لماذا أخاف من “هدى بركات”… المؤلف المتخيّل والرعب من الذات/ عمار المأمون
“أنا الآن أتناول الغداء، اتصل بي لاحقاً!”، هذه الكلمات الوحيدة التي قالتها لي هدى بركات عام 2015 إثر اتصال هاتفي. الكاتبة اللبنانية المقيمة في باريس حينها، لم تعلم من اتصل بها، لكن يمكن اختصار ذلك بالتالي: صحفي شاب، مغمور، يقيم في دمشق، قرأ “أهل الهوى” مُتأخراً، ويريد إجراء لقاء مع الكاتبة. كان هدفي حينها أن أطرح عليها الأسئلة المعتادة، وأخرى متحذلقة كي أحصل على أجوبة جذّابة أقتبسها بين مزدوجتين، وأنشرها على وسائل التواصل الاجتماعي حين أشارك اللقاء.
لم يتم اللقاء. الـ”لاحقاً” كانت لا متناهية ولم أتابع الموضوع. كنت بحاجة لإجراء لقاءات كي أتمكن من الوصول إلى عدد المقالات الشهريّ الذي على أساسه أتقاضى مستحقاتي المالية من الصحيفة التي كنت أعمل معها.
ما أذكره حينها هو الخوف الذي انتابني بعد أن أنهيت قراءة “أهل الهوى”، والذي اعتراني ذاته بعد أن التهمت “بريد الليل” في جلسة واحدة، تضاعف هذا الرعب حين قرأت الرواية للمرة الثانية محاولاً الفكاك من “السحر” الذي قد يعتري القارئ بعد المرة الأولى، لكن حينها اتضح الأمر، كان الخوف هو رد الفعل الأول على الشعور بـ”الفضيحة”، كيف تتجرأ هذه البركات أن تكتب ما يدور في عقلي؟ وكيف يمكن لها أن تقول بدقة ما لا أقوله؟
لا أحاول أن أقدم قراءة نسوية أو ضد نسوية لأي نص من نصوص بركات، بل الإشارة إلى استراتيجية العلاقة بين القارئ والمؤلف المتخيّل. الأول هو ذاك المجهول، اللامتناهي، المتبدل عبر الزمن، والذي لا يمكن معرفة هويته أو حكايته، أما المؤلف المتخيّل فشخصي وحميمي، لا شكل محدد له ويختلف من قارئ لآخر، أي أني لا أقصد في حديثي هدى بركات نفسها، كما تُوصف في التعريف على غلاف الرواية الخلفي، بل “هدى بركات” المؤلف الذي نرسم صورته ونتخيل صوته أثناء قراءة رواية تحوي على غلافها هذا الاسم.
هذه الـ”هدى بركات” كائن مُتخيّل بالكامل، تنشأ صورته نتيجة مجموعة من المعارف الجدية وغير الجدية التي نمتلكها، والتي يستفزها النص لتكوين مؤلف متخيّل يختلف عن الحقيقي، مؤلف يخصّ كل قارئ لوحده. فنحن، كقرّاء، نبحث عن المؤلف أو صوته في أي نص، خصوصاً أنه يتعمد الاختفاء والتلاشي وراء العديد من التقنيات، مع ذلك لا يتوقف البحث عنه، بسبب يقين فانتازمي لدى القارئ بأن المؤلف موجود في النص. أزمة موت المؤلف أو قتله أو اغتياله ما زالت غير مقنعة للبعض، خصوصاً القارئ الذي يحاول أن يكشف ألعاب المؤلف للاختفاء، ولا يبحث في تاريخ النوع الأدبي، وفي هذه الحالة، تاريخ الرواية.
منشأ الخوف
إن استعرنا بعض أفكار أومبيرتو إيكو عن “سوء الفهم”، نجد أن كل نص يحوي إشكالية وهي عدم قدرته على الكمال، أي أن العمران النصي لا يمكن أن يكون أصماً أو كتلة متماسكة لا شقوق فيها، بمعنى آخر، هناك دوماً فراغات يقوم القارئ بملئها، وكأن النص، ومن منطلق ألسني بسيط، رسالة غير مكتملة التشفير يكملها القارئ أثناء فك تشفيرها. الأهم أن هناك تفسيرات تتحرك وتتطور مع القارئ أثناء مطالعة النص، عادة ما ترتبط بواحدة من الشخصيات التي من الممكن أن تمتلك خصائص المؤلف.
