في مناطق النزاع بشكلٍ خاص غير مستعدة لمواجهة هذه الأزمة. لا يزال 50% فقط من مرافق الرعاية الصحية في اليمن قيد الخدمة، مع وجود ثلاثة أطباء فقط وسبعة أسرّة في المستشفيات لكل عشرة آلاف شخص. في حين أنّ ما يقرب من 40% من المستشفيات في جميع أنحاء سوريا تعتبر معطلة، وأكثر من 70٪ من القوى العاملة في مجال الرعاية الصحية غادروا البلاد. أدى الصراع المستمر في ليبيا منذ عقدٍ من الزمن إلى إغلاق أكثر من 50 في المئة من مرافق الرعاية الصحية، لا سيما في المناطق الريفية.
جرى الإعلان عن أولى حالات الإصابة بفيروس كورونا المستجد في سوريا وليبيا في آذار(مارس) 2020، بينما أبلغَ اليمن عن أول حالة مؤكدة في نيسان (أبريل). تأثّرت الاستجابة للموجة الأولى من تفشي كوفيد-19 في هذه البلدان بعدّة عوامل، مثل عدم القدرة على إجراء الاختبار بشكل كاف، وسوء جمع البيانات، ونقص الاختصاصيّين المتمرّسين في الرعاية الصحية، والموارد المحدودة، والظروف التشغيلية غير الآمنة، ونقص التمويل المخصص لقطاع الصحة. على أيّ حال، لا ينبغي تجاهل السجل السيء للإدارة والقيادة عند السلطات الحاكمة في هذه البلدان، إذ توجد شكوك قوية على أنّ السلطات الصحية أخفت عن عمد معلومات وبيانات حيوية حول التأثير الحقيقي لكوفيد-19 على المجتمعات المتضررة. فعلى سبيل المثال، حذّرت السلطات في دمشق بشدة الأطباء في الخطوط الأمامية لتجنب أي مناقشات عامة حول حالات COVID-19، لأنّ القيام بذلك سيُعرّض «الأمن القومي» للخطر، وبعد أسابيع قليلة فقط أصبح تفشي المرض خارج نطاق السيطرة. وبالمثل، أعلنت سلطات الحوثيين في صنعاء، بشكلٍ غير معقول، عن عدد قليل من الحالات ووفاة واحدة في العاصمة، وهددت باحتجاز الأطباء والممرضات وغيرهم ممن تحدثوا عن الفيروس. كما أشارت العديد من التقارير من ليبيا إلى أن الإحصاءات الرسمية لا تعكس سوى جزءاً ضئيلاً من الانتشار الحقيقي عبر البلاد.
أدّى عدم مشاركة المعلومات بالتوقيت المناسب إلى تفاقم انعدام الثقة بين السلطات القائمة والناس، مما جعلهم أقل امتثالاً لإجراءات الوقاية وغيرها من التدابير الموصى بها. والأهم من ذلك، أنّ التأخير أو الامتناع عن مشاركة المعلومات الدقيقة في الوقت المناسب ترك مقدّمي الرعاية الصحية في الخطوط الأمامية دون احتياطات وقائية كافية، ما ساهم على الأرجح في ارتفاع معدل الوفيات نسبيًا بينهم. على سبيل المثال، وثّق النشطاء اليمنيون ما يقرب من 120 حالة وفاة بين العاملين في المجال الطبي منذ نيسان (أبريل) 2020، بينما تجاوز العدد في سوريا 70 مقدم رعاية صحية في نفس الفترة.
وغنيٌ عن القول إنّ العوامل الأربعة الرئيسية في الأوبئة (المجاعة، والتهجير، والازدحام، وانعدام الشفافية) كلها متوافرة في النزاعات المسلحة كتلك التي في اليمن وسوريا وليبيا.
عالم واحد.. تفشٍّ واحد
ما زالت البشرية ترزح تحت وطأة المصائب والأخطار على مدار التاريخ. لقد شهدت البشرية العشرات من الأوبئة والجوائح وقضت هذه المصائب على حيوات الملايين من البشر والعديد من الحضارات. إنّ أحد أهم الدروس المستفادة من أزمة كوفيد-19 هو أنّ عالمنا الحديث شديد الترابط، وبينما تتواصل مقارنة هذه الجائحة بجائحة إنفلونزا عام 1918 من حيث الانتشار، فإنّه تجب مقارنة الاستجابة لهذه الجائحة بشكل أكثر دقة بما فعله العالم لمواجهة تفشي فيروس إيبولا في عام 2013. لقد رأينا كيف -وفي غضون بضعة أشهر- وصلت العدوى التي نشأت في قرية ريفية في غينيا إلى الولايات المتحدة وأوروبا. يمكننا بسهولة طرح الحجة القائلة بأن عطسة طفل نازح في إدلب أو الحُديدة يمكن أن تزلزل الأرض في جنيف.
بالإضافة إلى الصدفة الحسنة، ساهمت الجهود المتعددة الأطراف من قبل الحكومات الغربية (وعلى رأسها الولايات المتحدة) من الحد من عدوى فيروس إيبولا التي قتلت ما يصل إلى 70 ٪ من المرضى المصابين. لقد كان سيناريو 1.4 مليون إصابة ومليون وفاة أحد السيناريوهات الممكنة والمحتملة.
إن جائحة COVID-19 هي اختبار صعب للمجتمع الدولي. لن تنجح الجهود والتدابير الوطنية «المحلية» للتغلب على الآثار القصيرة والطويلة الأجل لهذا التفشي، ولا يمكن تحقيق أية نتائج إلا من خلال التنسيق والتعاون العالميين. إنّ التضامن والتنسيق والتعاون ليس فقط ضماناً لرفاهية الناس، بل إنّ المستقبل السياسي والاجتماعي والاقتصادي لعقود قادمة مرهونٌ بهذه الاستجابة.
تضمّ المجتمعات المتضررة في مناطق النزاع المسلح أكثر السكّان ضعفاً في العالم في يومنا هذا. إنّ التصدي لهذه الجائحة في تلك المناطق المنكوبة خطوة أساسية لاحتواء تفشي المرض على مستوى العالم، حيث يمكن لمناطق النزاع المسلح أن تصبح بؤراً مستمرة ومداومة تنشر عدوى كورونا لسنوات طوال، ولا يمكن إطفاء الحريق حتى يتم إطفاء آخر شعلة. بالإضافة إلى ذلك، يجب أن تقترن استراتيجيات سد الفجوات الإنسانية بمقاربات شاملة لمعالجة التحديات المؤسسية والاقتصادية الملحة. يجب أن تكون نماذج التدخل الإنساني التقليدية خالية من القيود البيروقراطية، وأن يتم تحديثها لتلبية الاحتياجات المتزايدة بشكل كبير على المسرح الدولي. إن الفشل في احتواء تفشي COVID-19 في ظلّ الأوضاع الإنسانية المتردية سوف يستمر بتهديد الأمن الصحي العالمي، وعلينا أن نتذكر أن قوة السلسلة تساوي قوة أضعف حلقاتها.
د. عبد الله شاهين: طبيب وأستاذ مساعد في قسم الأمراض المعدية والوبائية في جامعة براون – الولايات المتحدة الأمريكية – وأستاذ منتسب لمركز دراسات حقوق الإنسان.
د. تيسير الكريم: طبيب وخبير في العمل الإغاثي في مناطق النزاعات المسلّحة والكوارث حول العالم، وزميل دولي لمركز حقوق الإنسان والدراسات الإغاثية في جامعة براون – الولايات المتحدة. مقيم في باريس، فرنسا.
موقع الجمهورية
————————————
خوف، قلق، جوع… برفقة كورونا في دمشق: تسيس الوباء و”بطاقة ذكية” لمواجهته!/ مجد الخطيب
(دمشق)، اليوم هو أول أيام الأسبوع الأخير من تموز، الحر الثقيل والشمس الحادة تبطىء التنفس، وتزيد من تعرّق الأبدان. يخرج أسامة (33 عاماً) من بيته، ينتظر التايتنك الأخضر، وهو باص النقل الداخلي، والذي يصطلح شبان دمشق على تسميته بذلك لكبر حجمه وغرقه بالركاب بسبب كثافة عددهم. يؤّشر للحافلة التي أقبلت، يجد لقدمه مكاناً بين أرجل الركاب المتلاصقة أجسادهم ببعضها البعض بسبب الازدحام، في حرارة تتجاوز 40 درجة، فيما الداخل ممتلئ بأنفاس الركاب. ينزل من الباص بعدما ما اقترب من دائرة المصالح العقارية في شارع الثورة وسط العاصمة دمشق، ويهم بالدخول إلى مبنى الدائرة، يستوقفه الحارس بيديه العاريتين وأنفه الكبير قائلاً: “ممنوع دخولك دون ارتداءك كمامة وقفازين، تعليمات جديدة بخصوص كورونا!”.
يستدير أسامة فيجد أمام المبنى بسطة. ثمة شاب يافع يردّد بصوت عال وهو يقف خلفها: “قفازات، كمامات …”. يدفع ثلاثة آلاف ليرة، وحين يهم بالدخول يجد أنّ القفاز الذي اشتراه تالف، يعود أسامة لإرجاعه، فيقول له البائع: “ادخل به على كفالتي. الحارس يدخلك… المهم أن يرى القفازات في يدك”. يعود أسامة أدراجه إلى الدائرة فيدخله الحارس دون أي تردّد مترافقاً مع مراجع آخر استطاع وضع 500 ليرة في يد الحارس فأدخله دون شراء أي أدوات وقائية.
هذه القصة التي رواها أسامة لحكاية ما انحكت، تعكس مدى هشاشة الإجراءات الوقائية التي يقوم بها النظام في دمشق، والتي يتعامل معها الناس والحكومة على أنّها قوانين يمكن التحايل عليها بالرشوة أو التملّص منها، والاكتفاء بالانضباط الشكلي، دون وجود أي تطبيق فعلي في معظم مرافق العاصمة.
مضت خمسة أشهر على إعلان وزير الصحة السوري نزار يازجي عن أول إصابة بفايروس كورونا، في 22 من آذار الماضي. ترافق الإعلان مع حالة من القلق التي بدأت تضرب العاصمة من انتشار الجائحة في ظلّ تردي الأوضاع الصحية والاقتصادية في البلاد.
تبعه إصدار بشار الأسد قانون عفو عام عن الجرائم المرتكبة قبل شهر أذار الماضي، دون أن يشمل العفو المعتقلين السياسين داخل الأفرع الأمنية، ليلحق بمرسوم تسريح دفعات من الجيش تم الاحتفاظ بها.
قبل اعتراف وزارة الصحة بالاصابات، أصدرت وزارتي التربية والأوقاف في 14 من آذار الماضي قراراً بإغلاق المدارس تبعها إغلاق المساجد بعد الانتهاء من الصلاة مع استمرار النفي الرسمي لوجود أيّة إصابة.
وأصدرت عمادة كلية الطب تعميمًا وجّهت فيه بإيقاف الدروس السريرية في جميع المشافي الجامعية لطلاب الطب البشري مؤقتًا، لتغرق العاصمة بهدوء ليلي لم تشهده منذ عقود بعد إعلان حظر التجول الليلي، تبعه قرار من وزارة الداخلية بمنع قدوم الأشخاص من الريف إلى المدينة، وهو القرار الذي برّرته الحكومة للحد من الاختلاط، وأعاد فتح حديث طويل وقديم وسجالي بين السوريين حول ثنائية الريف والمدينة، والكثير من القصص والحكايات عن الازدراء الذي كان يتعرّض له أبناء الريف في المدن منذ عدة عقود.
رشاد (36 عاماً) ابن مدينة سقبا، يعمل كمخبري أسنان في منطقة المزرعة وسط العاصمة دمشق، منع من الدخول إلى دمشق، خلال فترة حظر التجوّل، مما عرّض أسرته المكوّنة من طفلتين إضافة إلى زوجته إلى ضائقة اقتصادية، اضطر بعدها للتحايل على الحواجز التي تمنع دخول أبناء الريف إلى العاصمة.
يقول لحكاية ما انحكت: “خلال الأيام الأولى كنت أرافق جارنا الفلاح الذي يقوم بنقل الخضروات إلى العاصمة دمشق. وعندما نقطع الحاجز كنت أنزل من سيارة الخضار وأذهب ماشياً إلى مخبر الأسنان، أخلع ثياب الزراعة وأرتدي بدلتي البيضاء وأبدأ بالعمل مباشرةً كي أنهي أكبر قدر من العمل قبل الساعة السادسة موعد العودة”.
ينهي رشاد حديثه بالقول: “بعدها بدأت أدخل 500 ليرة للحاجز ويدخلني متى أردت الدخول، كانت تعرفة الدخول إلى العاصمة في ظل هذا القرار 500 ليرة لا أكثر، ليكون تطبيق القرار فقط على الذي لا يدفع”.
تخفيض العمل في المؤسسات العامة، وتطبيق الحظر الليلي والذي كان يبدأ عند الساعة السادسة مساء، زاد التضخم الاقتصادي وأفقد العديد من السوريين وظائفهم، وخصوصاً العمال المياومين الذين يعملون يومهم ليأمنوا قوت عملهم، حيث ارتفع الدولار الذي كان آنذاك بحدود 1000 ليرة سورية إلى ضعفين عن بداية الحظر، ويصل اليوم/ الإسبوع الأخير من آب، أغسطس/ إلى ثلاثة أضعاف، مصحوبا مع ارتفاع شديد في أسعار المواد الغذائية والمنظفات، بلغت ثلاثة أضعاف، وذلك رغم إعلان الحكومة أنها خصصت 100 مليار ليرة سورية للمساعدة في دعم النشاط الاقتصادي في مواجهة كورونا. إلا أنّها لم تشرح كيف سيتم صرفها، ولم توجد أي آثار إيجابية لصرف تلك المخصصات بحسب شهادات محلية، حيث أنّ معظم المستطلعين لم يسمعوا فيها، ولم يلاحظوا أية آثار إيجابية لذلك.
أول مناطق انفجار الوباء كان في منطقة السيدة زينب جنوبي دمشق، حيث قامت قوات النظام بإعلان عزل منطقة السيدة زينب عن باقي المناطق، بعد انتشار الوباء في شارع الحرامات داخل منطقة السيدة زينب التي تعتبر محجاً دينياً ومكاناً لتجمّع كلّ المليشيات الطائفية اللبنانية والعراقية والإيرانية التي تساند النظام، إضافة إلى عدد كبير من النازحين من القطاع الجنوبي في الغوطة، والذين نزحوا إلى منطقة السيدة زينب بعد الدمار الذي لحق في بلداتهم.
إثر إعلان النظام تطبيق العزل على منطقة السيدة زينب منع أهالها من الخروج من بلدتهم إلا بعد الحصول على موافقة من المركز الصحي في البلدة، وكانت الموافقة هي بوضع ختم على يد كل من يريد الحصول على موافقة خروج، بدلاً من إعطائه ورقة مختومة، الأمر الذي أدى إلى استياء كبير لدى الشارع، كون هذا الأمر يتبع في نظام السجون، وتدل على تعامل السلطة مع الناس كما الماشية التي يتم وسمها.
البؤرة الثانية التي تم عزلها هي منطقة التل في ريف دمشق حيث فرضت قوات النظام العزل عن باقي المناطق المحيطة فيها، بداية شهر نيسان الماضي، والذي استمر ما يقارب الشهر، بعدما أعلنت وزارة الصحة خلو المنطقة من الإصابات وفتح الطريق، إلا أنه منذ بداية شهر تموز الماضي حتى ٢٦ أغسطس إلى إصابة نحو 20 عائلة في التل.
المنطقة الثانية التي كانت قريبة من دمشق وشكلت بؤرة لانتشار الكورونا كانت هي جرمانا التي تبعد 8 كم عن مركز العاصمة. مصادر في الهلال الأحمر في المدينة قدرت لحكاية ما انحكت عدد الإصابات بما يتجاوز 550 إصابة في حين اعترف مجلس المدينة بوجود 15، إضافة إلى فرض حظر بإغلاق كافة المهن والمحلات، باستثناء محلات المأكولات بعد الساعة التاسعة مساء، ثم أعاد إغلاق المطاعم والمقاهي والمنتزهات مع
الاجراءات الحكومية التي لم تدم شهرين حتى رفع النظام الحظر الليلي وأعاد التنقل بين المحافظات وسمح بفتح المحلات أبوابها.
الإجراءات الرسمية للحد من جائحة كورونا، كانت قد بدأتها وزارة الصحة بتخصيص كل من مشفيّ المجتهد والمواساة للتصدّي لفايروس كورونا.
أحد الأطباء في مشفى المواساة الذي رفض الكشف عن اسمه، قال لحكاية ما انحكت: “يومياً تأتينا بين 70 إلى 80 حالة محتملة بالإصابة بكورونا، الأعداد تفوق الطاقة الاستيعابية. في المشفى يوجد 8 أسرة مجهزة بمنافس فقط، بينما يوجد 6 أسرة في مشفى المجتهد، الوضع مرشح للانفجار، أصبحت المشافي مراكز موبوءة أكثر منها مراكز للعلاج”.
الأرقام الرسمية تجاوزت الألفي إصابة بحسب آخر إحصاء. هذه الإحصاءات تكذبها دائماً المصادر الطبية على أرض الواقع. باتصالنا مع مصادر طبية في كل من مشفى الأسد والمواساة والمجتهد، المشافي الثلاثة الكبرى في العاصمة، أكدت المصادر لنا أنه يومياً يتم نقل بين 20 إلى 30 جثة إلى برادات المشافي.
الدكتورعمر (اسم مستعار) وهو خريج قسم الصدرية في جامعة دمشق ويعمل في أحد المشافي العامة قال لحكاية ما انحكت: “العدد الكبير في ضحايا الفايروس/ كورونا يعود سببه إلى عدم وجود منافس كافية تفي بالغرض. يومياً يأتي ما يقارب 100 حالة إلى مشافي العاصمة بحاجة منافس، وكل المتوفر في جميع مشافي العاصمة لا يتجاوز العشرين منفسة.
فيما يتراوح أجار غرفة العناية المشددة مع منفسة في المشافي الخاصة بين 600 ألف ليرة سورية إلى مليون ومئتي ألف لليلة الواحدة بما لا طاقة لاحتماله لدى معظم سكان العاصمة، حيث يبلغ متوسط دخل الأجور 60 ألف ليرة شهرياً”.
انفجار الوضع الصحي في المشافي، لم يتم الاعتراف به رسمياً إلا بشكل خجول، كان ذلك في 21 من شهر تموز، عندما أعلنت وزارة الصحة عن إصابة 3 من الكادر الطبي، في حين رصدت العديد من المواقع الإعلامية وفاة أكثر من 17 طبيب في دمشق أثناء تصديهم للفايروس، وهو أمر حذّر منه العديد من الأطباء العاملين، حيث نشر أحد الأطباء على صفحته على الفيسبوك مطالبا بإغلاق مشفى المواساة، وإعادة تعقيمه بعدما انتشر الوباء داخل المشفى كالنار في الهشيم.
تسيس الوباء
طوال خمسة شهور لم يخرج الرئيس الأسد بأي خطاب حول الفايروس، ونسبة تفشيه في البلاد، على غرار رؤساء باقي الدول، واكتفى بتأليف فريق حكومي لمتابعة انتشار الفايروس برئاسة وزير الصحة التي كانت أولى تصريحاته “بإنه لا داعي للقلق فالجيش العربي السوري استطاع تطهير البلاد من كافة الجراثيم” في ربط لخطاب سابق كان وصف فيه الأسد المناهضين له بالجراثيم.
استغل النظام جائحة كورونا لتمرير العديد من القرارات حيث فرضت وزارة الصحة التابعة 100 دولار لكل من ينوي مغادرة البلاد للحصول على موافقة طبية جراء قيام مسحة يدفعها إلى المصرف السوري المركزي، بهدف تعزيز القطع المالي جراء الأزمة الاقتصادية التي يعانيها.
كذلك كرس الإعلام الرسمي وشبه الرسمي تغطيته بخصوص الفايروس، للتركيز على الإجراءات التي تقوم بها الحكومة، والخسائر الاقتصادية الكبيرة التي تتكبدها أميركا والدول الأوربية في إشارة إلى المعسكر المغربي، والذي يتعبره النظام سبباً في المؤامرة الكونية على سوريا.
“بطاقة ذكية” ضد الكورنا!
مع بدء الحظر الكوروني الذي فرضه النظام نهاية آذار الماضي، والذي دام حوالي الشهرين، رافق الحظر تطبيق العديد من القوانين منها تفعيل البطاقة الذكية، حيث أصبح شراء الخبز عن طريق البطاقة الذكية، إضافة إلى العديد من المواد التموينية من السكر والرز والزيت والمحروقات.
أم جمال (مزنة/ اسم مستعار) التي تداوم منذ ثلاث أيام على الوقوف أمام المؤسسة الاستهلاكية في جرمانا بريف دمشق للحصول على حصتها التمونية من الرز والسكر على البطاقة الذكية تقول لحكاية ما انحكت: “أصل إلى هنا يومياً عند الساعة السابعة صباحاً، نبدأ يومنا بالتباعد الاجتماعي، قلة قليلة تأتي واضعة الكمامات. بعد ساعة من الانتظار وازدياد الأعداد، يأتي الموظف عند الساعة التاسعة، عندها تتكسر كل مسافات التباعد الاجتماعي، ويطغى عليّ شعور بالخوف من عدم الحصول على مخصصاتي قبل نفاذ الكمية على أي تباعد اجتماعي أو اجراءات احترازية للحد من كورونا، وأن تنفذ الكمية قبل أن يصلني الدور”.
أم عماد (سلمى/ اسم مستعار) عاشت حصار الأحياء الشرقية في دمشق من قبل قوات النظام، هي منذ بداية جائحة كورونا تخرج للسوق، بينما يلتزم زوجها مريض الربو المزمن في البيت. قابلنا أبو عماد وهو يرتدي كمامة وملتزم بالتباعد الاجتماعي حيث بدأ حديثه ساخراً: “عشنا الحصار خمس سنوات. كان يفصلنا عن الموت برصاص القناص ستائر تمنعه من رؤية حارات حي القابون… وإذا رأى القناص شيئا يتحرك فاعلم أنه مات”.
يشير أبو عماد بيده إلى الكمامة قائلاً لحكاية ما انحكت: “الآن انتقلت الستارة التي كانت في الحي إلى أنوفنا وأفواهنا، إذا ما استطاع الفايروس الدخول خلف هذه الستارة أعلم أنني سوف أكون أحد الضحايا، نجوت طوال خمس سنوات من الموت قنصاً الآن لا أريد أن أموت بفايروس لا أراه ولا أعلم أين يتربص بي”.
(اسم مستعار)
صحفي سوري مقيم في دمشق، يكتب في عدد من الصحف والمواقع العربية، مختص بكتابة التحقيقات.
(تم دعم هذا التحقيق من خلال برنامج Check Global COVID-19 microgrants,، وبدعم من موقع ميدان)
حكاية ما انحكت
————————–
الحدود والمجال بعد كورونا.. من الضبابية لمزيد من التشظي/ عبد القادر بوطالب
ترتب على حالة الحجر الصحي، كإجراء احترازي لمواجهة جائحة كورونا (كوفيد 19)، تغييرٌ ملحوظ في الكثير من السلوكيات والأفعال، كما في التصورات والتمثلات، سواء تعلق الأمر بالأفراد أو الجماعات، وبالخصوص أن نافدة الجزء الأكبر من سكان العالم على الفضاء الخارجي كانت تتم من خلال ما تتناقله شبكات التواصل الاجتماعي والتقنيات الحديثة للمعلوميات، حيث شكل ذلك متنا ضخما، يزخر بكم هائل من الصور والأخبار والبيانات والمعطيات والمعلومات.
إن فهم وتأويل هذا المتن يسمح لنا بمعرفة المسارات الممكنة لعالم قيد التشكل، حيث أن هذا المتن امتلك دلالاته وشيفراته الخاصة؛ بعضها كان معلنا وواضحا، والبعض الآخر ظل بحاجة للمساءلة والكشف عن خفاياه، واستوى كل ذلك في شكل خطاب متكامل، تميز بنوع من القصدية الواضحة في مجمله، والتي تسعى إلى توجيه السلوك وتوحيد الموقف.
مسرحة فعل السلطة وتأنيثه: أية دلالات؟
أمكنتنا المتابعة لأهم مراحل فرض حالة الحجر الصحي في الكثير من المدن المغربية، من ملاحظة مسألتين أو ظاهرتين، واللتين سنعتمدهما كمدخل لفهم وتحليل المحلي والوطني والكوني، والكيفية التي تتداخل بها هذه المستويات في تشكيل تصورات جديدة حول الحدود والدولة والمجال، وهاتان المسألتان هما:
• تكمن الأولى في وجود نوع من القصدية في تصوير تدخلات رجال السلطة على المستوى المحلي أثناء فرض حالة الحجر الصحي، والعمل على نشرها وتعميمها عبر وسائل وتقنيات الإعلام الجديد، وبالخصوص شبكات التواصل الاجتماعي، وقد بدا واضحا توظيف تقنية البث المباشر.
• وتتمثل الثانية في التركيز على النساء/ القائدات من رجال السلطة، بحيث حظيت تدخلاتهن في الأحياء الشعبية باهتمام خاص وبمتابعة ملحوظة، وبالفعل، فرضت بعض القائدات وجودهن على شبكات التواصل الاجتماعي، وكانت أشهرهن القائدة حورية (عرفت هكذا- 1)، واشتهرت باسمها الشخصي (2) ، ويكفي أن تكتب اسمها في محرك البحث غوغل أو اليوتيوب وغيرهما، لتطالعك المئات من الصور ومقاطع الفيديو والكتابات الصحافية وملاحظات وتعليقات رواد شبكات التواصل الاجتماعي.
شكلت القائدة حورية (3) “ظاهرة” خلال فترة الحجر الصحي، حيث تجاوزت شهرتها المغرب، وحظيت بالكثير من الاهتمام من طرف الصحافة ووسائل الإعلام، وردد معظم المغاربة اسمها، واعتبرت “أيقونة حالة الطوارئ الصحية” و”أيقونة كورونا”.
فرضت هاتان المسألتان طرح جملة من التساؤلات، من قبيل: كيف يمكن تفسير هذا الاهتمام الواضح بتصوير تدخلات رجال السلطة خلال فرض حالة الحجر الصحي، وبالصورة التي كانت تسعى إلى إبراز صورة إيجابية عن تدخلاتهم، وبالتالي محو كل تمثل سلبي حول رجال السلطة؟ هل كان ذلك بهدف إظهار قدرة الدولة على الفعل والتدخل، وتأكيد حضورها كفاعل مركزي في إدارة هذه الجائحة؟ وكيف يمكن قراءة التركيز على رجال السلطة من النساء كفاعلات في الخطوط الأمامية لمواجهة فيروس كوفيد 19؟ هل كان في ذلك نوع من القصدية أم أن الأمر كان مجرد مصادفة ليس إلا؟ وكيف يمكن قراءة التركيز على تدخلات رجال السلطة في محيطهم المحلي؟ هل كان بهدف التقليل من أهمية دور ومسؤولية الدولة أو السلطة المركزية في مواجهة آثار الجائحة، وبالتالي يصبح رجل السلطة قائدا أو قائدة هو المسؤول أمام المواطن، ومن ثم يصبح موضوعا للاحتجاج في حالة الفشل، وبالتالي إبعاد السلطة المركزية عن دائرة المساءلة والاحتجاج؟
استندنا في الإجابة على هذه التساؤلات وغيرها على المتن الذي قمنا بتجميعه من صور ورسومات ومقاطع فيديو وتغطيات صحافية، والتي تم تداولها على صفحات شبكات التواصل الاجتماعي، وتعاملنا مع كل ذلك كخطاب، ينبغي تحليله وتفكيك دلالاته وشيفراته. انطلاقا من هذه الرؤية، حاولنا قراءة خبرات وتجارب الفاعلين من الداخل على المستوى المحلي، وذلك بالتركيز على منظومة القيم والمعايير التي يتبنونها أو تبنوها في مواجهة خطر مشترك يهدد الجميع، والتي تبرز منظومة هذه القيم والمعايير كتمثلات، والتي من خلالها يتصرفون ويحددون مواقفهم وأفعالهم وسلوكاتهم وآراءهم (4).
تركز اهتمامنا على المعنى والدلالة الداخلية، أو بعبارة أخرى حول المعيش والفعل والتمثل، والذي تمت صياغته من خلال استخدام اللغة والكلام (5)، وبرز في الكثير من الأشكال التعبيرية، كالرسومات والصور ومقاطع الفيديو وغيرها، والذي شكل متنا يمكن الاستناد إليه لفهم الكثير من التغييرات الجارية والسائرة نحو التشكل.
1- الهرمية المجالية والحاجة الملحة للحدود
كشفت قراءتنا لهذا المتن عن كون معظم التمثلات والتصورات أصبحت تنبني على سلسلة متدرجة ومتصاعدة. فكنا في هذه القراءة، نبدأ من المحلي ثم الوطني فالكوني، لنخلص إلى القول بتشكل نوع من الهرمية المجالية، والتي يشكل فيها المنزل والعالم – تواليا – أصغر وأكبر الوحدات المجالية، وبينهما توجد وحدات وسيطة كالحي والمدينة والجهة والوطن. وأهمية هذه الوحدات تزداد أو تنقص حسب درجة الأمن التي توفرها للمواطن.
نستنتج من الرسمين (1 و2) أن المنزل هو الوحدة المجالية الثابتة، وهي التي تمثل وتختزل الأمن، وفي نفس الوقت، كلما اتسع المجال، أصبح أكثر خطورة (العالم يموت)، فأهمية المجال وقيمته أصبحت مقترنة بالأمن الذي يوفره، وهكذا قد تتساوى كوريا الشمالية ومدينة صغيرة مثل آسفي (6)، وتصبح القائدة حورية قائدة إحدى مقاطعات مدينة صغيرة مثل آسفي وزعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون (Kim Jong-un) في نفس المرتبة والدرجة، وذلك لأنهما حصنا حدود المجال الخاضع لسلطتيهما، ومنعا انتقال الوباء إليه، وبالتالي فالأمن يكون في الداخل، بينما الخارج هو على الدوام مصدر خطر محتمل ووارد، فالعالم برمته، والذي يقع خارج حدود الداخل يتجه نحو نهايته المحتومة (“العالم يموت” كما في الرسم 2)، وبالتالي، فالمغفل من يضحك، (نتا كتكر كر- 7)، ونتيجة ذلك، يصبح الاحتماء بالمنازل هو الحل الوحيد والأوحد للنجاة من موت محقق.
2- تشظي العالم وجدلية الداخل والخارج
إن العالم – وفق هذا المتن- أصبح متشظيا ومتعددا، فالعالم لن يكون من الآن فصاعدا، قرية صغيرة كما كنا نعتقد، بل أصبح أكثر شساعة، وفي نفس الوقت قابلا للتشظي. هذا التشظي المبني على جدلية الداخل والخارج؛ إذ يقترن الأمن بالداخل، أما الخارج، فيحضر كمرادف للموت والخطر المحتمل.
إن العالم، وبعد جائحة كوفيد19، سيتسع أكثر فأكثر، ولكنه، وفي نفس الوقت، سينكمش مجاليا، وسينقسم إلى وحدات صغيرة، وذلك ليصبح شفافا وقابلا للملاحظة، مما يضمن مراقبة أكثر فاعلية، فالحدود ستتعزز وظيفتها، وتصبح حمايتها أكثر ضرورة وأشد إلحاحا من أي وقت مضى، وبالتالي، لا غرابة أن تقارن كوريا الشمالية/ الدولة القوية بمدينة صغيرة كآسفي، ويقارن الزعيم الكوري كِم جونغ أون بالقائدة حورية (8)، وذلك لأن كليهما راقبا المجال الخاضع لسلطتيهما، وحافظا عليه من الخطر القادم من الخارج (كوفيد19)، والعابر للحدود.
إن المجال، كما الحدود، ستصبح مسألة مراقبتهما وحمايتهما من المهام الأساسية للدولة بعد جائحة كوفيد19، وذلك لأن الخطر يأتي من الحدود، فالمجال، كلما اتسع كان مكلِّفا من حيث مراقبته، وصعب التحكم فيه وضبط حركة الناس والأشياء عليه (9).
إذا كانت، بالفعل، الكثير من الظواهر والوقائع التي ميزت عالمنا المعاصر، لا يمكن فهمها إلا من خلال تحليل الحركات العابرة للحدود (mobilités transfrontalières) وفهم سياقاتها التاريخية (10)، والتي جعلت من الصعب تحديد الفواصل يبن المحلي والكوني، فإن ذلك جعل كل التحاليل تنطلق من الكوني، حيث شكل عبور الحدود القاعدة التي تتحكم في كل شيء، وأصبح كل شيء قابلا للانتقال، بما في ذلك المخاطر والأمراض، كما حدث يوم 26 أبريل/ نيسان 1986، حيث ونتيجة انفجار المفاعل رقم 4 في محطة تشرنوبيل Tchernobyl للطاقة النووية بأوكرانيا، وقعت كارثة بشرية وبيئية مرعبة، كان لها دور كبير في تحديد معالم العالم بعد الحرب الباردة (11)، وكما يحدث الآن نتيجة فيروس كوفيد19.
وفي نفس السياق، ينبغي أن نستحضر طبيعة التهديدات المتعلقة بالجريمة والارهاب، والتي أصبحت لها أيضا طبيعة متنقلة، وبالتالي، أصبحت هي الأخرى تفرض حلولا محمولة (portable solutions)، أي أنها لها قابلية النقل من مكان لآخر، إذ يستحيل تغطية ومراقبة كل مناطق الدخول (مناطق الحدود) ومناطق التوتر (12)، ووفق هذا المنظور، أصبحنا نعيش ضمن جماعة بحدود كونية- 13 (une communauté au frontières planétaires)، الأمر الذي أضعف قدرة الأفراد، كما الدول، على التحكم في مصائرهم وأقدارهم، وذلك نتيجة الأخطار المشتركة- 14 (risques partagés).
3- الدولة: أقوى بحدود أقل وأكثر ضبابية
إن النظرة التي تكونت لدى الكثير من الناس، والتي أمكن التعبير عنها من خلال المتن الذي وقفنا عنده من خلال شبكات التواصل الاجتماعي، يعكس بداية العودة الى الذات والمحلي والوطني في الكثير من المستويات، مما قد يعني تراجع الكوني، والذي في الكثير من أبعاده كان تعبيرا عن هيمنة ثقافة كونية، فرضت ذاتها بمنطق القوة الذي حكم العالم، وكان كل ذلك انعكاسا لاحتكار وسائل الاعلام والتقنيات الحديثة للمعلوميات من طرف نفس القوة، الأمر الذي جعل العولمة (Mondialisation) والأمركة (Américanisation) مترادفين، ويعبران عن نفس الظاهرة (15).
إن الوقائع التي تشكلت أثناء هذه الجائحة، والتي قد تستمر بعد ذلك، ستؤثر على وضعية الدول في علاقتها بمجالاتها الترابية، وبسيادتها على المجال، وعلى الأشخاص الذين يتحركون فوقه، وبالتالي، فإن فرض حالة الطوارئ الصحية مثَّل أحد أوجه اختبار قوة الدولة في الضبط والمراقبة، بحيث أن كل وضع هش قد يكون مبعث قلق، وعاملا يساعد على تشكل سلط مضادة لسلطة الدولة، لذلك بدت مسرحة عمليات تدخلات رجال السلطة إحدى العلامات الفارقة في محاولة إبراز قوة الدولة وبداية التحول في وظائفها، وبدت هذه التدخلات، وكأنها تضحية بكل شيء من أجل المواطن وحياته، ومما أعطى لهذه المسرحة كل هذه الأبعاد هو التركيز على النساء من رجال السلطة، بحيث بدا، وكأن الأمر يتعلق بتحول جذري في مفهوم السلطة (autorité)، بإعطائها طابعا ناعما. إن ما تم على هذا المستوى المحلي والوطني، يحدث أيضا على الصعيد الدولي، ذلك أن الصين – بدورها- لجأت إلى استخدام وتطوير قوتها الناعمة عن طريق إرسال الأطباء والمعدات والمساعدات الطبية للعديد من الدول المتضررة من جراء فيروس كورونا (16) ، كما أنها استطاعت التحكم في انتشار الوباء، وانتقلت – في نظر الرأي العام الدولي – من المسؤول عن الوباء إلى دور البطل. وأصبحت تحتل المواقع التي تنسحب منها الولايات المتحدة الأميركية، متشبثة بوضعيتها كقوة اقتصادية في قمة النمو والازدهار، وكقوة عسكرية صاعدة في محيطها الإقليمي (17).
طرح هذا الوضع، على الأفراد، كما على الدول، مساءلة النموذج الذي ينبغي الاقتداء به، وقد رأينا كيف أن ثمة تماهيًا مع النموذج الذي تمثله كوريا الشمالية، وزعيمها كيم جونغ أون (Kim Jong-un)، (أنظر الرسم رقم 1) والذي أظهر القوة والحنكة في حماية مجاله الترابي والسياسي، فمنع انتشار فيروس كوفيد19، أظهر قدرة غير عادية على التكيف مع كل الأوضاع والظروف دون أن يفرط في المرتكزات والأسس التي قامت عليها كوريا الشمالية (18).
بهذا المعنى يمكن أن نتساءل: هل تصبح الصين والدول المماثلة لها هي النموذج الذي ينبغي الاقتداء به؟ وهل يمكن الحديث عن نهاية الدولة كما تجسدت في النظام الليبرالي والديمقراطية الغربية؟ وهل يعني ذلك أن قوة الدولة، ستصبح مشروطة بقدرتها على حماية حدودها وسيادتها ومراقبة مجالها السياسي والترابي؟ وهل يعني ذلك نهاية العولمة أم أنها ستستمر بصيغ جديدة، وفي ظل علاقات دولية مبنية على أسس مغايرة لتلك التي سادت خلال مرحلة ما بعد انهيار جدار برلين؟
إذا كانت الدولة الوطنية (Etat- nation)، والتي قامت على ثلاثة أسس مركزية، وهي وحدة المجال الترابي والتاريخ والمصالح المشتركة، قد انتهت، وتراجعت لصالح عولمة التبادلات الاقتصادية، وفقدت قدرتها على التحكم والتدخل، وبالتالي أصبح الإرث الديمقراطي الذي خلفته الدولة الوطنية مهددا بالزوال، إذ تلاشت الحدود، وهيمنت عولمة التبادلات الاقتصادية والتجارية وتكنولوجيا المعلومات على مختلف العلاقات وعلى سائر الأصعدة. ونتيجة ذلك، أصبح النموذج الديمقراطي الغربي يواجه الكفاءة الآسيوية، أو بمعنى آخر، ثمة نموذج سياسي “جديد” يضع النموذج الديمقراطي الغربي موضع تساؤل، والذي تفرض فيه الجماعة شروطها على الفرد (19).
إذا كان العابر للحدود مصدر خطر، فإن ذلك يفرض تغييرا جذريا في إدارة الشؤون الوطنية والدولية معا، ويعني ذلك بداية تشكل تعاون دولي، مما يترتب عليه بلورة نوع من الحكامة الدولية- 20 (gouvernance mondiale).
تكمن معالم التحول في إدارة الشؤون الوطنية والدولية بعد جائحة كوفيد19 في تعزيز دور الدولة الوطنية (Etat- nation) والدولة الراعية (Etat-providence)، مما يعني تقوية المسألة الاجتماعية في السياسات العمومية، الأمر الذي لن يكون قابلا للتحقق إلا في سياق دولي يقوم على التعاون بين الدول والتنسيق فيما بينها.
لا يعني إخضاع الحدود لرقابة الدولة وتنامي قوة الدولة الوطنية نهايةَ الحركيات العابرة للحدود، وإنما يعني إعادة صياغة هذه الحركيات على أسس جديدة، تهدف إلى منع كل تكرار ممكن لكارثة أو جائحة شبيهة بفيروس كوفيد19، وقد يكون ذلك ضمن دينامية دولية، تستحضر كل ما يهدد الإنسان والطبيعة، ومن ذلك ما ارتبط بالتلوث ومشكلات البيئة والأمراض والأوبئة والإرهاب والجريمة، مما يعني وضع سياسات استباقية بهذا الشأن، وبداية التفكير في مواجهة التهديدات الكونية ومنع انتقالها؛ بحيث يتداخل الوطني والدولي، ولا يتناقضان. وقد يكون المنطلق هو البدء في البحث عن دواء وتلقيح لفيروس كوفيد19 (21)، وتعميمه، وذلك منعا لانتقال العدوى، وكما بالنسبة للمخاطر المتشابهة والمشتركة، فالعزلة (عزلة الأفراد والدول) مسألة ليست بواقعية على الإطلاق.
4- على سبيل الختم
كشف تحليل الكثير من التصورات والتمثلات بصدد المحلي والوطني والكوني أنها أضحت محكومة بجدلية التقارب والتباعد، حيث أمكننا الوقوف عليها من خلال إعادة تأويل وفهم منطوق الكلام واللغة، والذي تشكل خلال مراحل تدبير جائحة كوفيد19، إذ سنحكم بالتباعد والتقارب في نفس الوقت، فمجالنا الحيوي سيكون هو ذاك الذي يحمينا، ونشعر فيه بالأمن.
إن العالم سيضيق من الناحية المجالية إلى أقصى الحدود، وبالقدر ذاته سيتسع ويتمدد، سنكون متباعدين لنضمن الحماية والسلامة، وسيكون الخارج، على الدوام، مصدر خطر، ذلك أن ضبابية الحدود لن تنمحي بالمعنى الفعلي والعملي، فالتنافس بين الدول سيستمر (22)، وسنكون أكثرا تقاربا، لأن قدرنا هو أن نعيش جميعا فوق هذه الأرض، فالعزلة غير ممكنة، ولن تتحقق على الإطلاق، إلا أن مرجعياتنا المجالية ستتعدد، وبحدود أكثر، وبالتالي سنشهد ميلاد هرمية مجالية، ستتحدد حسب درجة المخاطر المشتركة واحتمالات انتقالها ودرجة الأمن. فالأمن لن نشعر به، ولن نعيشه حقيقة، ولن يكون ممكنا إلا من خلال التأكد من أن الخارج – من أصغر وحدة مجالية إلى أكبرها – يضمن الأمن والسلامة لنا، لذلك فالإحساس بالأمن سيظل مرتبطا بالخارج، ذلك أن هذا الوباء (فيروس كوفيد 19) نجح في تعميم الخوف، وسيرغم الجميع على التعاون والتنسيق، مع هذا “الخارج”، الذي هو وبحدود أقل، وبالتالي أصبح مصدر خطر محتمل؛ مما جعلنا نحتمي بالداخل، نحتمي بالدار (23)، وحماية الدار تفرض حماية الحي والمدينة ثم الجهة، فالبلد بأكمله، وأخيرا العالم، وذلك ضمن حدود ضبابية، حيث تصبح قوة الدولة ترتبط بقدرتها على أن تتموقع بشكل أفضل في هذه الهرمية المجالية والسائرة نحو التشكل.
* أستاذ علم الاجتماع، جامعة عبد المالك السعدي، تطوان/ المغرب.
* هوامش:
1- تم التركيز على الاسم الشخصي بحيث بدت قصدية واضحة في إبراز رجال السلطة من النساء، كظاهرة جديدة نسبيا، وفي ظروف تتميز بالدقة والحساسية، يمكن أن يفهم كاستخدام للقوة الناعمة.
2- انظر نماذج من التغطيات الصحافية ومقاطع الفيديو والتي توثق تدخلات القايدة حورية
-https://www.youtube.com/watch?v=ZFKoRkKHXBg
شوهد بتاريخ 29/7/2020
شوهد بتاريخ 29/7/2020
– https://assabah.ma/456456.html
شوهد بتاريخ 29/7/2020
– https://www.youtube.com/watch?v=EX25wTFPt68
شوهد بتاريخ 29/7/2020
– https://www.facebook.com/watch/?v=220982225820730
شوهد بتاريخ 2/8/2020
– https://www.youtube.com/watch?v=FDeWpHAn8W8
شوهد بتاريخ 5/8/2020
-https://www.youtube.com/watch?v=IToNbVNd84M
شوهد بتاريخ 5/8/2020
3- ونحن ننهي كتابة هذه المقالة، تمت ترقية القائدة حورية إلى رتبة الباشا بشكل استثنائي، وذلك لتأكيد أنها شكلت نموذجا جديدا لمفهوم السلطة، وفي نفس الوقت، للتغطية والتقليل من حجم التجاوزات التي مارسها بعض رجال السلطة، والتي تناقلتها شبكات التواصل الاجتماعي.
4- Jodelet, Denise, « Représentations sociales : un domaine en expansion», in Les représentations sociales, (sous. Dir, de Jodelet, Denise), Paris, PUF, coll. Sociologie d’aujourd’hui,1989.
5- Oger, Claire Ollivier- Yariv, Caroline, « analyse du discours institutionnel et sociologie compréhensive : vers une anthropologie des discours », in mots. Les langages du politique. N° 77. 2003. p130
6- آسفي هي مدينة مغربية تقع على ساحل المحيط الأطلسي بين مدينتي الجديدة والصويرة.
7- جملة بالدارجة المغربية، وتعني باللغة العربية الفصحى: أنت الذي تضحك.
8- القائدة حورية قائدة بمدينة آسفي (رتبة شبه عسكرية). اشتهرت خلال فترة الحجر الصحي عبر مجموعة من مقاطع الفيديو، والتي كانت توثق طريقة فرضها للحجر الصحي وتعاملها مع المواطنين.
9- Claval Paul, Espace et Pouvoir. Presses Universitaires de France, « Espace et liberté », 1978,
10-Zaki Laïdi, ”La mondialisation comme phénoménologie du monde“ in https://cutt.us/DpxvD
(شوهد بتاريخ 4/8/2020)
* يعتقد لعايدي زاكي أن العولمة هي عبارة عن حركات عابرة للحدود، وبالتالي نستعمل في هذا السياق مفهوم الحركيات العابرة للحدود للدلالة على الظواهر المرتبطة بالعولمة.
11- Thies Jochen, Les conséquences de Tchernobyl : un atout pour les relations Est-Ouest ?. In: Politique étrangère, n°3 – 1986 -51ᵉannée. pp. 703-710 https://www.persee.fr/doc/polit_0032-342x_1986_num_51_3_3602. (شوهد بتاريخ 4/8/2020)
12- Bourne, Mike, et al. “Laboratizing the Border: The Production, Translation and Anticipation of Security Technologies.” Security Dialogue, vol. 46, no. 4, 2015, pp. 307–325. JSTOR, www.jstor.org/stable/26293590. Accessed 4 Aug. 2020.
13 -Zaki Laïdi. ”La mondialisation comme phenomenologie du monde“.op.ct.
14 – ibid.
15 -Guéhenno Jean-Marie. Américanisation du monde ou mondialisation de l’Amérique ?. In: Politique étrangère, n°1 – 1999 – 64ᵉannée. pp. 7-20 in https://cutt.us/q2jil
(شوهد بتاريخ 4/8/2020)
16 -Ian Goldin et Robert Muggah. « Après le coronavirus, le monde ne sera plus jamais le même ». in : The conversation. April 2, 2020 in https://cutt.us/GuXLM
– voir aussi : Michel Duclos. « Le Covid-19 est-il un game-changer géopolitique ? » in : Institut Montaigne 19 MARS 2020 In https://cutt.us/7unr5
17 – Tanguy de Wilde d’Estmael : La chine et le monde auront –ils changé après le coronavirus ? in L’UCLouvain. be sans date Vue 20/07/2020 https://cutt.us/3h0Gu
18- Bruno Tertrais. Portrait de Kim Jong-un – Dirigeant suprême de la République populaire démocratique de Corée.in. https://www.institutmontaigne.org/blog/portrait-de-kim-jong-un-dirigeant-supreme-de-la-republique-populaire-democratique-de-coree
19- Jean-Marie Guéhenno, La fin de la démocratie, Flammarion, 1993
20 – Cui Tiankai , « Un nouveau système de gouvernance mondiale doit être mis en place pour répondre aux crises comme le COVID-19 » dans xinhuanews Publié le 2020-04-12 in https://cutt.us/HvtmB
(شوهد بتاريخ 1/8/2020)
-Voir aussi : Jean-Louis GUIGOU. « Une nouvelle gouvernance mondiale à espérer, un nouvel ordre mondial à construire » dans IPEMED Paris, le 19 Avril 2020 in : https://cutt.us/BAllE
(شوهد بتاريخ 4/8/2020)
21 -Ian Goldin et Robert Muggah. « Après le coronavirus, le monde ne sera plus jamais le même ». . op.ct.
22 ـ Michel Duclos, Le Covid-19 est-il un game-changer géopolitique? Dans Institut Montaigne, 19 MARS 2020 In https://cutt.us/m05k7
(شوهد بتاريخ 3/8/2020)
23 ـ شعار مواجهة جائحة كوفيد19، تم اختزاله في شعار: ابق في الدار، أو خليك بالبيت.
ضفة ثالثة
————————–
فرضية المدوّن العالمي الجديد/ وارد بدر السالم
الفرضية المتخيلة للبشرية التي تحاصرها جائحة كورونا هي أنّ معظم السكان الأرض يدوّنون الآن يومياتهم في هذا المحجر العالمي الشامل، بسبب الفراغ الذي يحيط بهم وفائض الوقت الذي يطاردهم تطبيقًا للشعار العالمي: خليك في البيت.. ومع أن الحياة العملية عادت نسبيًا بالمحاذير الصحية هنا وهناك، إلا أن الهرب الى البيت هو الحل الناجع لتفادي الموت البطيء مع هذا الفيروس القاتل.
فرضية التدوين اليومي، وأسمّي كاتبها بـ المدوّن العالمي، ممكنة لكونها دراما كونية توحدت فيها مشاعر الخوف والقلق والمجهول والاحتماء في الطبيعة ومقايضة الواقع بالغيبيات؛ مع أن الأغلبية ليسوا أدباء وكتّابًا؛ ولم يفكروا يومًا أن يدوّنوا صفحة شخصية واحدة عن موقف رومانسي أو وطني أو إنساني. وبالتالي فإن الظرف المَرَضي الذي حاصرها ويحاصرها حتى اليوم ألجأها الى هذا التدوين المباشر، كنوع من إطلاق المكبوت والهامشي في النفس الإنسانية. وصار بإمكان علماء الاجتماع على سبيل المثال أن يكتشفوا الكثير من المزايا النفسية والاجتماعية البشرية المغيبة التي أخرجها فايروس كورونا قسرًا.
ومن الطبيعي جدًا أن تتشابه الأفكار في هذه الفرضية الممكنة، وأن يصير السرد مجتمِعًا موازيًا للمحنة الكونية العامة. وستلتقي اليوميات في وصفها الشخصي والعمومي من دون الحاجة الى الإطالة واستقدام الخيال واللغة الماهرة، إلا من بعض التفاصيل الصغيرة التي تتحكم بها جغرافية كورونا بين هذا البلد أو ذاك. وهي تفاصيل مطلوبة حسب سياسات الشعوب ووجودها الميداني على الأرض واجتماعياتها المختلفة.
ليس افتراضًا في هذه الحاضنة الأرضية التي توارت عن الوجود الحسي الكامل والشامل، وقلّت حركتها اليومية المعتادة، وعادت الى بيوتها وكهوفها الأولى لترى أن الحياة بحجمٍ أقل من ربع بعوضة. وأقل بكثير حتى من حجم هذا الفيروس الغامض الشبحي الذي تسلل الى الحياة بطريقة نادرة وفريدة ومخيفة، وجعل منها مصحّة اجتماعية وسياسية، يفترعها الذعر والهلع والتحسُّب أكثر مما حصل فيها من وفيات واصابات. فالعالم كله انحنى أمام هذا المخلوق اللامرئي وعجز حتى اليوم من إيقاف زحفه السريع بين الدول والمدن شرقًا وغربًا، ليكتشف أن ثقافته العامة هي ثقافة استهلاكية أكثر من كونها ثقافة صحية وعلمية رصينة تواجه الحياة بمضاداتها المعرفية والأخلاقية والإنسانية، بعيدًا عن الوقاية الدينية التي يتوجه الناس اليها اليوم درءًا لهذا الإرهاب البيولوجي. وهذه أقل حيلة يلجأ اليها الإنسان في محنته الشخصية، ليكشف أنه عضو ضعيف في النسق البشري العام، وأنّ الكثير من الشعارات الحياتية واليافطات السياسية والدينية الشكلية ما هي إلا غطاء مرحلي للعبور الى الساحل الآخر من المنفعة الشخصية والإيديولوجية، وأن كورونا فضح الجميع بلا رحمة أمام جبروته وعظمته السرية التي اجتاحت الشعارات الشكلية والفساد السياسي والاقتصادي والديني الوعظي بقوة.
لذلك باعتقادنا أن البشرية بأديانها وطوائفها ومذاهبها وفي كل مكان تضامنت؛ ولو بنسبة معينة؛ وتوحدت ونجحت؛ الى حد ما؛ في أن تبتعد وتتقارب بالوقت ذاته، بعيدًا عن إلهامات السياسة وأديانها الكثيرة، لترى أن الحياة بالنتيجة أضيق من خرم الإبرة. وأن السعادات في الغالب فردية يصنعها البشر ولا تصنعها الأشكال الأخرى التي استهلكت الأرض بلا معنى في كثير من الأحيان. وبالتالي فإنّ التغيير النفسي والواقعي سيطال الحياة كلها بعد الخلاص من هذه المحنة الكونية والقضاء عليها.
ثقافة الخرافة
نقول إن التدوين اليومية المقترح في أرجاء الأرض سيتشابه وسيلتقي في نقطة واحدة؛ وهي النقطة الإنسانية الشاملة التي تعاضدت بين شرق الأرض وغربها بطريقة واحدة. وصار تتبّع أخبار الشعوب الشغل الرئيسي للجميع لتقدير حجم الإصابات والوفيات، وما يفرزه من إطار نفسي قوامه الخوف والذعر وانتظار الآتي من مخلفات الجائحة الكورونية، مثلما تتجه الأنظار في العالم كله الى ملائكة الرحمة من الأطباء والممرضين وعلماء البيولوجيا والعارفين بمثل هذه الأوبئة الفتاكة من كلا الجنسين. لكن تبقى الشعوب الفقيرة والجاهلة والمعدمة من نعمة الطب تستميت في الرحيل صوب شفويات أسطورية وخرافية في صيدليات الطبيعة وما تركه السلف البعيد من (علاجات) سحرية، أملًا بأن تقلل من حجم الإصابات، فمثل هذه الشعوب التي تستقدم خرافاتها الطبية قد تعالج الجانب النفسي، وهو نصف المشكلة، عندما تذهب الى الماضي والإرث الطبي الشعبي المتوارث والذي لم تثبت أهميته بعد.
وحتى في الدول التي خرجت من هذا الإطار الشعبي الذي يسوده الجهل وعُدّت من الدول الأكثر من نامية؛ كالعراق وإيران مثلًا، ذهبت الى ثقافة الخرافة الدينية بوصفها الطائفي لتستدعي المقدس على أشكاله، فأشاعت الكثير من الممارسات المستفزة في المجتمع التي لا علاقة لها بعلاج كورونا، سوى أنها نوع من الإيهام النفسي والخديعة التي تضلل المجتمع وتغريه بتابعيته اليها من دون أن تتركه، ليرى الحياة العلمية وثقافتها المتطورة ومعالجاتها المتوقعة لهذا الإرهاب الوبائي، كالخرق المقدسة والعطور الدينية التي تشفي المرضى من (أوهام كورونا) إضافة الى السماح بالزيارات الدينية الى مراقد الأئمة في تجمعات جماهيرية ناقلة لهذا الوباء.
الطفولة الاجتماعية
سيعود المدوّن العالمي الى مثاباته الأولى. وستكون أولى انتباهاته الى البيت ومحتوياته وعناصره الغائبة عن العين، لا سيما الهوامش منها. بمعنى أنه ستكون للبيوت يوميات ومذكرات مع أفراد لم يعتادوا المكوث الطويل كما يحصل الآن، لا سيما الرجال الغائبين عنها ساعات طويلة بسبب العمل أو السفر مثلًا، ليكتشفوا أسرارها وعناصرها الصغيرة والكبيرة، بدءًا من الباب الخارجي الذي يحتاج الى تجديد في الأصباغ وترميم الخسوفات الصغيرة، وانتهاءً بالحديقة الخلفية التي تراكم عليها الغبار والتي تحتاج الى تشذيب وري وسقاية وقص وتنظيم، مرورًا بالمطبخ بروائحه من قلي وشواء وطبخ، والى كل الموجودات التي تشكل عناصر هامشية ورئيسية كالثلاجة المزخرفة بالملصقات، والمجمدة النائمة على برودتها المثلجة، والطباخ الذي تعلوه طبقات خفيفة من الدهون، والقنفة الراكدة، والسجادة المتآكلة، وعلى شاكلتها العناصر الهامشية: البطانيات والمخدات والثياب والستائر والمصابيح والثريات والإكسسوارات المعلقة من صور قديمة ولوحات تجارية تناسلت تحتها العناكب ومات الذباب في شبكاتها المتربة.
وربما ستكون مدوّنات البيوت هي الأجدر بأن تكون تاريخًا نسبيا لأيام كورونا، كونها أعادتنا قسرًا الى كل تلك الموجودات والعناصر الدافئة التي نفتقدها مع مرور السنوات لأسبابنا الكثيرة. وهذه السببية بمجموعها السالب والموجب أعادتنا الى نقطة الصفر البيتية وروائحها وطعمها الأزلي الذي نسيناه في زحمة المشاغل اليومية. فاضطرنا الوباء الى أن نبقى في بيوتنا فترة من الزمن مفتوحة وكأنها لا نهاية لها. فالحال المَرَضية المفاجئة ألزمت الكون بأن يستفيق ويصحو ويعود الى طفولته الاجتماعية في بيته ويرى الكثير مما فقده في سنوات الترحال والعمل والتجوال. وهذا ما وقعنا فيه: عزلة إجبارية في بيوت شاء القدر لها بأن تفتح أجنحتها للعائدين إليها، ليكون للبيت حصة من اليوميات والمذكرات في هذه الجائحة الكونية التي ترانا ولا نراها. وبالتالي علينا أن نرى البيت كعربة دافئة، راقدة على جرف الحياة لا لتشكّل منظرًا طبيعيا. بل تؤدي مهمة نفسية كظاهرة، بتعبير باشلار، انسجامًا مع فكرة أن البيت هو الألفة والحميمية الذي يتجذر فينا بمرور الوقت، فهو الحضنُ والحاضنة والمأوى والغطاء والخيمة الكبيرة. وحتى الانسان البدائي القديم كان يتستر ويبني بيوته من أوراق الأشجار وجذوعها، ومن حزمات القصب يشكّل هندسة بيتية محمية، ليمارس فعل الحياة بالأشكال كلها. فالإنسان يولد في بيته؛ أيًا كان شكل البيت؛ وتتفتح عيونه على أي شكل هندسي مهما كان بسيطًا، يحفظ له بقاءه وديمومته ليصون بالتالي أسراره ويتجذّر فيه وينتمي إليه. وهو ما أشار اليه الظاهراتي باشلار في (جماليات المكان).
المدوّن العالمي الكوروني سيشعر بأنه يعيد الاعتبار للبيت فقد تكون هناك مواساة ضمنية في هذا الرجوع الإجباري؛ لإعادة النظر في كل شيء، اجتماعيًا ونفسيًا وأدبيًا، وتقليل بعض الخسائر اليومية التي كانت تحدث، ورؤية البيت من زوايا كثيرة مع مراقبة الأخبار العاجلة التي تتحدث عن السيد كورونا. فكلما كانت هناك فجائع موت أو إصابات، يمسك مقود البيت بالمعقمات والمطهّرات بقلق، ثم يخاطب الناس عبر وسائل التواصل الاجتماعي بطريقة ما كأنه سيودعهم أو في محاولة؛ ربما صريحة؛ لطلب الصفح والعفو والمغفرة، لذلك فالمدوّن حاجرٌ نفسي وذاتي وكياني قبل الحجر الحكومي، كوني أفهم الى حد بعيد ماذا تعني مثل هذه الظاهرة الكورونية، وما خلّفته من آثار اقتصادية واجتماعية وسياسية، مستذكرًا طواعينَ كثيرة مرت بها البشرية سمع بها سابقًا أو أعادتها له مقاطع فيديوية تهتم بالشأن الصحي والإنساني.
وسيجد هذا المدوّن العالمي أثناء حصاره البيتي بأن هناك حلولًا غير التدوين من شأنها أن ترفده بالتجربة، لو استعصت الكتابة عليه. فالقراءة حل. والكتابة حل. والنوم حل. والخمرة حل. والموسيقى حل. والصلاة حل. والدعاء حل. وكل هذه الحلول هي موضعية لا تستطيع أن تخفي القلق المتعاظم فيه مع موجات الإصابات المحلية والعالمية وازدياد الوفيات في هذا البلد أو ذاك، حتى بات القلق نصف الهزيمة. وما تبقى يشبه حلًا قدريًا قد يأتي أو لا يأتي، مع يقيننا الثابت أن العلم الجبار سيجد حلًا أخيرًا لهذه المنازلة غير المنصفة (تذكّروا رواية “أولاد حارتنا” لنجيب محفوظ عندما انتصرت فيها المعرفة) فلا مجال للقوة الشخصية إلا في استمكان تلك الظواهر والعبور عليها بسلام. لكننا ندّخر القوة من مضامين نفسية وثقافة مستوفية الى حد جيد أن تكون هذه التجربة المخيفة ليست عابرة كما يتصورها البعض. بل هي من أصعب التجارب التي تواجه أجيالنا في كل مكان من الأرض، وعليه فإن هذا الصراع الوجودي هو تهديد حقيقي وليس طارئًا على الكون كله، وبالتالي فالخوف حقيقي من اليوم ومن الغد مع وجود المناعة الثقافية المتوسطة والمناعة القدرية التي لا بد منها في مثل هذه الظروف بالغة السوء. فاليوم الغامض يمر أحيانًا بسلام، لكن الغد الأكثر غموضًا لا نعرف مستويات مفاجآته النفسية والاقتصادية والسياسية. وعلى الأغلب الأعم أن الغد سيتغير كثيرًا، فهذه الجائحة لن تمر بسلام على الجميع؛ إذ لابد من أن تتغير بُنى اجتماعية وفكرية وثقافية وسياسية كثيرة في مغارب الأرض ومشارقها. وقد نشهد تحولات استراتيجية في كيفية بناء الأوطان بناءً علميًا وثقافيًا غير الذي اعتدناه وتطبّعنا عليه. فالكوارث كلها تعيد الخلق من جديد. وتنمّي مهارات أخرى للمستقبل وأولها البناء الثقافي الرصين بكل مشتقاته المعروفة.
تحية لكل مدوّن في العالم رصد بيته وانفعالاته وخوفه وقلقه، ورأى ما لم نره في هذه المحنة الجماعية.
ضفة ثالثة
——————————-
دمشق في مواجهة مليون حالة “كورونا”: لا غرف متاحة!/ طارق ميري – محمد الواوي
على رغم انتشار فايروس “كورونا” في دمشق بـ”وتيرة منخفضة” بحسب أرقام وزارة الصحة، مذ سجلت سوريا أول إصابة يوم 22 آذار/ مارس الماضي، إلا أن الأوساط الطبية تشكك بالأرقام التي تصرح بها “الصحة” بناءً على عدد الحالات التي كانت تراجع المستشفيات، التي شهد الكثير منها ازدحاماً وسط زيادة عدد الوفيات بحسب مصادر طبية من داخلها، تعززها زيادة عدد الوفيات اليومي العام بحسب بيانات “مكتب دفن الموتى” في دمشق.
ففي حين أعلنت “الصحة” عن 95 وفاة نتيجة “كورونا” حتى 25 آب/ أغسطس الماضي، أكد مصدر في مكتب دفن الموتى في دمشق لمعدي التقرير أن الوفيات وصلت إلى أكثر من 100 يومياً في الأسبوع الأخير من تموز/ يوليو الماضي مقارنة بـ25 حالة وفاة يومياً في الفترة ذاتها من العام الماضي. ويستدرك بالقول: “لكن العدد تراجع إلى 40 حالة يومياً في الأسبوع الأخير من شهر آب”، وهذا يشمل إطار الوفيات العام في دمشق الصادر عن “مكتب دفن الموتى” الوحيد في العاصمة والتابع لمحافظة دمشق، وهو يظهر تضاعف عدد الوفيات مقارنة بالفترة السابقة من العام الماضي. ولا يمكن الجزم بأن الوفيات هي لمصابين بـ”كورونا” كون وزارة الصحة لم تجر مسحات لجميع الحالات كما يؤكد المصدر “بسبب ضعف الإمكانات”.
وتشير بيانات وزارة الصحة السورية إلى 5134 إصابة مسجلة في سوريا فقط و251 وفاة و1565 حالة شفاء، بينما يتوقع طبيب الانتانية (مختص بالجهاز المناعي للجسم) علي رستم في لقاء مع معدَّي التقرير، أن العدد الكلي للإصابات بفايروس “كورونا” في دمشق بلغ أكثر من 700 ألف إصابة حتى تاريخ 20 آب، مع افتراض أن عدد سكان العاصمة السورية هو 5 ملايين نسمة. في المقابل، كانت وزارة الصحة تعلن خلال هذه الفترة، عن 20 إلى 24 إصابة مسجلة بـ”كورونا” يومياً. لكن أستاذاً جامعياً في كلية الطب في دمشق، قدّر لمعدّي التقرير العدد بما يزيد عن مليون إصابة حتى الآن.
ويوضح الطبيب رستم أن دمشق لم تصل إلى “مناعة القطيع” بعد، كون ذلك يتطلب إصابة 60 في المئة من السكان، واعتمد على أحد النماذج الإحصائية من prediction model، الذي يقدم إحصاءاته بناء على البيانات المدخلة إليه من معلومات وإحصاءات طبية أساسية مثل مدة بقاء المريض في المستشفى وعدد الحالات في بداية ظهور الإصابات، ومعدل العدوى بالمقارنة مع عدد السكان فيظهر عدد الإصابات المتوقع.
ويشير رستم إلى أن الإصابات بدأت في 1 أيار/ مايو ووصلت إلى الذروة بعد 90 يوماً، ما يعني أن الذروة كانت في تاريخ 31 تموز/ يوليو أو قبله بعشرة أيام على الأقل، ويقول “هذا ما لاحظناه من ناحية تزايد الإصابات في الأسبوع الأخير من تموز، والأسبوع الأول من آب”.
وبالنسبة إلى قدرات المستشفيات في العاصمة دمشق، والتي استقبلت الحالات المصابة بفايروس “كورونا”، فقد تحدث أكثر من 8 أطباء لمعدي التقرير عن قدراتها الاستيعابية المحدودة مقارنة بعدد الإصابات المحتملة أو المسجلة.
مستشفى الأسد الجامعي
يقول الطبيب سمير (اسم مستعار) من مستشفى الأسد الجامعي، إنه “بتاريخ 16 آب، حدث انفجار في عدد الإصابات، أي قبل عيد الأضحى الأخير بأسبوعين أو أكثر”. ويضيف: “المستشفيات الحكومية في دمشق تحولت إلى أماكن لاستقبال مرضى كورونا وعلاجهم، أبرزها: المجتهد، ابن النفيس، الهلال الأحمر، الأسد الجامعي، المواساة”. وكانت حددت وزارة الصحة في آذار الماضي مستشفى الزبداني الوطني، ثم مستشفى قطنا الوطني في ريف دمشق كمركزين لعزل المصابين وعزلهم، لدمشق وريفها.
ومع ازدياد عدد الإصابات خلال شهري تموز وآب، تحولت المستشفيات الحكومية العامة إلى أماكن عزل واستقبال لمرضى “كورونا”، في تعميم غير معلن للمستشفيات تضمن أيضاً عدم استقبال الحالات المرضية الخفيفة والمتوسطة غير المتعلقة بفايروس “كورونا”، لكن خلال شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2020، عادت المستشفيات الجامعية (التابعة لوزارة التعليم العالي) لاستقبال جميع الحالات المرضية.
وصرح مدير صحة ريف دمشق الدكتور ياسين نعنوس في تصريح لوسائل إعلام محلية خلال آذار الماضي أن مستشفى الزبداني الوطني يضم 100 سرير طبي وغرفة عناية بـ8 أسرة إلى جانب 4 منافس طبية، ويتم العمل على تجهيز 4 منافس أخرى، مبيناً أن الكادر الطبي يضم 220 طبيباً وفنياً.
وأشار مدير مستشفى قطنا الوطني بسام الموعي في تصريح سابق، إلى أن المستشفى خصص مركزاً للعزل الطبي منذ الـ19 حزيران/ يونيو الماضي، ورُفعت طاقته الاستيعابية من 60 إلى 100 سرير.
ويبين المصدر الطبي (سمير) أن مستشفى الأسد الجامعي استقبل يومياً في أسابيع الذروة الماضية بشكل وسطي ما بين 150 إلى 200 حالة مصابة بـ”كورونا”، بناء على الأعراض الظاهرة على المرضى، مشيراً إلى أن جزءاً كبيراً من الحالات لا يتم تشخصيه ونتائج مسحات المرضى تتأخر، إذ اتفق الأطباء في ما بينهم على اعتبار أن كل شخص لديه أعراض مشابهة لفايروس “كورونا” مصاب، ما لم يثبت العكس، حتى من دون إجراء مسحة طبية له، ومعالجته على هذا الأساس، نظراً لعدم القدرة على إجراء مسحات لكل المراجعين.
دمشق لم تصل إلى “مناعة القطيع” بعد،
كون ذلك يتطلب إصابة 60 في المئة من السكان.
ويشير الطبيب سمير إلى أن عدد الوفيات يومياً بالعشرات ويقدر وسطياً بما لا يقل عن 20 إلى 30 وفاة في المستشفيات الحكومية العامة من خلال عمله في مستشفيي الأسد الجامعي والمواساة، إضافة إلى اتصالاته مع زملائه في بقية المستشفيات، مبيناً وجود مرضى أصيبوا بـ”كورونا” وتوفوا في المستشفى بعد يومين قبل أن تشخص حالتهم مخبرياً على أنهم مصابون، لذا لا تدخل هذه الحالات ضمن إحصاءات وزارة الصحة المعلنة.
ويذكر المصدر الطبي (سمير) أن مستشفى الأسد الجامعي الحكومي العام يضم بحدود 18 أجهزة تنفس و60 غرفة عزل تتسع لـ60 مريضاً، وتتوزع المنافس على 5 غرف عناية، بينما لا تحتوي غرف العزل أي منها، ويضيف المصدر “لا أماكن في المستشفيات لاستقبال المزيد من المرضى والحالات الشديدة، وما زلنا في مرحلة تطور الفايروس”، علماً أنه كان هناك تعميم غير معلن من وزارة الصحة بعدم استقبال الحالات المرضية العادية أو الخفيفة في مستشفيات دمشق، قبل إلغائه أخيراً. وشاهد معدا التقرير عدداً من الحالات التي رفضت المستشفيات الحكومية استقبالها، منها حالة ولادة قيصرية وأخرى لامرأة مصابة بنزيف في المعدة.
ويقدر الطبيب وجود 200 إلى 300 جهاز تنفس فقط في مستشفيات دمشق الحكومية والخاصة، لافتاً إلى أن هذا العدد لا يتناسب مع عدد سكان العاصمة البالغ 5 ملايين نسمة تقريباً، بينما يتوقع رامز (اسم مستعار- أحد أساتذة كلية الطب في جامعة دمشق) وجود أكثر من 300 جهاز تنفس في دمشق، لكن لا يمكن تحديد العدد بدقة، في ظل غياب إحصاءات وزارة الصحة السورية حول ذلك، ويشير الدكتور رامز إلى ضرورة وجود أكثر من مليون جهاز مقارنة بعدد سكان العاصمة.
وأكد الطبيب محمد (اسم مستعار) من مستشفى الأسد الجامعي لمعدي التقرير أن نتيجة المسحة، خلال أوقات الذروة، كانت تتأخر 10 أيام أحياناً، وفي بعض الأوقات يموت المريض قبل أن تظهر نتيجة مسحته، لكنها الآن تستغرق 3 أيام إلى يوم فقط. وفسر مصدر طبي سبب التأخير بأن المسحات كانت تجمع من كل المحافظات.
وأشار الطبيب محمد إلى أنه خلال منتصف آب الماضي راجع مستشفى الأسد الجامعي بحدود 15 إلى 20 حالة اشتُبه بإصابتها بالفايروس في كل ساعة، لكن المستشفى لم يكن قادراً على استقبال حالات جديدة، ويوضح الطبيب أن الإصابات بلغت ذروتها بين 10 تموز و10 آب ثم انخفض العدد بعد ذلك، مضيفاً “لا يمكن الجزم إذا كان سبب الانخفاض هو تراجع انتشار الفايروس وانخفاض عدد الإصابات في دمشق أو تمكن المصابين من تأمين الأوكسجين لأنفسهم وتلقي العلاج في المنازل في ظل عجز القطاع الصحي”.
مستشفى المواساة الحكومي العام
يبين الطبيب سمير أن المستشفى يضم نحو 26 غرفة عزل فقط و12 سرير عناية مشددة مع 12 منفسة، موضحاً أن أقسام العزل تستوعب في الحد الأقصى 40 مريضاً مصاباً بـ”كورونا”، ومع ذلك لا تزال العمليات الإسعافية تعمل حتى الآن على استقبال الإصابات والكسور وغيرها.
مستشفى ابن النفيس الحكومي العام
يقول الطبيب علي (اسم مستعار) في مستشفى ابن النفيس لمعدي التقرير، “إن الإسعاف كان يستقبل وسطياً وفي الحد الأدنى 100 مريض مشتبه بإصابتهم بكورونا يومياً وأحياناً تزداد الذروة بعد الظهر وما بعد منتصف الليل، وفي بعض الأوقات تنتظر مصابون وفاة مريض آخر كي يحصلوا على سريره”.
ويرى الطبيب أن الوفيات التي تعلنها وزارة الصحة هي لمرضى مصابين بـ”كورونا” توفوا في مستشفياتها، بعد أخذ مسحات لهم وتأكيد إصابتهم، لافتاً إلى “وجود تكتم لدى إدارات المستشفيات حول أعداد الوفيات المسجلة يومياً”.
وأوضح الطبيب علي، أن في المستشفى 15 سرير عناية، إضافة إلى 15 جهاز تنفس فقط موزعة على الشكل التالي: 9 أسرة في غرفة واحدة أساسية، وغرفة أخرى إضافية تضم سريرين مع جهازي تنفس، بينما تضم وحدة العناية القلبية 4 أسرة مع 4 أجهزة تنفس.
مستشفى الهلال الأحمر
بالنسبة إلى مستشفى الهلال الأحمر بيّن أحد الأطباء العاملين فيه لمعدي التقرير أنه يحتوي 12 جهاز تنفس وهي موزعة بعد إضافة سريرين مع جهازين آخرين على 4 أسرة في غرفة العناية المشددة الأساسية، و6 أسرّة في العناية القلبية مع منافسها.
ويبلغ عدد الغرف في قسم العزل 10 حالياً، قابلة للزيادة في حال استخدام طبقة أخرى مخصصة للعزل عند الضرورة، وتصل القدرة الاستيعابية لقسم العزل في المستشفى إلى 40 مريضاً.
قدر الطبيب أسعد (اسم مستعار) في “المجتهد” عدد المنافس في كامل المستشفى بـ14 منفسة فقط، بينما تستوعب 80 مصاباً في غرف العزل، إلا أن مصدراً طبياً آخر توقع وجود 20 منفسة في أقسام العناية الطبية.
المستشفيات الخاصة والحكومية
المستشفيات الخاصة التابعة لـ”مديرية صحة دمشق”، وبخلاف الفترات الماضية، تستقبل بمعظمها الآن مصابين بالفايروس وتعالجهم باستثناء عدد محدود منها، ولم تلزم هذه المستشفيات بتعليمات وزارة الصحة، في حين يؤكد الأستاذ الجامعي رامز أن قدرة هذه المستشفيات محدودة نتيجة قلة عدد الأطباء عموماً، وعدم وجود أطباء مقيمين من طلبة الدراسات العليا (أطباء يمارسون الطب تحت إشراف أطباء آخرين مرخصين بشكل كامل) خصوصاً، كحال المستشفيات العمومية، إضافة إلى تقاضي هذه المستشفيات مبالغ مالية كبيرة تصل إلى 300 ألف ليرة (150 دولاراً في السوق الموازي/ 240 دولاراً وفق المصرف المركزي) لكل ليلة في غرفة العناية مقارنة بـ60 ألف ليرة وهو معدّل الأجور شهرياً (30 دولاراً في السوق الموازي).
(تصريف كل دولار واحد بحسب السعر الرسمي الصادر عن مصرف سوريا المركزي هو 1256 ليرة سوريّة… بينما يصل سعر الصرف في السوق الموازي (السوق السوداء) إلى قرابة 2135 ليرة سوريّة).
ومع توقعات بحصول موجة انتشار ثانية لفايروس “كورونا”، أعلنت وزارة الصحة خلال شهر تشرين الأول تجهيز مستشفى طوارئ في مدينة الفيحاء في دمشق يضم 120 سريراً لاستقبال المصابين بأعراض متوسطة، وبحاجة إلى دعم أوكسجين فقط. أما الحالات الحرجة فتنقل إلى المستشفيات الأخرى، كما خصصت الوزارة 100 سرير إضافي لاستخدامها عند الحاجة.
ويبدي أطباء في دمشق مخاوفهم من توسع انتشار الفايروس وتفاقم عدد الإصابات في الأشهر المقبلة، بخاصة مع افتتاح المدارس، وأكدت مديرة الصحة المدرسية في وزارة التربية هتون طواشي أن الإصابات في المدارس وصلت إلى 200 إصابة توزعت ما بين الطلاب والكادر التعليمي والإداري، مشيرة إلى أن أعلى نسب انتشار للحالات كانت في محافظات ريف دمشق وحلب وحمص.
———————————
========================
=====================
تحديث 30 تشرين الأول 2020
——————————–
كوفيد ١٩ يكشف واقع الحوكمة الحقيقية في سوريا/ مايا أبيض
بعد نشر سلسلة من التحقيقات التفصيلية (الساحل السوري، الشمال الغربي، شمال شرق، دمشق) والمواد والحكايات والشهادات والدراسات والحوارات) عن واقع فيروس كوفيد ١٩ في مختلف المناطق السورية، نخلص هنا إلى تقرير توصيفي عام للوضع حتى الآن.
سؤال صامت!
في شهر أيار الماضي، كان هناك سؤال صامت في عيون الكثير من السوريين المشككين دوما بالأرقام الرسمية، يهمسون به أحيانا للمقربين “أين هي حالات الإصابة بكورونا”؟
إجراءات الحظر بدأت في مناطق سيطرة النظام في الشهر الثالث، بعد انتشار شائعات، ومن ثم تأكيدها، بأن الوباء دخل البلاد مع المقاتلين القادمين من إيران. بدت الإجراءات مهلهلة، يخترقها فساد النظام المحوري لتركيبته المافيوية، فالاستثناءات الأمنية من منع التجوال المسائي تملأ الطرقات، دور العزاء لدى المتنفذين حيث لا تتجرّأ قوات الشرطة على منعها، والحواجز الطرقية التي تراقب عدم تنقّل المدنيين بين المدن، يمكن شراءها بسعر شطيرة شاورما، ناهيك عن تنقّل المجندين بطول البلاد وعرضها.
تخبرنا الدكتورة خلود سابا الباحثة في الصحة العامة في جامعة ادنبرا باسكوتلندا، في حديث خاص لحكاية ما انحكت، أن التعاطي الأمني مع الأوبئة هو “أسوأ تعاطي لأنه يؤدي للإخفاء والكذب وضياع المعلومة” وأضافت أنه في سوريا “لا يوجد نظام لجمع معلومات ومشاركتها، وهو أساسي في محاربة الفيروس لمعرفة البؤر وخريطة انتشارها. الإرشادات الأساسية لمجابهة الأوبئة تعتمد خطوات التعرف عليها وفحصها وتتبعها واحتواءها، بينما الدولة عنا لا تجيد سوى الإنكار”.
إجراءات الحجر القسري للأفراد بعيدا عن ذويهم ومنازلهم التي اتبعت في بدايات الربيع، وطلب السلطات من الناس التبليغ عن أي أحد يشتبه بظهور الأعراض عليه، أدى لوصم المرضى وخوفهم من الإعلان عن حالتهم، ما زاد صعوبة معرفة انتشار الوباء. برأي الدكتورة سابا، لم يكن هناك اختلاف كبير بين المناطق السورية، ولا حتى بين دول المشرق بالمجمل بذلك. لكن ما يميز الحالة السورية برأيها هو “النقاط العمياء” في البيانات، وهي تلك المتعلقة بتحركات الأفراد والقطع العسكرية بين مختلف المدن وحتى عدة دول أخرى دون أي رقابة طبية.
مع ذلك، يبدو أن إيقاف المدارس والجامعات والحد الكبير من عمل الأسواق والمطاعم والمنع القانوني للحركة بين المدن، أتت في وقت مبكر بما يكفي ليحمي سكان تلك المناطق من الانتشار الواسع للوباء، رغم كثرة الخروقات.
كانت الأرقام الرسمية متواضعة جدا بالطبع، ولكن لم يكن هناك انتشار ملموس للوباء بين الناس يجبر أحدا على تكذيبها.
مناطق “الإدارة الذاتية”
مناطق سيطرة الإدارة الذاتية في الشمال الشرقي لم تأمن من استهتار العقلية العسكرية بالصحة العامة، حيث رفض النظام التنسيق مع مؤسسات الإدارة الصحية، وبقي المسافرون يدخلون مدينة القامشلي قادمين من مطار دمشق دون حجر، فضلا عن القوات الأميركية والروسية في الجزيرة السورية، والتي لا رقيب على تحركاتها وانتشار الإصابات بين أفرادها. حتى وصل الأمر إلى أن مكتب منظمة الصحة العالمية في دمشق لم يكلّف نفسه عناء إخطار الإدارة بتأكيد أحد الإصابات بالوباء بعد ظهور نتيجة فحص المسحة الذي أجري في دمشق. بعد ذلك الحدث أصدرت الادارة بيانا حمّلت فيه المنظمة مسؤولية انتشار الوباء في مناطقها. بالمقابل، يبدو أن الإدارة تمكنت من إقناع السكان بالإلتزام ببقية إجراءات الوقاية العامة لدرجة لا بأس بها، فبقي الانتشار بحدوده الدنيا في المنطقة ذات البنى التحتية الصحية الأضعف في سوريا. فرغم أن استهداف تدمير البنى التحتية الطبية بالقصف الجوي للنظام وحلفاؤه كان أقوى على مناطق سيطرة المعارضة في الشمال الغربي، إلا أن الخدمات الطبية الحكومية من مشافي ومستوصفات ومعاهد تعليم عالي وجامعي طبي لم تكن يوما كافية في الشمال الشرقي الذي عانى إهمالا ممنهجا من الحكومات البعثية المتتابعة، حيث أن الأرقام المتوفرة ترجح وجود ٥٦ مشفى بسعة ١٠٧٠ سرير وحوالي ٣ آلاف طبيب/ة في المنطقة التي يقطنها حوالي ٤ مليون نسمة.
إدلب وجوارها
في الشمال الغربي أغلقت المعابر مع مناطق سيطرة النظام، بوصفها مصدر الوباء، وبقيت الحركة التجارية المخفّضة جارية عبر الحدود التركية. الخوف تملّك القطاع الطبي والمنظمات المدنية العاملة في المنطقة نتيجة معرفتهم بقلّة عدد المراكز الصحية التي نجت من الاستهداف الروسي المتتابع خلال السنين الخمس الأخيرة، الأمر الذي خلّف أضرارا في ٧٠ مركز صحي في العام الماضي لوحده. الحديث عن “نخبوية” نصائح التباعد الإجتماعي والتنظيف التي أصدرتها منظمة الصحة العالمية كان على كل لسان في المنطقة التي تضم حوالي مليون نازح موزعين في ظروف سكنية مؤقتة وغير صحية، ومخيمات عشوائية أو لا تحقق الحد الأدنى من معايير الماء والإصحاح (الصحة) حيث كثيرا ما يصل الاكتظاظ في الخيمة الواحدة فيها إلى ١٥ شخص.
مع ذلك، بقيت المنطقة شبه خالية من الوباء لعدّة شهور خلال فصل الربيع، في ظل حجر عام ومنع تنقل بين المدن والبلدات وإيقاف للعملية التعليمية. أما عن التنسيق الطبي مع مناطق النظام، فأخبرنا مدير أحد مشافي إدلب (تحفّظ عن ذكر اسمه) أنهم قد لمسوا تعاونا أكبر من السابق من بعض الموظفين الصحيين العاملين في مناطق النظام بمبادرات فردية وبغض النظر عن التعليمات حسب رأيه، إذ يقول لحكاية ما انحكت “من الواضح أنهم يحسون أن الموضوع جدي هذه المرة” بعد أن مروا بتجارب سابقة في التنسيق المعرقل أمنيا وسياسيا بينهم مثل حملة التلقيح ضد شلل الأطفال في ٢٠١٤”.
مع حلول حزيران قرّرت حكومة النظام السوري إنهاء الحظر دفعة واحدة وإعادة الحياة لطبيعتها السابقة دون أي إجراءات وقائية تذكر، ماعدا ارتداء المراجعين الكمامات في مؤسسات الدولة وقياس درجة حرارة طلاب الجامعات عند دخولهم الحرم الجامعي، والتي يمكن تجاوزها بالفساد والرشوة كما أشار تقريرنا من دمشق.
وبحلول شهر تموز وصل انتشار الوباء في دمشق إلى كل حارة فيها. انتهت التساؤلات الصامتة السابقة واستعد الناس لمواجهة الوباء بالطريقة التي واجهوا فيها كل انهيارات البنى التحتية السابقة: “الدوبارة” السورية.
الجاهزية الصحية: صفر!
كان واضحا من أعداد المنافس وأسرة الحجر الصحي و العناية المركزة، أنّ البلاد لا جاهزية طبية لديها لتقديم الخدمات للمصابين. فالعاصمة التي تتمتع بأقوى بنية تحتية خدمية لا يزيد عدد مشافي الدولة فيها عن ١٥، متضمنة مشافي متخصّصة مثل مشفى العيون والأمراض العقلية، لتخدم حوالي ٦ ملايين نسمة. وبقي واضحا من استمرارية منظومة الفساد البيروقراطي في إجراءات الاستجابة الرسمية أن شيئا لن يتحسّن، خاصة مع تكرار تداول التساؤلات من العاملين بالقطاع الطبي حول مصير المساعدات الطبية التي استلمتها حكومة النظام من حلفائها الاستراتيجيين ومن منظمة الصحة العالمية، وهم يعملون في ظروف خطرة لا تتوافر فيها غالبا أدنى أدوات الحماية، حتى وصل عدد الوفيات المعلن عنها بين الأطباء فقط، نتيجة تعاملهم مع الفيروس، إلى أكثر من ستين طبيبا.
تسليع حاجات الناس الملحة وتحويلها إلى مصدر دخل فاسد لدى العاملين في تنظيم الخدمات وإدارة الاستجابة، كان أسلوب تعامل النظام (كالعادة) ومؤسساته مع الجائحة، سواء من حيث احتكار الأدوات والفحوصات وتراخيص بيعها، أو فرض فحص إجباري على المسافرين مقابل ما يعادل مرتب ٤ شهور لخريجي الجامعات، أو عدم استقبال المرضى المحتاجين لمنافس في المشافي الحكومية دون دفع رشاوي باهظة. فظهر أنه من أصل حوالي ١١٠ منافس في مدينة دمشق، لا يوجد أكثر من ربعها في المشافي الحكومية، ولا نية حتى لرفع العدد وإن توفرت الميزانية لذلك، حيث صرح مدير مشفى ابن النفيس الحكومي لجريدة الثورة الحكومية أن المنافس ليست من أولويات المشافي ويفضل الاستثمار بشراء معدات أخرى.
بالمقابل ترى الدكتورة خلود أن “التركيز على أعداد أسرّة العناية والمنافس ليس هو المشكلة. الأرقام دون سياقها لا تفيد، وربما تستعمل لإعطاء مصداقية دعائية لهذه الجهة أو تلك. بوجود وباء من اللازم أن يكون هناك نظام عام للجميع، للحالات الحرجة ولغيرها. الأوبئة لا تواجه بشكل فردي وإنما جماعي. الدولة الفاشلة “failed state” لا يمكنها أن توفر حماية اجتماعية لأي أحد”. وتضيف أن من المفارقات السورية أنّ شدة إهمال وعزل بعض المناطق، خاصة الريفية، جعلها أوفر حظا في الحماية من وصول العدوى، من المدن المكتظة دون خدمات أو معلومات صحية كافية، وهو ما ظهر جليا في تحمّل العاصمة النسبة الأعلى من الإصابات.
تزامن الأمر مع انهيارات اقتصادية متتابعة: الاستعصاء المصرفي والحكومي الحاصل في لبنان وانهيار الليرة الشقيقة هناك، الفضائح المالية المنشورة على العلن في فيديوهات ابن خالة بشار الأسد، رامي مخلوف، وخلافاته الاحتكارية مع زوجته أسماء، عقوبات قيصر، فضلا عن الآثار المتراكمة لسنين الحرب، أدوا مجتمعين لوقوع أحد أسرع التدهورات التي شهدتها الليرة السورية منذ عام ٢٠١١، رغم الهدوء العام للجبهات العسكرية.
انعكس الأمر فورا على القطاعات الطبية، فأدى لإضراب شبه عام للصيدليات نتيجة امتناع معامل الأدوية عن الشراء بسعر الصرف الرسمي الذي أرادت الحكومة إلزامها فيه في تعاملاتها التجارية الخارجية، ومطالبتها بالسماح برفع أسعار الأدوية بما يتناسب مع ارتفاع تكلفة إنتاجها بالنسبة لليرة السورية (فرق سعر الصرف كان حينها بين ٤٣٥ و ٣٦٠٠ ليرة للدولار الواحد). في النهاية حصلت المعامل على أذن برفع أسعار بعض الأدوية: الباراسيتامول مثلا ارتفع من ٥٠ إلى ٨٥٠ ليرة سورية (الخمسين ليرة اليوم تعادل 0,02 دولار بينما ال ٨٥٠ تعادل 0,37 دولار). رواتب الموظفين لم ترتفع بالمقابل طبعا، فوصل مرتب الموظفين الأعلى تأهيلا، كالمهندسين والأطباء ودكاترة الجامعات، إلى حوالي ٣٠ دولارا شهريا، بعد أن كان يصل إلى حوالي ٦٠٠ دولار قبل عقد من الزمن.
لا يجد المراقبون الاقتصاديون سبيلا لإحصاء وعزل أضرار الوباء المالية عن الأضرار الناتجة عن بقية المصاعب الاقتصادية التي أصابت البلاد منذ مطلع العام. فأثر إغلاق المنشأت الاقتصادية خلال فترة الحجر مثلا، لا يوجد حتى الآن أكثر من تكهنات حوله، حيث يرجح أن الاضرار بلغت بليون دولار في الشهر. عن ذلك أخبرنا الدكتور في التنمية والعلوم السياسية بجامعتي لوزان والمعهد الجامعي الاوروبي في فلورنسا ،جوزيف ضاهر، أن الكوفيد عمق مشاكل اقتصادية سابقة لكنه لم يخلق شيئا جديدا، فعدم استقرار سعر الليرة مثلا مشكلة بدأت مع الثورة والتدهور القوي الاخير بدأ فعليا منذ نهاية العام الفائت حين كان الدولار يعادل أقل من ٦٠٠ ليرة ليصل إلى ١٢٠٠ في الشهر الاول من العام. ويقول متابعا أن “الحوالات تحديدا أثر عليها الكوفيد بوضوح، لأنها تأثرت بالاقتصاد العالمي المتدهور وليس فقط ضعف الأداء الاقتصادي المحلي، ولن نرى في المستقبل القريب تعافي سريع للاقتصاد العالمي” مشيرا إلى أن “آخر التقديرات التي صدرت عن صندوق النقد الدولي IMF (في العام ٢٠١٦) كانت تقدر حجم الحوالات السنوية بحوالي ملياري دولار (٤ مليون يوميا)، ما يمثل حوالي ١٠٪ من الناتج المحلي الإجمالي GDP. الآن سمعنا بعض التخمينات على لسان أحد دكاترة كلية الاقتصاد بدمشق بأنها قد نزلت إلى النصف، دون أن نعرف كيف توصل إلى حساب هذا الرقم”.
زاد إغلاق الحدود خلال الحجر الأمر سوءا، لاعتماد كثير من السوريين على إرسال النقد مباشرة (كاش) مع المسافرين، لعدم ثقتهم بشركات التحويل والصرافة وكبر الفارق بين سعر الصرف الرسمي الذي تلزمهم الدولة بالتعامل به، والسعر الفعلي بالسوق خارج سوريا.
اشتغل المجتمع المدني بنظام الدوبارة كعادته، ظهرت فورا مجموعات على الفيسبوك لتداول الأدوية، كي لا يتم رمي دواء صالح لم يعد مالكه بحاجته بينما يحتاجه مريض آخر لا يجده في الصيدليات، و انخرطت الجمعيات الخيرية والفرق التطوعية الناشئة بمبادرات فردية في مهمة توفير إسطوانات الأكسجين إلى منازل المرضى، كي لا يحتاجوا لمغادرة منازلهم.
“الناس صايرة بتتصل ب”عقمها” بدل الإسعاف” تقول لحكاية ما انحكت المسعفة السابقة سوزان (اسم مستعار) واصفة يأس الناس من الخدمات الطبية الرسمية واعتمادهم مبادرات المجتمع المدني كبديل أكثر فعالية: “بيبعتولهن الأوكسجين عالبيت وغالبا ببلاش، وبيلبوا بسرعة إجمالا، بس إن كمان الطلب أكيد فوق قدرتهن عالاستيعاب، شو بدهن يلحقوا ليلحقوا”.
“نتعالج بالبيت أشرفلنا” كان عنوان الساعة في أوج ذروة الانتشار خلال شهري تموز وآب الماضيين، خاصة بعد الاعتراف الرسمي بعدد كبير من الوفيات بين العاملين في القطاع الصحي جرّاء تعاطيهم مع المصابين، وعدم الاعتراف بالبقية، حتى وصل الأمر لمطالبة الأطباء علنا عبر مواقع التواصل الاجتماعي بإغلاق مشفى المواساة الحكومي وتعقيمه، بعد أن أصبح بؤرة انتشار يتجنبها الأصحاء قبل المرضى.
قالت هالة م. (اسم مستعار) لحكاية ما انحكت، وهي مدرسة في مدرسة ثانوية في دمشق عن إصابتها وابنتها الجامعية بالكورونا في شهر تموز قائلة: “من البيت للعيادة للصيدلية للبيت، معنا كماماتنا وأدويتنا، لا فتنا مشافي ولا قربنا عليهن، ضلينا بالبيت ٣ أسابيع وخالصين، هي هي”.
في بقية المناطق ساعد تأجيل الذروة على تحسين البنى التحتية ورفع الجاهزية بعض الشيء، وإن بقيت دون الحاجة بمراحل. وصلت أجهزة الفحص إلى الشمال الشرقي قادمة من كردستان العراق قبل أن تصل تلك التي كانت منظمة الصحة العالمية قد وعدت الإدارة الذاتية بها.
وتمكنت المنظمات الصحية من تطبيق بعض إجراءات التعقيم والتوعية، وتمكن السوق من تأمين الطلب على الكمامات ومواد التعقيم بعد أن كانت قد بلغت أسعارا خيالية في بداية الحجر. تم تأهيل مراكز عزل صحي وتوسيع في المشافي واستيراد المزيد من المنافس، حتى زاد عدد المنافس المتوفرة في مراكز العلاج المجاني في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام على عددها في المشافي الحكومية في مناطق سيطرته. حيث يقدر عدد المنافس في الجزيرة ما يربو عن ٦٢ منفسة وفي الشمال الغربي يقارب المئة، بينما تقبع غالبية منافس مناطق النظام في المشافي الخاصة ذات الأسعار الخيالية وفق أسعار الصرف الجديدة. كما أن انتشار الوباء في المناطق الشمالية بقي أقل بكثير مما وصلت إليه الذروة في العاصمتان والساحل، حتى إن ضاعفنا الأرقام الصادرة عن الجهات الرسمية في تلك المناطق عشر مرات.
الإشاعات والمعلومات الطبية المغلوطة التي انتشرت في الربيع تم تفنيد الكثير منها عبر حملات التوعية، وأيضا نتيجة تصريحات الهيئات الصحية الدولية التي تكشف ما لديها تباعا من معلومات أوضح حول طبيعة الفيروس. التأخير وفر وقتا لتداول الناس لهذه المعلومات وإن بقيت بعض الشائعات تلقى رواجا، كتلك المتعلقة بتقديم الإجراءات الوقائية المنزلية (المتوفرة لدى معظم الناس) بوصفها إجراءات علاجية، يغذيها الحاجة الملحة لدى الكثيرين لتصديقها.
خطوة فعالة ولكن!
يوضح الفرق الهائل في انتشار الإصابات بين مناطق النظام والمناطق الأخرى، والذي تجلى بصورة فاضحة في تعليق أعمال اللجنة الدستورية السورية في جنيف بعد اكتشاف ٤ إصابات بفيروس كورونا بين المشاركين، جميعهم قدموا من دمشق.
إن إغلاق المعابر مع مناطق سيطرة النظام كان خطوة فعالة. لكن أول إصابة أعلنت في الشمال الغربي دخلت من تركيا، تبعها حالتان لسيدتان دخلتا تهريبا إلى إدلب من دمشق، ما دفع بالسلطات المحلية لفرض حظر قصير على كامل القرية.
تتفاوت الثقة بالإجراءات الرسمية والقطاع الصحي بين هذه المناطق. ففي حين يغلب اليقين بفساد تلك المؤسسات في مناطق النظام، تتراوح التوجهات في مناطق الإدارة الذاتية ومحيط إدلب بين مشكك بقدرات القطاع الصحي المنهك بالاستهداف الممنهج عبر سنين، ومشكك بدقة تطبيق الإجراءات الوقائية، خاصة في أوساط تخشى الفاقة والبطالة أكثر مما تخشى الوباء. ومع الأخذ بعين الاعتبار أن الشريحة السكانية الأكثر وصولا لوسائل الاتصال (وهي في مناطق سيطرة النظام) تعبّر عن شكوكها وأخبارها بتداول أوسع على الغالب، مع ذلك، تبقى الإحصائيات الرسمية الهزلية للنظام حول أعداد الإصابات والوفيات موقع تندر لا مثيل له في المناطق الخارجة عن سيطرته، حيث لدى السكان في هذه المناطق ثقة أكبر بمدى شفافية الإحصائيات المعلنة من قبل السلطات المحلية.
“الأمر المشترك بين كل المناطق كان أن الناس لم تتوّجه للقطاع الطبي حين بدأت المشكلة” تشرح الدكتورة خلود، وتتابع قائلة: “الكل يعلم أنه قطاع إن توفرت خدماته فقدرته على حصر المشكلة شبه معدومة”.
تكمل سابا بالمقارنة “الاتفاق الوحيد كان على ضرورة عزل المرضى، حتى دون نظام دعمهم الاجتماعي”، وهو أمر تراه سلبيا ومكلفا “لولا التعاضد الاجتماعي والعناية المنزلية بالعائلة كانت نسب الوفيات أعلى بكثير. مريض الكوفيد بحاجة عناية كبيرة تستهلك موارد طبية كبيرة في المشافي. هذا العمل قامت به نساء سوريات، منها من أصيبت ودفعت الثمن صحيا ومنها شابات أجسامهن قوية قاومت. الحد الأدنى هو توفير معلومات لهم، لعائلات المرضى والصف الأول من العناية الصحية من ممرضين وقابلات وغيرهم. الدولة فقط كذبت وأعطتهم معلومات خاطئة”.
طبيعة الفيروس وتحولاته.. مدار جدل
بغض النظر عن المنطقة، بقيت “الطبيعة المتحورة” للفيروس حديث الساعة خلال الصيف، حيث تتقاطع الشهادات من العاملين بالقطاع الصحي والمصابين حول كون الأعراض الأكثر انتشارا وقوة هي أعراض مرتبطة بالجهاز الهضمي وليس التنفسي (إسهال، إقياء، تشنج كولون) ما خفّف الطلب على المنافس وأنابيب الأكسجين بالنسبة لعدد الإصابات، وبالتالي قلّل عدد الوفيات لتمكن الغالبية من استدراك الأمر ومعالجة أنفسهم منزليا.
أما الأعراض التنفسية، فظهرت بشكل أقل حدة. مع ذلك، تكررت ملاحظة سرعة تدهور الحالات التنفسية الحادة بحيث تكون فتاكة في ظل عدم توفر المنافس إسعافيا.
تخبرنا الدكتورة كندة ع. (اسم مستعار) عن حالة أحد معارفها: “عمره بأواخر الستينات، كانوا برحلة على مشتى الحلو، بالنهار ما كان فيه شي، المسا بلش يسعل وارتفعت حرارته بالليل. لوصلوا تاني يوم الصبح على حلب، داروا عالمشافي كلها مافي منافس، للمسا ما عاد اتحمل، اتوفى. ما في شي فيكي تعمليه، مريض قصبات وما في منافس”.
أما عن “الإشاعات الطبية” المتداولة بين الأطباء أنفسهم، فيبدو أن هناك قناعة بأن اختلاف الأعراض عائد لاختلاف في “أنواع” الفيروس، حتى ذهب البعض إلى القول أن الاصابة بأحدها لا يمنح مناعة من النوعين الأخرين، في ظل تخبط دولي حول فعالية الأجسام المضادة التي ينتجها المتعافون، من حيث طول مدة المناعة التي تمنحها على الأقل.
“مأساة بكل معنى الكلمة” تعلّق على ذلك الدكتورة خلود “النخبة عندنا تعطي معلومات خاطئة ولا جهة تحاسبهم. المشكلة لدينا ليست إشاعات الإنترنت وضعف الوعي بين الناس كغير دول، لا يمكننا أن نضع اللوم على الناس”. تكمل شارحة “لكل بلد عاداته الاجتماعية في تعريف الفرق بين الرشح والانفلونزا مثلا. الكوفيد ليس فيروسا تظهر أعراضه بطريقة موحدة وإنما تختلف بحسب العمر والحالة الصحية وغيرها، لذلك لا يمكننا اعتماد مقارنات الأعراض التي يقوم بها الناس بين بعضهم أو حتى الأفراد العاملين بالقطاع الصحي. الأمر بحاجة سلطة طبية موحدة تقوم بوضع معايير standerdization للأعراض العامة في كامل البلد قبل أن نقول أن كوفيد سوريا مختلف عن كوفيد العراق أو غيره”.
الوضع الآن (اكتوبر ٢٠٢٠)
في نهايات شهر أب/ أغسطس المنصرم، بدأ العاملون بالقطاع الصحي في دمشق بالحديث عن تراجع واضح في أعداد الإصابات، متفائلين بانحسار الذروة. أكد لنا الدكتور حسام ب. (اسم مستعار) المختص بأمراض الأذن والأنف والحنجرة في بدايات أيلول أن: “متوسط عدد المصابين عندي بالعيادة كان يتراوح بين ٦-١٠ يوميا في تموز، الآن يمكن واحد كل يومين أو ثلاثة”. كما أن الجمعيات الأهلية العاملة على تقديم الدعم الطبي أيضا أعلنت انخفاض الطلبات اليومية على خدماتها في نفس الفترة. أكد ذلك تقرير رويترز الأخير على لسان أحد مديري المنظمات غير الربحية الدولية العاملة في سوريا، الذي قدّر انخفاض عدد الوفيات اليومي من ذروته في تموز وأب بمعدل ١٢٠ وفاة يومية إلى نصف ذلك في أيلول.
لم يعن ذلك أن القرارات الحكومية المستهترة بضرورات العزل الاجتماعي توقفت، حيث أصرّت وزارة التربية على إعادة افتتاح المدارس في الوقت المعتاد دون أي تأجيل رغم تعالي الأصوات المطالبة بذلك، في ظل انعدام إجراءات تخفيف الاكتظاظ في الصفوف الدراسية، وعلى الرغم من ملاحظة العاملين في المشافي زيادة طفيفة في الإصابات بين الأطفال.
منذ مطلع أيلول سبتمبر، عادت الأرقام المعترف بها في الإحصاءات الرسمية للتصاعد مرة أخرى، وإن عزا البعض ذلك إلى زيادة القدرة على إجراءات مسحات أكثر، الأمر الذي يبقى أيضا طي الكتمان والتستر الحكومي، حيث لا يتم الإعلان عن القدرات الاختبارية لعدد المسحات اليومي.
في الطرف الأخر، أصر الروس على إغلاق المعابر الحدودية الشمالية أمام مرور المساعدات الدولية في وسط الجائحة، ردا على عقوبات قيصر وفق تصريحات السفير الروسي في الأمم المتحدة، بحيث لم يبق سوى معبر باب الهوا لتمر المساعدات عبره، ومن ثم تعاني الأمرين للوصول للمستفيدين في بقية المناطق الخارجة عن سيطرة حليفهم في دمشق.
في الشمال الشرقي، أعادت الإدارة الذاتية إغلاق المعابر الحدودية أمام المسافرين بعد أن بدأت أرقام الإصابات بالارتفاع بشكل طفيف في بداية الصيف، لكنها عادت وسمحت باستئناف العمل في صالات الأفراح ودور العبادة في أيلول، ما أدى لزيادة الاعتراضات من أبناء المنطقة العالقين خارجها جراء إغلاق المعابر، فصدر قرار بفتح المعابر أمام العالقين فقط حتى نهاية الشهر. وصلت الأرقام الرسمية للإصابات في المنطقة إلى أكثر من ألفين وثلاثمئة إصابة وحوالي ثمانين وفاة حتى منتصف أكتوبر.
أما في الشمال الغربي، بدأت الإحصائيات بالتصاعد بشكل ملحوظ منذ بداية أيلول، حتى وصل عدد التحاليل الإيجابية في أحد الأيام إلى أكثر من ربع العينة المحلّلة في ذلك اليوم، دون أن يزد عدد الوفيات الكلي الناتج عن الوباء حتى تلك اللحظة عن أربع حالات فقط (وصل ل١٤ وفاة منتصف أكتوبر)، في المنطقة التي يقطنها حوالي ٤ مليون شخص. سجل وجود حالات إيجابية في ١٨ مخيما بنسبة حوالي ١٠٪ من المسحات المجراة.
يبقى الانهيار الاقتصادي وتراجع قيمة العملة المذهل خلال العام الفائت المشكلة الأكبر بنظر السوريين في طول البلاد وعرضها، فيغلب الخوف من الفاقة والجوع القدرة على الالتزام بإجراءات التباعد والعزل، أججه تخفيض الحصص في السلل الغذائية الموزعة من برنامج الغذاء العالمي والحرائق الأخيرة في الساحل.
في خضم كل ذلك، يمر ارتفاع حالات العنف والقتل الأسري والجندري، خاصة أثناء الحجر في الربيع، مرور الكرام، حيث لا مكان لها قط في سلم الأولويات على تنوع مشاربه خلال السنين الماضية. ويجمع العاملون على توثيق الأوضاع الانسانية في السجون والمعتقلات في كل المناطق على عدم احترام الحد الأدنى من الشروط الوقائية في المعتقلات السياسية في كامل البلاد لمنع انتشار الوباء بين المعتقلين في ظروف صحية متردية جدا بالأصل، دون أن يتمكن أحد من توثيق مدى انتشار الوباء في تلك الأقبية التي لم يسمح حتى للعاملين في مواجهة الجائحة وتوثيقها بالوصول إليها.
صحفية وسينمائية ومدربة سورية، مرشحة لنيل شهادة الدكتوراه في الدراسات الإعلامية.
(تم دعم هذا التقرير من خلال برنامج من خلال برنامج Check Global COVID-19 microgrants وبدعم من موقع ميدان)
“الأرقام الواردة في هذا التحقيق تغطي حتى منتصف اكتوبر”
حكاية ما انحكت
—————————–
مُعلقاً على جائحة كورونا… الفيلسوف الفرنسي إدغار موران: إننا أقوياء جدا ومعتوهون .. ننتصر في تقنياتنا ومشلولون أمام الألم والموت
حاورته: فاليري تريرويلر٭
ترجمة: سعيد بن الهاني٭٭
في هذا الحوار الذي أنجزته الصحافية فاليري تريرويلر لصحيفة «باري ماتش» يحلل عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي إدغار موران نتائج فيروس كورونا المستجد على عالمنا الفكري والثقافي..
■ لقد عشت حياةً ثريةً جدا، هل كنت تفكر يوما ما أن تعيش مثل هذه الحالة؟
□ أبدًا، كانت هناك أوبئة عالمية ولم يكن هناك أي حجر صحي كَوْنِي أبدًا. حدثت انفجارات اجتماعية سببها الأوبئة، ولم يكن هناك أي انقلاب، باعتباري كُنت من أولئك الذين يعتقدون أن السبَاق المجنون، الذي يجرف الإنسانية ستكون نتائجه كارثية، ولكن لم أكن أبدا أتصور أنه سيأتي بهذه الكارثة.
■ كيف تعيش فترة الحجر الصحي؟
□ في سني، أعتبر نفسي محظوظا بأنْ أجِدْ نفسي منعزلا في منزلي بسبب الحجر الصحي، وليس في دار للعجزة. إنني محظوظ كوني في الحجر مع زوجة محبة وحامية. محظوظ بحديقة تسمح لي بالجلوس تحت شجرة مزهرة والاستمتاع بأزهار فصل الربيع. لدينا جيران لطيفون يقترحون علينا القيام بالتسوق لنا. بناتي وأسرتي وأصدقائي القريبون، أو البعيدون حاضرون معي دائما بواسطة الهاتف، الرسائل القصيرة الهاتفية، أو بواسطة شاشة سكايب، لكنني أفكر في كل المآسي التي يثيرها العزْل الصحي، في الاكتظاظ السكاني، في المسَاكن الضيقة، النساء المعنفات، الأطفال الخائفين. إن العزلَ الصحي يُضاعف الاختلافات والنزاعات بين الأزواج، بل يُنْسِفُها، ولكنه في المقابل يدعم تواصلا وفهما جديدين. مع زوجتي (صباح) لدينا الوقت الكافي لتبادل أطراف الحديث. كما أن أيامي في الحجر الصحي ممتلئة بما فيه الكفاية، نشاطاتي تُنْجَز حاليا عبر السكايب، أو البريد الإلكتروني. إن العالم يدخل إلينا عبر الرقمي، ويحثنا باستمرار على مساءلته ومساءلتنا. لدينا زوجتي وأنا طقس يومي، نقوم فيه بتبادل أخبار الشاشة الصغيرة والمذياع والصحافة، ونحاول أن نجعل أخبارنا متقاطعة ومتداخلة عن الوباء بشكل أفضل، تَطَوره، العلاجات، وجهات النظر المختلفة، بل المتعارضة للأطباء والبيولوجيين، فضْلا عن أزمات متسلسلة أحدثها الوباء. من جهة أخرى، إننا نقدر قيمة المزحات المضاعفة، المحاكاة ساخرة، والرسائل التفكهية التي أثارها الحجر الصحي، كأجسام مضادة أو مضادات للاكتئاب. وفي الجملة، إن التواصل بكل أصنافه يمنع الإحساس بالحجر الصحي كسجن.
■ هل تعتقد مثلما اعتقد كامو «وسط الكوارث توجد لدى الناس أشياء تدعو إلى الإعجاب أكثر مما تدعو إلى الاحتقار»؟
□ حتى لو كانت بعض التصرفات البشعة (سرقة الأقنعة، احتيالات على وعود دواء زائفة مثلا) فقد كانت هناك تمظهرات رائعة لتضامن يبدو أنه كان مفقودا، في المقام الأول لمقدمي الرعاية الصحية، وفي أنحاء مختلفة، في المساعدات العفوية للمنعزلين، للأشخاص المسنين، للبؤساء أو بدون مأوى. تثلج الصدر رؤية انخراط عدد من الشباب في الأحياء المهمشة. كانت هناك تمظهرات ليقظة تضامنية جماعية بشكل رمزي في التصفيق عبر الشرفات.
■ عندما سمعت الرئيس يصرح: «نحن في حرب» بماذا أحسست؟
□ شعرت فعلا أنه قد تم اجتياحنا من طرف عدو غير إنساني، فاضطررنا إلى المقاومة، بإيجاز.. إن لكلمة حرب قيمة تحفيز إجراءات الحماية (وتبرير إجراءات السلطة) وليس تعريف الوضعية حقا. هذا يعني أن الأمر مماثل لحرب 1940 كان هناك نقص كبير في الستعداد وهفوات وأخطاء.
■ لم نعدْ قادرين على أن نكرمَ موتانا، ما هي النتائج المترتبة عن ذلك في علاقتنا بالموت؟
□ إن موت إنسان عزيز علينا يفرضُ مصَاحبته إلى حد الدفن، يجب علينا توفير طُقوس وحفلة مأتم جَماعية، وهي تضُم مأدبة جنائزية، إن الناجين في حاجة لتطهير ألمهم في اتحاد ما، فالعلمانيون، وأنا منهم يشعرون مع هذا التخلي عن هذا الاحتفال الديني المواسي، بالحاجة إلى الطقوس التي تحيي بكثافة في أرواحنا الشخص الميت، وتخفف الألم في نوع من القربان المقدس. من جهتي، كنت أتوقع موتي انطلاقا من سن ثمانين سنة. تجاوزت التسعين، وقد اعتدت على الاستمرار في الحياة، لقد فقد الموت لدغته في روحي، رغم أن هذه الأخيرة تعرف أنه قريب. هنا أيضا، وبدون شك لشباب زوجتي أن يكون له أثر العدوى عَلي. زوجتي (صباح) تجذبني نحو الحياة، وليس نحو الموت. التهديدات المميتة أصبحت مضاعفة، تدهور الغِلاف الجوي، تعدد الأسلحة النووية، العودة إلى البربريات، وأخيرا الفيروس المُخَرب، وهو يفرض التخلي نهائيا عن أسطورة الإنسان سيد قدره وقدر الطبيعة. إننا في الوقت نفسه أقوياء جدا ومعتوهون، ننتصر في تقنياتنا، ومشلولون أمام الألم والموت. فالإنسان إذا كان بإمكانه تأجيل موته الطبيعي، عليه أن يواجه دائما الحوادث، البكتيريات والفيروس وهي تعرف كيف تغير نفسها كيْ تتوالد. ما يجب معرفته هو أن كل شيء سيموت، بما فيه شمسنا والعالم، وهو ما يجعل من حياتنا المؤقتة ممتلكاتنا الوحيدة التي يجب علينا أن لا نبددَها.
■ قلت بأن العزل يمكن أن يكون صِحيا ليزيل السموم من نمط حياتنا. ولكن أليس من الممكن أن نستعيد عاداتنا المألوفة بسرعة أكثر مما نعتقد؟
□ بلا شك، لقد تشكل تدريجيا ولكن بشكل بطيء قبل الوباء، نزوع أقلية لمواجهة الإفراط في الاستهلاك، والزمن المقيس، كمحاولة للحياة بشكل جيد، يحثنا الحجر الصحي على أن نعي كُلنا ما كنا نعرفه بشكل غامض.. إن الحب والصداقة، النضج الذاتي في جماعة ما، والتضامن هي القيم الحقيقية. إن إمكانية الاستمتاع بالأعمال الكبرى في وقت الفراغ الخاص بالحجر الصحي قد يساعدنا على البحث الجيد عن شعر للحياة. ماذا بقي أن نقول؟ لا أعرف..
■ هل ستكون مناسبة لتطوير التزام أيكولوجي مستدام وكوني؟ هل تعتقد بولادة عالم وتضامن جديدين؟
□ لقد انطلق التحذير الإيكولوجي الدولي منذ ما يقرب من خمسين عاما بتقرير ميدايز Meadows. ولكن الوعي به بطيء جدا، بل إنه غير كاف كذلك. أعتقد أن عالما جديدا سيكون ممكنا، ولكنه غير مرجح أيضا. إن قوى الإبقاء على الوضع الراهن كبيرة، وفراغ الفكر السياسي ضخم. فكر لا يمكن تجزئته ويختزل كل شيء في الحساب، هو موجود في كل مكان في الطلبيات. إن الفائدة الخارجة عن السيطرة تنسف كل انتظام، فضلا عن أنه يجب أن لا ننسى النزوع التراجعي العالمي في السنين العشر الأخيرة، أزمة الديمقراطيات والديماغوجيات المنتصرة عند الأمم الكبيرة. وتطور الأنساق النيوسلطوية بواجهة ديمقراطية، والأزمة العامة للفكر السياسي. توقعي هو نقطة تحول محتملة ستغير التطور الجاري الآن لكن بإمكاني أن أقول لكم، إن هذا السؤال، هل تعتقدون بولادة (عالم جديد) هو جزء من الأسئلة التي أتحدث بها غالبا مع زوجتي وأصدقائي. لقد حاولت بنفسي استخلاص طريق جديدة في كتابي «المنهج» عام 2012، الذي يبدو لي منهجا مفيدا.
■ هل سنفلت من إغواء كوني وشخصي بالانطواء؟ هل يمكن تصور حل كوني سياسي cosmopolitique؟
□ لقد أحدث الوباء انطواء الدول الوطنية على نفسها. إذا كانت هناك أزمة اقتصادية هائلة بعد الوباء سيزداد هذا النزوع سوءا ويتحول إلى نزعة وطنية تكره الأجانب، بل سيصبح عدوانيا. هل تعرفون مسرحية Uonesco يونسكو «وحيد القرن»، حيث الكائنات الإنسانية تتحول الواحدة تلو الأخرى، إلى حيوان وحيد القرن. فليحاول كل واحد ألا يصبح وحيد القرن، إن الحل الكوْني للكونفدرالية الكونية مرغوب فيه، وتقنيا ممكن، ولكنه حاليا مستحيل. يجب علينا مسبقا تملك وعي قوي جدا بجماعة تهتم بمصير كل البشر.
■ هل يجب علينا أن نفكر من جديد في علاقتنا بالآخر؟
□ إن الصداقات الحقيقية وجدت نفسها قد تقَوت، والأزواج عثروا على ذواتهم، لكن الحجر الصحي كان مرعبا بالنسبة للأزواج النكديين، أو الذين هم في طريق التفكك. يجب أن نفكر أن كل «أنا» في حاجة لـ «أنت» ولـ»نحن».
■ هل يبدو لك أن الثقافة أصبحت متاحة يسهل الوصول إليها بنقل مجاني على الإنترنت للأوبرا، والمتاحف وبعض الكتب؟ أو على العكس هل علينا من الآن فصاعدا الاستغناء عنها؟
□ فعلا، إن نقلا مجانيا على شبكات الإنترنت أوبرا ومتاحف، وبعض الكتب هي مبادرة ذات أهمية كبيرة، جاءت لكي تفتح مسالك الولوج إلى الثقافة، بالنسبة لمن لا يملكون السبيل إلى ذلك. ومن ثم، فقد يثير هذا الفعل ضربات صاعقة جمالية لمن يبحثون عن اكتشاف الأعمال الكبرى. من جهتي، لا يمكنني إلا أن أحث على قراءة المؤلفين الذين أحبهم، وفي المقام الأول دوستويفسكي.
■ هل تعتقد أن تيارات جديدة فكرية وفنية ستتولد من هذه الحقبة؟
□ لا أعرف؛ في جميع الأحوال، وُجِدَ فَن وتفَكه خاص بالحجر الصحي مع ملاحظة تزايد النكات والفيديوهات القصيرة، محاكاة ساخرة تستحق أنْ نحتفظ ببعضها.
■ ماهو أول شيء ستقوم به أو ترغب في رؤيته عند نهاية الحجر الصحي؟
□ إن أقبل الأشخاص ذكورا وإناثا الذين فصلت عنهم/ عنهن.
٭ نُشر الحوار في مجلة Paris match في 16/04/2020.
ترجمة: سعيد بن الهاني٭٭
٭٭ كاتب ومترجم من المغرب
القدس العربي
———————————
==========================
تحديث 30 كانون الأول 2020
————————————
حقوق الإنسان وطوارئ جائحة «كورونا»!/ أكرم البني
مرت الذكرى السنوية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان أمس (العاشر من الشهر الحالي)، مثقلة بأعباء الطوارئ الصحية والإجراءات الاستثنائية التي استدعاها الحد من انتشار فيروس «كورونا»، كعزل المدن وحظر التجمعات وتقنين المشاركة في النشاطات الثقافية والرياضية والترفيهية، بما في ذلك وقف بعض الأعمال والمهن وتقييد حرية التنقل والسفر؛ الأمر الذي أثار جدلاً لا يزال محتدماً حول تأثير هذه الإجراءات الطارئة، على حريات البشر وحقوقهم وعلى المبادئ والقيم المتنوعة التي ضمتها الشرعة الدولية لحقوق الإنسان.
بداية، ثمة من يشجعون إعلان حالة طوارئ صحية ويرفعون شعار مواجهة «كورونا» أولاً بصفته شعار المرحلة الذي يجب ألا يعلو عليه أي شعار، مسوّغين بذلك القيود كافة التي تفرضها الحكومات على جوانب من حريات الأشخاص وحقوقهم ما دامت تساعد على تفادي المخاطر التي تتعرض لها حياة المواطنين عموماً، ولسان حالهم يقول، ما دام انتشار جائحة «كورونا» يشكل تهديداً للبشر أجمعين، فإن الضرورة الملحة هي حماية الحق في الصحة والحياة أولاً، باعتباره أحد الحقوق الأساسية لوجود الإنسان ذاته، وإن تم ذلك على حساب بعض حقوقه الأخرى، ويستندون في موقفهم هذا إلى أساس قانوني أممي تتضمنه الشرعة الدولية لحقوق الإنسان ذاتها، التي تكفل وتتفهم الحاجة إلى بعض الإجراءات الاستثنائية المقيدة للحريات، في ظروف الأزمات المهددة للحياة.
في المقلب الآخر، ثمة من تتحكم في عقولهم نظرية المؤامرة، ويذهبون إلى اعتبار فيروس «كورونا» مجرد وسيلة جديدة من وسائل الصراع على السلطة والثروة بين الدول الكبرى، وقودها صحة الناس وحيواتهم وحقوقهم، وغرضها تعزيز الهيمنة الاقتصادية وإعادة تقاسم الحصص والمغانم، ويخلصون إلى نتيجة تقول بضرورة مقاومة مختلف التدابير التعسفية المتخذة وتعرية غاياتها الأنانية وأهدافها الاستئثارية، في حين يندفع بعضهم نحو وجهة أخرى، ويرون أن كل ما جرى ويجري تحت عنوان فيروس «كورونا» هو لعبة تدار من قِبل ما يسمى «الحكومة العالمية الخفية» بغرض حيازة السلطة المطلقة للسيطرة على العالم، بما يخفف الأحمال على مصالحها وامتيازاتها، ويمكّنها من إعادة إنتاج مجتمعات جديدة خاضعة وخانعة، لا مكان فيها لحقوق الإنسان، ويشجعون تالياً، على رفض أي إجراء استثنائي تعلنه الأنظمة والحكومات بدعوى مواجهة جائحة «كورونا» حتى لو أدى ذلك إلى الأسوأ وإلى تفشي الفيروس وتهديد حياة الملايين من الناس، معتقدين بأن ذلك سوف يفضح ألاعيب «الحكومة العالمية الخفية» ويفشل مآربها، وينسحب ذلك على دعوتهم لرفض تلقي أي لقاح ضد هذا الفيروس، بصفته جرعة «مدروسة» تهدف لإخماد ملكة التفكير وخنق روح التغيير والتمرد لدى البشر.
بين هذا وذاك، ثمة من يتفهمون أن تفرض الحكومات حظراً محدوداً على حركة الأشخاص لضمان التباعد الاجتماعي، وعدم انتقال العدوى وتفشيها، بما يخفف من آثار المرض وتداعياته، ويتفهمون تالياً إغلاق الحدود والمعابر، وإيقاف حركة السفر، ومنع التجمعات والنشاطات بشكل مؤقت، لكنهم يخشون أن تفضي هذه الإجراءات مع الزمن إلى استباحة حرياتهم الشخصية وتسهيل امتهان كراماتهم، والأسوأ إلى تغييب حقوقهم الأخرى أو تسويغ تعليقها وتأجيلها تحت ذريعة حماية الصحة العامة؛ وإذ يستند أصحاب هذا الموقف إلى حزمة التحفظات التي أشهرتها غالبية المنظمات الأممية والوطنية المعنية بالدفاع عن حقوق الإنسان تجاه ما اتخذ من تدابير استثنائية وطارئة، فهم يشددون معها على ضرورة عدم المساس بالحقوق المطلقة للإنسان التي لا تخضع لقيود أو استثناءات مثل، الحق في الحياة والحماية من التعذيب والاعتقال التعسفي، وأيضاً على ضرورة أن تكون هذه التدابير مبنية على أدلة علمية معلنة وصريحة ومبرمجة زمنياً وخاضعة في كل وقت للمراجعة، وألا يتم تنفيذها بصورة تعسفية وعقابية، بل عبر إقناع الناس ونيل رضاهم واحترام مشاعرهم وخصوصياتهم وكراماتهم بما يشجعهم على المشاركة في إنجاح تلك التدابير وتخفيف المخاطر على صحتهم وصحة المجتمع عامة.
مما لا شك فيه أن جائحة «كورونا» قد منحت الأنظمة الحاكمة فرصة للتسلط والتعسف، لكن ثمة تفاوتاً وتبايناً في استغلال هذه الفرصة بين بلد وآخر تبعاً لطبيعة نظامه السياسي وأيضاً لمدى انتشار فيروس «كورونا»، ففي حين حرصت غالبية الحكومات الديمقراطية على الشفافية والوضوح وعلى تبيان أسباب ما تتخذه من إجراءات ومدى الحاجة الصحية إليها، ولجأت إلى التعاون والتفاعل مع مختلف مكونات المجتمع، معززة الثقة بهم وبدورهم التشاركي لتجاوز هذه المحنة، لم يكن لدى الأنظمة الديكتاتورية جديد تظهره أمام تاريخ يفيض بوجع الانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان.
فأنى لسلطة، كالسلطة السورية مثلاً، أن تقدم إيضاحات عما تتخذه من إجراءات استثنائية تطال حقوق الإنسان، وهي التي توغلت إلى آخر الشوط، في التدمير والقتل والاعتقال والتشريد، وخنقت البلاد، طيلة عقود بسطوة قانون الطوارئ والأحكام العرفية؟! وعيانياً، هل سأل المرء نفسه عن مدى اهتمام هذه السلطة بصحة البشر وهي التي أوصلت حياتهم وأمنهم إلى درك لا يطاق، وحرمتهم من أبسط حاجاتهم ومستلزمات عيشهم؟ فكيف الحال حين تسارع، وكعادتها تجاه أزماتها، إلى إنكار وجود فيروس «كورونا» من الأساس، وإلى حجب أي معلومة عن مدى انتشاره وعدد ضحاياه، وملاحقة من ينشرون معلومات عن الإصاشبات، واعتقالهم بتهم نشر الإشاعات والأخبار الكاذبة؟ أو حين يتباهى مسؤولوها بانتصارهم على هذا الفيروس، بعد اضطرارهم إلى الاعتراف بانتشاره، كما انتصروا على الإرهاب والمؤامرة الإمبريالية، كذا؟ ثم هل غريب عليها، وقد استثمرت جائحة «كورونا» لجباية العملة الصعبة عند بوابات الحدود، أن تستثمرها للتخلص من عشرات ألوف المعتقلين الذين تغص بهم السجون، ويعانون التعذيب وسوء التغذية والإهمال الصحي؟!
انتشر فيروس «كورونا» ولم يميز بين البشر على أساس القومية أو الدين أو العقيدة، لم يفرق بين امرأة ورجل، ولا بين غني وفقير، وكأنه، رغم ما سببه من ضرر وأذى، يريد أن يذكّر الجميع بقيم العدل والمساواة، وبضرورة احترام الإنسان وحقوقه من دون تمييز ككائن حي من لحم ودم وفكر، ولنقل كأنه يريد أن يعترض على تنامي نزعات الأنانية بين الشعوب وظواهر عدم اكتراثها بما يحل بغيرها من محن وكوارث، وربما كي ينبه سكان هذا الكوكب بوحدة المصير وبضرورة الانفتاح والتفاعل والتكاتف للانتصار معاً لحياة كريمة وآمنة.
الشرق الأوسط
—————————-
فيروس كورونا وفيصل مقداد/ عمار ديوب
لم يكن ينقص السوريين إلا فيروس كورونا في بداية عام 2020 وأن يصبح فيصل المقداد وزيراً للخارجية في نهايته. في هجمته الأولى، وأقصد الفيروس، لم يكن قويّاً. وفي الثانية، في الأشهر الأخيرة، راح يفتك بالمدن، وليس من إحصائيات عن عددِ قتلاه. أمّا فيصل هذا فلا أحد يهتم بأمره، حيث كان سلفه، وليد المعلم، يسدُّ عليه، وعلى سواه، كرسي الخارجية. عدا أن “المعلم” أصبح تقريباً حبيس كرسيِّه سنواتٍ طويلة، فكيف بالمقداد. الأخير، وبعد أن وُزِّرَ، يُستدعى تارةً إلى إيران، وتارةً إلى روسيا، ويتلقى التعليمات، ويتم إفهامه، مراراً وتكراراً، بدقة المواقف التي عليه إطلاقها، ولكنه ليس كسلفه، البارد أكثر من صقيع سيبيريا، فهو يطلق كلاماً، يبدو عليه حماسيّاً، في بعض الأحيان، كأن يقول إن على القوات الأميركية أن تخرج من سورية، وإلّا فإننا لن نتمكن من إيقاف المقاومة الشعبية عن المباشرة في عملياتها، والتي ستفني الأميركان. وبخصوص الإيرانيين، ليس من وجودٍ لهم إلّا مستشارين عسكريين، وهو بذلك يكرّر أكاذيبٍ سابقة، لطالما قالها مُورِّثه المنصِب، وبالتالي المقداد “يتوزر” وهو يطلق الأكاذيب، وبحماسةٍ شديدة، تعزُّ على مضيفه الأخير، الوزير الروسي لافروف.
يتحدّث العالم عن لقاحاتٍ متعدّدة الجنسيات “روسية، أميركية، صينية، ألمانية،..”، والسوريون يتحدّثون عن ميتاتٍ تكثر في مدنهم المنكوبة، علماً أن الميتات ما زالت تغزو أرجاء المعمورة. القضية أن الهجمة الثانية من الفيروس تُرك لها العنان، وكأنَّ في الأمر قصداً معيناً، حيث حذّرت جهاتٌ رسميّة سورية، من خطأ افتتاح العام الدراسي، وأن سورية لا تمتلك بنيةً تحتية أو تعليمية لمنع تمدّد الفيروس من المدارس وإلى المدن وليس للعائلات فقط، ولكن ذلك ضُرِبَ بعرض الحائط، ليحصد المئات، وربما في القادمات أكثر، حيث لا إجراءات للسلامة يتم اعتمادها. أمّا اللقاح فقد لا يتعرف عليه السوريون قبل اجتثاث الفيروس من العالم.
هذا العام، تكثفت فيه الأزمات؛ فهناك فقدانٌ للطاقة “غاز ومازوت وبنزين وسواه”، وهناك طوابير الخبز، وهناك كفّ يد أكبر شريك للنظام في نهب الاقتصاد، رامي مخلوف. وهناك صعود بارز، كما تقول التقارير، لزوجة الرئيس، وهناك أقطاب مالية جديدة، ظهرت. ولكن مقابل ذلك كله، هناك ميزانية فارغة إلّا من هواءٍ ساكن. أمّا أغلبية السوريين، فهم في أسوأ حالٍ منذ 2011. فلم تعد القضية قضية ثورة ونظام، وتدخلات خارجية أصبحت احتلالات دائمة، ولا يقتصر الأمر على الروس، الذين أخذوا أغلبية الاستثمارات الاقتصادية. الأسوأ من ذلك كله أن الفقر أصبح شديد الوطء، والخدمات تكاد تكون مُعلقة من الدولة. وهناك الكهرباء الشحيحة، وحتى الخبز، أوصى أحد قادة النظام بإنتاجه في المنازل! أي ليس من خبزٍ ستقدّمه الدولة في الأشهر المقبلة، ولنقل سيتقلص إنتاجه، بفعل عدم توفر الطحين، وزاد الطين بلّة أن أطناناً من القمح من موانئ الدولة، وهناك قانون قيصر.
الحقيقة المرّة، أن كل ما ذكر أعلاه، هو بفعل استمرار النظام، والأنكى أنه ما زال يقود سورية وكأنّ لا شيء تغيّر في السنوات العشر! ويثابر حاثّاً عناصر جيشه على الاستمرار في القتال، وبدءاً من درعا وليس انتهاء بالبوكمال ومروراً بإدلب المحاصرة. ولسوء حظنا، أصبحت كل تلك المعارك إمّا لصالح الروس أو الإيرانيين، وربما كذلك لصالح كل من تركيا وإسرائيل وأميركا، أي ستستفيد من سياساته الأخيرات.
يجثم الفيروس على صدرنا، وسورية أنهكت حتى الثمالة، ومأساتها أتمّت العام العاشر، وكلفة أزماتها أعلى من أربعمائة مليار دولار، وكلفتها البشرية مئات الألوف من القتلى. وهناك الجرح المفتوح، غياب أيّةِ آليّة للإفراج عن المعتقلين أو معرفة مصير المفقودين. عدا عن الاحتلالات المشار إليها، أو كنتائج لسياساتها، فإن سورية الآن مقسمة إلى ثلاث مناطق، هي بمثابة مراكز نفوذٍ لروسيا ولإيران ولتركيا وللأميركان. والأسوأ هناك بوادر جديدة عن مناطق إضافية، ككانتون حوران أيضاً! سورية التي كنّا نعرفها أصبحت كانتونات مناطقية وطائفية وعشائرية وقومية، والهوية السورية أُشبِعت تهشيماً، وهناك من يُشكك فيها بالأصل، وهناك من يؤكد أنها لم تبنَ من أصله، وإن مشاريع سورية السياسية زادتها تفكّكاً بين هوياتٍ قوميةٍ أو دينية أو عالمية، وبالتالي، سورية بحاجةٍ إلى بناء هويةٍ جديدة، على مدماك المواطنة، والأخيرة وحدها ما تُبنى عليها الأوطان، وفقاً للرأي الأخير..
حلّل بعضهم أن زيارة فيصل المقداد إيران أولاً تعبر عن تبعية أساسية للنظام لذلك البلد، وزيارته روسيا تعبر عن تبعيته بالدرجة الثانية للأخيرة. وبعض البيانات المرسلة عبر الصحافة تفيد بذلك، وتفيد بأن الروس قالوا للمقداد إن البلد الذي أنقذ نظامه هي روسيا، ولولاها لانهار النظام، وبالتالي عليكم الانتهاء مما تفعلون، فهلّا فهمتم؟
منطقتان تحاول روسيا، أخيرا، الامتداد إليهما، مدينة السويداء والبوكمال. وإذا كان الأمر ما زال متعذّراً في الأولى، ففي الثانية، أخلت لها إيران مناطق عسكرية، وهذا يُقرأ كرسائل للأميركان وللإسرائيليين، أن الروس جادّون في السيطرة على سورية، وعلى الدولتين التحرّك لتخفيف وجودهما في سورية. فات الروس، ولنقل يتجاهلون أن الدولتين تكرّران بضرورة إخراج إيران، وليس الحدّ من نفوذها. في كل الأحوال، إسرائيل وأميركا لا تقفان ضد الهيمنة الروسية على سورية، سيما أن الأخيرة أصبحت أرضاً يباباً، وقاعاً صفصفاً؛ أي أن روسيا تحتل سورية، وتسيطر إسرائيل على الجولان، وهذا لن يتغيّر في الراهن، وسلاح الأخيرة يقصف أية قاعدة عسكرية إيرانية فيها، وأميركا بدورها تسيطر على أغلبية مناطق الطاقة السورية والثروات الغذائية.
كان على الروس ألّا يصرّحوا مع المقداد إنهم وسورية لن يكونا أول من يضع سلاحاً في الفضاء، وكأنّ لسورية دورا في ذلك. وكان على الروس أن يتوقفوا عن مهزلة اللجنة الدستورية، والثرثرة بأن لا علاقة لها بالانتخابات الرئاسية المقبلة، وأن الأخيرة ستبدأ في سورية عهداً جديداً، وسيعترف العالم بالنظام، وتبدأ عملية الإعمار.
لا جديد في سورية إلّا ذلك التوزير،، وهذا لا فائدة منه تُرتجى، وهو تحصيل حاصل، وما زال الأفق مغلقاً، حيث لا تسوية تجمع الروس والأميركان، وهي المعوّل عليها، ومنذ 2011 لنهاية الوضع السوري! في هذا الوقت، يتمدّد فيروس كورونا، والمقداد صار وزيراً متحمّساً للكذب، وأغلبية السوريين يلجون في فقرٍ شديدٍ، وأحلامهم صارت كوابيس، فإن نَجوا من موتِ الفقر لن ينجوا من كورونا أو من النظام أو من أنظمة في الشمال والشرق، تحرسها تركيا وأميركا.
هذا هو عام 2020، فهل يتغير الأمر في 2021؟ لست متفائلاً.
العربي الجديد
———————————-
سوريا: البحث عن رغيف خبز في زحمة طوابير “كورونا”/ طارق ميري
“بدنا نعيش وما بصير غير لي كاتبه الله”، يقول رجل ينتظر في زحام منطقة البرامكة في دمشق وسيلة نقل تقله إلى جديدة عرطوز في ريف العاصمة لدى سؤاله عن إجراءات الوقاية من الإصابة بفايروس “كورونا”.
جل تفكيره ينحصر الآن بحجز مقعد وسط تدافع المئات ممن ينتظرون وسائل النقل، إذ تعيش العاصمة السورية في هذه الفترة أزمة مواصلات خانقة، مع قلة عدد الميكروباصات وشح في مادتي المازوت والبنزين وتضاعف أسعارهما.
بحسب بيانات وزارة الصحة السورية وصل عدد الإصابات بفايروس “كورونا” حتى 27 كانون الأول/ ديسمبر إلى 11 ألف و33 إصابة و678 وفاة مع شفاء 5141 حالة.
في جولة خاطفة على أبرز شوارع دمشق، يندر أن ترى أشخاصاً يرتدون كمامات أو أقنعة واقية، فيما تغص وسائل النقل العامة بأعداد مضاعفة من الركاب بما يفوق قدرتها الاستيعابية، في ظل انعدام التباعد الجسماني أو التقيد بوسائل الوقاية من الفايروس، بينما تنتشر على “فايسبوك” صور وأوراق نعوة لمواطنين وأطباء قضوا بسبب الوباء. فلا يمر يوم من دون أن يعلق أحدهم معزياً أو مواسياً على منشورات معارفه.
أما الفريق المعني بإجراءات التصدي لوباء “كورونا” التابع للحكومة السورية، فقد قرر فرض الكمامة على المراجعين والعاملين في المؤسسات العامة ومستخدمي وسائط النقل الجماعي ومرتادي الأسواق ومنافذ البيع في الأفران، من دون أن يجد هذا القرار طريقه للتطبيق وسط غياب للرقابة.
مع استمرار الازدحام في أفران دمشق مثل “الشيخ السعد” الحكومي في المزة ومخابز “ابن العميد” في ركن الدين، وعلى أبواب “المؤسسة السورية للتجارة” الحكومية للحصول على المخصصات التموينية كالأرز والسكر بموجب بطاقة إلكترونية، أصبحت الطوابير بأشكالها كافة حالة عامة. وتقول سناء من سكان حي المزة “الناس في دمشق يفكرون بتأمين حاجاتهم المعيشية أكثر من مخاطر الإصابة بالفايروس مع ازياد الأزمات الاقتصادية الخانقة مثل شح الغاز المنزلي وانقطاع الكهرباء وغلاء تكاليف المعيشية وسط انتشار الفقر والتسول”.
وعلى رغم الإعلانات الطرقية عن خطر “كورونا”، المنتشرة بكثافة بإشراف وزارتي الصحة والإعلام بالتعاون مع منظمات دولية، إلا أنها لا تلفت انتباه شريحة واسعة من المارة خاصة الأطفال الذين يجوبون الشوارع بحثاً عن المال ويقلبون حاويات القمامة من أجل بقايا الطعام.
ومع بداية تشرين الثاني/ نوفمبر دخلت سوريا الموجة الثانية من جائحة “كورونا”، فلا تقل الإصابات المسجلة يومياً عن 150 حالة بحسب بيانات وزارة الصحة، مع العلم أن العدد الحقيقي للإصابات والوفيات تخطى الأرقام الرسمية المعلنة وسط تراخ كبير في إجراءات السلامة العامة، والصفوف الحضورية في الجامعات والمدارس. وعلى رغم مناشدات الأهالي وعدد من الأطباء بتعليق الدوام، لا سيما بعد وفاة طالب في إحدى مدارس ريف دمشق و8 أشخاص من المدرسين والكوادر التربوية في مختلف المحافظات، وتسجيل أكثر من 600 إصابة بين الطلاب و800 إصابة بين الكوادر التربوية بحسب مديرة الصحة المدرسية في وزارة التربية د.هتون الطواشي إلا أن تلك المطالبات بقيت من دون استجابة.
الإمكانات المتاحة… دمشق
قال عضو الفريق الاستشاري لمواجهة فايروس “كورونا” د. نبوغ العوا “المرض بدأ يظهر بشكل واضح أكثر بعد دخول فصل الشتاء، إذ ارتفع عدد الإصابات في جميع المحافظات، ومن الممكن حدوث زيادات كبيرة (انفجارات)، وشاهدنا ما حصل في الصيف من ارتفاع في عدد الإصابات والوفيات… وأتوقع زيادة في عدد الحالات الحرجة”، وأشار العوا إلى ارتفاع عدد المراجعين المصابين بـ”كورونا”، وهي نسبة تزداد يوماً لكنها “محمولة حتى الآن” وهي حالات متوسطة في معظمها يتم حجرها في المنزل ومتابعة وضعها عبر الهاتف، أما الحالات الأشد صعوبة فتحوَّل إلى مستشفيات.
ذكر العوا أن إجراء تحليل PCR الخاص بـ”كورونا” يتطلب يوماً أو يومين لتظهر النتيجة بحسب الضغوط في المختبرات، وليس لدى وزارة الصحة القدرة على إجراء اختبارات للجميع، في حين أن المراكز الخاصة تطلب مبالغ لا يقدر الجميع على دفعها، وفي حال عدم قدرة الشخص على الدفع يتم الاكتفاء بصور الأشعة وتحليل الدم، لأن كلفتهما أرخص من تحليل PCR.
في دمشق 15 مستشفى حكومياً، تملك 3 آلاف و483 سريراً، في حين يصل عدد المستشفيات الخاصة إلى 36، بقدرة 1298 سريراً، بحسب بيانات وزارة الصحة. ويعتمد الناس على العلاج في المستشفيات الحكومية لأنه يُقدم مجاناً، ومن أبرز هذه المستشفيات التي تستقبل حالات “كورونا”، مستشفى الأسد الجامعي، والمواساة، وابن النفيس، والهلال الأحمر السوري. في المقابل يضطر بعض المرضى للذهاب إلى مستشفيات خاصة في حال عدم توفر شواغر في المنافس والأسرة الحكومية، مقابل دفع مبلغ مادي لا يقل عن 500 ألف ليرة في الليلة الواحدة ما يعادل 200 دولار في السوق الموازي بحسب ما أكده أحد المرضى لـ”درج”.
وكانت وزارة الصحة في 12 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، جهزت مستشفى طوارئ في “مدينة الفيحاء الرياضية” في دمشق يتسع لـ120 سريراً لاستقبال المصابين بـ”كورونا” بأعراض متوسطة وبحاجة لدعم أكسجة فقط، كما خصصت مئة سرير إضافي لاستخدامها عند الحاجة.
تضاعف الإصابات… وأرقام بعيدة من الإحصاءات الرسمية
بين مدير مستشفى المواساة د.عصام الأمين خلال تصريح لوسيلة إعلام محلية في 16 تشرين الثاني / نوفمبر الماضي أن حصيلة الإصابات بفايروس “كورونا” في المواساة خلال النصف الأول من تشرين الثاني تضاعفت 3 مرات عما كانت عليه الشهر السابق، وقال “إن مجموع الإصابات المثبتة التي يستقبلها المستشفى حالياً منذ بدء تشرين الثاني وصل إلى 53 حالة، بينما لم تتجاوز في تشرين الأول الماضي 15، أما في أيلول/ سبتمبر فكانت 19 فقط، إلا أنها وصلت ذروتها القصوى خلال آب/ أغسطس، حيث بلغت 172 إصابة إيجابية في مستشفى المواساة فقط”، وأوضح الأمين أن “هذه الأعداد تمثل الحالات التي تحتاج إلى دعم طبي في المستشفى وحسب، وهي ما بين شديدة وحرجة، إلا أنها لا تشكل سوى 15 في المئة من مجموع المصابين”.
وصرح الأمين في 23 تشرين الثاني بأن دمشق في المرتبة الخامسة من حيث عدد الإصابات بالفايروس ومن المتوقع أن تكون حمص والسويداء في المرتبة الأولى.
من جهة أخرى، أوضح معاون مدير مديرية الأمراض السارية والمزمنة في وزارة الصحة عاطف الطويل أن بعض المحافظات تشهد حالياً ازدياداً متدرجاً لانتشار الفايروس لا سيما حماة وحمص واللاذقية والسويداء، وأكد الطويل لوكالة “سانا” أن نسب إشغال الأسرة لمرضى “كورونا” ارتفعت في بعض المحافظات إلى 15 بالمئة قياساً بالفترة السابقة.
وهذا ما أكده أيضاً مدير الجاهزية والإسعاف والطوارئ في وزارة الصحة د.توفيق حسابا، الذي أشار إلى ارتفاع منحى الإصابات منذ تشرين الثاني 2020، إذ كان عدد الإصابات المسجلة يومياً يصل إلى 30 إصابة و3 وفيات، بينما ارتفع خلال منتصف كانون الأوّل/ ديسمبر ليصل إلى 150 إصابة و15 وفاة في الأسبوع ما يعني زيادة معدل الإصابات والوفيات المعلن عنها رسمياً بنحو خمسة أضعاف من منتصف تشرين الثاني حتى الآن.
لا يختلف وضع حلب عن دمشق لناحية انتشار “كورونا”، إذ قال أحمد (اسم مستعار) وهو طبيب بقسم الصدرية في مستشفى حلب الجامعي لمعد التقرير، إن “المراجعين في قسم الإسعاف في ازدياد مطرد، المستشفى ممتلئ ولا أماكن شاغرة لاستقبال المزيد”.
وأضاف: “قسم العناية في المستشفى يمتلك 6 منافس فقط، وإذا لزم الأمر سنستخدم جناحاً إضافياً بسعة 10 غرف”. ويشير أحمد إلى صعوبة تقدير أعداد الإصابات كون الفريق الطبي يعمل في مناوبات متغيرة يومياً، لكن يمكن القول إن “الإسعاف الداخلي يستقبل 20 مريضاً مشتبه بإصابتهم بكورونا مقارنة بـ5 أو 10 فقط في تشرين الثاني”.
ويعاني السوريون بمناطق خاضعة لسيطرة الحكومة السورية في حلب من انقطاع التيار الكهربائي لأكثر من 12 ساعة يومياً، ما دفعهم منذ سنوات إلى الاعتماد على “أمبيرات المولدات للحصول على الكهرباء”، على رغم ارتفاع ثمنها، إضافة إلى تأخر الحصول على مخصصات المازوت للتدفئة المنزلية، وأوضح د. أحمد أن الناس يسعون لتوفير المال عبر العمل في أكثر من مكان لتأمين تكاليف الخبز والطعام والأمبيرات متناسين شيئاً اسمه فايروس “كورونا”.
لا مساعدات للسويداء.. والمشهد ذاته في درعا
ويتكرر المشهد ذاته في السويداء، إذ ذكر مصدر في “مديرية صحة السويداء” لـ”درج” أن ارتفاع عدد الإصابات بـ”كورونا” بنسبة كبيرة دفع المديرية إلى فتح قسم عزل ثالث في “مستشفى السويداء الوطني” لتتركز الحالات المعزولة في “مستشفى صلخد” و”الوطني” و”مستشفى سالي الوطني”، مشيراً إلى وجود 40 منفسة فقط في مستشفيات المحافظة، وأوضح المصدر أن الإصابات والوفيات تسجل بشكل يومي، وقد يصل عدد الوفيات أحياناً إلى ما بين 10 و12 شخصاً في اليوم، مبيناً عدم قدرة مديرية الصحة على إجراء مسحات لجميع الأهالي، لذلك يتم الاكتفاء بصورة مقطعية للصدر، أما المسحات الطبية التي تجرى فترسل إلى مختبرات “وزارة الصحة” في دمشق، وتظهر النتيجة بعد 10 أيام أو أسبوع. وبيّن المصدر أنه على رغم ارتفاع عدد الإصابات لم تصل أي مساعدات إلى المحافظة من الوزارة.
أما في درعا، فقال أسامة أحد متطوعي “منظمة الهلال الأحمر السوري”، “منذ أسبوعين، تعاملنا مع 50 حالة مشتبه بإصابتها بالفايروس يومياً من ضمنها وفيات نقلناها إلى المستشفيات في المدينة بينما الانتشار الأكبر كان في الريف”، وتابع: “يجهز الهلال حالياً قسم عزل جديداً يستوعب 30 مصاباً في المستشفى الوطني في درعا”.
ومع ازياد عدد الإصابات في مختلف المحافظات الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية، سرعان ما أصدر وزير الصحة حسن الغباش تعميماً بتاريخ 29 تشرين الثاني بإيقاف العمليات الباردة اعتباراً من بداية كانون الأول/ ديسمبر مع استمرار العمل بالنسبة إلى الحالات الإسعافية والعمليات الجراحية الخاصة بالأورام، وانتقال المستشفيات للعمل ضمن خطة الطوارئ B، والتوسع ضمن أقسام المستشفى لمصلحة مرضى “كورونا”.
أُنجز هذا التحقيق بدعم من منظمة دعم الإعلام الدولي (IMS) وبالتعاون مع مؤسّسة “روزنة” للاعلام ومنصّة “خيوط” اليمنيّة.
درج
———————————–
«سوريا المريضة» تنتظر اللقاح من تفاهمات «اللاعبين»/ إبراهيم حميدي
الوباء زاد معاناة النازحين في العراء
ديمومة ثبات «خطوط التماس» في سوريا لحوالي سنة، مقلقة للبعض ومريحة للبعض الآخر. هي، لأول مرة منذ حوالي عقد، لم تتغير بين «مناطق النفوذ» الثلاث. كانت هناك نيات لتجاوز «الخطوط الحمراء»، أو اللعب على حبال التناقضات بين اللاعبين، اصطدمت بجدران كثيرة. التفاهمات الدولية والصفقات الإقليمية والتشابكات بين المقايضات الدولية والإقليمية.
أيضاً، خيم «كورونا» بظله الثقيل وأصابعه الثقيلة. هذا الوباء لا يعرف الحدود حتى لو كانت مؤقتة. جرائم الوباء وحدت السوريين في «المناطق الثلاث». زاد من عمق الحفرة التي رماهم فيها الآخرون. لا فرق عند «الجنرال كورونا» بين سوري وسوري إلا بالصحة.
تصادفت هجمة «كورونا» القاتلة في الصين نهاية العام مع التفاهمات الأميركية – التركية – الروسية شرق الفرات ومع توقيع الرئيس دونالد ترمب «قانون قيصر» لفرض عقوبات اقتصادية على دمشق. تزامن امتداد الوباء إلى العالم والمنطقة وسوريا مع التفاهم الروسي – التركي مارس (آذار) الماضي في شمال غربي سوريا، أعقب ذلك بدء تطبيق «قيصر» بعد ثلاثة أشهر. منذاك، أي لحوالي سنة، أصبحت «الحدود» بين «مناطق النفوذ» ثابتة سوى من بعض التحرشات. هذا الثبات هو الأول والأطوال منذ «العسكرة» و«الحل الأمني» بعد 2011.
بعد التدخل العسكري الروسي نهاية سبتمبر (أيلول) 2015، واستعادة دمشق لمناطق واسعة، وإبرام موسكو تفاهمات مع أنقرة وواشنطن، باتت سوريا ذات الـ185 ألف كلم مربع، مقسمة إلى 3 مناطق نفوذ: ثلثا البلاد ومعظم المدن تحت سيطرة الحكومة، بدعم روسيا وإيران. «قوات سوريا الديمقراطية» الكردية – العربية تسيطر بدعم التحالف وقيادة أميركا على ربع البلاد في شمال شرقي البلاد، حيث تقع معظم الثروات والنفط والغاز والمياه. «الحصة الثالثة» من نصيب تركيا التي تمد أذرعها العسكرية وغير العسكرية في «جيوب» شمال البلاد وشمالها الغربي بسيطرة من فصائل مقاتلة تدعمها أنقرة، إضافة إلى وجود مباشر للجيش التركي.
المقابر والمستشفيات
حصلت دمشق في نهاية العام على لقاح «سبوتنيك» الروسي. هذا ما بشر فيه وزير الخارجية فيصل المقداد بعد زيارته إلى موسكو. الأولوية هنا، لتلقيح عناصر الجيشين: العسكري والطبي. سيصل «اللقاح الروسي» بعد أشهر كما وصل «الجيش الروسي». لكن بداية العام كانت مختلقة. أشهر عسيرة وقاسية. منذ دخول «كورونا» إلى مناطق الحكومة في مارس، استقبلته دمشق بالإنكار ثم بقليل من الشفافية وكثير من الشفاء… الإعلامي. اتخذت إجراءات وقائية خجولة مع تفشي الوباء في المحافظات.
تأخر الوباء أو كان تحت السيطرة في الأشهر الماضية. بدأ في أغسطس (آب) بتسجيل قفزات في دمشق وأخواتها بما في ذلك بين عناصر الجيش والضباط. «الأرقام الصامتة» لم تردع. كان من المفترض مقارعتها بإجراءات صارمة للحد من التغلغل. ما حدث هو العكس. عاد متابعو كرة القدم إلى المدرجات. أوضح مثال، اكتظاظ «ملعب الحمدانية» في حلب بأكثر من 20 ألفاً. دعي «الجنرال كورونا» إلى «العرس الجماهيري للانتصار على الإرهاب». وكان ما كان.
ولم يقتصر الأمر فقط على كرة القدم، بل إن طوابير الأفران والخبز ومحطات الوقود والأسواق المزدحمة أدت إلى تفشي الوباء بشكل كبير. هذا كله في ظل واقع طبي كارثي تعيشه مناطق نفوذ الحكومة بعد سنوات من الحرب والحرمان والفساد والهجرة.
أرقام وزارة الصحة، كانت متواضعة. كذبتها إحصاءات المستشفيات والمقابر. الدليل، كان في «مقبرة نجها» جنوب دمشق التي تحول قسم منها إلى مقبرة لضحايا الوباء. هنا، يخاف المصابون من الذهاب إلى المراكز الرسمية. وفقاً لإحصاءات «المرصد السوري لحقوق الإنسان»، أصيب حوالي مائة ألف شخص. تعافى منهم أكثر من 38 ألفاً وتوفي 6500 شخص. تتركز غالبية الإصابات والوفيات في السويداء واللاذقية وطرطوس وحلب ودمشق وريفها. الأعداد الرسمية لوزارة الصحة، اقتصرت على 9603 إصابات، توفي منها 554 وشفي 4548.
واكبت ذلك رغبة في دمشق للذهاب إلى إدلب أو شرق الفرات. لوزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو رأي آخر. وصل في مارس إلى دمشق لتأكيد ضرورة الالتزام بالاتفاق بين موسكو وأنقرة حول إدلب، وضرورة تجنب معارك شاملة وسط «كورونا». هناك قلق أن تتحول المسارح العسكرية إلى مكان للقلق من رصاصة أو فيروس.
يضاف إلى ذلك، تعمق الأزمة الاقتصادية والمعيشية، وانخفاض سعر صرف الليرة السورية، وبدء واشنطن في منتصف يونيو (حزيران) بتطبيق «قانون قيصر»، وإصدار قوائم ضمت 114 فرداً وكياناً سورياً حتى نهاية العام. كما ضغطت واشنطن على دول عربية وأوروبية كي لا تطبع مع دمشق ولا تساهم في إعمار سوريا. الهدف، بالنسبة إلى الأميركيين، «منع النظام من الفوز بالسلام في حال فاز بالحرب»، إضافة إلى «حرمانه من تمويل العمليات العسكرية، وتغيير خطوط التماس»، مع المطالبة بـ«وقف نار شامل» تكراراً لصدى دعوة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش.
إدارة ومأساة
العقوبات والوباء والأزمة، تسللوا «خطوط النار» إلى مناطق «الإدارة الذاتية» في شرق الفرات من أراضي الأخوة أو الأعداء. هذه المنطقة كانت مسرحاً لمعارك لهزيمة «داعش». هنا الطريقة أميركية في القتال. واضحة في المدن والقرى. حسب إحصاءات «المرصد»، بلغ عدد المصابين 34 ألفاً، تعافى منها 13 ألفاً، وتوفي 1200 شخص، وتتركز الإصابات والوفيات في عين العرب (كوباني) والحسكة والقامشلي والمالكية. الأعداد الرسمية لـ«الإدارة الذاتية»، سجلت 7581 إصابة، توفي منها 241 وشفي 1087. الوضع مأساوي وكارثي أيضاً. تخللته حالات سرقة لمعدات طبية.
حاولت «الإدارة الذاتية» الحصول على استثناءات من الحليف الأميركي، من عقوبات «قيصر». حاولت أيضاً تخفيف آثار العقوبات في القطاع الطبي. قابل الأميركيون، الذين ينشرون حوالي ألف جندي نظامي وغير نظامي، ذلك ببعض المرونة والاسثناءات، خصوصاً أن هذا الفيروس لا يعرف الحدود والبشر، ولا يميز بين كردي وأميركي.
نهر الفرات يرسم إلى حد ما «خط التماس» مع الحكومة. لكن هناك «خطوطاً» أخرى في شرق الفرات. تركيا أقامت منطقة «نبع السلام» بين تل أبيض ورأس العين. سيرت دوريات روسية – تركية ودوريات أميركية. الوباء لم يلجم نيات تركية للتوسع في شرق الفرات. بقيت المناوشات والاشتباكات وتبادل القصف تذكر القلقين من «كورونا» بأهوال الحرب. هذه الرقصات العسكرية، انتهت قبل ساعات بصفقة في بلدة استراتيجية، هي عين عيسى قرب الرقة، التي كانت ذات يوم «عاصمة» لتنظيم «داعش».
ملايين في بقعة
في شمال غربي البلاد، حيث تسيطر فصائل مقاتلة بدعم تركي، حوالي أربعة ملايين مدني. إنهم محشورون في مخيمات للنازحين ومناطق مدمرة. بعد سنوات من المعارك. هذه المنطقة كانت مسرحاً للعمليات العسكرية الروسية والحليفة و«مختبراً للأسلحة الجديدة». هذا يكفي لتخيل الوضع. يضاف إلى ذلك، أن وجود فصائل مدرجة على قوائم مجلس الأمن للتنظيمات الإرهابية، ترك آثاره في المجتمع والمساعدات الدولية.
هنا القلق سيد الأحكام. خوف في بقعة جغرافية مكتظة. منطقة أشبه بسجن كبير. دعم المنظمات الإنسانية والطبية إسعافي ليس إلا. مراكز طبية دمرت جراء القصف. مبانٍ مدمرة جزئياً باتت مراكز طبية. غرف بلا جدران استعملت للعناية المشددة. هذه الصورة العامة. قد يختلف المشهد من بلدة إلى أخرى. من جدار إلى آخر. لكن الشتاء صعب أن يحل والناس في العراء يعاركون الوباء. حاولت الجهات المسيطرة فرض إجراءات وقائية. حصلت بعض الاستجابة. قال أحدهم: «نحن لا نخاف كورونا. لعبنا مع الموت لسنوات وسنوات».
أيضاً، «لقمة العيش» وضرورة العمل والاكتظاظ في المخيمات المهترئة، عوامل ينتعش فيها «كورونا». يزدهر على معاناة الفقراء. سجلت 260 من أصل 19 ألف إصابة. تعافى 9500 شخص. «المرصد» يقول إن «الرقم الحقيقي هو الضعف». «كورونا» ليس كله أخباراً سيئة. هناك خبر «سار». خطوط التماس التي رسمت في فبراير (شباط) الماضي بين إدلب وأرياف حماة وحلب واللاذقية، لم تتغير جذرياً. تحالف «الجنرالات» الروسي والتركي و«كورونا» لترتيب استقرار ما.إدلب مثل دمشق والقامشلي، تجمعها المعاناة. الجائحة التي ضربت سوريا كغيرها من دول المنطقة والعالم، زادت حجم معاناة السوريين الذي بالأصل يعانون من تراكم أزمات النزوح واللجوء والخراب والمشاكل الاقتصادية والمعيشية. السوريون كغيرهم ينتظرون تسلم الإدارة الأميركية مقاليد الحكم وما إذا كانت سياستها ستكون مختلفة عن الإدارة السابقة. كل سوري لديه آمال مختلفة من إدارة الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن، حسب «منطقته». في الشمال الشرقي يريدون بقاء الأميركيين. في الشمال الغربي يريدون البقاء في «وقف التصعيد». فيما تبقى، يريدون رفع العقوبات.
«كورونا» ساهم ولو جزئياً في وقف العمليات العسكرية. عليه، فإن التساؤل داخل البلاد وخارجها، ما إذا كان العام المقبل سيحمل بعض الأكسجين واللقاح لـ«سوريا المريضة»، أم أنه سيكون امتداداً لـ2020 مع بعض التلوينات سلباً أم إيجاباً.
الشرق الأوسط
——————————————-
===========================
تحديث 31 كانون الأول 2010
——————————–
“اللاجئون السوريون في لبنان… الكورونا وحلم العودة/ لجين حاج يوسف- محمد فضيلات – فاطمة عثمان
أدت تدابير مواجهة الوباء إلى تعميق أزمة اللبنانيين الاقتصادية، فيما وجد اللاجئون السوريون أنفسهم أمام تحدٍ جديد بعدما كانوا يتخبطون في الأصل لضمان حياة كريمة…
في 21 شباط/ فبراير 2020 أعلن لبنان تسجيل أوّل إصابة بفايروس “كورونا”، ليجد نفسه أمام أزمة جديدة تضاف إلى أزمات مالية واقتصادية نتجت عنها موجة احتجاجات واسعة ضد الحكومة.
أدت تدابير مواجهة الوباء إلى تعميق أزمة اللبنانيين الاقتصادية، فيما وجد اللاجئون السوريون أنفسهم أمام تحدٍ جديد بعدما كانوا يتخبطون في الأصل لضمان حياة كريمة، كما تقول الأمم المتحدة.
ويبلغ عدد اللاجئين السوريين المسجلين لدى مفوضية اللاجئين في لبنان 879529 لاجئاً، وذلك حتى نهاية تشرين ثاني/ نوفمبر 2020 [3]، فيما تقول السلطات اللبنانية إن عددهم تجاوز المليون ونصف المليون لاجئ. أصيب منهم 1369 بفايروس “كورونا”، وتوفي 31 وفق “منظمة الصحة العالمية”.
نحاول في هذا التقرير التعرّف إلى أوضاع اللاجئين السوريين في لبنان في ظل جائحة “كورونا”، والإجابة على سؤال: كيف أصبحت العودة هدفاً لغالبيتهم؟
ماذا حدث مع حسان؟
توقف اللاجئ السوري حسان حسونة عن العمل في ورشة بناء كانت مصدر رزقه الوحيد، نتيجة تعثر صاحب المشروع بعد نحو شهر من اكتشاف أول إصابة «كورونا» في لبنان، ولم يحصل حسان على عمل مستقر حتى الآن.
يقول: «منذ وصولي إلى لبنان وأنا عامل مياومة في ورش البناء. قبل كورونا كنت أعمل في ورشة وأحصل على 15 ألف ليرة في اليوم (10 دولارات) [5]، لكن صاحب المشروع أوقف العمل بسبب الأزمة الاقتصادية وكورونا».
الأسر اللاجئة تعيش بأقل من 308,728 ليرة للفرد الواحد في الشهر )42 دولار).
لجأ الأربعيني حسونة إلى لبنان عام 2012، ومنذ ذلك الحين يعيش مع عائلته المكونة من زوجته وأطفاله الخمسة في بيت مستأجر في منطقة عين الحلوة في مدينة صيدا الجنوبية.
قبل لجوئه إلى لبنان كان حسونة يملك مقهى في مدينة القصير، وعن أسباب مغادرته سوريا، يقول «غادرت خوفاً من الاعتقال لأنني معارض للنظام».
لم يكن حسونة اللاجئ السوري الوحيد الذي فقد عمله في لبنان بسبب تداعيات الجائحة، إذ تظهر دراسة أجرتها منظمة العمل الدولية تسريح 60 في المئة من اللاجئين السوريين من أعمالهم بشكل دائم.
بعد خسارته العمل في البناء تجمد دخله عند 30 ألف ليرة (4 دولارات) يومياً، يحصل عليها من مساعدته أصحاب مخمر موز قريب من مكان سكنه، إضافة إلى ما تجنيه الزوجة من بيع منتجات غذائية تعدها في المنزل، وهو دخل غير ثابت «بحسب الطلب».
يقول: «نحتاج إلى مليون ليرة شهرياً (135 دولاراً) لتأمين مستلزماتنا، لكن ما نحصل عليه لا يتجاوز 500 ألف ليرة (68 دولاراً) فقط». ويعيش 73 في المئة من اللاجئين السوريين في لبنان تحت خط الفقر الوطني، وفقاً لأرقام المفوضية التي قالت، «إن حالتهم ازدادت سوءاً بعد تقييد الحركة للوقاية من فايروس كورونا».
يعيش 89% من اللاجئين السوريين في لبنان تحت خط الفقر المدقع، وفقاً لدراسة «تقييم جوانب الضعف لدى اللاجئين السوريين في لبنان لعام 2020» الصادرة في 18 ديسمبر/ كان أول 2020، مقارنة بـ 55% قبل عام واحد فقط.
وبحسب الدراسة الصادرة عن المفوضية وبرنامج الأغذية العالمي و «اليونيسيف» فإن الأسر اللاجئة تعيش بأقل من 308,728 ليرة للفرد الواحد في الشهر )42 دولار).
يسعى اللاجئ للاستفادة مجدداً من برنامج المساعدة المالية الذي تقدمه المفوضية للاجئين، علماً أنه كان يحصل على 25 دولاراً عن كل فرد من أفراد عائلته شهرياً، قبل أن يُفصل من البرنامج لأنه يعمل. يرى اللاجئ أن إعادته إلى برنامج المساعدة المالية «رح يساعدني في تأمين أكل لأطفالي خلال الأزمة».
يتخوف حسونة من أن يقدم صاحب البيت المكون من غرفتين على رفع الإيجار البالغ حالياً 100 ألف ليرة (14 دولاراً)، يوضح: «إذا حدث ذلك سأقع في مشكلة كبيرة».
اضطر 11% من اللاجئين السوريين إلى تغيير مكان إقامتهم، لعجزهم عن دفع أجرة السكن أو بحثًا عن إيجار أقل، كما تشير أرقام تقرير ” رصد الآثار الاقتصادية على اللاجئين في لبنان” الذي أصدرته المفوضية في أكتوبر/ تشرين أول 2020.
وفي محاولة منه لتقليل النفقات، حاول نقل ولديه من المدرسة الخاصة إلى مدرسة حكومية ليفاجأ بأن «المدرسة الخاصة التي يدفع رسومها مليوني ليرة (270 دولاراً) في السنة، وتدرس المناهج السورية، لا تعترف بها وزارة التعليم اللبنانية».
«الحل هو أن أعود إلى سوريا، حيث يستطيع أولادي مواصلة الدراسة وتوفير بعض النفقات»، لكنه حل يصطدم بمعوقات عدة أولها قرار الحكومة السورية الذي يلزم كل مواطن يريد دخول البلاد تصريف 100 دولار أميركي إلى الليرة السورية بحسب سعر الصرف الرسمي، أي أقلّ بكثير من قيمة المبلغ الحقيقي.
وصدر القرار في تموز/ يوليو 2020، بحجة مساعدة الدولة على توفير احتياطي من العملات الأجنبية.
يضاف إلى ذلك خوف حسونة من التعرض إلى الاعتقال، ويقول «مشتاق لبلدي وبتمنى لو معي مصاري لأرجع، لكن أوضاعي المالية من جهة و خوفي من الاعتقال يمنعانني من العودة».
في منتصف آذار/ مارس 2020 أغلقت السلطات اللبنانية حدودها مع سوريا، ضمن تدابير مكافحة فايروس “كورونا”، فيما أغلقت حكومة النظام السوري حدودها مع لبنان في 22 آذار 2020 بالتزامن مع تسجيل أول إصابة بالفايروس في سوريا.
وفتحت الحدود في مواعيد استثنائية أمام اللاجئين السوريين الراغبين في العودة من دون أن تعلن السلطات اللبنانية أو السورية أعداد العائدين.
ويخطط 5% من اللاجئين لمغادرة لبنان، وفقا لتقرير رصد الآثار الاقتصادية، منهم 18% لا يجدون مشكلة في العودة إلى سوريا فيما يسعى 82% للمغادرة إلى بلد ثالث.
“البير وغطاه”
عام 2013 لجأ السوري عبد الله هزاع (36 سنة) وعائلته إلى لبنان هرباً بعد اشتداد المعارك في مدينة القصير حيث كان يقيم. وفور وصوله إلى الأراضي اللبنانية اصطحبه أحد أقاربه إلى مخيم الريحانية في محافظة عكار، حيث أقامت العائلة في خيمة إلى أن تم طردها منها في أيار/ مايو 2020.
حاول اللاجئ في البداية العمل في مهنة الخياطة، لكن كلفة المعدات المرتفعة وقفت عائقاً أمامه، ليتجه إلى أعمال البناء، يقول: «عملت بالمياومة في البناء مقابل 10 آلاف ليرة يومياً [8]، كانت هذه المرة الأولى التي أعمل فيها في البناء»، وواجه هزاع صعوبات في إيجاد العمل لعدم امتلاكه بطاقة إقامة على الأراضي اللبنانية.
ويمنع القانون اللبناني السوريين الذين دخلوا البلاد بطريقة غير نظامية من العمل تحت طائلة المحاسبة.
إلى جانب عمله المتقطع اعتمدت العائلة على المساعدة المالية التي تتقاضاها من المفوضية والبالغة ما يساوي نحو 10 دولارات للفرد شهرياً «مبلغ لا يكفي لتلبية حتى الحاجات الضرورية» يقول. كذلك حالت أوضاع هزاع الاقتصادية «الصعبة» دون إرسال أبنائه إلى المدارس وهو ما يصيبه بالحسرة.
في 18 نيسان/ أبريل 2020 اصطحب هزاع زوجته الحامل إلى أحد مستشفيات شمال لبنان ليتبين أنها مصابة بفايروس “كورونا”.
«ظلت في المستشفى 15 يوماً، الأطباء تهربوا من توليدها لأنهم كانوا خائفين من انتقال العدوى. في النهاية وافق أحدهم على توليدها» كما أخبرنا هزاع، الذي اقترض كلفة الولادة البالغة 600 ألف ليرة من أحد أصدقائه.
ويخطط 5% من اللاجئين لمغادرة لبنان، وفقا لتقرير رصد الآثار الاقتصادية، منهم 18% لا يجدون مشكلة في العودة إلى سوريا فيما يسعى 82% للمغادرة إلى بلد ثالث.
في 1 أيار/ مايو 2020 أنجبت زوجته طفلة ليصبح بذلك عدد الأبناء والبنات سبعة أكبرهم في الثالثة عشرة، بعدها بثلاثة أيام عاد اللاجئ وزوجته إلى المخيم يحملون طفلتهم الرضيعة ليفاجأوا بقرار طردهم.
وانتقدت منظمة «هيومن رايتس ووتش» في بيان صادر عنها الإجراءات «التمييزية» التي تفرضها جهات لبنانية على اللاجئين السوريين ضمن التدابير التي تتخذها لمواجهة الوباء. [9]
يقول هزاع: «طردونا من المخيم بعدما شكوا بإصابتي وزوجتي بفايروس كورونا، فغادرت أنا وأبنائي، حتى بعدما أجرينا فحصاً وتبيّن أننا لسنا مصابين، لم يُسمح لنا بالعودة».
يكلف فحص “كورونا” 200 ألف ليرة (27 دولاراً)، مبلغ لم يكن يملكه اللاجئ الذي ساعدته جمعية أهلية على توفيره.
وتزداد الأمور تعقيداً مع صعوبات تجوّل السوريين التي تفرضها عرسال وبلديات أخرى في عكار وغيرها من المناطق اللبنانية، ما يجعل الذهاب من منطقة إلى أخرى لإجراء فحص “كورونا” مسألة شاقة ومشروطة.
وإجراءات حظر التجوّل أو الحد منه رافقت وصول الفيروس إلى لبنان، وذلك في ظل ضعف الإمكانات الوقائية المتاحة، وصعوبات ضبط الأوضاع لا سيما في المناطق الفقيرة المهملة والتي تنتشر فيها غالباً المخيمات.
تعيش عائلة هزاع في مستودع مستأجر تحت سطح الأرض، يقول «الرطوبة منتشرة في المخزن والظلام دامس، لكنه مكان يقينا برد الشتاء»، ويتابع «أجرة المستودع 150 ألف ليرة (20 دولاراً)، لكنني لا أستطيع دفعها حتى الآن، صاحب المستودع لا يلح عليّ بالدفع، لأنه يعلم البير وغطاه».
منذ ستة أشهر لم يحصل هزاع على أيّ عملٍ، فيما يمتنع الجميع عن توظيفه بعد شائعة إصابته بـ”كورونا”، وهو اليوم يعتمد بشكل كامل في معيشته على ما يتقاضاه من المفوضية.
يتمنى العودة إلى سوريا، لكن ما يمنعه كما يقول أن «لا مكان أذهب إليه فمنزلي تهدم، ولا أملك المال للعودة، وأخشى أن يتم اعتقالي عند عودتي».
ويعاني نحو 11 في المئة من اللاجئين بحسب تقرير الأمم المتحدة بتاريخ أيلول/ سبتمبر 2020، من وضع خيام سيئ، فيما 40 في المئة ليسوا قادرين على تغطية كلفة المعيشة، بينما 50 في المئة زادت عليهم الأسعار.
وتقتصر فحوص فيروس “كورونا المستجد” (PCR) داخل مخيمات اللاجئين في لبنان، على حالات قليلة واستثنائية لا يمكن أن تغطّي حجم الخطر الذي قد يسببه انتشار الوباء داخل المخيمات أو حتى انتقال العدوى من خيمة إلى أخرى. فالجمعيات والمنظمات الدولية العاملة في مخيمات اللجوء غير قادرة على تمويل فحوص عشوائية ودورية ضرورية في هذه المخيمات المكتظة بالسكان والتي تفتقد إلى الكثيرة من الحاجات الإنسانية الضرورية.
أُنجز هذا التحقيق بدعم من منظمة دعم الاعلام الدولي IMS بالتعاون ما بين مؤسّسة “روزنة” للإعلام ومنصّة “خيوط” اليمنيّة وموقع “درج” اللبناني
—————————
مناهضة اللقاح: نبوءات تحقق ذاتها/ حسام عيتاني
في الوقت الذي كان رئيس البرازيل جاير بولسونارو يحذّر من أن عدم تحمل شركة «فايزر» المنتجة للقاح «كوفيد – 19» مسؤوليتها عن أي آثار جانبية سيجنّبها كل محاسبة إذا «تحولت إلى تمساح»، كانت المحطة التلفزيونية التابعة لحزب رئيس الجمهورية اللبنانية تخوض حملة شرسة ضد اللقاح وتنسبه إلى مؤامرة عالمية تشاركت فيها حكومات غربية ورجال أعمال وأجهزة استخبارات لفرض سيطرتها على العالم.
بولسونارو والمشرفون على محطة «أو تي في» المتحدثة باسم «التيار الوطني الحر» علامتان على مناخ واسع يحيط بانطلاق عمليات التلقيح في العديد من الدول والحذر الذي تُقابَل به رغم أنهما تمثلان الخط الأقصى من الاعتراض. وليس عسيراً رسم خط بياني يضم مواقف المشككين في اللقاح حول العالم منذ بداية تفشي الوباء حتى اليوم؛ إذ التقى أكثرهم على إنكار خطر المرض، ثم التقليل من أهميته، بعد ذلك اتفقوا على أنه مؤامرة من نوع ما (صينية أو أميركية أو من عمل شركات كبرى تبغي تحقيق أرباح بالمليارات والدخول عبر شرائح إلكترونية إلى أدمغة المرضى)، إلى أن استقر رأيهم على خطر اللقاح وعوارضه الجانبية مع تركيز على أول الواصلين إلى المستوصفات والمستشفيات: لقاح «فايزر»، واستعراض تاريخ الشركة وعلاقاتها بالحكومات وترويجها الهجومي لأدويتها.
الشك والحذر حقّان لا ينكرهما عاقل. اللقاح غير المجرّب والذي يعتمد تكنولوجيا جديدة كلياً (موصلات الـ«آر إن إيه»)، لا يمكن أن يمرّ على أجساد البشر من دون رقابة دقيقة لفاعليته ولعوارضه الجانبية وهذان (الفاعلية والعوارض) ليسا مما يسهل رصده على المدى القصير. فأكثر الخبراء يتحدثون عن 15 سنة كفترة ضرورية للإحاطة بكامل تأثيرات اللقاح.
بيد أن الحذر المستند إلى وعي علمي بمخاطر كل عقار جديد وأهمية متابعته والتعمق في دراسته، هو أمر، والاستسلام للتطيُّر والخرافات ونظريات المؤامرة أمر آخر. كان المفترض أن يفصل التفكير النقدي والعلمي بين الأمرين، لكن مأساة العالم اليوم هي أن الوباء قد حطم الحواجز بين نمطي التفكير العلمي والخرافي ورفع الخطاب اللاعقلاني المستفز للغرائز والمشاعر البدائية إلى مستوى الحقيقة المطلقة التي صار يُنظر إلى رافضيها كنخبويين غير مكترثين بحياة الفقراء وكعملاء لأجهزة وشركات تُضمر الشر للعالم بأسره، في حين تتحدث استطلاعات الرأي عن نسب تزيد في بعض البلدان على خمسين في المائة لرافضي تلقي اللقاح الحالي.
وما نشهد اليوم من حملات يبلغ أكثرها مبلغ الهذيان المَرضي ضد اللقاح، هو استمرار لهذيان الشعبويات وسياسات الهوية والانعزال وكره الأجانب. وإذا خصص باحث بعض الوقت لتتبع مواقف الحكومات والأحزاب والقوى السياسية، سيعثر على خط واحد ينتظم فيه اليمين الأبيض المتطرف في الولايات المتحدة والمجر والبرازيل ووصولاً إلى لبنان.
لقد اتّحد هؤلاء في مواقفهم الاجتماعية والسياسية قبل أن يجدوا أنفسهم في خندق واحد ضد اللقاح. الأفدح أن تصوراتهم – الواحدة أيضاً – للحلول تتلخص بإلقاء اللوم على الآخرين: على اللاجئين، والعمال الأجانب، والمنظمات غير الحكومية، وقوى غامضة تسعى للسيطرة على العالم ابتداءً من سلب أصحاب هذه الآراء خصوصياتهم وتفوقهم العرقي والحضاري والثقافي أو استتباعهم لحكم عالمي شمولي تقوده حفنة من أصحاب المليارات الذين لم نعرف كيف انتقلوا من صف أصحاب السلطات إلى صف العاملين على تدميرها… بكلمات ثانية، لا حلول على جداول أعمال هؤلاء، لا مخارج من الأزمات إلا بالهروب من علاجها. المرض مثله مثل الهجرة والتعدد العرقي والحريات الفردية والانفتاح على العالم، مجرد خطة شيطانية أعدها «آخرون» التقوا في غرف مظلمة ورسموا مصير شعوب الأرض المستسلمة لمصائرها من دون أن يكون لناس القرن الحادي والعشرين أي قدرة على الاختيار بين الخطأ والصواب، بين العلاج والمرض، بين الخضوع لطغمة شريرة فاسدة وبين العيش الكريم.
على هذه الخلفية تظهر سمة مَن يعارض اللقاح، ليس من باب الشك العلمي الضروري، ولكن من منطلق تعميم تصوره عن العالم ومستقبله الذي يريده على شكله وصورته. عالم خائف محاصَر بالكارثة البيئية والكراهية للآخر وضيق الأفق والجهل ويكون فيه التلاعب بالفقراء والبسطاء عنواناً لبسط هيمنة أكثر ظلامية وجوراً مما يحذّرون منه.
شركات الأدوية ليست ملائكة همّها القضاء على معاناة المرضى، والحكومات لن تتخلى عن نوازع السيطرة الأصيلة فيها بغضّ النظر عن موقفها من اللقاح، لكن التفرغ لنشر الخزعبلات والخرافات يصب في نهاية المطاف في مصلحة تعزيز الأطماع بالربح السريع وبالتفلت من الرقابة القانونية والشعبية. بذلك يخدم مناهضو التلقيح أعداءهم المزعومين ويجعلون نبوءاتهم تحقق ذاتها بإغراق الحيز العام بمقولات غير قابلة للتدقيق العلمي ولا ينفع معها حوار أو شرح.
الشرق الأوسط
————————–
حياة السوريين بين العرض والطلب/ علي سفر
اعتاد السوريون لعقود، وتأقلموا، مع حقيقة تقول إن حياتهم وصحتهم وحاضرهم ومستقبلهم، هي مسؤوليتهم كأفراد، وليست مسؤولية الدولة التي تحكمهم!
فكان عليهم أن يشتغلوا، منذ أن تولى قيادة مجتمعهم ثلة من العسكر، كالعبيد في مزرعة كبيرة اسمها الوطن!
وقد كشفت حرب النظام عليهم بعد قيام الثورة عام 2011 التفاصيل المرعبة للسياسة المتبعة للتحكم بهم، فسقوط مئات الآلاف من القتلى، وسجن وتغييب مئات الآلاف أيضاً، وكذلك نزوح ولجوء الملايين، لم تكن مجرد أحداث محتملة الوقوع بسبب الحرب، بل كانت أمراً مسلماً بحدوثه، فهو جزء من الخطة الموضوعة لمواجهة الحدث!
وضمن هذا المسار الدامي كان من المتوقع أن يتم اعتبار أولئك الذين مازالوا يعيشون تحت سيطرة النظام أسرى، أو رهائن، سيرتبط مصيرهم ببحثه عن النجاة لأفراده!
غير أن وقوع البلاد تحت ضغط كارثة عالمية كوباء كورونا، كان كفيلاً أيضاً بكشف عقلية أجهزة الحكومة وموظفيها، مع المواطنين، هنا، لا يمكن التعاطي بسخرية فقط مع تصريح معاون مدير قسم الأمراض السارية في وزارة الصحة التابعة للنظام د. عاطف الطويل عن أن زيادة مدة انتظار وصول اللقاح سيكون من مصلحة السوريين، حيث إن زيادة الإنتاج ستعني انخفاض ثمنه على جيبة المواطن!
فجوهر المسألة بالنسبة لموظف رفيع المستوى في إحدى مؤسسات الدولة يتصل بموضوع اقتصادي يفرضه قانون العرض والطلب، وفي ميزان المصالح، يتوجب على أصحاب القرار أن يولوا قضية مثل الربح والخسارة جل اهتمامهم، ويبدو نظرياً أنه من الصحيح ألا تجرهم الظروف إلى قرارات تتسبب بهدر المال العام!
لكن مثل هذه الرزانة، وأيضاً الحرص الشديد على دقة القرارات وصوابيتها، لا يمكن أن يكون سارياً وصحيحاً، في مؤسسة يقوم عملها على الدفاع عن صحة الناس وعافيتهم، فالمال في وزارة الصحة يجب أن يتم إنفاقه من أجلهم، كما أن كل جهود العاملين فيها لابد أن تصب في سياق بث الطمأنينة في النفوس بالتوازي مع السعي من أجل الحصول على اللقاحات بأسرع وقت!
ولهذا يبدو أننا أمام مفارقة من النوع المأساوي، فنحن نسمع هذا الكلام -تم بثه عبر واحدة من أشهر الإذاعات المؤيدة للنظام-على لسان طبيب، أقسم ذات يوم على (قسم أبقراط
)، الذي يلزمه بالغايات السامية لمهنته، لكنه وفي سياق المشهد البائس، يبشر السوريين بأنهم لن يدفعوا كثيرا من جيوبهم كثمن للقاح المضاد لكورونا، رغم أن مسؤولية اللقاحات تقع على عاتق الموازنة العامة، ولا تلقى على كاهل المواطنين!
وهو في الوقت نفسه يفتح أمام أعينهم بوابة الموت الأكثر اتساعاً مما يمكن أن يتحملوه، وهم يخسرون المئات من الأهل والأحبة يومياً، كضحايا للجائحة العالمية، وكقتلى للسياسات الصحية الخاطئة، التي أنكرت منذ البداية، مثل كل المصابين بمرض الإنكار وجود حالات الإصابة، وتشدقت بأن عدم وجودها يعود لسياسة النظام الوقائية! ثم ما لبثت أن اعترفت بوجود حالات قليلة، ومازالت إلى اليوم تنكر أن البلاد بطولها وعرضها تشهد انفجاراً في عدد الموتى بسبب الوباء!
السوريون مبتلون حقاً، ليس فقط بالنظام الذي أحال حيواتهم إلى جهنم أرضية، بل بمؤسسات الدولة التي نخرها الفساد، وأظهرت سنوات الحرب تهلهلها، بعد أن بقيت ردحاً طويلاً من الزمن محكومة بالعقلية الأمنية، التي طفّشت أهم كوادرها، وجعلتها ملحقة بالأجهزة الأمنية، التي تحكمت بسياسات التوظيف، فأحلت فيها طبقة واسعة من المستفيدين، الذين لا هم لهم سوى امتصاص مواردها!
فصار هؤلاء بلاءً إضافياً، فهم حاشية النظام من الموظفين والمأجورين الذين تشبعوا بطريقة إدارته لمصالحه، وأمسوا جزءاً من سيفه المسلط على رقاب العباد!
وضمن هذا السياق سنكتشف أن طريقة فهم معاون رئيس قسم الأمراض السارية في وزارة الصحة لمبدأ العرض والطلب تبدو مقلوبة رأساً على عقب، فالسلعة هي مادة الفكرة الاقتصادية الرهيبة، ولكنها لدى الطبيب التاجر تنزاح بشكل فاقع لتصبح ليس صحة الإنسان فحسب، بل وجوده ذاته، فهو مستغرق بالتفكير بثمن اللقاح، ولا يبدو أنه منشغل بعدد الضحايا، فوفق آلية التفكير ذاتها، ثمة صوت لا يخفى، يخرج من هذا المسؤول الذي يتكرر ظهوره هذه الأيام على وسائل إعلام النظام، يكاد يقول: السوريون كثيرون، وكلما كانوا كذلك باتوا أقل قيمة!
وبناءً على ما سبق، وإلى أن يصبح سعر اللقاح مناسباً لا بأس من سقوط ضحايا إضافيين، من دون ذنب سوى أنهم أصيبوا بالمرض في حيز جغرافي تسيطر عليه دولة، استولى عليها نظام من المجرمين والسفلة!
تلفزيون سوريا
——————————-
25 يوماً غيَّرت وجه العالم كيف انفلت «كوفيد ـ 19» من بين يدي الصين؟
كريس باكلي وديفيد كيرباتريك وإيمي تشين وخافيير هيرناندز
قاومت بكين فيروس «كورونا» بقوة مذهلة، كما تشير تصريحاتها الرسمية، لكن بعدما تسبب مأزق سياسي في تحول عدوى منتشرة على المستوى المحلي إلى وباء عالمي.
بدأ الأمر بتكليف أكثر الأطباء شهرة في الصين بمهمة عاجلة؛ حيث تم إصدار أوامر إلى زونغ نانشان، البالغ من العمر حالياً 84 عاماً، والذي تم الاحتفاء به في السابق كبطل لمساعدته في اكتشاف وباء «سارس» منذ 17 عاماً، بالتوجه إلى مدينة ووهان من أجل التحقيق في أمر فيروس «كورونا» جديد.
تصور الرواية الرسمية الصينية الآن رحلة زونغ كنقطة تحول سينمائية في حرب تم الفوز بها في النهاية ضد فيروس «كوفيد 19»؛ حيث اكتشف انتشار الفيروس بشكل خطير، وأسرع نحو بكين للإبلاغ عن الأمر. بعد 4 أيام، وتحديداً يوم 23 يناير (كانون الثاني)، أصدر الرئيس الصيني قراراً بعزل مدينة ووهان ومنع الدخول إليها أو الخروج منها. وقد مثّل ذلك الإجراء أول خطوة حاسمة في إنقاذ الصين؛ لكنها بالنظر إلى وباء أودى بحياة أكثر من 1.7 مليون شخص، كانت متأخرة، ولم تكن كافية لمنع انتشار الوباء في باقي أنحاء العالم.
كان الإنذار الفعلي الأول قبل 25 يوماً، أي منذ عام، في 30 ديسمبر (كانون الأول). وحتى قبل ذلك الحين، كان أطباء وعلماء صينيون يدفعون باتجاه الحصول على أجوبة، لكن أخفى مسؤولون في ووهان وبكين مدى ونطاق انتشار العدوى، أو رفضوا الاستجابة للتحذيرات. لقد اعترضت السياسة طريق العلم في إطار علاقة، يسودها التوتر، وتحيط بالوباء؛ وأدى تأخر الاستجابة الأولية في الصين إلى انتقال الفيروس إلى باقي أنحاء العالم، وكان بداية للمعارك بين العلماء والقادة السياسيين بشأن الشفافية، والصحة العامة، والاقتصاد في جميع أنحاء العالم. ويستعرض هذا المقال تلك الأيام الـ25 في الصين، التي تسببت في تغير وجه العالم، وذلك استناداً إلى وثائق للحكومة الصينية، ومصادر داخلية، ومقابلات، وأوراق بحثية، وكتب، إلى جانب روايات تم تجاهلها أو فرض الرقابة عليها.
لقد تعرف علماء صينيون ومعامل خاصة على فيروس «كورونا»، ووضعوا خريطة وراثية له قبل أسابيع من اعتراف بكين بهول المشكلة وحجمها. وتحدث العلماء مع أقرانهم في محاولة للتحذير والتوجيه، ودفع بعضهم ثمن ذلك. قال الأستاذ زانغ يونغزين، وهو عالم بارز متخصص في علم الفيروسات في شنغهاي: «لقد قلنا الحقيقة، لكن لم يصغِ أحد إلينا، وكان ذلك مأساوياً». وفي ظل المواقف العدائية السياسية بين الصين والولايات المتحدة الأميركية، ظل العلماء من الجانبين معتمدين على شبكات عالمية تم إنشاؤها على مدى عقود، وسعوا إلى تشارك المعلومات.
على الجانب الآخر، تلقى مسؤولون رفيعو المستوى في قطاع الصحة تقارير تنذر بالسوء من أطباء في ووهان، وأرسلوا فريقين من الخبراء للتحقيق في الأمر. مع ذلك، لم يكن لديهم نفوذ سياسي يمكّنهم من تحدي المسؤولين في ووهان، وحرصوا على عدم التحدث عن الوضع علناً. وكانت رحلة دكتور زونغ إلى ووهان لغرض سياسي أكثر من كونه طبياً؛ فقد كان يعلم بالفعل بوجود الفيروس وانتشاره بين الناس، لكن هدفه الأساسي كان حلّ المأزق في النظام الحكومي الصيني، الذي يميل إلى الغموض، ويفتقر إلى الشفافية. وجاء في مسودة تقرير، كتبها دكتور زونغ في القطار قبل وصوله إلى ووهان: «ينتقل الفيروس بالفعل من إنسان إلى إنسان. ينبغي على الناس ألا يذهبوا إلى ووهان إلا لأسباب وجيهة، وينبغي التزام المنازل قدر الإمكان، وتجنب التجمعات».
تمكنت الصين في النهاية من السيطرة على الفيروس، وكذا على الروايات المحيطة به. يشهد الاقتصاد الصيني ازدهاراً اليوم، ويتساءل بعض الخبراء عما إذا كان الوباء قد جعل ميزان القوى العالمي يميل باتجاه بكين. وقد أثار نهوض الصين غضب الرئيس ترمب، الذي ظل طوال أشهر يحمّل بكين المسؤولية في أمر انتشار ما أطلق عليه «الفيروس الصيني». على الجانب الآخر، لم تتمكن الولايات المتحدة الأميركية من احتواء الفيروس بعد، وتدفع ثمناً باهظاً من الأرواح والخسائر المادية الاقتصادية، في حين بدأت الحياة تعود إلى طبيعتها تقريباً في الصين.
منذ فترة ليست بالبعيدة، تعاونت الصين مع الولايات المتحدة الأميركية في تتبع انتشار الفيروس في الصين من أجل السيطرة عليه، لكن سحبت إدارة ترمب عشرات من الخبراء في الصحة العامة من بكين قبل أشهر من انتشار العدوى، وهو ما أعمى الحكومة الأميركية عن الأخطار القادمة من الصين. وكانت إحدى الدراسات المبكرة توقعت أن تستطيع الصين خفض إجمالي عدد الحالات المصابة بنسبة 66 في المائة، لو كان المسؤولون قد اتخذوا الإجراءات اللازمة المناسبة قبل أسبوع من تاريخ اتخاذ تلك الإجراءات. كذلك، كان عدد الحالات سوف يقل بنسبة 95 في المائة، لو تم اتخاذ تلك الإجراءات قبل 3 أسابيع من ذلك اليوم.
كذلك أدى تردد الصين في الالتزام بالشفافية فيما يتعلق بتلك الأسابيع الأولى إلى حدوث ثغرات فيما يعرفه العالم عن فيروس «كورونا»؛ حيث لم تكن لدى العلماء معرفة بمكان وكيفية ظهور الفيروس، وذلك بالأساس نتيجة تأخر بكين في إجراء تحقيق مستقل في الأصل الحيواني لانتشار تلك العدوى. وقال يانزونغ هوانغ، وهو زميل رفيع المستوى في مجلس العلاقات الخارجية الذي يدرس السياسة الصينية الخاصة بالصحة: «إنهم يضيعون فرصة جيدة للتعلم والمعرفة. لا توجد مناقشة جادة لما حدث من أخطاء».
يوجد كثير من أشكال فيروس «كورونا» في الحيوانات والبشر، وقليل من تلك السلالات فقط هو الذي يمثل خطراً كبيراً على الصحة. مع ذلك، انتقل كل من فيروس «سارس» (المتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة) و«ميرس» (متلازمة الشرق الأوسط التنفسية) من الحيوانات خلال السنوات القليلة الماضية، وبدأ في الانتشار بين البشر، متسبباً في أمراض خطيرة تؤدي إلى الوفاة في بعض الأحيان. وقد أرسل أطباء ما لديهم من بيانات إلى الأكاديمية الصينية للعلوم الطبية في بكين، وأوفدوا مسؤولاً تنفيذياً بارزاً لتحذير لجنة الصحة في ووهان. وسرعان ما تم إخطار فريق بكين، الذي وصل إلى ووهان في اليوم الأخير من عام 2019 بالنتائج المعملية، على حد تصريح دكتور كاو بين، أحد أعضاء الفريق، لصحيفة صينية. وفي تلك المرحلة، أكدت حكومة ووهان علناً أن مستشفيات المدينة كانت تتعامل مع مرض رئوي غير اعتيادي، لكنها استبعدت في الوقت ذاته احتمال كونه معدياً. وفي ذلك الوقت أيضاً، أمرت لجنة الصحة الوطنية المعامل التجارية بإتلاف أي عينات تتسلمها تحتوي على الفيروس، إلى جانب عدم السماح بنشر نتائج الأبحاث إلا بعد الحصول على موافقة رسمية.
على الجانب الآخر، بدأ الأطباء والممرضون يصابون بالعدوى في كثير من مستشفيات ووهان، التي زارها فريق بكين، لكن لم يتم احتساب وتسجيل حالات العدوى بين العاملين في مجال الرعاية الصحية في الإحصاءات الرسمية التي تم تزويد الخبراء الزائرين بها. وأدرك الأطباء في ووهان عدم وجود إرادة سياسية لمواجهة المشكلة. مع ذلك، أعترف أخيراً أحد المسؤولين باحتمال إصابة 15 فرداً من العاملين في مجال الرعاية الصحية في «اتحاد مستشفيات ووهان» بالعدوى. وكان ذلك ما يحتاجه دكتور زونغ؛ حيث هرع فريقه إلى بكين. وقال: «لقد كانوا مستعدين لإحداث ذلك التغيير. كانوا يحتاجون فقط إلى شخص يضطلع بهذا الدور». وفي اليوم التالي، أقرّت الصين بوجود 571 إصابة بفيروس «كورونا»، رغم أن العدد كان يبلغ مئات الآلاف، بحسب تقديرات الخبراء.
أخيراً، منح الرئيس الصيني دكتور زونغ «ميدالية الجمهورية»، وهي أكبر وأرفع تكريم في الصين. وقال زونغ: «الأمر الوحيد الصائب في العلم هو السعي وراء اكتشاف الحقيقة من خلال جمع الحقائق والمعلومات، لا توخي الحذر من أجل السلامة الشخصية، وإلا سوف يكون المرضى هم الضحايا».
– خدمة «نيويورك تايمز»
الشرق الأوسط
————————————
====================
تحديث 02 كانون الثاني 2021
————————–
ماذا لو بقينا في2020؟/ عمر قدور
اتفق البشر على لعنها كما لم يتفقوا على أمر آخر، مع لهفة إلى اللحظة الرمزية التي تعلن نهايتها هنا وهناك بفارق التوقيت المعروف بين مختلف أنحاء العالم. إلا أن استثنائية السنة المنقضية قد تقلل من رمزية لحظة منتصف الليل تلك، بقدر ما تضفي عليها من أهمية. بل يجوز، لاستثنائيتها، الظن بأننا غادرناها قبل تلك اللحظة، أو أننا ما زلنا مقيمين فيها.
إذا كانت تؤرَّخ بـ”سنة كورونا” نستطيع تأريخ نهايتها بمستهل الأسبوع الثاني من ديسمبر، عندما بدأت بريطانيا حملة التلقيح ثم تبعتها الولايات المتحدة بعد أسبوع، وما بينهما قليل من الدول الصغيرة الثرية. لبريطانيا تحديداً، هي نهاية حافلة؛ الشروع في ما بعد كورونا، ثم طي قرابة نصف قرن من عضوية الاتحاد الأوروبي مع الدقيقة الأولى لعام 2021.
فارق التوقيت سيكون مديداً على توقيت اللقاح، فبعض التقديرات يشير إلى أن دولاً فقيرة قد لا تحصل عليه قبل عام 2023، بينما دولة مثل الولايات المتحدة اشترت كمية كافية لتلقيح كل سكانها ست مرات. دول الاتحاد الأوروبي نفسها ليست على الموجة ذاتها، فهناك دول أنهت مبكراً استعداداتها الإدارية واللوجستية لتقديم اللقاح، بخلاف دول ستكون وتيرتها بطيئة لافتقادها الديناميكية المطلوبة، وأيضاً لا يُستبعد أن يكون بعض التمهّل متعمداً في انتظار لقاح أوكسفورد الذي لا يتطلب مشقة خاصة بالمقارنة مع لقاحي فايزر ومودرنا.
وفق توقيت كورونا، وبموجب التقديرات الحالية لتوزيع اللقاح، لن تدخل دول الاتحاد الأوروبي عام 2021 قبل انقضاء الأشهر الستة الأولى منه، ومَن ليس لهم أولوية تلقيه عليهم الانتظار طويلاً في عام 2020. ذلك قد لا يكون بلا أثر سلبي على مكانة الاتحاد، إذا أنجزت بريطانيا “الخارجة منه” حملتها بسرعة شديدة، وكذلك فعلت الولايات المتحدة ودول ثرية نسبياً وقليلة السكان، ولن يكون بلا أثر على حكومات أخفقت في التعامل مع الجائحة أو تعمدت الاستهانة بها.
الصين، بتوقيت الحزب الشيوعي، سبقت الجميع بالقفز إلى العام الجديد، أي منذ العاشر من آذار، عندما زار الرئيس الصيني مدينة ووهان ليعلن منها السيطرةَ على الوباء. بعد ذلك الإعلان، لن تسجل الصين رسمياً وفيات جراء الفيروس، والقليل من الإصابات سيُنسب معظمه إلى حالات وافدة! بصرف النظر عن مصداقية الأرقام المعلنة، نجح الحزب الشيوعي في السيطرة “الديكتاتورية” على الوباء، بعد نجاحه في التكتم عليه حتى انتشر عالمياً. المفارقة المرّة، التي لا يُلام عليها المواطنون العاديون، أن تكتظ ساحات ووهان بالمحتفلين برأس السنة بينما تخلو ساحات العالم. لقد ضحك قادة الحزب أولاً، في انتظار معرفة من سيضحك أخيراً، وما إذا كان التكتم الشيوعي على الوباء سيمر بلا عواقب على الاستثمارات الغربية في الصين حين تسترد الاقتصاديات الكبرى أنفاسها.
لدينا توقيت مقبل، يجوز أيضاً اعتباره استهلالاً متأخراً لسنة 2021. في العشرين من هذا الشهر سيُنصّب بايدن رئيساً للولايات المتحدة، والحدث استثنائي لدى متطلعين كثر حول العالم إلى نهاية ولاية ترامب. الأخير، منذ ترشحه حتى يغادر البيت الأبيض، لا يقل خطورة عن كورونا من وجهة نظر خصومه، وسيكونون سعداء لا بالخلاص منه فحسب وإنما بمرور ولايته من دون تحقق أسوأ الكوابيس المتوقعة منه.
إنه كما نعلم ليس توقيتاً داخلياً أمريكياً، الأنظار ستكون متجهة إلى واشنطن لمعرفة السياسات الجديدة، والتطلعات المتفائلة جداً قد تُفرمل كما أُعيقت من قبل نزوات ترامب. الأهم أن الخلاص من الأخير لن يكون على النحو المشتهى من قبل، فهو لن ينتهي كطفرة عابرة ألمت بالحزب الجمهوري. الترامبية باقية بصيغة أو أخرى، وستتغذى من خصومها إذا لم يكن من جديد لديهم سوى الاستثمار في الخوف منها.
فارق التوقيت بين البلدان موجود منذ آلاف السنين، موجود بتعاقب الحضارات والإمبراطوريات وأفولها، وموجود أيضاً ضمن البلد الواحد بسبب فوارق طبقية أو اجتماعية أو فكرية. فقط على توقيت كورونا ظهر العالم واحداً بمخاوفه، ليعود إلى الافتراق كما هو عهده دائماً إذا أخذنا جانب التفاؤل، أو ليعود أسوأ مما كان إذا أخذنا جانب التشاؤم الذي لا يفتقد الواقعية.
لن تقتصر الفوارق على فرص النجاة من كورونا، رغم آثارها النفسية، وما ستولّده من أحقاد قد تؤدي لاحقاً إلى العنف ضمن بعض البلدان، أو ذلك العابر الحدود. الناجون أولاً، الحكومات الثرية التي اضطرت إلى تمويل برامج اجتماعية أو اقتصادية بسبب سياسة الإغلاق تتحفز إلى استرداد المبالغ الضخمة، وهذا سيلقي بثقله على النخب السياسية فيها، وربما على طرائق التفكير السياسي. إذا كان هناك من يردّ جزءاً من أسباب صعود الشعبوية إلى الأزمة المالية لعام 2008، لنا أن نتخيّل الآثار المحتملة لأزمة ربما تعادل أزمة الكساد الكبير 1929 وأزمة 2008 معاً، مع التذكير بأن آثار الأولى منهما تعتبر مما مهّد للحرب العالمية الثانية.
ما عُدّ سلوكاً أنانياً في التسابق على شراء كميات فائضة من لقاح كورونا، من المرجح أن يكون نسخة لطيفة من السياسات التي سنشهدها للقوى الكبرى التي تتهيأ الآن لعالم ما بعد كورونا. مثلما تراودنا كأفراد نوايا تعويض الحياة التي فاتنا عيشها في عام 2020، هناك قوى كبرى “سياسية واقتصادية” تفكر في تعويض خسائرها، ولا تعوّل على انتعاش تدريجي بطيء، بل ستستعجل التعويض بشتى السبل داخلياً وخارجياً. هناك أيضاً نزاعات دولية وإقليمية تم تجميدها بسبب كورونا، ويعِد العام الجديد بالتعويض واستئناف تلك الاستحقاقات المتبقية من العام الفائت مع نظيراتها المستجدات.
الخبر المؤسف أن جراح عام 2020 ستبقى معنا، مع الافتقار إلى ما يسند الأمل بعالم أكثر تضامناً. نخطئ إذا نسبنا لكورونا مهمة الواعظ الناجح، وإذا نسبنا لعموم البشرية سعياً إلى عالم أكثر إنصافاً. منطقتنا تحديداً قد تكون المثال على خيبة الأمل، بأثريائها الجاهزين دائماً لدفع ثمن سياسات القوى العظمى، وبأناسها العاديين الذين يُراد إرجاعهم إلى ما قبل عام 2011 محمّلين بثقل كورونا فوق إخفاقات العقد الأخير كله. سوريا، اليمن، ليبيا، وأخيراً لبنان؛ هذه جميعاً أمثلة على الاستحقاقات التي تفصلنا عن عام 2021.
المدن
————————–
لماذا يموت السوريون بكثرة من كورونا؟/ عقيل حسين
سجلت المناطق الخاضعة لسيطرة النظام في سوريا إصابة تسعين شخصاً بفيروس كورونا خلال الساعات الأربع والعشرين الماضية، مقابل سبع حالات وفاة، ما يرفع عدد ضحايا الوباء المعلن عنهم بشكل رسمي في هذه المناطق إلى 711 من إجمالي عدد الحالات المسجلة.
وحسب وزارة الصحة التابعة للنظام، فإن العدد الموثق للإصابات بالفيروس رسمياً حتى الآن بلغ 11344، وهو رقم تعترف الوزارة بأنه يشمل فقط الحالات التي خضع أصحابها للفحص، وتقول إن أعداداً أخرى من المحتمل أنها لم تتمكن من الوصول إلى المختبرات، سواء بسبب الإزدحام أو بسبب ارتفاع تكاليف الفحص.
ومنذ الإعلان عن تسجيل أولى حالات الإصابة بكورونا في مناطق سيطرتها، قدمت حكومة النظام أرقاماً منخفضة جداً لعدد الإصابات، بينما تكشف وسائل الإعلام المقربة من النظام عن أعداد أكبر بكثير من المعلن عنه، سواء على صعيد الإصابات أو حالات الوفاة.
لكن معدل الوفيات المعلن عنه في مناطق النظام يبدو مرتفعاً جداً بالنسبة لعدد الإصابات الموثقة رسمياً، ويبلغ حوالي 8 في المئة، وهو معدل كبير بالمقارنة مع المعدل الوسطي لحالات الوفاة في العالم، والذي لا يتجاوز النصف في المئة، الأمر الذي يطرح تساؤلات جديدة حول حقيقة الأوضاع على هذا الصعيد في سوريا، بالإضافة إلى الشكوك المستمرة حول الأرقام المعلنة.
ولا تبدو المناطق الخارجة عن سيطرة النظام أفضل حالاً بكثير بالنسبة لمعدل الوفيات، ففي المناطق الخاضعة لسيطرة الإدارة الذاتية في شمال شرق البلاد، بلغ عدد الإصابات المسجلة حتى يوم الجمعة 8076، توفي منها 274 بنسبة تتجاوز ال3 في المئة، وهو معدل كبير أيضاً، بينما بلغ العدد الإجمالي للإصابات في مناطق سيطرة المعارضة 20270، وعدد حالات الوفاة 340 وهي أقل نسبة وفيات في أنحاء سوريا، لكنها تبقى مع ذلك أعلى من المعدل العالمي.
ويعيد الدكتور نائل الحريري، الطبيب السوري المتخصص بالصحة العامة والوبائيات في مشفى ميلون الفرنسي، ارتفاع معدل الوفيات بين عدد المصابين بفيروس كورونا في سوريا إلى عاملين أساسيين، “الأول ضعف القطاع الصحي والثاني، مرتبط بالأول، ويتعلق بتضاعف احتمالات الوفاة لدى المصابين بالفيروس من أصحاب الأمراض المزمنة في سوريا أكثر من البلدان الأخرى المستقرة، بسبب عدم تلقى رعاية صحية جيدة بالنسبة للأمراض الأخرى التي يعانون منها”.
ويؤكد الحريري المعطيات التي تتحدث عن أن عدد الحالات المعلن عنها للإصابة بكورونا في مختلف أنحاء البلاد هي أقل بكثير من العدد الفعلي للمصابين، وهو ما لا تنكره حتى المؤسسات الرسمية. ويضيف في تصريحات لـ”المدن”، أن “عدداً كبيراً من السوريين الذين تظهر عليهم أعراض الإصابة بالفيروس ولا تكون خطيرة ولا يجدون أنفسهم مضطرين لإجراء الفحص اللازم ما يجعلهم خارج دائرة التوثيق، كما أن عدداً آخر غير قليل ممن تكون أعراض الإصابة لديهم أوضح يكتفون بالفحص السريري لتجنب دفع تكاليف المختبرات، ويقومون بحجر أنفسهم واتباع العلاج الذي يقرره لهم الأطباء في المنازل”.
وأوضح أن الفئة التي تدخل في الاحصاءات، هي الفئة التي تكون إصابات أصحابها خطيرة جداً ويضطرون معها للتوجه إلى المشافي، ولأن حالاتهم تكون متقدمة فإن معدل الوفيات لدى هذه الفئة تصبح عالية.
ويضيف أن “الأمر الثاني الذي يزيد من عدد حالات الوفاة بين المصابين بكورونا في سوريا هو تردي واقع القطاع الطبي وضعف الرعاية الصحية وارتفاع تكاليف العلاج، ما يضطر معظم المصابين بأمراض أخرى مزمنة إلى وضع حصولهم على العلاج في مرتبة متأخرة على سلم الاولويات، بالنظر إلى ارتفاع معدلات الفقر والبطالة، إضافة إلى عدم قدرة المشافي والمراكز الصحية العاملة في مختلف أنحاء البلاد على القيام بواجباتها تجاه المرضى بسبب ظروفها البائسة حالياً”.
وأعلن مجلس الأمن الدولي، في جلسة خصصت للحديث حول التطورات السياسية والإنسانية في سوريا، منتصف كانون الأول/ديسمبر 2020، أن “عدد الإصابات بفيروس كورونا في سوريا يتجاوز بكثير الأرقام التي أعلنت عنها الجهات الرسمية”. وقال إنه أحصى ما لا يقل عن 30 ألف إصابة حتى بداية الشهر الأخير من العام 2020، لكنه مع ذلك أقر هو الآخر بأن الأرقام الحقيقية من المحتمل أن تكون أكبر بكثير.
وتزامن تقرير المجلس مع إعلان وزارة الصحة في دمشق عن أكبر حصيلة من الوفيات خلال يومين، حيث سجلت 17 حالة وفاة في 17 كانون الثاني/ديسمبر، و 11 حالة في ال16 منه، الأمر الذي اعتبره الكثيرون مؤشراً خطراً عن العدد الحقيقي للمتوفين في هذه الفترة.
من جانبها قالت ميشيل هيسلر، المسؤولة في منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان: “على مدى سنوات، هاجمت الحكومة السورية وحلفاؤها الروس العاملين الصحيين والمرافق الصحية كاستراتيجية حرب، مما أدى إلى تدهور النظام الصحي وعدم تجهيزه للاستجابة للوباء”.
ومنذ بداية النزاع في عام 2011، وثقت منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان 595 اعتداء على المرافق الصحية في سوريا. وأرجعت المنظمة نحو 90 بالمئة منها إلى قوات النظام أو حلفائها الروس، كما سجل مقتل 923 طبيباً.
المدن
——————————
اللاجئون السوريون في اليمن: عندما تصبح الكورونا أقسى الحرب/ لجين حاج يوسف – محمد فضيلات – عبير محسن
راديو روزنة
فرضت الحرب السورية انتشاراً واسعاً للسوريين خارج بلدهم بحثا عن ملاذ آمن. بعضهم اختار اليمن الذي يعيش ايضاً حرباًَ ووباء وأزمات انسانية لم يسلم اللاجئون السوريون منها …
“طلعنا رافعين روسنا“، تلخص السورية شاناي الدروبي 9 سنوات من حياة اللجوء في اليمن، قبل أن تتبدل أوضاع العائلة بفعل جائحة “كورونا” وتجد نفسها عاجزة عن توفير الطعام.
في تموز/ يوليو 2012، غادرت الثلاثينية وزوجها وطفلتهما التي كان عمرها سنتين ونصف السنة، يرافقهم عدد من أفراد العائلة مدينة مَنْبِج في ريف حلب، واتّجهوا إلى العاصمة اليمنية صنعاء، بعدما وصلت الاضطرابات التي أعقبت اندلاع الثورة في سوريا، إلى محيط سكنهم.
تقول شاناي، “بداية 2011 فرض منع التجول منذ الساعة السادسة بسبب عمليات القصف والقنص والاختطاف“.
وعن أسباب اختيار اليمن لتكون بلد لجوئهم، تجيب: “في وقت الأزمة لم نكن نملك خيارات، وبحكم أن زوجي عمل في اليمن لمدة 6 أشهر عام 2010، تعرف خلالها إلى البلد، ولأن كلفة الحياة رخيصة هنا، رأى زوجي أنه قد يحصل على فرصة في صنعته في اليمن”.
ومن العوامل الإضافية التي شجعت العائلة على اختيار اليمن “أسعار تذاكر الطيران إلى اليمن واللي كانت أرخص الموجود، دفعنا 45 ألف ليرة سورية (710 دولارات) للتذكرة الواحدة“، توضح شاناي.
نقل فراس الدروبي – زوج شاناي وابن عمها- معه خلال رحلة اللجوء ماكينة تشكيل المعادن التي كان يملكها ليؤسس في صنعاء ورشة صغيرة ساعده شقيقاه وشقيق شاناي على العمل فيها.
بلغ عدد اللاجئين السوريين المسجلين على قوائم مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في اليمن 4005 لاجئين، وذلك حتى نهاية تشرين ثاني/ نوفمبر 2020.
على رغم الصراع…
وفرّت ورشة تشكيل المعادن حياة كريمة للعائلة، وعن ذلك تقول شاناي: “كان معدل مصروفنا 100 دولار في اليوم. عشنا حياتنا كما كنا معتادين في سوريا، أكل متنوع وفواكه وحلويات، لذلك كان مصروفنا كبيراً، ونحن بالأساس عائلة كبيرة، لذلك كان مصروفنا كبيراً”.
أنجبت شاناي ثلاثة أطفال في اليمن، فيما أنجبت زوجة شقيق فراس طفلاً، ليصبح عدد أفراد العائلة الذين يعيشون في بيت مستأجر واحد 11 فرداً.
“البيت مكون من أربع غرف. أنا وزوجي بنَّام في غرفة، وبينام شقيق فراس المتزوج في غرفة مع زوجته، وفي غرفة للأطفال وغرفة بينام فيها شقيقي وشقيق فراس العازبان“، تشرح شاناي.
تفجر الصراع في اليمن لم يلحق بالعائلة أضراراً فادحة، إذ واصلت الحصول على معدلات دخل كافية لتلبية متطلباتها المعيشية، كما تروي شاناي لـ”روزنة”.
ويشهد اليمن منذ أيلول/ سبتمبر 2014 نزاعاً مسلحاً، تطور في آذار/ مارس 2015 إلى حرب طاحنة بين قوات الحوثيين المدعومة من إيران، وقوات الرئيس عبد ربه هادي منصور المدعومة من التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية.
وشكلت صنعاء حيث تعيش عائلة اللاجئة ساحة رئيسة من ساحات الصراع الذي تسبب بـ”أكبر كارثة إنسانية في العالم“، وفق الأمم المتحدة.
عام 2015 تعرض المشغل للقصف، ما أدى إلى توقفه لمدّة شهرين قبل أن يعود إلى العمل مجدداً من دون أن تتأثر حياة العائلة. وفي تشرين ثاني/ نوفمبر 2018 اعتُقل فراس وشقيق شاناي، بسبب نزاع على مستحقات مالية لعمل أنجزوه لمصلحة جهات يمنية، قبل أن يفرج عنهم في كانون الثاني/ يناير 2019.
تقول شاناي: “بعد الإفراج عن زوجي وشقيقي صدر قرار بمنع جميع أفراد العائلة من العمل، فقام زوجي بتسليم المشغل وبيع البضاعة كخردة مقابل 40 ألف ريال (160 دولاراً) فقط“.
“لا يضع القانون اليمني قيوداً على عمل اللاجئين السوريين“ بحسب ممثلة مجتمع اللاجئين السوريين لدى المفوضية في اليمن، آلاء التل.
تقول التل: “المفوضية تقدم مساعدات نقدية لفئة قليلة من اللاجئين، تنحصر بالأرامل والمطلقات وأصحاب الإعاقات العقلية والجسدية والأمراض المزمنة غير القادرين على العمل، فيما تستثني معاييرها اللاجئين دون الستين عاماً القادرين على العمل، من دون أي مساعدات نقدية“.
حرمت تلك المعايير عائلة الدروبي المسجلة على قوائم المفوضية، الحصول على أي مساعدة نقدية حتى بعدما خسرت مصدر رزقها- المشغل- ومنع أفرادها من العمل بقرار من جهة أمنية، تخبرنا شاناي.
تجاهلت العائلة القرار، فعمل أفرادها الرجال بالمياومة، فيما بدأت السيدات بتصنيع المنظفات ومواد العناية الشخصية داخل بيتهن وبيعها. تقول شاناي: “بعدما كان شبابنا أصحاب مصلحة اشتغل الأربعة عمالاً”، مشيرة إلى تراجع دخل العائلة لكن ليس إلى الحد الذي منعهم من توفير الاحتياجات الأساسية.
في 10 نيسان/ أبريل 2020، أعلن تسجيل أول إصابة بفايروس “كورونا” في اليمن، فيما أضاف انتشاره “مستوى جديداً من البؤس على حياة اليمنيين“، كما وصفت منظمة هيومن رايتس ووتش الوضع.
عائلة الدروبي لم تكن بعيدة من البؤس الذي فرضه “كورونا“ على اليمن، إذ سرعان ما انهار الاستقرار “الهَشّ“ الذي حافظت عليه العائلة خلال الأشهر التي سبقت الجائحة.
في البداية تقلصت أيام العمل التي يحصل عليها أفراد العائلة، كما توقف أصحاب العمل عن سداد الأجور بشكل منتظم، وتطور الأمر ليخسر الجميع أعمالهم.
تقول شاناي: “كان زوجي أجيراً مياوماً، ولم يكن يأخذ أجرته كاملة، لما كنا نحتاج أغراضاً، كان ياخذ مبالغ من صاحب العمل. وأخوه كان يعمل من الثامنة صباحاً حتى الواحدة ليلاً، ليقبض 8 دولارات، وحالياً ومن أشهر لا أحد في عائلتنا يعمل“.
بموازاة ذلك، تراجعت صناعة السيدات المنزلية، و”كانت الدلالات (التاجرات) يشترين الفيري ومرطبات البشرة والشامبو، لكن بعد كورونا توقفن عن العمل، وكان هناك تاجر يشتري منا كميات كبيرة، أيضاً توقف عن ذلك. الآن نبيع بالقطعة للجيران”.
تتخوف شاناي من خروج الشباب إلى العمل في حال توفره، كي لا يلتقط أحدهم الفايروس وينشره بين أفراد العائلة “إذا حدا انصاب بكورونا ما عندنا قدرة نروح على المستشفى، وبنخاف نروح على المستشفى بسبب الاكتظاظ وغياب إجراءات السلامة“، تقول.
لا إحصاءات رسمية حول أعداد الإصابات بفايروس “كورونا” بين اللاجئين السوريين في اليمن، فيما تكشف التل أرقاماً تقديرية عن إصابة 500 لاجئ سوري توفي اثنان منهم منذ الإعلان عن أول إصابة في اليمن وحتى نهاية تشرين ثاني 2020.
التكيف “المستحيل“
كيف تعيش عائلة الدروبي اليوم؟
“تعبنا كثيراً لكننا مجبرون على هذه الحياة” تجيب شاناي قبل أن تجهش بالبكاء.
فرضت الأزمة على العائلة نمطاً قاسياً من التكيف، بدءاً بإزالة اللحم من قائمة الطعام، وصولاً إلى عدد الوجبات اليومية “كنا نأكل ثلاث وجبات في اليوم، صرنا نكتفي بوجبتين، فطور متأخر، ووجبة مع المغرب هي الغداء والعشاء. نطبخ مرّة كل يومين أو ثلاثة، المهم أن يأكل الأولاد أولاً، ونحن الكبار نتدبّر أمورنا”.
واجهت العائلة صعوبات في سداد أجرة المنزل البالغة 120 دولاراً، وتراكمت عليها أجرة ثلاثة شهور “فضحنا صاحب البيت في الحارة، قبل فترة أتى إلينا وصار يصرخ بصوت عال (اطلعوا من بيتي يا نصابين)”، تقول شاناي.
ضمن خطة الاستجابة لجائحة “كورونا” التي أطلقتها المفوضية في اليمن حصلت العائلة في منتصف تشرين ثاني 2020 على 350 دولاراً لمرة واحدة، وهو مبلغ ساعد العائلة على توفير بعض الاحتياجات الملحّة.
مصدر الإنفاق الوحيد للعائلة هي الأموال التي يقترضها فراس من صديقه اليمني، تقول شاناي: “صاحب زوجي يساعدنا، لما كانت أوضاعنا جيدة زوجي قدّم له شغلاً بأسعار منخفضة، والرجل أراد رد الجميل. يقرضنا على أمل أن تتحسن أوضاعنا في المستقبل ونسدد الديون”.
وعلى رغم سداد رسوم المدرسة لطفلتي شاناي والبالغة 400 دولار، إلا أنها قررت عدم إرسالهما إلى الصفوف في العام المقبل إذا بقيت الأوضاع على حالها.
أكثر ما يؤرق شاناي عدم قدرتها على علاج ابنتها الصغيرة (3 سنوات)، والتي تعاني من ارتفاع ضغط العينين، تقول، “بنتي تعاني من المياه الزرقاء منذ الولادة، ساعدتنا الأمم المتحدة بثلاث عمليات، ويجب فحص عينيها كل 6 أشهر، إضافة إلى قطرة يومياً“، تتابع: “فاتنا موعد الفحص ونحن ننتظر المفوضية لتدفع لنا ثمنه (…) في أيام كثيرة لا أملك ثمن قطرة لعينيها، إلى أن توفرها المفوضية“.
منتصف تشرين ثاني 2020 تقدمت شاناي بطلب إلى المفوضية لمساعدة أفراد عائلتها للسفر إلى أوروبا أو العودة إلى سوريا، بعدما فقدوا القدرة على مواصلة الحياة في اليمن.
تؤكد التل أن كثراً من اللاجئين السوريين في اليمن باتوا يرغبون في العودة إلى سوريا بسبب التحديات التي فرضتها جائحة “كورونا”، وما رافقها من نقص في المساعدات المقدمة.
أُنجز هذا التحقيق بدعم من “منظمة دعم الإعلام الدولي” (IMS) وبالتعاون مع مؤسّسة “روزنة” للإعلام ومنصّة خيوط اليمنيّة وموقع “درج”.
درج”
———————————–
============================
تحديث 04 كانون الثاني 2021
———————————-
مخاوف من انتشار الوباء في مخيم «واشوكاني» السوري
«المرصد» يوثق وفاة 175 طبيباً بالفيروس
الحسكة (سوريا): كمال شيخو
في الوقت الذي تعاني فيه المحافظات السورية من قلة الكوادر الطبية نتيجة هجرة عدد كبير من الأطباء والعاملين في قطاع الصحة خارج البلاد خلال سنوات الحرب جاءت جائحة «كورونا» لتزيد من سوء الوضع الطبي، إذ توفي العشرات من الأطباء والعاملين في المجال الصحي متأثرين بإصابتهم بفيروس (كوفيد – 19) جلهم كانوا ضمن مناطق نفوذ النظام السوري، الذي يُتهم بالتستر على الأرقام الحقيقية للإصابات والوفيات ضمن مناطق سيطرته.
وأحصى المرصد السوري لحقوق الإنسان وفاة 172 طبيباً ضمن مناطق نفوذ النظام السوري متأثرين بإصابتهم بفيروس «كورونا» خلال عام 2020 يقول المرصد السوري إنه وثقهم بالاسم، كما وثق وفاة 7 أطباء في مناطق نفوذ «الفصائل وهيئة تحرير الشام»، بالإضافة إلى وفاة طبيبين في مناطق نفوذ قوات سوريا الديمقراطية. وأضاف المرصد أنه وفقاً لآخر إحصائياته من مصادر طبية موثوقة ضمن مناطق سيطرة قوات النظام، فإن أعداد المصابين بفيروس (كوفيد – 19) بلغت نحو 133 ألف إصابة مؤكدة، تعافى منها أكثر من 49 ألفاً، بينما توفي 8400 شخص.
يذكر أن الأعداد الرسمية لوزارة الصحة التابعة للنظام السوري منذ دخول الجائحة إلى الأراضي السورية، هي 11616 إصابة، توفي منها 723 بينما بلغت حالات الشفاء 5485.
من جهة أخرى، وفي مخيم لنازحين يقع في مدينة الحسكة شمال شرقي سوريا، يعيش آلاف السوريين داخل خيام لا تقيهم برودة الطقس في منطقة يتوقع أن تشهد خلال الأيام القادمة انخفاض درجات الحرارة إلى ما تحت الصفر، لتزيد مرارة ومعاناة فصل الشتاء مع انعدام هطول الأمطار ومخاوف من فيروس «كورونا» وسلالتها الجديدة، إذ بداخل المخيم يتكدس نازحون يصل عددهم أحيانا إلى 15 شخصا ينامون بنفس المكان.
ويضم مخيم «واشوكاني» آلاف الأشخاص بينهم أطفال رضع ومسنون ونساء، اضطروا إلى الفرار من مناطقهم الأصلية بمدينة رأس العين أو «سري كانيه» بحسب تسميتها الكردية، تحت وطأة هجوم تركي نفذته بمشاركة فصائل سورية مسلحة موالية لها في أكتوبر (تشرين الأول) 2019. وأشار حسين الرجل البالغ من العمر 60 عاماً وقد بدت عليه علامات التقدم بالعمر، إلى أن زوجته غطت الخيمة بالقماش والنايلون تحسباً من موجات الصقيع، كما مدّت حبالاً في داخلها علقت عليها الغسيل وأكياس بلاستيكية مليئة بالحاجيات، وقد قسمت الخيمة لمكان مخصص لنوم وقسم ثان تحول إلى مطبخ وضعت فيه حاجيات بطريقة عشوائية كإبريق الشاي والمعالق والصحون ومواد غذائية.
وأخبر عن حالته قائلاً: «نعيش منذ قرابة عام ونصف العام بهذا المكان، والبرد بالليل قاتل وبالنهار تكون الشمس قوية، أحوال الطقس قاسية والفيروس ينتقل ونحن نخاف كثيرا بعد ما سمعنا بالأخبار أن هذه الجائحة صار لها سلالة جديدة»، لتشير زوجته حمدية (55 سنة) إلى أنها تضطر لمراجعة النقطة الطبية بالمخيم بشكل دوري، قائلة: «عندي 3 أطفال صغار وأي موجة برد أو رشح أو مرض أذهب فوراً لمراجعة الطبيب تحسباً من الإصابة بالفيروس. كما أهتم بنظافتهم الشخصية».
ومنذ إعلان الأردن تسجيل حالات إصابة مؤكدة بالسلالة الجديدة لفيروس «كورونا» بعد لبنان، تخشى إدارة المخيم والطواقم الطبية من انتقال سلالة الجائحة إلى المنطقة التي تعاني من نقص كبير في الخدمات الصحية والمشافي التخصصية. وداخل نقطة طبية مجهزة بمعدات أولية إسعافية تقول جيهان عامر قائد فريق السلامة الصحية بمنظمة الهلال الأحمر الكردي: «لم نسجل أي إصابة بفيروس (كورونا) حتى تاريخه، أو حالة اشتباه».
ومع اكتظاظ الخيام بالنازحين وافتقارها للخدمات الأساسية والنظافة العامة سيما في دورات المياه والحمامات؛ ترى جيهان المسؤولة الطبية أن مخاطر انتقال سلالة الفيروس عالية جداً ولفتت أنهم يعملون على توزيع المنشورات والقصاصات الورقية للتحذير والوقاية من (كوفيد – 19) وأضافت قائلة: «قمنا بتأسيس صندوق سلامة صحية لتوزيع الكمامات بشكل مجاني، إضافة لمعقمات طبيبة للحماية لأننا نخشى من انتشار سلالة الفيروس».
لكنها نوهت إلى أن هذه الجهود المحلية لا تكفي لتغطية احتياجات مخيم يبلغ تعداده قرابة عشرة آلاف شخص، قائلة: «نحتاج إلى دعم دولي من منظمات إنسانية وأممية لمنع حدوث كارثة إنسانية في حال انتشار الفيروس، هنا مخيم مكتظ والخيم بجانب بعضها، والطقس بارد كثيراً ما ينذر بكارثة إنسانية». كما جلست وردة ذات الثلاثين عاماً وكانت ترتدي حجاباً رمادياً وعباءة سوداء تلبسها نساء المنطقة بجانب زوجها وخالتها لتقول: «هذا الشتاء الثاني ونحن هنا نعيش تحت رحمة هذه الخيمة، لكن هذا العام نخشى كثيراً من (كورونا) وسلالتها الجديدة، ونكافح الفيروس دون معقمات ولا كمامات وأطفالنا صغار والجو بارد جدا».
وسجلت هيئة الصحة التابعة لـ«لإدارة الذاتية لشمال وشرق» سوريا، أمس (الأحد) حالة وفاة و32 إصابة جديدة بفيروس «كورونا»، ليبلغ عدد حالات الإصابة المسجلة بفيروس «كورونا» 9 آلاف حالة منها 275 حالة وفاة وشفاء 1149 حالة.
وشرحت ستيرة رشي مديرة المخيم، أن العدد الإجمالي لقاطني «واشوكاني» بلغ نحو 10 آلاف نازح تقريباً: «بتعداد 1600 عائلة يسكنون 1650 خيمة، والمخيم وصل لطاقته الاستيعابية، هناك عائلات كبيرة تسكن بنفس الخيمة، وهذا الأمر نحاول معالجته مع شدة برودة فصل الشاء»، وأشارت إلى أنهم شددوا إجراءات الخروج والدخول والتنقل تحسباً من انتشار مرض «كورونا» المستجد، وحذرت من كارثة إنسانية وانتشار أمراض وبائية معدية ثانية غير الجائحة، وأنهت حديثها لتقول: «تنقصنا المساعدات الطبية لسد الفجوة الصحية التي اتسعت مع زيادة أعداد النازحين».
الشرق الأوسط
————————————
ما الذي نعرفه عن النسختين الجديدتين المتحورتين لكورونا المستجد؟
أ. ف. ب.
باريس: يثير ظهور نسختين متحورتين جديدتين من فيروس سارس-كوف-2 المعروف بفيروس كورونا المستجد في المملكة المتحدة وجنوب إفريقيا الكثير من القلق على المستوى العالمي لا سيما وأنهما أكثر تسبباً للعدوى وفقًا للبيانات الأولى. في ما يلي ما نعرفه عنهما.
ما هما هاتان النسختان المتحورتان؟
كل الفيروسات تتحور. وهذا التحور هو عبارة عن طفرات أو تغييرات تحدث عندما تتكاثر الفيروسات.
لاحظ العلماء طفرات متعددة في فيروس سارس-كوف-2 منذ ظهوره كانت غالبيتها العظمى غير ذات تأثير، لكن بعض هذه التحورات قد تمنح الفيروس ميزة للبقاء على قيد الحياة تتمثل على سبيل المثال في زيادة قابليته للانتقال والانتشار.
يعود منشأ المتغيرة بي 1.1.7 التي عدت أول تحول مهم (VOC 202012/01) “على الأرجح” إلى أيلول/سبتمبر في جنوب شرق إنكلترا، وفقًا لجامعة إمبريال كوليدج لندن.
وانتشرت بسرعة في جميع أنحاء المملكة المتحدة قبل أن يعلن العثور عليها في عشرات البلدان حول العالم، من الولايات المتحدة إلى كوريا الجنوبية، مروراً بالهند وفرنسا والدنمارك.
ترتبط معظم هذه الحالات بالمملكة المتحدة، ولكن لم يتسن إيجاد أي صلة بأي بلد بالنسبة لعدد قليل من الحالات، ما يعني أن هذه المتغيرة ثبتت بالفعل نفسها على المستوى المحلي. وهذا ما يحدث كذلك في الدنمارك وهي من البلدان التي تقوم بسلسلة جينوم الفيروس على نطاق واسع، إذ حُددت 86 حالة (بوتيرة متزايدة).
وتنتشر نسخة متحورة أخرى باسم 501.في2 تمثل الآن غالبية الحالات في جنوب إفريقيا. واكتشفت في عينات تعود إلى تشرين الأول/أكتوبر ثم رُصدت في عدد قليل من البلدان الأخرى حول العالم، بما في ذلك المملكة المتحدة وفرنسا.
ويرجح الخبراء أن عدد الحالات المكتشفة أقل من الواقع بالنسبة لكلا المتغيرين.
تظهر على النسختين المتحورتين طفرات عدة إحداها سُميت إن501واي وهي الآن محط الاهتمام. توجد هذه الطفرة على بروتين شوكة فيروس كورونا المستجد، وهي عبارة عن نتوء على سطحه يسمح له بالارتباط بمستقبِل في الخلايا البشرية لاختراقها ومن هنا فإنه يؤدي دورًا رئيسيًا في العدوى الفيروسية.
من المعروف أن هذه الطفرة تزيد من قدرة الفيروس على الارتباط بمستقبِل الخلية. لكن “لا علاقة واضحة محددة بين الارتباط بمستقبِل الخلية وزيادة قابلية الانتقال، ولكن وجود مثل هذه العلاقة أمر معقول”، وفق المركز الأوروبي للوقاية من الأمراض ومكافحتها.
زيادة قابلية انتقال الفيروس؟
خلص العديد من الدراسات العلمية التي لم تخضع بعد لمراجعة النظراء وتستند بشكل أساسي إلى النمذجة، إلى أن النسخة المتحورة البريطانية أكثر قابلية للانتقال. وهذا يؤكد التقييمات الأولية للمجموعة الاستشارية لتهديدات الفيروسات التنفسية الجديدة والناشئة التي تقدم المشورة للحكومة البريطانية وقدرت أن انتقال العدوى زاد بنسبة 50 إلى 70%.
من ثم، ووفقًا لحسابات كلية لندن للصحة والطب الاستوائي فإن الفيروس المتحور البريطاني معدٍ أكثر بنسبة 50 إلى 74%.
في أحدث تقرير صدر الخميس، حلل باحثون في إمبريال كوليدج لندن آلاف جينومات فيروس سارس-كوف-2 التي سُلسلت بين تشرين الأول/أكتوبر وكانون الأول/ديسمبر. وبعد اتباع طريقتين مختلفتين، استنتجوا أن لدى هذه النسخة المتحورة “ميزة كبيرة” تزيد من قدرتها على نقل العدوى بنسبة 50 إلى 75%، أو ترفع معدل تكاثر الفيروس بمقدار 0,4 إلى 0,7، مقارنة بالنسخ العادية.
وتظهر النتائج الأولية لنسخة جنوب إفريقيا أيضًا قابلية انتقال أعلى، ولكن تتوفر بيانات أقل عنها.
مع ذلك، يقول بعض الخبراء إن البيانات غير كافية لتقييم مدى عدوى النسختين على وجه اليقين.
يقول مدير الأمراض المعدية في وكالة الصحة الفرنسية العامة برونو كوانيار لفرانس برس “علينا أم نتوخى الحذر. النتيجة المتصلة بمعدل الانتقال هي مجموعة من العوامل التي تجمع بين خصائص الفيروس ولكن أيضًا تدابير الوقاية والمكافحة المطبقة” مثل التباعد الاجتماعي ووضع الكمامة وإغلاق المؤسسات التي تستقبل الجمهور، وما إلى ذلك.
أكثر إشكالية؟
يقول المركز الأوروبي للوقاية من الأمراض إنه “لا توجد معلومات تفيد بأن العدوى التي تسببها هذه السلالات الفيروسية أكثر خطورة”، لكن خطر “دخول المستشفى والوفيات مرتفع”.
ويضيف إن “قابلية الانتقال العالية تعني في نهاية الأمر عدداً أكبر من الحالات، ومن ثم حتى في حالة التسبب بنسب وفيات مماثلة، فهذا يعني ممارسة ضغط أكبر على النظام الصحي”.
ويشدد عالم الأوبئة البريطاني آدم كوتشارسكي استناداً إلى الأدلة الإحصائية، على أن “ارتفاع قابلية العدوى بنسبة 50% من شأنه أن يطرح مشكلة أكبر بكثير من نسخة متحورة تسبب وفيات أعلى بنسبة 50%”.
ويشرح عبر تويتر أنه مع معدل تكاثر من 1,1، ومعدل وفيات يبلغ 0,8%، و10 آلاف مصاب يمكن أن تكون لدينا 129 وفاة بعد شهر. وإذا زاد معدل الوفيات بنسبة 50%، فإن عدد الوفيات سيصل إلى 193. ولكن إذا زاد معدل الانتقال بنسبة 50%، فستكون لدينا 978 وفاة.
وسيكون التأثير أكبر بشكل خاص في البلدان التي تؤدي فيها زيادة طفيفة في قابلية الانتقال إلى رفع معدل التكاثر إلى أعلى من 1، ما يؤدي إلى تسريع انتشار الوباء.
حذر عالم الأوبئة أرنو فونتانيه، عضو المجلس العلمي الذي يقدم المشورة للحكومة الفرنسية، من أن النسخة المتحورة البريطانية “هي حقًا مصدر القلق في الوقت الراهن” لأنها “يمكن أن تدفعنا إلى وضع معقد للغاية”.
بالإضافة إلى ذلك، تظهر الدراسات الأولى حول المتغير البريطاني أيضًا نسبة إصابات أكبر بين الشباب الذين تقل أعمارهم عن 20 عامًا، ما يطرح مسألة فتح المدارس أم إبقائها مغلقة.
ومن هنا، تقدر دراسة كلية لندن للصحة والطب الاستوائي أن تدابير الاحتواء مثل تلك التي طبقت في المملكة المتحدة في تشرين الثاني/نوفمبر لن تكون فعالة بما يكفي للسيطرة على تفشي المرض “ما لم تُغلق المدارس والكليات والجامعات أيضًا”.
ما مدى فعالية اللقاحات؟
في حين أن حملات التطعيم بدأت للتو توفر الأمل في إيجاد مخرج من هذه الأزمة الصحية العالمية، يشكك البعض في قدرة اللقاحات على محاربة النسخ المتحورة الجديدة.
يقول المركز الأوروبي للوقاية من الأمراض إنه “لا توجد في هذه المرحلة معلومات كافية متاحة لتقدير (إذا كانت النسختان تشكلان) خطرًا على فعالية اللقاحات”.
لكن الأربعاء الماضي، قال هنري ووك، من المركز الأميركي للوقاية من الأمراض ومكافحتها، خلال مؤتمر صحافي إنه “بناء على ما نعرفه حالياً، يعتقد الخبراء أن اللقاحات الحالية ستكون فعالة ضد السلالتين”.
من جانبها أكدت شركة بايونتيك الألمانية التي أنتجت مع فايزر الأميركية أول لقاح ضد كوفيد-19 حصل على الترخيص، أنها قادرة إذا لزم الأمر، على إعداد لقاح جديد “في غضون ستة أسابيع”.
كيف يمكن محاربتها؟
يعتقد برونو كوانيار أنه من “الوهم” الاعتقاد بأنه يمكننا القضاء على النسخ المتحورة أو منع انتشارها تمامًا، مشيرًا إلى أنه ينبغي التركيز على “تأخير نشرها قدر الإمكان”.
ومن هنا يوصي المركز الأوروبي للوقاية من الأمراض البلدان التي لا تنتشر فيها النسخ المتحورة الجديدة على نطاق واسع “ببذل جهود لإبطاء الانتشار، على غرار تلك التي بذلت في بداية الوباء” مثل اختبار الأشخاص القادمين من مناطق توجد فيها مخاطر مع إمكانية فرض الحجر الصحي والعزل والتعقب المعزز للمخالطين، والحد من السفر” إلى ما هنالك.
كما يدعو إلى مراقبة مدى انتشار هذه النسخ لا سيما عن طريق زيادة سلسلة جينوم العينات الفيروسية.
ويوضح البروفسور فونتانيه ان بعض اختبارات تفاعل البوليميراز المتسلسل للكشف عن الإصابة بكوفيد-19 يمكن أن تعطي مؤشرًا لوجود النسخة البريطانية، وهذا يساعد على تحسين عملية التسلسل الجيني، مشدداً على ضرورة “المراقبة الشديدة للغاية”.
على المستوى الفردي، يقول ووك إنه “نظرًا لأن هاتين النسختين تنتشران على ما يبدو بسهولة أكبر، يجب أن نكون أكثر حرصاً في إجراءاتنا الوقائية لإبطاء انتشار كوفيد-19″، موصيا ً بوضع قناع الوجه والتباعد الجسدي وغسل اليدين وتهوية الأماكن المغلقة دون إغفال تجنب أماكن الازدحام.
ايلاف
—————————-
زمن البيولوجيا السياسية/ أبو بكر العيادي
البيوسياسي أو البيولوجيا السياسية، المصطلح الذي ابتكره ميشيل فوكو، يتجسد الآن على أرض الواقع بانتشار فايروس كورونا، حيث يذهب بعض المفكرين إلى القول إن السلطة وجدت في هذا الجائحة فرصة لبسط نفوذها عن طريق الحجر الصحّي والتباعد الاجتماعي بدعوى إنقاذ الناس من الهلاك. فماذا يعني بالضبط وما هي أبعاده اليوم وآثاره في المستقبل القريب؟
لم يواجه الجميع جائحة كوفيد – 19 وجرائرها بالطريقة نفسها، فإن بدا التفاوت الاجتماعي جليّا خلال الحظر الصّحي، بين من يتمتع بظروف إقامة مرفّهة، وبين من وجد نفسه في جُحر ضيّقٍ ضيقَ زنزانة، فإن المواقف من قرارات السلطة كانت هي أيضا تختلف باختلاف الموقع الاجتماعي والتكوين العلمي، حيث قنع السّواد الأعظم من الناس بما تمليه الحكومات لكونهم لا يملكون حيلة أمام “ليفياتان”، بينما انتقدت النخبة كل قرار يصدر عن الحكومة، ورأت فيه تحريك بيادق على رقعة ما فتئت تنحسر، تمهيدًا لمصادرة الحريات وبسط هيمنتها كاملة على سائر أوجه الحياة.
فكل ما ظهر خلال هذه الفترة التي بدأت منذ مطلع السنة الماضية صار لدى عدد من المفكرين في عداد البيوسياسي، كذا الكمامة واختبار تفاعل البوليميراز المتسلسل (سي بي آر) والحجر الصحّي وغلق المقاهي والخمّارات والمسارح والمتاحف ودور السينما وما شابه.
بل إن التساؤل حول الحل الأجدى بين صيانة الاقتصاد أو إنقاذ العجائز والعجّز، عُدّ اختيارا بيوسياسيا، وتحديد البؤر المشبوهة وتعقّبها رقميّا اعتبرا مراقبة بيوسياسية، والرسائل المتكرّرة الموجهة إلى المواطنين لحثّهم على ملازمة التباعد الاجتماعي هي في نظرهم تربية بيوسياسية.
ولم تسلم من ذلك التصنيف لا الإدارة ولا الشرطة ولا المستشفيات، فكل قرار يُتّخذ فيها يصنَّف في خانة البيوسياسي، حتى كادت جائحة كوفيد – 19 تتحول في تقديرهم إلى احتفال بالبيوسياسي كما قال المفكر ماتيو بوت بونفيل، الذي يذكّر بأن تلك الأسئلة، التي تقع اليوم في صميم هذه اللحظة البيوسياسية القصوى، سبق أن طرحها فوكو.
لقد اكتشف العالم، على نطاق واسع، أن السياسة لم تختف خلف الاقتصاد، مثلما اكتشف أنها في وجهها الحالي الذي أملاه الحفاظ على الحياة أخذت شكل البيوسياسي، خصوصا بانحصارها في إجراءات صحية واسعة أدت إلى حالة طوارئ وما تبعها من مصادرة للحريات، فصار السؤال الذي تطرحه الجائحة على الحكومات: الحرية أم الحياة؟ ولا مناص حينئذ من العودة إلى فوكو، الذي كان أول من صاغ المصطلح عام 1976 في آخر فصل من كتاب “إرادة المعرفة” عنوانه “حق الموت والسلطة على الحياة”، لاحظ فيه الانقلاب الذي حصل بعد نهاية العصر الكلاسيكي بشأن حقّ الحياة والموت الذي يختص به الحاكم، فقد كانت سلطته على حياة رعاياه هي قبل كل شيء حق الموت، إذ هو لا يملي عليهم كيف يعيشون حياتهم، ولكنه يملك حق سلبها منهم عن طريق انتزاع ثرواتهم وخدماتهم وعملهم وقواهم وحياتهم أيضا.
ومنذ القرن السابع عشر، وبصفة أخص خلال القرن الثامن عشر، صارت الحياة نفسها غاية السياسي، حيث تعلق الأمر بتنمية الموارد وزيادة القوى الحية وتسييرها، فكان ذلك إيذانا بمولد الرأسمالية. عندها تحولت السلطة إلى بيوسلطة شعارها “اجعله يعيش واتركه يموت” وفق نموذجين، أولهما، وهو الذي أطلق عليه فوكو “أناتومو سياسي” (أو سياسة الجسد) يخص جسد الفرد من حيث ترويضه ومراقبته وتجويد مردوده، ويتم ذلك في كل المنظومات التنظيمية كالمدارس الدينية والجندية والسجن ومستشفى الطب النفسي. والثاني يتركز على الرعية التي تتم إدارة مساراتها البيولوجية كالتكاثر والولادات والوفيات والصحة والعمر الحيوي. ثم ظهرت علوم جديدة كعلم الإحصاء وعلم السكان وعلم الأوبئة… وغاية جديدة حيث لم يعد يُنظر إلى السكان كمجموعة أفراد، بل كمنظومة مدّ وميول، وبالتالي كفنّ جديد في الحكم.
وبين السلطة على جسد الأفراد وتسيير الرعايا توجد الجنسانية. يقول فوكو في “إرادة المعرفة” ربما ليس القتل هو أعلى وظيفة للسلطة، بل اقتحام الحياة من كل جانب، لحمايتها ولكن لتدجينها أيضا. وبذلك يشمل البيوسياسي بمعناه الواسع الطرائق القسرية للنظام والمراقبة والتحكم والعقاب، والطرائق المرنة الأفقية في تسيير الرعايا وحكمها. وهذه الطريقة الجديدة في الحكم هي الليبرالية. أما بخصوص مواجهة السطلة للأوبئة، فقد بيّن فوكو في “جنيالوجيا السلطة” أن الغرب لم يكن له سوى نموذجين بارزين: أولهما إقصاء المصابين بالجذام خارج المدينة، لكون الجذام يعدي باللمس، ما يفرض منع اتصال المصاب بفرد أو جماعة منعًا باتًّا، أي أن المصابين “يُلقَوْن إلى الموت”. وهو إجراء صحّي يغذيه الحلم بمجتمع نقيّ، ويحضر في المؤسسات الاجتماعية كالسجن ومستشفى الأمراض العقلية ومستشفى الطب النفسي، حيث ينوب عن المجذوم الفقيرُ والمهمّشُ والمسجونُ والمختلُّ عقليا…
وثانيهما حجر المصابين بالوباء، لكون الوباء، بخلاف الجذام، لا يُرى بالعين المجردة في طور اختماره، ومن ثَمّ يعامَل الناس جميعا كما لو أنهم مصابون به، فيجدون أنفسهم في حَجر لا يغادرونه إلا بإذن، حيث “كل فرد حبيس قفصه، واقف في نافذته ليجيب دعوة الدّاعي، ويطلّ منها حين يُطلب منه ذلك”، أي أنّ السلطة تدير رعاياها كلهم في فضاء واحد تُخضعه لمراقبة دقيقة، حيث يعمل العزل الفردي أو الجماعي على تعزيز التحكم والمراقبة وتفريع السلطة لأن نمط الحكم في التعامل مع الوباء يهدف إلى إيجاد رعية سليمة في مجتمع منظَّم. ما يعني أننا مع جائحة كوفيد – 19 وجدنا أنفسنا أمام الجذام والوباء في الوقت نفسه، أي أن الجسد، فرديّا كان أم جماعيّا، تشريحيّا أم اجتماعيّا، هو في نظر فوكو غاية البيوسياسي. ولكن أيّ حياة يثيرها البيوسياسي؟
ثمّة تعارض في التقليد الفلسفي لا يزال قائما، ففي اليونانية القديمة لفظتان: زُوِ (zoè) وتعني الحياة البيولوجية والعضوية والحيوانية؛ وفي مقابلها بِيُوس (bios) التي تعني الحياة المعيشة، في ظل التاريخ والثقافة وظروف العيش والنواحي الاجتماعية التي تصنعها، فعندما يقول أرسطو إن الإنسان “حيوان سياسيّ” فإنه يربط الإنسانية بالطبيعة زُوِي، لكي يميزه عنها، ولكن عندما يعرّف حياة المدينة أو الحياة السليمة، يستعمل عبارة بيوس. وحنّة أرندت تستعمل هذا التمييز في كتابها “وضع الإنسان المعاصر” لتقف على خطّ الفصل، وهو جليّ عند القدامى، بين الحياة العائلية المنذورة لتأمين الشروط المادّية الأكثر تفاهة، الحيوانية تقريبا لضمان العيش، وبين الحياة العامة. ولكن هذا الفصل يميل إلى الزوال في عصر الحداثة ليحلّ محلّه اكتساح المشاغلِ اليومية للفضاء العام، وهو ما يهدد السياسي بالخطر في نظر أرندت التي تلتقي مع ما لاحظه فوكو، ولكن مع الإلحاح على ضرورة أن يكون السياسي منفصلا عن البيولوجي. مثل هذا التمييز هام جدّا للتفكير في الإجراءات المتخذة ضدّ الجائحة: أيّ حياة نحمي؟ الصحة البيولوجية على حساب الروابط الاجتماعية؟ ولكن ألا يشكّل الحرمان من الروابط خطرا قاتلا لدى بعض الناس؟ ثمّ ما هي الحيوات المعرّضة أكثر من سواها، لكي يقبل المجتمع التضحية بها أو لا يوليها قيمة؟
إن الاحتجاج على غلق المقاهي والخمّارات مثلا أو إجبارية وضع الأقنعة هما تعبير عن أن الحياة ليست فقط الوقاية من الموت البيولوجي؛ في حين أن تضامن المهاجرين في مخيم موريا باليونان، الذين تخلّت عنهم الحكومات وتجاهلتهم الإجراءات الصحية، أنقذ ما هو حيويّ، ما يعني أن زوي وبيوس في الواقع لا ينفصلان.
ولا يعني ذلك أن كل المفكرين يوافقون ما ذهب إليه فوكو، فالفيلسوف الإيطالي جورجو أغامبين مثلا يجعل من زوي، التي يترجمها بـ”الحياة العارية” موضوع نقده الوحيد، فيجعل البيوسياسي سياسة موت (تاناتو سياسي) حيث يحصر الإنسان في حياته العارية، أي المجردة، مثلما يجعل المعسكر شكلَ تلك الصيغة النهائي، ومثلها معسكرات اللاجئين ومعسكرات الخدمة الإجبارية كالغولاغ ومعسكرات الموت النازية. فالمعسكر، أو المخيم، هو في رأيه حالة استثنائية يهيمن عليها ناموس البيوسياسي، وحاضنة مخفية للسياسة، بمعنى أن الدولة الديمقراطية البيوسياسية هي نظام شمولي بالقوّة، وهو ما يفسّر مبالغة أغامبين في نقد الحجر الصحي، كان نشره في مارس من العام الماضي، حيث ألمح فيه إلى أن الجائحة وُجدت عمدًا حتى تتمكن الدول من فرض حالة الطوارئ.
في “أصول التوتاليتارية”، كانت حنة أرندت أوّل من اهتدت إلى البعد البيوسياسي – ولو أنّها لم تستعمل المصطلح – للنازية، وأكدت أن مفاهيم المجال الحيوي والنقاء العرقي تؤدي إلى صناعة بشر غير طبيعيين. كما لاحظت نشأة مفهوم العرق في القرن التاسع عشر، خاصة عند أرتر دو غوبينو (1816 – 1882)، صاحب “مقالة في عدم تساوي الأعراق”، حيث كتب يقول “في نهاية القرن كان الكتاب يتناولون بشكل طبيعي المسائل السياسية في صيغ بيولوجيا وزولوجيا”، ولكنها لن توافق قطعا ما ذهب إليه أغامبين من أن الديمقراطية تحمل في طياتها أثر الشمولية.
ولو فرضنا جدلا أن مصطلح البيوسياسي يجمع تحت سقف واحد كل الرهانات السياسية والفلسفية المتباينة في الظاهر، والتي تخص الكائن الحيّ، كالجوائح الحالية وربما المستقبلية، والصحة عموما، والمفاهيم العلمية للحياة والموت، والعلاج، ومجتمع المراقبة عن طريق التكنولوجيات الرقمية، والعلاقات بين الإنسان والكائنات، والتنوع البيولوجي، والمناخ، وامتداد الأعمار، والديمغرافيا العالمية، وتزايد التفاوت، وما بعد الأنسنة، والتكنولوجيات الحيوية، والذكاء الصناعي… فإن السقف يصبح من الاتساع ما يجعله عديم الأهمية.
هذا مثلا فريديرك فورمس يعترف أنه لا يشاطر فوكو تحليله التاريخي للحداثة، ويعتبر أن نهاية السبعينات كانت “لحظة الكائن الحيّ” وشكلت منعرجا في مجالات الفلسفة والمعرفة والسياسة، فالإيكولوجيا وعلوم الإدراك واكتشاف أهمية العلاج الحيوية مهّدت لظهور الكائن الحيّ ضمن المتطلبات المعاصرة. غير أن فورمس، وإن أيّد الجانب الوصفي لـ”بيوسياسية” فوكو وعارض جانبها النقدي، يقرّ أن لها صلة بتلك الحركة، ويرى هو أيضا أننا نعيش اليوم عصر البيوسياسي، وما حماية الحياة إلا ناقل سياسي، فنحن نصمد بفضل العلاج والعمل على حماية الكائن الحيّ، ولكننا نتصدى لتجاوزات السلطة عن طريق المداولات الديمقراطية.
إن تثمين العلاج، الذي يسمّيه الفلاسفة الرعاية (care) يستعيد سلطة القس البروتستانتي التي جعلها فوكو إحدى مصادر البيوسياسي الحديث. وهو نفس المسار الذي اتبعه فورمس وأرد أن يتأسس على الدفاع عن الحيوي، أي كل القوى التي تصمد أمام الموت، كالصحة ودعم الناس الأكثر هشاشة وكذلك التربية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ما يجعلنا نمرّ من البيوسياسي الذي تحدوه إنتاجية الأجساد، أي تلك التي وصفها فوكو، إلى بيوسياسي يحركه الوعي بإمكانية العطب. وفورمس لا يسمي ذلك بيوسياسي بل يفضل تسميته بالأنسنة الحيوية، ما يسمح باحتضان مشاغل أخرى غفل عنها فوكو كحماية كوكب الأرض والطبيعة والتنوع الحيوي.
برونو لاتور، من جهته، دعا إلى قيام ما أسماه إرادة عامة إيكولوجية قادرة على الضغط على الحكومات، مع توسيع مبدأ الحياة، وحتى الحياة السليمة، والصحة لاحتواء مفهوم “قابلية الإقامة على الأرض”، لأن العودة إلى البيوسياسي، حتى في وجهه الجديد، لا يمكن أن يفرض نفسه في ظل مشروعية الإجراءات الصحية ضد كوفيد – 19.
أما ميكائيل فوسيل، فيعتقد أننا نمرّ ربّما بمرحلة فوكوية، إذا اعتبرنا أن السياسة نفسها تحركها النزعة الصحية وتقتحم أكثر مناطق الحيوات حميمية، ولكن تأسيس المجتمع على الخوف من فايروس هو ما يهدّدنا. ويضيف “لست في حاجة إلى فوكو كي أتأمل تركيز السلطة حول مبدأ حفظ الحياة، هوبز يكفيني”.
ذلك أن المفكر الإنكليزي يبيّن لنا أن ما يميز الإنسان رغبته في البقاء. ولكن إذا تُركت تلك الرغبة لحالها فسوف تخلق قانون الأقوى وحرب الجميع ضدّ الجميع، أي عكس حفظ الحياة التي تهدف إليها. فالدولة عند هوبز تسمح بالخروج من ذلك التناقض القاتل، ولكنها “ليفياتان”، أي سلطة حاكمة تملك وحدها حق ممارسة العنف الشرعي بوضع الجميع في حالة خوف، ما يدفعهم إلى الالتزام بعقد يستبدلون من خلاله الأمان بالحرّية، لأن الفعل السياسي عند هوبز هو ما يقطع مع الوضع الطبيعي.
ويخلص فوسيل إلى أن مصطلح بيوسياسي لا يسمح بفهم هذا، لأن فوكو لا يعالج الحقوق والقانون والعقد الاجتماعي ولا الدولة. ولذلك يخشى أن ندخل، إن كان لا مفر من العيش مع الفايروس، في لحظة هوبزية، دليله على ذلك عودة النزعة السيادية القومية والهووية بقوة. ففي اللحظة التي نكتشف فيها هشاشتنا وعجز السلطة، تقوى أوهام السيادة التي يُنظر إليها كحصانة. وعندما نرى في الآخر تهديدا حيويّا، نمر بسرعة من الفايروس إلى الجسد الغريب، ومن جسد الغريب إلى كراهية الغريب.
لا شكّ أن أشكال السلطة والمخاطر التي تهدد الحياة هي بصدد التغير. وإذا بات مصطلح البيوسياسي فارغا لكثرة اتساعه، فإن وسائل الصمود أمامه ما زالت قيد الإعداد.
كاتب من تونس مقيم في باريس
الجديد
—————————-
العالم الواحد والعالم الكثير المتضارب/ حازم صاغية
منذ أن بدأ الحديث الجدّي عن لقاحات «كورونا» التي تتوافر لها نسبة مرتفعة من النجاح، شرعت تعود إلى الواجهة صورة العالم بوصفه واحداً. فهو كلّه، في سائر أرجائه، يطلب اللقاحات ويعوّل عليها، وأطرافه تتبادل التنسيق «والتنافس» لهذا الغرض.
التعافي، إذن، إمّا أن يكون عالميّاً أو لا يكون تعافياً.
البارقة الداعية إلى التفاؤل هبّت في وجه ما أحدثته «كورونا» نفسها من تمجيد للعزلة والعزل، ليس بين البلدان فحسب، بل داخل البلد الواحد، وما أطلقته من ذعر حيال الغريب والمهاجر واللاجئ، ومن رفع للأسوار بين الرجال والنساء، ناهيك عن تعظيم الأمني والزجري في كلّ مكان تقريباً. وحين كانت الوقائع والحقائق تتمنّع عن إسعاف هذه الوجهة الرجعيّة، كانت نظريّات المؤامرة تدلي بدلوها دعماً لها وإسناداً.
وقبل «كورونا»، وعلى مدى أزيد من عقدين، سبق للقوميّات الشعبويّة أن صلّبت نظريّات العزلة والخوف. في هذه النظريّات سقطت تباعاً أكبر أمم الأرض وأقواها بقيادة قادة معصومين: روسيا، الصين، الهند، الولايات المتّحدة، بريطانيا، البرازيل…
الآن، وفضلاً عن اللقاحات الطبية، يُرجّح، بعد الانتخابات الرئاسيّة الأميركيّة، أن يعاد الاعتبار إلى عدد من الاتفاقات الدوليّة التي تعطّلت في السنوات الأربع الماضية، خصوصاً منها اتفاقيّة باريس للمناخ (2015) التي لا تكتم إدارة جو بايدن الجديدة حماستها لعودة العمل بها. كذلك، يُفترض بالنزعة الحمائيّة والحروب التجاريّة أن تتراجع، وأن يعاد الاعتبار لاتفاقات تجاريّة وُقّعت سابقاً، إنْ على نحو معدّل أو غير معدّل.
واقع الحال أنّ الموجة الشعبويّة، التي وجدت في جائحة «كورونا» امتدادها وتتويجها معاً، نشأت أصلاً كردود على تحوّلات صلبة أتت بها العولمة والهجرة. مع هذه الردود، رفعت السيادة القوميّة للبلدان أعلامها الظافرة. الردّ الأقوى ربّما كان استفتاء «بريكست» في بريطانيا الذي هدّد الاتّحاد الأوروبي في وجوده ذاته.
لكنّ التحوّلات الأخيرة، جعلت من الجائز أن نتوقّع العودة إلى التشكيك في السيادات القوميّة، وأن نتوقّع أيضاً البناء على تلك المعطيات الصلبة التي أراد النهوض الشعبوي تعطيلها. فتنظيف البيئة ووقف التصحّر لا تقوى عليهما دولة واحدة، وكذلك استثمار الأنهار وكلّها تقريباً تنبع في بلد وتصبّ في بلد آخر. ينطبق الأمر نفسه على سياسات العمالة والهجرة، وعلى محاربة الفقر والمرض والأمّيّة، فضلاً عن الجريمة المنظّمة وضبط حركة الدفوقات الماليّة الضخمة العابرة للحدود، وما لا حصر له من مسائل أخرى، لا سيّما الشروط الأفضل التي يوفّرها التعاون الدولي لتقدّم العلوم والتقنيّة.
لكنْ أن يعاود العالم ارتسامه واحداً لا يعني أنّ وحدته باتت مشروعاً قابلاً للتنفيذ. الخروج من الوحدة كطوبى ومثال إلى الوحدة كمشروع طريقٌ طويل وشاقّ تلزمه شروط عدّة، بينها تصليب المؤسّسات الأمميّة كالأمم المتّحدة ومتفرّعاتها، وإكساب بعض الأنياب لمبدأ التدخّل الإنساني ضدّ الأنظمة القاهرة لشعوبها. وهذا معطوف بالطبع على محو آثار «كورونا»، لا سيّما منها توسّع الرقعة التي يشغلها التدخّل الأمني والبوليسيّ، وانتعاش بعض القيم والممارسات الذكوريّة والأبويّة.
يبقى أنّ تعافي الديمقراطيّة البرلمانيّة، إذا أتيح له أن يمضي قدماً، يوفّر سبباً جدّيّاً للثقة بهذا المسار الانتقالي إلى ما بعد الدولة القوميّة. وهي ثقة يزيدها حدوث تعافٍ في الأوضاع الاقتصاديّة يتغلّب على ما أنزلته الجائحة، يترافق مع توزيع للثروة أكثر عدلاً وأشدّ تلاؤماً مع مبدأ المساواة.
لكنّ ما يصعب تذليله هو النظام العسكري والأمنيّ، وهو في أجزاء كثيرة من العالم، منها منطقتنا، متضامنٌ مع النظام القرابي الموسّع (الطائفيّ، الإثنيّ…) ومستند إليه. والاثنان، بالتناوب أو بالتكامل، يمسكان بخناق ملايين البشر ويبقيانهم فيما قبل الدولة القوميّة.
والوجهة هذه كثيرة الأشكال والصيغ، في عدادها تفشّي الحروب الأهليّة المفتوحة وما يرافقها من تهجير للسكّان، على ما رأينا خصوصاً في سوريّا، لكنْ أيضاً في بلدان كثيرة أخرى آخرها، حتّى الآن، إثيوبيا. وهناك طرد السكّان «المختلفين» من نطاق الدولة والمجتمع، كمسلمي الروهينغا في ميانمار ومسلمي الإيغور في الصين، وتعليق الدول في بلدان كثيرة تشقّها النزاعات الأهليّة، في انتظار تسويات خارجيّة قبل أن تكون داخليّة، وهذا ناهيك عن الفساد وتبديد الموارد حيث تنعدم الرقابة الشعبيّة والشفافيّة.
وهذان احتمالان متضادّان، واحد يحاول الصعود إلى ما بعد الدولة، وآخر يوالي الغرق فيما قبلها. وللأسف سوف يكون من الوهم والسذاجة افتراض الجمع بين المسارين هذين.
الشرق الأوسط
———————————-
الوباء والنظام السياسي.. إنّه يستلزم وجود دولة/ فرانسيس فوكوياما
ترجمة رحمة بوسحابة
نشر فرانسيس فوكوياما، المفكر الأمريكي الشهير، هذه المقالة في آب/أغسطس 2020، في مجلة Foreign Affairs، وهنا ترجمتها العربية.
تنتج الأزمات الكبرى نتائج كبرى تكون غير متوقعة غالبًا، فهكذا أدى الكساد العظيم (The Great Depression ) إلى نزعات الانعزالية، والقومية، والفاشية، وإلى الحرب العالمية الثانية – بل وحتى إلى الصفقة الجديدة (New Deal) وصعود الولايات المتحدة كقوة عظمى عالمية، وإنهاء الاستعمار أخيرًا. كما أنتجت هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر تدخُلين أمريكيَين فاشلين، أدّيا إلى صعود إيران وبروز أشكال جديدة من التطرّف الاسلامي، وفي الإطار نفسه أدت الأزمة المالية لعام 2008 إلى طفرة في الشعبوية المناهضة للمؤسسات التي حلَّت محل القادة في جميع أنحاء العالم، وبناء على ذلك سيتتبع مؤرخو المستقبل بشكل مماثل الآثار الكبرى لوباء فيروس كورونا الحالي، ليكون التحدي هو اكتشاف هذه الآثار في وقت مبكر.
لقد أصبح من الواضح بالفعل لماذا كان أداء بعض الدول أفضل من غيرها في التعامل مع الأزمة حتى الآن، وثمة ما يدعو للاعتقاد بأن هذه التوجهات ستستمر مستقبلًا، والمسألة هنا لا علاقة لها بنوع النظام ذلك أن أداء بعض الديمقراطيات كان جيدًا على عكس بعضها الآخر، والأمر ذاته ينطبق على الأنظمة الاستبدادية.
وتتمثّل العوامل المسؤولة عن التَّعامل الناجح مع الوباء في قدرة الدولة على مواجهتها والثِّقة الاجتماعية، والقيادة، ومن هنا كان أداء البلدان التي تمتلك الأجهزة الثلاث: جهاز حكومي كفء وحكومة يثق بها المواطنون ويمتثلون لتعليماتها، وقادة فعالون.. مثيرًا للإعجاب، وهو ما حدّ من الضرر الذي لحق بها، وفي الوقت ذاته تصرّفت الدول التي تعاني من خلل وظيفي، أو مجتمعات مستقطبة، أو قيادة ضعيفة بشكل سيئ، تاركة مواطنيها واقتصاداتها مكشوفة وهشّة.
وكلَّما تمَّ التعرف أكثر على كوفيد 19- المرض الناجم عن الفيروس التاجي الجديد- كلما ظهر أن الأزمة سيطول أمدها لتقاس بالسنوات وليس بالثلاثيات. ورغم أن هذا الفيروس يبدو أقل فتكًا مما كنا نعتقد إلا أنه شديد العدوى، وغالبًا ما ينتقل من دون أعراض، عكس الإيبولا الشديدة الفتك والتي يصعب التقاطها، ويموت ضحاياها بشكل سريع قبل أن يتمكنوا من نقلها، وهذا يعني أن الناس يتجهون إلى عدم أخذ الأمر بالجديّة المطلوبة، وهو ما يجعل الفيروس ينتشر، وسيستمر في الانتشار على نطاق واسع في جميع أنحاء العالم، مُسببًا أعدادًا هائلة من الوفيات، وبذلك لن تأتي تلك اللحظة التي تستطيع فيها البلدان إعلان الانتصار على المرض. وفي المقابل ستنفتح الاقتصادات بشكل بطيء ومؤقت، مع تباطؤ التقدم بسبب موجات العدوى اللاحقة. ويبدو أن الآمال في حدوث انتعاش حاد سريع a V-shaped recovery هي آمال متفائلة للغاية، وفي المقابل سيكون النموذجان المحتملان للتعافي هما النموذج L الصاعد أو سلسلة *W ، أي أن الاقتصاد العالمي لن يعود إلى أي من حالاته التي سبقت كوفيد 19 في أي مدى منظور.
وتعني الأزمة الطويلة الأمد من الناحية الاقتصادية المزيد من حالات الاخفاق التجاري، وتدميرًا للأعمال التجاريّة مثل مراكز التسوق، وسلاسل البيع بالتجزئة، والرحلات الجويّة. لقد ظلَّت مستويات تركيز السوق في الاقتصاد الأمريكي ترتفع بشكل مطرد لعقود، وسيؤدي الوباء إلى استمرارها بشكل أكبر، وستكون الشركات ذات الإمكانيات الكبيرة وحدها القادرة على تجاوز العاصفة، مع تحقيق عمالقة التكنولوجيا للربح الأهم في هذه الحالة، باعتبار أن التفاعلات الرقمية ستصبح أكثر أهمية من أي وقت مضى.
وقد تكون العواقب السياسية للوباء أكثر أهميّة، فعلى الرغم من أنه يمكن دعوة الشعب لأعمال بطوليّة من قبيل التضحيّة الجماعيّة بالنفس لبعض الوقت، ولكن ليس إلى الأبد. وإذا استمر الوباء مقرونًا بفقدان مكثف للوظائف، وركود متواصل، وعبء غير مسبوق للديون فإن ذلك سيخلق حتمًا توترات ستتحوّل إلى رد فعل سياسي عنيف، لم يتضح بعد ضد من سيكون.
سيستمر التوزيع العالمي للقوة في التحوُّل نحو الشرق، ذلك أن أداء شرق آسيا كان أفضل من أوروبا أو الولايات المتحدة في إدارة الأزمة، فعلى الرغم من أن الوباء نشأ في الصين، وتستَّرت عليه بكين في البداية وسمحت له بالانتشار، إلا أنها ستستفيد من الأزمة نسبيًا على الأقل. وكما حدث، فإنّ أداء الحكومات الأخرى كان هزيلًا في البداية وحاولت التستر عليه أيضًا بشكل أكثر وضوحًا وبعواقب أشدّ فتكًا بمواطنيها من الحالة الصينيّة، ومع ذلك تمكنت بكين على الأقل من استعادة السيطرة على الوضع، وهي في طور الانتقال إلى التحدي الموالي وهو إعادة اقتصادها إلى العمل بشكل سريع ومستدام.
وعلى النقيض من ذلك، أخفقت الولايات المتحدة في تعاملها مع الأزمة، وهيبتها تشهد تدهورًا بشكل كبير، رغم كونها البلاد التي تتمتع بقدرات دولة ذات إمكانيات هائلة، وتمكّنت من بناء سجل حافل مثير للإعجاب فيما يتعلق بالأزمات الوبائية السابقة، إلا أنّ مجتمعها الحالي شديد الاستقطاب وزعيمها غير الكفء منعا الدولة من العمل بفعالية. فقد قام الرئيس بإذكاء الانقسام بدلًا من تعزيز الوحدة، وتسييس توزيع المساعدات، ودفع المسؤولية إلى حكام الولايات لاتخاذ القرارات المهمة بينما يقوم هو بتشجيع الاحتجاجات ضدهم لحماية الصحة العامة، كما هاجم المؤسسات الدولية بدلًا من تحفيزها، والعالم اليوم بإمكانه مشاهدة التلفزيون ويتابع ذلك في ذهول، وسارعت الصين بجعل المقارنة بين أداء الدولتين واضحة.
إنّ هذا الوباء قد يؤدي إلى تدهور نسبي للولايات المتحدة على مدى السنوات القادمة واستمرار تآكل النظام الدولي الليبرالي، وصعود الفاشية في جميع أنحاء العالم، كما يمكن أن يؤدي أيضًا إلى ولادة جديدة للديمقراطية الليبرالية، وهي نظام أربك المتشككين عدة مرات، وأظهر قدرات لافتة من المرونة والتجدد، وستظهر عناصر كلا الرؤيتين في أماكن مختلفة من العالم، ولسوء الحظ إن لم تتغير الاتجاهات الحالية بشكل كبير، فإن التوقعات العامة قاتمة.
هل سيؤدي ذلك إلى صعود الفاشية؟
من السَّهل تصوّر النتائج المتشائمة لتفشي الوباء، وهي تزايد نزعات القومية والانعزالية وكراهية الأجانب، والهجمات على النظام العالمي الليبرالي لمدة سنوات، وهو اتجاه لن يسرعه سوى الوباء، فقد استغلت الحكومتان في المجر والفلبين الأزمة لمنح نفسها سلطات استثنائية، وهو ما جعلها أكثر بعدًا عن الديمقراطية، كما اتَّخذت العديد من البلدان الأخرى بما في ذلك الصين والسلفادور وأوغندا تدابير مماثلة، بحيث ظهرت عراقيل أمام حركة الناس في كل مكان، بما في ذلك في قلب أوروبا. وبدلًا من التعاون البنَّاء من أجل المصلحة المشتركة، تحوَّلت الدول إلى الداخل، تتخاصم فيما بينها، جاعلة من منافسيها كبش فداء سياسي للتغطية على إخفاقاتها الخاصّة.
وصعود النزعة القومية من شأنه أن يزيد من احتمالات نشوب صراع دولي، وقد يرى الزعماء أن المعارك مع الأجانب تشكل إلهاء سياسيًّا داخليًا مفيدًا، أو قد يغريهم ضعف أو انشغال خصومهم فيستغلون الوباء لزعزعة استقرار أهدافهم المفضلة، أو خلق وقائع جديدة على الأرض. ورغم ذلك فإنّه في وجود القوة المستمرة المثبّتة للاستقرار، وهي الأسلحة النووية والتحديات المشتركة التي تواجه جميع اللاعبين الرئيسيين، فإن إمكانية حدوث اضطراب دولي أقل احتمالًا من حدوث اضطراب محلي.
وستتعرَّض البلدان الفقيرة ذات المدن المزدحمة وأنظمة الصحَّة العامَّة الضعيفة لضربة قوية، ليس فقط على مستوى التباعد الاجتماعي ولكن حتى على مستوى النظافة الصحية البسيطة مثل غسل الأيدي، الذي هو أمر في غاية الصعوبة في البلدان التي لا يحصل فيها الكثير من المواطنين على المياه النظيفة بشكل منتظم. وكثيرًا ما جعلت هذه الحكومات الأمور أكثر سوءًا بدلًا من تحسينها عمدًا، سواء عن طريق التحريض على التوترات الطائفية وتقويض التماسك الاجتماعي، أو ببساطة بسبب انعدام الكفاءة. فقد تسببت الهند على سبيل المثال في إضعاف نفسها بإعلانها إغلاقًا مفاجئًا على مستوى البلاد دون التفكير في العواقب المترتبة عن ذلك على عشرات الملايين من العمال المهاجرين الذين يتجمَّعون في كل مدنها الكبرى، فقد ذهب الكثيرون إلى منازلهم الريفية ناشرين المرض في جميع أنحاء البلاد، وبمجرد أن عكست الحكومة موقفها وبدأت في تقييد الحركة، وجد عدد كبير منهم أنفسهم محاصرين في المدن دون عمل أو مأوى أو رعاية.
وكما كان النزوح النَّاجم عن تغيُّر المناخ يشكّل بالفعل أزمة بطيئة الحركة تختمر في الجنوب العالمي، فإنّ الجائحة ستؤدي إلى تفاقم آثارها، جاعلة عددًا كبيرًا من السكان في البلدان النامية يعيشون وضعًا أقرب إلى الكفاف. لقد حطَّمت هذه الأزمة آمال مئات الملايين من الناس في البلدان الفقيرة الذين استفادوا من عقدين من النمو الاقتصادي المستدام، وسينمو الغضب الشعبي، ذلك أن تحطم التوقعات المتزايدة للمواطنين هو في النهاية وصفة كلاسيكية للثورة. وسوف يسعى اليائسون إلى الهجرة، وسيستغل القادة الديماغوجيون الموقف للاستيلاء على السلطة، وسيغتنم السياسيون الفاسدون الفرصة لسرقة ما يمكنهم سرقته، وستقوم العديد من الحكومات إما بتشديد الخناق على مواطنيها أو الانهيار. وفي أثناء ذلك، ستقابل موجة جديدة من محاولات الهجرة من جنوب الكرة الأرضية إلى شمالها بتعاطف أقل ومقاومة أكبر هذه المرة، حيث سيكون اتهام المهاجرين بجلب المرض وإحداث الفوضى أمرًا معقولًا أكثر هذه المرة.
وأخيرًا، لا يمكن التنبؤ بظهور ما يسمى بحكم التعريف بالبجعات السوداء**، لكن من المرجح أن ينظر المرء بشكل متزايد إلى أبعد من ذلك، فقد عززت الأوبئة السابقة الرؤى حول نهاية العالم، وظهور النزعات والأديان الجديدة التي نشأت في ظل وجود القلق الشديد الناجم عن المكابدات الطويلة الأمد، ويمكن اعتبار الفاشية في الواقع، إحدى هذه النزعات، فقد انبثقت عن العنف والاضطراب اللذين ولّدتهما الحرب العالمية الأولى وآثارها الكارثية. كما أن نظريّات المؤامرة التي كانت تزدهر عادة في أماكن مثل الشرق الأوسط، حيث كان الناس العاديون مستضعفين ويشعرون بالعجز، أصبحت تنتشر على نطاق واسع في جميع أنحاء البلدان الغنية أيضًا، ويرجع الفضل في ذلك جزئيًا إلى البيئة الإعلامية المتصدعة التي تسببها الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، إذ من المرجح أن توفر المعاناة المتواصلة مادَّة دسمة يستغلها الديماغوجيون الشعبويون.
أم إلى ديمقراطية قادرة على الصمود؟
ومع ذلك، وكما لم يؤدِّ الكساد العظيم إلى الفاشية فحسب، بل إلى إعادة تنشيط الديمقراطية الليبرالية، فإن هذا الوباء قد يؤدي إلى بعض النتائج السياسية الإيجابية أيضًا، لقد تطلَّب الأمر في كثير من الأحيان مثل هذه الصدمة الخارجية العظيمة لخروج الأنظمة السياسية المتصلبة من سباتها، وخلق الظروف المناسبة للإصلاح الهيكلي الذي طال انتظاره، ومن المرجَّح أن يتكرر هذا النمط مرة أخرى، على الأقل في بعض الأماكن.
فللتعامل مع الوباء تحبِّذ الوقائع العملية عنصري الاحترافية والخبرة، أمّا الديماغوجية وعدم الكفاءة فينكشفان بسهولة، ويجب أن يؤدي هذا في نهاية المطاف إلى تأثير مفيد في عمليّة الانتقاء، بمكافأة السياسيين والحكومات التي تصرفت بشكل جيد، ومعاقبة تلك التي تصرّفت بشكل سيئ. فعلى سبيل المثال حاول الرئيس البرازيلي جايير بولسونارو Jair Bolsonaro الذي قام بإفراغ المؤسسات الديمقراطية في بلاده بشكل مستمر في السنوات الأخيرة- الالتفاف خلال الأزمة وهو الآن يتخبط ويترأس كارثة صحية، كما حاول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين Vladimir Putin التقليل من أهمية الوباء في البداية، ثم ادعى أن روسيا سيطرت عليه، ولكنه سوف يغيِّر نبرته مرة أخرى مع انتشار كوفيد 19 في جميع أنحاء البلاد، لقد كانت شرعية بوتين تضعف بالفعل قبل الأزمة، وربما تسارعت هذه العملية الآن.
لقد سلَّط الوباء ضوءًا قويًّا على المؤسسات الموجودة في كل مكان، وكشف عن أوجه القصور والضعف فيها، كما عمَّقت الأزمة الفجوة بين الأغنياء والفقراء، شعوبًا ودولًا، وستزداد أكثر اثناء فترة الركود الاقتصادي الممتد. ولكن إلى جانب المشكلات، كشفت الأزمة أيضًا عن قدرة الحكومة على توفير الحلول بالاعتماد على الموارد الجماعية في هذه العملية، يمكن للإحساس الذي لازال قائما “لوحدنا سويَّة” “alone together”أن يعزٍّز التضامن الاجتماعي، ويدفع نحو عملية تطوير حماية اجتماعية أكثر سخاء، تمامًا كما حفَّزت المعاناة القومية المشتركة في الحرب العالمية الأولى والكساد على نمو دول الرفاه Welfare State في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي.
وقد تُخمد تلك الأشكال المتطرفة من النيوليبرالية إيديولوجية السوق الحرة التي ابتكرها اقتصاديو جامعة شيكاغو مثل جاري بيكر Gary Becker وميلتون فريدمان Milton Friedman وجورج ستيجلر George Stigle، فقد وفَّرت مدرسة شيكاغو خلال الثمانينيات تبريرًا فكريًا لسياسات الرئيس الأمريكي رونالد ريغان Ronald Reagan، ورئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر Margaret Thatcher، الذين اعتبرا الحكومة الكبيرة المتدخلة intrusive government عقبة أمام النمو الاقتصادي والتقدم البشري، والواقع أنه كانت هناك أسباب وجيهة في تلك الفترة لتقليص العديد من أشكال الملكية والتنظيم الحكوميين، لكن هذه الحجج تصلَّبت لتتحوّل إلى ديانة ليبرالية، مُرسِّخة العداء لعمل الدولة في جيل من المثقفين المحافظين، خاصة في الولايات المتحدة الأمريكيّة.
ونظرًا لأهمية الإجراءات القوية التي تتخذها الدولة لإبطاء الوباء، سيكون من الصعب ان نزعم كما فعل ريغان في خطاب تنصيبه الأوّل بأن “الحكومة ليست الحل لمشكلتنا.. الحكومة هي المشكلة”، ولن يتمكن أي شخص من تقديم حجة معقولة بأن القطاع الخاص والعمل الخيري يمكن أن يحلَّا محلَّ دولة مختصة أثناء حالة طوارئ وطنية، وخير مثال على الفرق الهائل بين الحالتين هو إعلان جاك دورسي Jack Dorsey، الرئيس التنفيذي لشركة Twitter في شهر نيسان/أبريل، أنَّه سيساهم بمليار دولار للإغاثة من كوفيد 19، وهو عمل خيري استثنائي، لكنه أقلّ بكثير من مبلغ 2.3 تريليون دولار الذي خصّصه الكونجرس الأمريكي في نفس الشهر لدعم الشركات والأفراد المتضررين من الوباء. ورغم أن مناهضة الدولة قد تطول بين المحتجين على الإغلاق، إلا أن استطلاعات الرأي تشير إلى أن الغالبية العظمى من الأمريكيين يثقون في نصائح خبراء الصحة الحكوميين في التعامل مع الأزمة، وهذا يمكن أن يزيد من الدعم للتدخلات الحكومية لمعالجة المشاكل الاجتماعية الرئيسية الأخرى.
كما قد تشجّع الأزمة في نهاية المطاف على تجديد التعاون الدولي، وبينما يلعب الزعماء الوطنيون لعبة إلقاء اللوم فيما بينهم، يعمل العلماء ومسؤولو الصحة العامة في جميع أنحاء العالم على تعميق شبكاتهم وروابطهم، وحتى إذا أدى انهيار التعاون الدولي إلى كارثة وحُكم عليه بالفشل، فإن الحقبة التي تلي ذلك قد تشهد التزامًا متجددًا بالعمل متعدد الأطراف لتعزيز المصالح المشتركة.
لا ترفع سقف آمالك
لقد كان الوباء بمثابة اختبار إجهاد سياسي عالمي a stress test وستخرج منه البلدان ذات الحكومات القادرة والشرعية بشكل جيد نسبيًا، وقد تتبنى إصلاحات تجعلها أقوى وأكثر مرونة، مما يسهِّل أداءها المتفوق في المستقبل، أما البلدان ذات القدرات الحكومية الضئيلة أو ذات القيادة الضعيفة فستكون في مأزق، وعرضة للركود، إن لم يكن لتفشي الفقر وعدم الاستقرار، والمشكلة هي أن المجموعة الثانية أكبر بكثير من المجموعة الأولى.
والمؤسف في الأمر أن اختبار الإجهاد هذا كان صعبًا للغاية لدرجة أنه من المحتمل أن لا يجتازه سوى عدد قليل جدًا، فللتعامل مع المراحل الأولية للأزمة بنجاح، لم تكن البلدان بحاجة إلى الحكومات القادرة والموارد الكافية فحسب، بل إلى قدر كبير من التوافق الاجتماعي، والقادة الأكفاء الذين بثوا الثقة في أوساط شعوبهم. وقد لبت كوريا الجنوبية هذه الحاجة، بتفويضها إدارة الوباء إلى جهاز إداري صحي محترف، وهو ما فعلته أيضا رئيسة وزراء ألمانيا أنجيلا ميركل، ومع ذلك فإن الأكثر شيوعا بكثير هي تلك الحكومات التي قصرت بشكل أو بآخر. وبما أنه سيكون من الصعب أيضًا إدارة ما تبقى من الأزمة، فإنه من المرجح أن تستمر هذه الاتجاهات القوميّة، مما يجعل التفاؤل بشكل أكبر أمرًا صعبًا.
وهناك سبب آخر يدعو للتشاؤم يتمثّل في كون السيناريوهات الإيجابية تفترض نوعًا من الخطاب العام العقلاني والتعلم الاجتماعي، في حين أن الصلة بين الخبرة التكنوقراطية والسياسة العامة أضعف اليوم مما كانت عليه في الماضي عندما كانت النخب تتمتع بسلطة أكبر، فقد أدى إضفاء الديمقراطية على السلطة التي حفزتها الثورة الرقمية إلى تسوية التسلسل الهرمي للمعرفة إلى جانب التسلسلات الهرمية الأخرى، وأصبح اتخاذ القرار السياسي الآن مُدجَّجًا بالثرثرة، وهذه بالكاد بيئة مثالية لمراجعة جماعية بنّاءة للذّات، ومع ذلك قد تبقى بعض الأنظمة السياسية غير راشدة لفترة أطول مما يمكنها أن تظل قادرة على حلحلة الوضع.
الصلة بين الخبرة التكنوقراطية والسياسة العامة أضعف اليوم مما كانت عليه في الماضي عندما كانت النخب تتمتع بسلطة أكبر
المتغير الأكبر في المشهد هو الولايات المتحدة، وقد كان سوء حظ البلاد الوحيد أن يكون الزعيم الأقل كفاءة والأكثر إثارة للانقسام في تاريخها الحديث في دفة القيادة عندما حلت هذه الأزمة، ولم تتغير طريقته في الحكم حتى تحت الضغط، فبعد أن أمضى ترامب ولايته في حالة حرب مع الدولة التي يترأسها، لم يكن قادرًا على توسيع ولايته بشكل فعال عندما اقتضى الوضع ذلك، وبعد أن رأى بأن أفضل ما يخدم ثرواته السياسية هو المواجهة والضغينة بدل الوحدة الوطنية، راح يستخدم الأزمة لافتعال النزاعات، وزيادة الانقسامات الاجتماعية. ورغم أن ضعف الأداء الأمريكي خلال الوباء يعود إلى عدة أسباب، إلا أنّ أهمها هو فشل زعيم وطني في القيادة.
وإذا ما منح الرئيس ولاية ثانية في تشرين الثاني/نوفمبر، فإن فرص انبعاث الديمقراطية بشكل أوسع أو النظام العالمي الليبرالي ستتضاءل، ومع ذلك فإنه ومهما كانت نتيجة الانتخابات فإن من المرجح أن يبقى الاستقطاب العميق في الولايات المتحدة، كما أن إجراء انتخابات أثناء الوباء سيكون عسيرًا، وستكون هناك حوافز للخاسرين الساخطين لتحدي شرعيتها. وحتى وإذا حكم الديمقراطيون البيت الأبيض وغرفتي الكونجرس معًا، فإنهم سيرثون دولة في حالة من الضعف، وستواجه المطالب بالفعل جبالًا من الديون والمقاومة الشديدة من بقايا المعارضة، وستكون المؤسسات الوطنية والدولية ضعيفة ومترنحة بعد سنوات من الانتهاك، وسوف يستغرق الأمر سنوات لإعادة بنائها – هذا إذا كان ذلك لا يزال ممكنًا على الإطلاق.
ومع المرحلة الأكثر إلحاحًا ومأساوية من ماضي الأزمة، يتجه العالم نحو عمل مضني وطويل ومحبط. سيخرج منه في النهاية، مناطق أسرع من الأخرى، ولكن من غير المرجح أن تحدث اضطرابات عالمية عنيفة، فقد أثبتت الديمقراطية والرأسمالية والولايات المتحدة جميعها، من قبل، أنها قادرة على التحول والتكيف، لكنها ستحتاج إلى سحب أرنب من القبعة مرة أخرى.
هوامش:
* نماذج التعافي الاقتصادي المذكورة: الشكل الذي يأخذ حرف (V)يعني أن حدوث ارتفاع وتحسن سريع بعد بلوغ ذروة الركود الاقتصادي. النموذج الذي يأخذ شكل حرف (W) حيث يتعافى الاقتصاد بشكل سريع من الركود ولكن لا يستمر طويلا وتنتكس المؤشرات الاقتصادية مرة أخرى وتدخل في حالة تراجع كبير من جديد، أما النموذج الثالث للتعافي الاقتصادي يأخذ شكل حرف (W) حيث يتعافى الاقتصاد بشكل سريع من الركود ولكن لا يستمر طويلًا وتنتكس المؤشرات الاقتصادية مرة أخرى وتدخل في حالة تراجع كبير من جديد (المترجمة).
** نظرية البجعة السوداء (Black Swan Theory): نظرية تشير إلى عدم القدرة على التنبؤ بالأحداث النادرة وكأنها مستحيلة الحدوث. أخذت النظرية اسمها من طائر البجع، حيث كان الاعتقاد سائدًا أن كل طيور هذا النوع لونها أبيض، حتى تم اكتشاف البجع الأسود في غرب أستراليا في القرن الثامن عشر.
حتى يأخذ حدث ما صفة البجعة السوداء، يجب أن يكون مفاجئًا غير قابل للتوقع وله تأثير كبير، وبعد وقوعه تظهر التفسيرات التي تعتبِره قابلاً للتوقع. من الأمثلة على أحداث البجعة السوداء اختراعات الحاسوب والإنترنت وهجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001.
وصف النظرية الباحث اللبناني نسيم نقولا في كتابه “البجعة السوداء” (The Black Swan) عام 2007، إلا أن أول من استخدم المصطلح كان الاقتصادي جون ستيوارت ميل في القرن التاسع عشر عند حديثه حول تحديد التزييف (المترجمة)
الترا صوت
——————————-
سوريا:كورونا خارج السيطرة..وندرة الأكسجين وأسرة المستشفيات
حذرت منظمة “Save The Children”، من أن جائحة فيروس كورونا لا تزال خارج السيطرة في سوريا، مع نقص حاد ومزمن في المياه وأجهزة الأكسجين وأسرة المستشفيات خاصة شمالي غرب البلاد.
وقالت المنظمة إن الإصابات تضاعفت بمعدل أربع مرات خلال شهرين، إذ أن عدد حالات الإصابة في شمالي غرب سوريا خرج عن السيطرة، في وقت تمّت فيه إضافة 4 أجهزة تنفس فقط و64 سريراً لوحدة العناية المركزة منذ آذار\مارس 2020، ليصل المجموع إلى 157 جهاز تنفس و 212 سريراً.
وفي تقريرها الذي نشرته مؤخراً قالت المنظمة إن عدد الحالات المؤكدة إصابتها بفيروس كورونا تجاوز 40 ألف حالة، مع تسجيل 1355 حالة وفاة رسمياً، وأكثر من 10 ألاف حالة في منطقة شمالي غرب البلاد لوحدها، و8100 في الشمال الشرقي، علماً أن الأرقام ربما تكون مختلفة عن الواقع بظل عدم كفاية الاختبارات ونقص الإمدادات الطبية.
وتبلغ الأرقام الرسمية بمناطق سيطرة النظام، 11616 مصاباً و723 وفاة، وهي أرقام مشكوك فيها، حيث تتجاوز الحصيلة الحقيقة للإصابات الأرقام المعلنة بشكل كبير وفقاً لتقارير صحافية.
وبحسب إحصائية قدمها فريق “منسقو استجابة سوريا”، وصلت نسبة الإصابة في المخيمات إلى أكثر من 10 في المئة من مجموع الإصابات المسجلة في المنطقة، بعد أن تجاوزت أعداد الإصابة 17.7 ألف حالة، حسب إحصائية الفريق الصادرة في 8 كانون الأول\ديسمبر 2020.
واعتبرت مديرة الاستجابة لسوريا في المنظمة سونيا كوش أن “جميع الأسباب متوفرة لاعتبار أن الوضع أسوأ بكثير مما تخبرنا به الأرقام، لاسيما أن جميع البيانات المتوفرة لدينا تشير إلى أن أعداد حالات الإصابة بفيروس كورونا المستجد تتزايد بسرعة أكبر بكثير من القدرة المحدودة لقطاع الصحة في سوريا”.
وأضافت كوش أنه “حتى البلدان التي لديها أكثر أنظمة الرعاية الصحية تقدماً، فهي تكافح من أجل ضبط الزيادة الأخيرة في الحالات”، مشيرة إلى واقع “العائلات النازحة في مخيم مكتظ دون إمكانية الحصول على العلاج أو الحماية، والذين لا يعرفون ما إذا كانوا سيهربون من الأعمال العدائية المستمرة أو يجدون الحماية من الجائحة المتفشية”.
ودعت المنظمة الدول المانحة إلى زيادة تمويلها للأسر المحتاجة في شمالي غرب البلاد، حيث تكافح الجائحة وظروف الحرب المستمرة في منطقة شهدت عقداً من الصراع والدمار، للسماح للأطفال بالعودة الآمنة إلى التعليم، واستمرار الوصول إلى السكان من خلال آلية الأمم المتحدة عبر الحدود.
وفي نهاية حزيران/يونيو 2020، حذرت منظمة الصحة العالمية من مخاطر تفشي أوبئة جديدة في سوريا، بسبب انخفاض الإقبال على تطعيم وتلقيح الأطفال المرتبط بالمخاوف من انتشار فيروس كورونا والقيود المفروضة على الحركة في البلاد.
المدن
——————————-
“كورونا خارج السيطرة في سوريا”.. بيانات متباينة ونقص في الأكسجين والأسرة
في ظل التشكيك بالأرقام الرسمية الصادرة عن وزارة الصحة السورية بخصوص عدد الحالات المصابة بفيروس كورونا المستجد، وعدم كفاية الاختبارات، يبدو أنّ المستشفيات وصلت إلى مرحلة الخطر بعد نقص حاد في الأكسجين وغياب للأسرة الشاغرة.
أرقام متباينة
وفي معدل دون المئة إصابة يومياً تعلن وزارة الصحة مستجدات الجائحة في البلاد، معلنة عن تسجيل 95 إصابة جديدة بالفيروس، أمس الجمعة، بينهم “25 في دمشق، 18 في طرطوس، 15 في حمص، 15 في اللاذقية ما يرفع العدد الإجمالي إلى 12179.
في المقابل، حذرت منظمة “Save The Children”، في تقرير لها، من أنّ جائحة فيروس كورونا لا تزال خارج السيطرة في سوريا، التي تعاني من نقص حاد في أسرة المستشفيات، المياه، والأكسجين، لاسيما شمالي غرب البلاد، حيث تضاعفت معدلات الإصابة بمعدل أربع مرات في شهرين.
وتجاوزت عدد الحالات المؤكدة 40 ألف حالة، مع تسجيل 1355 حالة وفاة رسمياً، وأكثر من 10 ألف حالة في منطقة شمال غربي سوريا وحدها، و 8100 في الشمال الشرقي، علماً أنّ الأرقام قد تكون مختلفة تماماً عن الواقع في ظل عدم كفاية الاختبارات ونقص الإمدادات الطبية، بحسب المنظمة
كما كشف المرصد السوري لحقوق الإنسان، الأحد الماضي، أنّ الأعداد الحقيقية للمصابين بفيروس كورونا في مناطق النظام تجاوز 133 ألفا، توفي منهم 8400 شخص، فيما تبلغ الأرقام الرسمية 11616 مصابا و723 وفاة.
واتهم المرصد النظام السوري بالتستر على الأعداد الحقيقية للإصابات والوفيات ضمن مناطق سيطرته.
ازدياد الحالات ونقص الإمدادات
ووفقاً للمنظمة، تضاعف عدد المصابين بمعدل أربع مرات بين 1 نوفمبر و31 ديسمبر من العام 2020، في وقت لم تتوفر سوى أربعة أجهزة تهوية، و64 سريراً لوحدة العناية المركزة في المنطقة، ليصل المجموع إلى 157 جهازاً و212 سريراً.
واعتبرت مديرة الاستجابة لسوريا في “Save The Children”، سونيا كوش، أنّ “جميع الأسباب متوفرة لاعتبار أنّ الوضع أسوأ بكثير مما تخبرنا به الأرقام، لاسيما أنّ جميع البيانات المتوفرة لدينا تشير إلى أنّ أعداد حالات الإصابة بفيروس كورونا المستجد تتزايد بسرعة أكبر بكثير من القدرة المحدودة لقطاع الصحة في سوريا”.
الشتاء طويل
وأضافت كوش أنّه “حتى البلدان التي لديها أكثر أنظمة الرعاية الصحية تقدماً، فهي تكافح من أجل ضبط الزيادة الأخيرة في الحالات”، مشيرة إلى واقع “العائلات النازحة في مخيم مكتظ دون إمكانية الحصول على العلاج أو الحماية، والذين لا يعرفون ما إذا كانوا سيهربون من الأعمال العدائية المستمرة أو يجدون الحماية من الجائحة المتفشية”.
وختمت بالقول “أثر الجائحة والفقر سيجعلا من هذا الشتاء طويلاً للأسر المستضعفة داخل مخيمات النزوح”، داعية أطراف النزاع إلى “وقف شامل للأعمال العدائية وضمان قدرة العاملين في المجال الإنساني على الاستجابة لمتطلبات الجائحة”.
بدورها، قالت نادين (من محافظة إدلب) إنه “أمر لا يطاق أنّ تمر الساعات بينما تكافح والدتك من أجل التنفس، وأنت تعلم أنك لا تستطيع فعل أي شيء”.
هذا وتحدث المرصد السوري، في وقت سابق، عن وفاة 172 طبيبا عام 2020 في مناطق سيطرة النظام السوري متأثرين بإصابتهم بفيروس كورونا، بالإضافة إلى تسعة أطباء ضمن مناطق نفوذ الجماعات المتصارعة في سوريا.
وقال المرصد إن وفاة هذا العدد الكبير من الأطباء جاءت في الوقت الذي تعاني فيه المحافظات السورية من قلة الكوادر الطبية، بسبب هجرة “عدد كبير” من الأطباء والعاملين في قطاع الصحة إلى خارج البلاد.
وقال المرصد إنه “وثق وفيات الأطباء بفيروس كورونا بالأسماء”، مضيفا أن هناك 7 أطباء توفوا في مناطق الفصائل وهيئة تحرير الشام، وطبيبان توفيا في مناطق نفوذ قوات سوريا الديمقراطية.
تحذيرات دولية
وفي نوفمبر الماضي، قالت منظمة العفو الدولية إن النظام السوري فشل في اعتماد إجراءات للحد من انتشار فيروس كورونا، أو توفير معلومات شفافة عن مدى انتشار المرض في البلاد أو إنشاء نظام فعال للفحوص، كما أنه فشل بتوفير الحماية للكوادر الطبية.
وقالت المنظمة إن أهالي المرضى اضطروا إلى استئجار غرف خاصة لمرضاهم بعد أن رفضت المستشفيات العامة استقبالهم بسبب نقص الأسرة، كما أن العديد من المرضى دفعوا رسوما باهظة لاستئجار عبوات الأكسجين وأجهزة التنفس الصناعي.
وفي نهاية يونيو الماضي، حذرت منظمة الصحة العالمية من مخاطر تفشي أوبئة جديدة في سوريا، بسبب انخفاض الإقبال على تطعيم وتلقيح الأطفال المرتبط بالمخاوف من انتشار فيروس كورونا والقيود المفروضة على الحركة في البلاد.
السوريون في لبنان.. ضحايا للعنصرية والاستغلال السياسي والأفعال الشائنة
حين بدأ اللجوء السوري إلى لبنان عام 2011 هرباً من العنف الممارس من قبل النظام بحق مواطنيه، انقسم المجتمع اللبناني بين مُرحب ورافض. لكل فئة اعتباراتها التي غالباً ما تكون مبنية على موقف سياسي أو طائفي وهو الشائع في لبنان، وقلة قليلة كان موقفها نابع من منطلقات إنسانية بحتة بلا حسابات سياسية أو غيرها.
الحرة – دبي
—————————-
=====================
تحديث 11 كانون الثاني 2021
———————————
حكايات عن “فايزر”: شعرية المصادفة ومُعجزة رأس المال/ عمّار المأمون
أنقذت شركة “فايزر” للدواء البشريّة مرتين، الأولى عام 1989 والثانية عام 2019، في كلا التاريخين كان هناك “مرضٌ” لا مرئيّ يُهدد حياة الناس، وبصورة أدق، يهدد استمرارهم وقدرتهم على البقاء.
ونستخدم هنا عبارة “أنقذت البشريّة” من وجهة نظر حكائيّة، مفترضين أن هناك خَطراً يُهدد “الجميع”، وقد ينسف “وجودهم” وينفي “أشباههم” من العالم، وفي المقابل هناك جهة، فرد أو مؤسسة، هي “فايزر” في حالتنا، قادرة على تقديم حلٍ أو صيغة سحرية من أجل إنقاذنا.
لا تهمنا العمليّة الحرفيّة لإنتاج الدواء في هذه القراءة، بل مكونات الحكاية الشعبيّة إن صح التعبير وهي: مرض خفيّ، خطر مهيمن، هلع جماهيري، حلّ سحريّ. يُقدم العِلم نفسه عبر هذه الحكايات بصورة مُبسّطة ذات خصائص أسطوريّة في بعض الأحيان، ما يمكّن “الجميع” من تداولها وتناقلها بعيداً من الحيثيات والتفاصيل، والأهم أن هذه الحكاية تتبناها السلطة لاحقاً، المسؤول الأوّل عن صحّة الأفراد.
حكايات ما قبل “فايزر”
بالعودة إلى “فايزر”، الحكاية الأولى هي اكتشاف “الفياغرا”، ذات الهالة السحريّة، تلك الحبة الزرقاء القادرة على “علاج” ضعف الانتصاب لدى الذكور، والتي فتحت باباً جديداً في العلاقة مع الطبيب. هذه الحبّة، وقفت بوجه مرضٍ صامتٍ، أعراضه الآنيّة الخجل، الإحراج، والعنف أحياناً، وتلك التي على المدى الطويل، تتمثل بتهديد القدرة على “التكاثر” والاستمرار.
المثير للاهتمام في حكاية اكتشاف الفياغرا هي المصادفة، فبينما كان العلماء والأطباء عام 1989 يطورون دواء لعلاج ضغط الدم المرتفع، لاحظوا أن واحدة من التركيبات الدوائيّة التي استخدموها، تزيد تدفق الدماء في القضيب الذكري، وإثر هذه المصادفة، ظهرت حبة الفياغرا، سلاح الرجل الخفيّ ومحقق أحلامه برهز لا نهائي.
حكاية الفياغرا تنتمي إلى تقاليد الحكاية العلميّة أو حكايات الاكتشافات العلميّة، تلك التي تظهر ضمنها المصادفة كعنصر سابق على لحظة الاكتشاف، هذه المصادفة إما خارج سياق البحث العلميّ ومختبراته، كحالة اكتشاف الجاذبيّة الأرضيّة، والتفاحة التي سقطت وألهمت نيوتن، أو مصادفة ضمن سياق العلم، كما حصل مع البنسلين، إذ سها ألكسندر فلامنغ عام 1929 في مختبره، وعاد لاحقاً لملاحظة عفن فطر البينلسوم.
يمكن التنويع إلى ما لا نهايّة في حكايات المصادفة ومكونتها، لكن ما يتشابه هو تلك الهالة التي تحيط بالاكتشاف العلميّ، بوصفه موجوداً في الطبيعة، وعلينا رصده وحسب، هذا الرصد قد يكون خارج سياق البحث العلمي بأكمله، لكن “عين” الباحث الخبيرة هي ما تجعله ممكناً، كونه يحدّق في المصادفة، ويفسّرها “علمياً”.
الأبطال الخارقون يواجهون أزمة، فهل أنهى فايروس “كورونا” عهد الأبطال الأفراد، هذا السؤال يطرحه نواه بيرلتسكي في مقالة في “الغارديان”، وفيه نكتشف أن المتخيلات التي قدمت في الصناعة الثقافيّة عن الأفراد المُنقذين أصحاب القوة والبداهة غير مجدية
حكاية اللقاح بحسب “فايزر” مثيرة للاهتمام، إذ رفضت الشركة بداية التمويل الفيدراليّ، كما أن الشركتين كانتا على يقين بأن “الأمر ليس رهاناً، بل اكتشاف، فكل ما يقع تحت أيديهم جديد” بحسب كاثرين جانسون الباحثة في شركة “فايزر”، أي أن هناك منهجيّة علميّة واكتشافاً مرافقاً لها لم يأتيا مصادفةً، بل إثر عملية طويلة كانت ترتبط بتطوير لقاح للإنفلونزا.
استُبدلت المصادفة في حالة لقاح “كورونا” بالقرار التنفيذيّ، إذ يقول ألبيرت بورلا المدير التنفيذي لـ”فايزر” ورجل الأعمال، إنه يؤمن بثلاثة أشياء أنتجت اللقاح “قوّة العلم، الشركات الخاصة، والمعجزة التي تنشأ من اتحادهما”.
تثير هذه الكلمات القشعريرة حين ينطقها بورلا، خلاص البشريّة نتاج مُعجزة رأسماليّة تقودها الشركات الخاصة العابرة للقارات، لا العبقرية الفرديّة والهوس والتصميم والمصادفات المرتبطة بهما، أي لا مكان للعبقريّة الفرديّة بل المغامرة الرأسماليّة.
هذه النقلة من العبقريّة الفرديّة/ المصادفة إلى سطوة رأس المال وقراراته الحيويّة ورهاناته، ترتبط بالصناعة الدوائية نفسها، إذ شجعت الحكومة الأميركيّة الشركات الدوائيّة على إنتاج البنسلين بكميات صناعيّة، لكن في حالة الفياغرا، سلطة “فايزر” بقيت الأقوى، وللحفاظ على حصتها المهيمنة في السوق، أنتجت بديلاً أرخص عن الفياغرا، باسم Sildenafil، بنصف ثمن الحبة الزرقاء.
ثلاثة أشياء أنتجت اللقاح “قوّة العلم، الشركات الخاصة، والمعجزة التي تنشأ من اتحادهما”.
الأهم ولأن العالم حينها كان أقل جنوناً، تبنت السلطة ورجالاتها الفياغرا في مواجهة ضعف الانتصاب، إذ ظهر بوب دول الذي ترشح للرئاسة بمواجهة بيل كلينتون في إعلان للفياغرا عام 1998، ليفتح باب الجدل، وينتصر للعلم، ويكسر الإحراج المرتبط بهذا المرض.
على النقيض، عام 2019، في زمنٍ الوباء فيه معروف، ومُحدد ولا خجل في الحديث عنه، ظهر دونالد ترامب، رئيس الولايات المتحدة الأميركيّة، وشكك بداية بالمرض، ثم اقترح حلاً سهلاً ورخيصاً، شرب الكلور والمُبيض.
البطل الخارق VS المدير التنفيذي
حكايات العلم في القرن الماضي تراهن على الفرديّة، والشخص العبقري، أو صاحب القوى الخارقة القادر على إنقاذ الجميع، كأي بطل خارق، كابتن أميركا، بات مان، أيرون مان، الخلاص مصدره الفرد ومرتبط باسم شخص واحد، جورج بوش قاتل صدام حسين، أوباما قاتل أسامة بن لادن، وعلى النقيض، الأوبئة مصدرها الشركات الخاصة دوماً، كشركة “أمبريلا” كما في لعبة resident evil، والتي طورت الفايروس الذي حول الناس إلى موتى-أحياء.
أما في الألفية الجديدة، وفي قراءة معاكسة للمنطق السابق، الأبطال الخارقون يواجهون أزمة، فهل أنهى فايروس “كورونا” عهد الأبطال الأفراد، هذا السؤال يطرحه نواه بيرلتسكي في مقالة في “الغارديان”، وفيه نكتشف أن المتخيلات التي قدمت في الصناعة الثقافيّة عن الأفراد المُنقذين أصحاب القوة والبداهة غير مجدية، فلا أحد منهم قادر على إنقاذنا من الوباء، ثم السلطة الأقوى في العالم، نصح رأسها بشرب الكلور، وهنا تظهر “فايزر” كبشارة للعصر الجديد، حيث لا مكان للفردانيّة، ولا للمصادفة، “الشركة” تمتلك الحلّ، أما “المعجزة” فليست سوى قرار تنفيذي، المسؤول عنه الـCEO.
درج
سيكولوجيا الأوبئة في سورية/ سوسن جميل حسن
ليس الوباء الأول في تاريخ البشرية، ولن يكون الأخير. دائمًا هناك ناجون عايشوا الوضع بأعتى حالاته، وحملوا الآثار الرهيبة النفسية والاجتماعية، وعلى مدى أجيال، كانت بواسطتها تتناقل الذاكرة المؤلمة من جيل إلى آخر، عن طريق السرديات الشفهية أو الأمثال أو العادات التي أحدثها الوباء في سلوك الأفراد والجماعات، وعن طريق الأدب والفن. فالأوبئة مثل الحروب والكوارث الطبيعية، بما تشكّله من تحوّلات كبرى في طبيعة الحياة والمجتمعات، وبما تنتجه من قيم وأفكار وأنماط مختلفة للحياة الإنسانية، واهتمام الدارسين والباحثين في مجالات العلوم المختلفة، وبشكل خاص في العلوم الاجتماعية، أدّى إلى ما تسمى سيكولوجيا الأوبئة، مثلما هناك سيكولوجيا الحروب التي تهتم بقضية الانعكاسات النفسية التي تخلفها الحروب والكوارث في نفوس الأشخاص الذين يتعرّضون لها ويعانون منها، فكيف إذا اجتمعت الحرب مع الوباء، كما هو حاصل اليوم في سورية وغيرها من بلدان عربية؟ بل يمكن القول إنها سلسلة من القمع والتعذيب والسطو على الحياة، آخر حلقاتها كانت الحرب، ثم الوباء.
تعاني المجتمعات في الداخل السوري، وفي كل مناطقه، سواء الخاضعة للنظام أم الأخرى الواقعة تحت سيطرة قوى أخرى، محلية أو خارجية، من مشكلات تفوق التصور، لتناقضها البالغ مع قيم العصر التي يفترض أن تكون منصفةً ومتوفرةً لكل شعوب الأرض، عصر الحقوق الإنسانية. وإذا ما رصدنا سلوك الأفراد في تلك المجتمعات، فإننا نلمس أنماطًا منها جديرة بالتوقف عندها ودراستها. لكن العالم كله لم يكن على المستوى المطلوب من الجدّية والاهتمام بهذه الظواهر قبل كورونا، فكيف بعدها، وقد صار الوباء المتغوّل في حياة البشرية يزداد جبروتًا، ويهز أعتى العروش وأقواها في العالم؟ الوباء اليوم يكشف عن وجه آخر زيادة عمّا كشفته وعرّته الحرب خلال السنوات العشر، ممّا كان مخفيًّا تحت أقنعةٍ راكمتها عقود من القهر والتسلط والاستلاب، فتجلّت المشكلات البنيوية المتجذّرة في اللاوعي الجمعي، والتي جعلت النسيج المجتمعي مهترئًا سهل التمزق والتهتّك، وعدم الاعتراف بهذه المشاكل مكابرة لا تخدم القضايا بشيء، بل تعرقل محاولات العلاج والتعافي والنهوض.
أخطر ما مرّ على الشعب السوري هو الحرب النفسية، مدعومة بالضخ الإعلامي من كل الجهات المسيّسة، ومن خلال مواقع التواصل الاجتماعي، فهي تحطّم الشخصية، وتشيع فيها التحلل، فيضطرب سلوكها، وتصبح شخصيةً غير سويّة، ما يؤثر بشكل خطير على سلامة المجتمع وفعاليته، وهذا ما صار واضحًا في تعامل المجتمع، بغالبية أفراده مع مبادئ (وإجراءات) الوقاية من الوباء، على الرغم من أن انتشاره سريع، وضحاياه كثر، أمام أعين الجميع. النسبة العظمى من هؤلاء لا تكفّ عن التشكيك بالتصريحات الحكومية عن هذا الأمر حول عدد الإصابات اليومي إلى عدد الضحايا إلى التباهي بالإمكانات التي تقدّمها الحكومة، وعلى الرغم من ظروف الحرب والحصار الأميركي والأوروبي على سورية “الممانعة” التي تتعرّض لأكبر مؤامرة في العصر الحديث والمعاصر.
فقد الشعب السوري، في غالبيته، ثقته بالحكومة والنظام. وكذلك في المقلب الآخر، حيث تسيطر فصائل مرتهنة للخارج بقوة السلاح، وتفرض شرعها وأجنداتها على الساكنين، لكن هؤلاء الخاضعين لسيطرتها يعانون من المشكلات ذاتها والتسلّط والتشبيح عينهما والفقر والحرمان والاستغلال، كما لو أن كل الأرواح التي زهقت لم تغيّر شيئًا في حياتهم، بل على العكس ازدادت بؤسًا. ولكن هل يمكن قبول هذا السلوك غير المسؤول الذي يؤدي إلى كارثةٍ أخرى بحق هذا الشعب، بدعوى أن الناس فقدوا الاهتمام وشغف الحياة من شدّة المظالم والانتهاكات التي يتعرّضون لها؟ اللامبالاة والسلوك العبثي لا ينمّان عن عدمية فقط، بل ينمّان عن انهيار منظومة القيم والأخلاق والمعرفة والوعي. في تعريض صحة الآخرين للخطر، بحجّة أنني لم أعد آبه بالموت، طالما الحياة لا تكفّ عن قضم روحي وبطني وجسدي، حدّ كبير من الأنانية وعدم الإحساس بالجماعة الإنسانية، ولكن الانزياح الأخلاقي والقيمي وانحدار الوعي كانا قد بلغا الذروة قبل الوباء، بسبب عشر سنوات من الجحيم السوري، أدّت إلى ترسّخ ملامح المجتمع العميق وإشهاره من دون مواربة، فما كان مستبطنًا تحت قشرة الواقع من تغلغل النسغ الحامل موروثا صاغ هويّة عميقة متشبثة بروح المجتمعات، كشفته الحرب وعرّته بالكامل أزمة كورونا.
يوميًّا، هناك حفلات افتتاح محلات تجارية أو خدمية أو مطاعم أو مقاهٍ، في وقت تضرب المجاعة أطنابها بين حوالي 90% من الشعب، حفلات يتزاحم فيها الناس من دون ارتداء الأقنعة أو التباعد، تقام مبارياتٌ رياضيةٌ، ويغزو الجمهور المدرّجات متلاصقين يصرخون ويهتفون طول الوقت، حتى يتطاير من أفواههم رذاذٌ يمطر حقولًا واسعة، ثم يضرمون معاركهم بعد المباريات. المطاعم مفتوحة، المدارس تفتقر للحد الأدنى من مستلزمات العملية التربوية والتعليمية قبل كورونا. وازدادت، بعدها الأعراس والحفلات والتجمعات بكل طريقة، ولكل سببٍ يمكن أن يخطر على البال، والنتيجة أعداد كبيرة من المصابين ومن الضحايا. لكن الضحايا التي تدفع الثمن الأكبر هي عناصر القطاع الصحي، خصوصا الأطباء، في وقتٍ تعاني منه سورية من قلة الأطباء، بسبب الحرب التي إمّا هجّرتهم خارج البلاد، أو قذفت بهم إلى المواقع القتالية لتلبية نداء الواجب “الوطني”، ومن بقي يحصده وباء كوفيد – 19، والناس غير مبالين بكل هذا الكم من الموت.
المتابع لواقع الحياة السورية سوف تربكه الملاحظات التي تنسف معظم استقراءات (ومدونات) سيكولوجيا الأوبئة التي جهد الباحثون والمتخصصون في تشكيلها. فالعناوين العريضة التي استخلصتها الأبحاث لا تصحّ على الحياة السورية الموّارة بأنماط سلوكية مغايرة، فمقولة سقوط العقلانية الهشّة الناظمة للفعاليات اليومية تفيد بأن غالبية البشر قادرون على الحفاظ على قدرٍ من العقلانية في الفترات الهادئة من حياتهم، بمعنى أن هناك روتينًا يضبط إيقاع الحياة، وأن الأزمات من هذا النوع تهدم هذه القدرة، بدافع القلق والخوف، فإن السوري لم يملك ترف صياغة روتين لحياته منذ عقود، فلم يكن يحظى بحق اختراع حياته كما يريد من الأساس، حتى يؤسس لها روتينها الخاص. ثم نسفت الحرب ما بقي من حلمٍ في هذا المجال، وصارت حياة السوري في حالة تحوّلٍ دائمٍ من أجل التكيّف مع الشروط المتبدّلة الماشية نحو الانهيار. أما مقولة الخوف من العيش في المجهول الذي يفجّره الوباء في صدور الناس، ويجعلهم في حالة قلق وجودي، وخوف على حياتهم، وخوفهم من الآخر الذي سيجلب له العدوى، فإن السوري تجاوزه، منذ جاوره الموت بأشكالٍ لا تحصى، ولم يحتملها شعب قبل اليوم، والشك بالآخر ورفضه ومحاولة إقصائه عن مجال حياته الآمن، والذي لم يعد آمنًا، فقد استشرى واستباح حياة السوريين منذ بداية العقد الماضي، وباكرًا في عمر الانتفاضة التي تحوّلت إلى حرب.
وبالنسبة إلى الاضطراب والتذبذب بين الشك واليقين، بين الإيمان والإلحاد فقد أظهرته أيضًا سنوات الحرب، وأدّى العنف غير المسبوق الممارس بحق الشعب من قبل النظام، ومن كل أطراف الصراع، إلى تجذّر الانتماء الديني، والجنوح نحو بناء المواقف من السياسة والحياة وقضايا العيش من خلال الدين والشريعة ورأي المرشدين أو الفقهاء ومشايخ الدين. أكثر من ذلك، جرى الالتصاق المتين بجسد الجماعة، طائفيًا أو مذهبيًا أو قوميًا إلى درجة الإيمان. لكن يمكن القول إن هناك نزوعًا بدأ ينمو نحو اللادين، أو بمعنى أدق نحو الإلحاد، وهو من أشكال الإيمان بعقيدةٍ ما، لكن كورونا ليس السبب، بل سبقته الحرب وويلاتها وانسداد الأفق.
أما القول بالانجراف نحو الشائعات وتبنّي نظرية المؤامرة، فهو من أهم ملامح الأزمة السورية التي نادى بها قسم كبير من الشعب، ودعمه الخطاب الرسمي. لذلك صارت لدى الشعب السوري خبرة في هذا الأمر، وصار قادرًا، في غالبيته، على توسيع مدونته حول موضوع المؤامرة، ومنها جائحة كوفيد – 19 التي هي بالفعل مؤامرة كونية في رأيهم، وأن كورونا مفبركٌ في المخابر، والإعلام ضخّمه في لعبةٍ قذرةٍ من لعب الأمم الرامية إلى السيطرة على العالم. ولا يستبعد، بل من المؤكد، بالنسبة لبعضهم، أن تكون أميركا، ومن خلفها الصهيونية العالمية، خلفها، وليس اللقاح أكثر من سلعةٍ كانت مجهزة مسبقًا ليومٍ كهذا، باعتباره من أسلحة السيطرة الاقتصادية والمالية. ومن هذا المنطلق، اللقاح الذي هو ليس في متناول دول ضعيفة متهالكة تعضّ على بطنها مقاطعة كسورية، لا مبرّر له وغير مرحب به من كثيرين، وإن غريزة القطيع ماشيةٌ بعزم وحزم، عند شعبٍ لم يعرف إلى اليوم سياسة غيرها، أو أسلوب حياة مخالفا. إنها حياة القطيع الذي فطمته الأنظمة عليها، وباركها رجال الدين وسطوة الأعراف والثقافة الموروثة، فلا ضير من متابعة حياةٍ لا تشبه الحياة، همّها وغايتها الحصول على رغيف الخبز تحّدّيا مغوارا لغول العصر كورونا، والنوم بالاتكاء على تعويذة “سوريا الله حاميها”، بعد أن تحوّل الشعب، في غالبيته، إلى كائنات منطفئة.
العربي الجديد
—————————-
====================
=====================
تحديث 13 كانون الثاني 2021
————————–
كورونا سوريا:اللقاح يصل للمعارضة في الربيع وللنظام في الخريف
في الوقت الذي باشرت فيه دول عربية ومجاورة لسوريا بتوزيع اللقاح أو تحديد موعد توزيعه، لايزال المشهد مبهماً حول موعد وصول اللقاح إلى سوريا إن كان إلى مناطق سيطرة النظام أو تلك التابعة للمعارضة السورية.
فدمشق تأمل أن تحصل على اللقاح الروسي “سبوتنيك7” مجاناً وفقاً لتصريحات أخيرة لوزير خارجية النظام فيصل المقداد الذي أعلن أن حكومته تتحاور مع موسكو من أجل توريد هذا اللقاح، مشيراً في حديث لوكالة “سبوتنيك” الروسية، إلى أن “الشعب السوري يثق باللقاحات الروسية أكثر من لقاح فايزر الأميركي”، معرباً في الوقت نفسه أن تحصل حكومته عليه مجاناً.
وتوقعت تقارير دولية وصول اللقاح إلى سوريا أواخر 2021، وسيتم منح سوريا اللقاح عبر منصة “كوفاكس” التي وضعتها “الصحة العالمية”، والتي تضم قائمة الدول من فئة البلدان المنخفضة الدخل وعددها 92 دولة لتوزيع اللقاح عليها.
وقالت المديرة الإقليمية للإعلام في اليونسيف- مكتب الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من الأردن جولييت توما ل”المدن”، إن اليونسيف تعمل مع منظمة الصحة العالمية وبالتعاون مع منصة كوفاكس والبنك الدولي على توفير اللقاحات للدول التي لا تستطيع توفيرها لسكانها ومن بينها سوريا عبر منصة كوفاكس.
وأضافت أنه “حتى هذه اللحظة لا يوجد موعد محدد لتوزيع اللقاح في سوريا، إذ أن كوفاكس تعاني من شح التمويل ومع ذلك تعمل جاهدة على توفير اللقاحات”، مشيرة في الوقت ذاته إلى أن منظمة الصحة العالمية وافقت على لقاح واحد وهو لقاح “فايزر” الأميركي بانتظار موافقتها على اللقاحات الأخرى لتبيان ما هو اللقاح الذي سوف يتم توفيره لسوريا.
ومع تدهور الوضع الصحي في مناطق سيطرة النظام وفقاً لتقارير منظمات دولية وسط قفزة في نسب الإصابة بفيروس كورونا، تشهد الساحة الداخلية جدلاً حول اللقاح. وقال مصدر محلي ل”المدن”: “هناك تخبط في تصريحات المسؤولين عن القطاع الصحي بدمشق حول اللقاح، يبدو أن القرار سيكون سياسياً بالدرجة الأولى كونه تم استبعاد اللقاح الأميركي”.
وكانت حكومة النظام أقرت في جلستها الثلاثاء، “استجرار” لقاح ضد فايروس كورونا دون ذكر أي توضيح عن مصدره وكمياته وموعد وصوله.
أما عن الوضع في المناطق المحررة، فقال مدير البرامج الصحية في وزارة الصحة التابعة للحكومة السورية المؤقتة رامي كلزي ل”المدن”، إنه لا يوجد أفق واضح لموعد وصول اللقاح إلى المناطق المحررة “إلا أن هناك وعوداً أن يصلنا مع أواخر هذا الربيع للمناطق المحررة في إدلب وحلب”.
اضاف أن الدفعة الأولى ستغطي 20 في المئة من سكان تلك المناطق وستكون الأولوية لضعيفي المناعة، أصحاب الأمراض المزمنة، الكبار في السن والكادر الطبي والصحي وفق البروتوكلات العالمية المحددة في آلية توزيع اللقاح.
وقال كلزي إن التفاوض يجري مع الدول الداعمة لتوزيع اللقاح بوساطة منظمة الصحة العالمية، مشيراً إلى أن القائم بهذه العملية هو “فريق اللقاح السوري” بالتعاون مع وزارة الصحة في الحكومة المؤقتة.
————————–
ما سر الموقف “الولائي” من اللقاح؟/ حازم الأمين
تحضر الأيديولوجيا حين يغيب العقل، لكن لم يسبق أن اصطدمت الأيديولوجيا على نحو مباشر وجلي مع منتج علمي شديد الوظيفية، فما الذي دها بعقلها هذه المرة؟
ثمة ما يجب أن يُفكَر به في علاقة حزب الله، ومن ورائه أهل ولاية الفقيه، باللقاح. فأمين عام حزب الله حسن نصرالله عندما قال أنه لن يأخذ اللقاح اذا كان من صنع أميركا، استبق الموقف الأكثر وضوحاً لمرشد الجمهورية في ايران علي خامنئي الذي عاد وأعلن أن ايران لن تستورد اللقاحات الأميركية والبريطانية، ولن تقبل بأن يكون مواطنوها مختبراً تجريبياً.
اذاً المسألة جزء من تصور قررت “ولاية الفقيه” فرضه على الإيرانيين، واقتراحه على اللبنانيين والعراقيين. هي فكرت به وقررته وصاغته في وجهة وخطاب، بدأه نصرالله في بيروت وثبته خامنئي في طهران. والبحث عن سر هذا القرار قد يكون مفيداً لنا نحن أبناء المجتمعات الخاضعة لخيارات ولاية الفقيه. ففي حيثيات الموقف الولائي من اللقاح انعدام هائل للمنطق وللعقل يملي التوقف عنده والبحث عن أسباب أخرى له. نصرالله قال أنه لن يأخذ دواء أميركياً. والرجل مُطاعٌ ومُقَلد، بالتالي فإن آلافاً من مُطيعيه سيحذون حذوه!
لكن شركة بفايزر الأميركية تنتج أيضاً معظم أدوية مرض السرطان، ومئات من أصناف الأدوية المتداولة في لبنان والتي لا بدائل لها، وهذه لم يدعو نصرالله لمقاطعتها! خامنئي أيضاً جانب الصواب عندما قال أن الشركات الأميركية والبريطانية تريد أن تختبر اللقاح على الإيرانيين قبل أن تبدأ بإعطائه لمواطني بلادها، ذاك أن التلقيح في بريطانيا وأميركا بدأ منذ أكثر من شهر، في حين من غير المتوقع أن يبدأ في ايران قبل الربيع المقبل!
اذاً ثمة قطبة مخفية في الموقف من اللقاح. مسار الحملة الولائية عليه ليس مصادفة، وهي حملة بدأت تجد لها أصداء على ضفاف أهل الولاية وفي محيطهم الأبعد. فها هو رئيس التيار الوطني الحر المسيحي اللبناني والمعاقب أميركياً، جبران باسيل يدعو إلى تنويع مصادر اللقاحات، علماً أن أحداً في لبنان لم يقترح حصر اللقاحات بجهة واحدة، فيصير افتعال الدعوة للتنويع من قبل الحليف غير الشيعي لولاية الفقيه، محاولة للتجاوب مع خيارات المقاطعة لمن يريدها. والأمر لم يقتصر على باسيل، فالآلة الإعلامية لمحور الممانعة بدأت بدورها ببلورة خطاب ضد اللقاحات “الغربية”، وبدأ تمرير خبر عن لقاح إيراني، ناهيك عن الانحياز للقاحين الروسي والصيني. علماً أن لا تنافس حتى الآن بين اللقاحات، ذاك أن الطاقة الاستيعابية لهذا المنتج هائلة وتتسع لمئات الأصناف من اللقاحات. فنحن نتحدث عن ثمانية مليارات إنسان، في وقت لم تصل الكميات المنتجة من قبل كل الشركات مجتمعة إلى واحد في المئة من هذا الرقم.
تحضر الأيديولوجيا حين يغيب العقل، لكن لم يسبق أن اصطدمت الأيديولوجيا على نحو مباشر وجلي مع منتج علمي شديد الوظيفية، فما الذي دها بعقلها هذه المرة؟ ربما كان البحث عن سبب سياسي مباشر يختبىء خلف هراء الأيديولوجيا أمراً مفيداً. وبما أننا لا نملك معلومات صلبة عن الخصومة التي تربط ولاية الفقيه باللقاح، فعلينا أن نستعين على قضاء حاجتنا بالتوقع.
ثمة اجماع في المجتمعات العلمية على أن اللقاح، وتحديداً لقاح بفايزر، هو انجاز علمي هائل واستثنائي. هذا الإنجاز، اذا لم يحسب لأميركا، فهو انجاز للثقافة العلمية الغربية. هذا ما يشعر به أهل الولاية على الأرجح، وهو شعور ليس دقيقاً، ذاك أنه انجاز انساني تضافرت على تحقيقه عناصر كثيرة، وهو امتداد لبحوث ساهم فيها علماء من كل أصقاع الكوكب.
الولاية والحال هذه تضع نفسها في مواجهة العلم وفي مواجهة الكوكب، وما انتفاضها في وجه اللقاح، غير المبرر منطقياً وعلمياً، سوى رفض لنجاح تتوهم أن أهله خصومها! “الغرب رجس من عمل الشيطان”، هذه القناعة اذا ما مورست، تضع أهل مجتمعات الولاية في مواجهة أهل الكوكب. ونحن في لبنان لحس وجودنا شيء من هذه القناعة وشيء من تبعاتها الكارثية، لكنها ستلحس وجوه حوالي ٩٠ مليون إيراني، وربما نصفهم من العراقيين. الأيديولوجيا لن تقبل بأن تبقى أفكاراً يعبر عنها على المنابر، وهي ستسعى لأن تتحول واقعاً. رفض اللقاحات الأميركية والبريطانية خطوة جديدة لم يسبقها رفض لأدوية الأمراض الأخرى، ومعظمها أميركي وغربي.
اذاً هو مستوى جديد وغير مسبوق من “المواجهة” التي تقترحها علينا الولاية.
درج
—————————-
اللقاح ليس سلعة/ هيثم الزبيدي
نحن جيل الوفرة. ربما الوصف الأدق نحن أجيال الوفرة. تبدو الأشياء متاحة وكثيرة. فورة السلع وفورة الخدمات. فخلال العقود القليلة الماضية زاد الإنتاج في كل شيء وزاد حجم الخدمات. راح زمن الطوابير والانتظار. محلات البقالة تكدس البضائع. السوبرماركت عالم من الأرفف المليئة. في أوروبا، مثلها مثل الشرق الأوسط، تجد تقريبا كل شيء. وبالمقارنة مع مداخيل الناس، ورغم كل ما يقال عن الغلاء، فإن الأسعار لا تزال معقولة. اسألوا كبار السن كيف كانوا يقننون رواتبهم لكي ينتهي الشهر على خير.
اذهب إلى السوق ولاحظ كم نوعا من التفاح متوفر. أيام زمان كنا ننتظر التفاح الأبيض أول موسم الصيف، ثم يأتي التفاح “الأخضر أبو خد أحمر”، ثم آخر الموسم يحل علينا التفاح اللبناني الأصفر منه والأحمر. اليوم تذهب إلى السوبرماركت تجد كل الأنواع أمامك. لا موسم ولا جغرافية تعيق وصول أنواع التفاح الكثيرة والمختلفة.
الهاتف كان شيئا استثنائيا. شكله محترم بقرص وسط هيكل صلب عابر للسنين. تنتظر سنوات قبل أن يأتي دورك لتركيب الهاتف في منزلك. خدمة استثنائية ولا يقدم عليها إلا أصحاب الدخل الكبير. كلمة “هلو” أو “ألو” مكلفة. اليوم الشرائح الهاتفية في كل مكان. لديك فرصة شراء ما يحلو لك من أنواع الهواتف، رخيصها والغالي. الهاتف أكثر من هاتف. هو نقطة لقاء الخدمات الجديدة الوفيرة. وكل شيء رخيص، من المكالمة المحسوبة ضمن الاشتراك، إلى تصفح الإنترنت، إلى مكالمات مجانية تماما عبر التطبيقات. “ألو” اليوم ببلاش. قل منها ما شئت فلا عداد يحسب كلامك.
السيارات تملأ الشوارع. الطيران والسياحة صارا خدمات أساسية. يمكن أن تشتري تلفزيونا بشاشة كبيرة بجزء من مرتبك الشهري. الملابس بنوعيات جيدة وتصاميم وألوان كثيرة. ثمة شرائح سلعية وسعرية لكل مستوى ودخل. وفرة حقيقية لا يمكن إنكارها مع زيادة قدرات الإنتاج، من التصنيع إلى الزراعة الممكننة والمعدلة جينيا لتقاوم الآفات وتحسن الثمر، ومع زيادة الخدمات وتحسن نوعيتها.
الوفرة غيرت علاقتنا مع السلع والخدمات. صرنا نقيس الأمور بطريقة مختلفة. البعض يصف مجتمعاتنا بالمادية. وهي كذلك. ولكن من الضروري اليوم أن تكون لنا وقفة. ليس كل شيء سلعة وخدمة نختار منها.
السبب هو ما يدور حاليا من كلام عن أي لقاح نأخذ لنواجه فايروس كورونا. قبل نحو شهرين كنا في ضياع. لا لقاح ولا علاج. التقدم العلمي وجهد الباحثين وأموال الحكومات وشركات الأدوية دفعت نحو إنتاج لقاحات متعددة ومختلفة. هذه اللقاحات وصفات للحياة. نحتاج إلى بعض الموضوعية في التعامل مع اللقاحات. لسنا في مهرجان تسوق، بل في صراع من أجل البقاء. لقاحات أسترازينيكا/أكسفورد وفايزر/بايونتيك وموديرنا وسينوفارم وسبوتنيك ليست سلعا أو خدمات نختار منها.
كاتب من العراق مقيم في لندن
العرب
—————————-
لست وحدك/ سمير صنبر
الوباء لا يقرأ، ينطلق، يخطئ أو يصيب أو بين بين. لا يعرف الذهاب والإياب. لا يسمع الجواب، يطير من بلد إلى بلد. من وداع إلى وداع. يلملم القلوب والأشواق كما يلملم الرحل بقايا الخيام. ولا يسمح لنا حتى بالنظرات الأخيرة. فالوباء كالرصاص لا يسأل. ينطلق في هدأة الليل أو مع هدير المدينة. فتتلاشى الضحكات التي كان يتردد صداها بين أروقة المعابر وعبير الحدائق. وتحترق القلوب بغصات الوداع.
الوباء كالريح بلا دموع. يأتي فتتلامس الأيدي وتلوذ الشفاه بالصمت. تلوح المناديل كأنها إشارات طريق الحزن. يطل بينما ترتفع الطائرة على مهل، وتلوح أنوار السفن فوق مياه البحر، ويسري بين عينيك نغم غريب: «يا أخت روحي. أحبي كيفما تشائين. أحبي حتى الموت في بلاد تشبهني وتشبهك».
يأتي الوباء وذاك الذي كان بيننا لم يعد بيننا. لا يبقى معنا إلا ترحالنا في البلاد البعيدة ذات الأسماء الغريبة، والوجوه التي لم نعرفها من قبل، والأنامل التي لم تعد تلامس لحظات تشردنا، والشفاه التي لم ترتعش لأحزاننا، والقلوب التي لم ترافق حكايات طفولتنا.
مع خفقات الوداع، الوداع الذي يحمل في طياته شيئاً من الموت، نستنشق بقايا الأريج الذي زرعناه في البقاع المبعثرة، نختزن بعض دفء الحب في صدورنا لأنه فخرنا الوحيد في وحشة الغرباء. نشتاق في الغربة إلى الشاطئ الآخر. آهٍ من الشاطئ الآخر. الوباء مثلك يا عصي الدمع، لا يذاع له سر. ينهرك أن تبقى مكانك. مثلما المحكوم لا تبرح زمانك. نائم وعيونك ساهرة. باسم وقلبك حزين.
وحيد ولست وحدك. العالم معك.
– عالم الأقنعة
في تمام الساعة السابعة مساء كان ينطلق الهتاف والتصفيق لأهل الإسعاف ويبدأ عازف بيانو على سطح المبنى المجاور في لعب أغنية: «نيويورك… نيويورك». المدينة التي لا تنام بدت خالية الطرقات. العابر المقيم يحاذر المرور من العابر الآخر. عاصمة الإعلام والفنون والمال تحولت إلى عاصمة انتشار الوباء.
أبنية مانهاتن معظمها من الزجاج. أُطل من شقتي على المكاتب التي تستضيف بعثات الأمم المتحدة. كلها شاغرة. مبنى المنظمة الدولية عبر الشارع محدود الحضور. اجتماعات الجمعية العامة تقتصر على مندوب واحد لكل بلد. بالصف. على بعد اجتماعي. ويحاول الأمين العام أنطونيو غوتيريش ما استطاع. اقترح وقف إطلاق النار في كل النزاعات دون أن يلتزم أحد. طالب بصندوق خاص لمواجهة العجز المالي المتزايد. في الأثناء يشتاق إلى طهي زوجته في لشبونة. السفر هذه الأيام محفوف بالمخاطر. الوباء العالمي يستدعي وجوداً دولياً فعالاً. أي انتكاسة شخصية قد تنعكس على صورة الشرعية الدولية. يحاول التنسيق مع بقية برامج الأمم المتحدة.
جارتي الممرضة. الناشطة ذكرتني أن هذا هو «العام الدولي للممرضات والممرضين» دون أن ينتبه أحد، وأن انتشار الوباء قد أدى إلى إلغاء «قمة المرأة» في ذكرى مرور ربع قرن على «قمة بكين». جاري الطبيب الهندي ينصح بالرياضة واستنشاق الهواء. حاكم ولاية نيويورك أندرو كومو يشدد على ارتداء القناع. عدد محدود من السيارات بدأ يتزايد بينما بدأت المطاعم تستقبل الزبائن على الأرصفة. النوافذ والشرفات، تحولت إلى محاور الاتصال المتعدد من التحية العابرة إلى عبارات الغزل التي قد تنعش القلب مع ضيق ذات اليد. النيويوركي الذي يتجنب عادة التطلع في عيون الآخرين تفادياً لاحتمال السلام والكلام في الوقت الضائع أصبح يتطلع إلى أي تحية. هو يتساءل ماذا يحدث. متى ننتهي. وما هو المطلوب منه بالضبط. عودة الصبايا والشباب إلى منازل العائلة مع توقف العمل والدراسة ساهم في تدريب كبار الأهل على تكنولوجيا الاتصال وتحديث الكومبيوتر العتيق.
وكان جان بول سارتر قد لاحظ أن مدينة نيويورك – عكس باريس – مكشوفة ومسطحة، تراها من الشارع الأول حتى الأخير. من النهر إلى النهر. لا هضاب ولا وهاد. أعلى وأغلى المنازل تبدو مستوحدة. مع تراجع الأعمال شكا مدير عام شركة كبرى من ضيق الحال لأن مرتبه السنوي تراجع إلى 12 مليون دولار فقط!
استعدت رواية «كاميرون». الكاتب الإيطالي بوكاشيد عن وباء فلورنسا في القرن الرابع عشر. يومها، مثل اليوم، انتقلت العدوى عبر أنفاس المرضى. اكتشف الأهالي حدود قدرة الإنسان وانطلق عدد منهم إلى الجبل القريب وتوافقوا أن يتعاونوا على تبادل الحكايات المنعشة كل مساء. أمراء عائلة فاديشي. ومرشدهم نيكولا ميكيافيللي، واجهوا الوباء بالتحذير من نظريات المؤامرة. تذكرتُ أنني طالعتُ رواية ألبير كامو عن الطاعون في وهران الجزائر حيث ولد. وهو يوضح الضعف الوجودي ويكرر أن الرد الأفضل هو احترام كرامة الإنسان. كنتُ في مطلع عملي الصحافي، ودفعتُ مرتب ثلاثة أشهر لشراء سيارته «فاسيل فيغا» المستعملة جداً. استمتعت بها ولو أنني اضطررت في معظم الأحيان لدفعها باليد في شوارع رأس بيروت.
أحداث اليوم هي عادة من صنع الأمس، لكن المؤسسات لا تطور بسرعة حاجات البشر.
نرتدي الأقنعة ونمشي على حذر. خلال فترة الانفراد التي لا تبدو لها نهاية بعد، أشعر بالانتعاش أحياناً عندما أستعيد نصيحة جبران خليل جبران الذي عاش في الشارع العاشر من نيويورك. كأنه اقترح الرد على من يتهمون أهل المنطقة العربية بالجهل والتدمير: «قفوا أمام أبراج نيويورك وواشنطن… قائلين من عمق قلوبكم: أنا من أبناء الذين بنوا جبيل ودمشق وصور وصيدا، أنطاكية. أنا هنا لأساهم في بناء عالم جديد».
يبقى السؤال الحائر: متى نبني العالم الجديد؟ متى تنتهي مرحلة الأقنعة.
– مسؤول سابق في الأمم المتحدة
الشرق الأوسط،
————————
=================