أما القارئ الأشد خبرة فيعي الحكايات المتفرعة والتفاصيل التي تبني العالم الروائي، ويقوم هو بإكمالها، إما من النص نفسه أو من مخيلته الخاصة، مدّعياً أن المؤلف لا دور له سوى ترتيب العناصر ضمن النص، ليشكل خريطة للمعنى قد تكون قادرة على دلّ القارئ إلى تفسير ما، لا يدركه لا القارئ ولا المؤلف.
هذا التنظير والحذلقة سببه محاولة واعية من قارئ يدّعي الخبرة، نفي وجود المؤلف، لكن الإشكالية أن صورة بركات “المتخيّلة” تزداد وضوحاً كلما أمعنـ(ـت) في نفيها، هذه الصورة المتخيلة نتاج ردود أفعال غير منطقية، إما على كلمات في النص أو جمل أو فقرات بأكملها، وهنا يظهر الخوف: كلما اشتد وضوح الصورة، تبدأ بالتطابق مع المخاوف الذاتية للقارئ، ويتحول المؤلف المتخيل إلى كاتب سيرة ذاتية منقوصة للقارئ، الذي لم يمتلك الشجاعة الكافية للحديث عن “نفسه”.
القارئ في الحالة السابقة يضع نفسه مكان المؤلف، ويبدأ بـ”تأليف” الحكاية بوصفها ملكه، بل يلوم كاتب النص على “إساءة الفهم”، بسبب فقدان النص لبعض العناصر التي يرى القارئ أنها “مناسبة”، وكأن لابد أن تظهر كي تكتمل الحكاية الذاتيّة للقارئ نفسه. صحيح أن هناك اتفاقاً على لعبة السرد، لكن المؤلف الوهمي في عقل القارئ دوماً مقصّر، بل أن مقتطف الحديث الذي ذكرته في البداية بيني وبين بركات، يظهر دوماً أثناء القراءة، وأكرر وأنا أقرأ: “إذن، هل تكتب وهي تأكل السلطة؟”، “كيف تمكنت من الحديث بهذا الشكل عن امرأة في غرفة أوتيل وهي تأكل السلطة؟”، عدة صور واقعية ومتخيّلة أدخلت السذاجة ومتخيلاتي الخاصة إلى استراتيجية القراءة التي اتبعها.
يظهر الرعب حين يهدد المؤلف المتخيّل القراءة بأكملها ويحولها إلى سباق من نوع ما، أساسه معرفة الأقدر على “سرد” الحكاية بصورة أفضل، وكلما حاول القارئ الوصول إلى هذه المعرفة، ازداد المؤلف المتخيّل سطوة وقدرة على الوجود، لأنّه يُهدد تماسك القارئ الرمزي، سواء كان يدّعي إتقان لعبة “القراءة” أو يتصفح بهدف التسلية، إذ يخلق المؤلف المتخيّل الانطباع بأنه يصادر حكايات القارئ وأفكاره، يجبره على افتضاح ذاته ثم إعادة تكوينها، كون ما “يمتلكه” القارئ من حكايات، أصبح على الورق، ملكاً للجميع ومتاحاً لـ”كلّ” القرّاء المحتملين.
سذاجة استبدال المؤلف
صدر عام 2010 للفرنسي بيير بيارد، كتاب يحمل عنواناً جذاباً “ماذا لو غيرت الأعمال الأدبيّة مؤلفيها”، وفيه يفترض بيارد إمكانية نسب أعمال محددة إلى مؤلفين آخرين مختلفين عن المؤلفين الأصليين بالاعتماد على ذات العناصر الروائية والأسلوب، كأن تكون رواية الغريب لفرانز كافكا عوضاً عن ألبير كامو، وفيلم “المدرعة بوتمكين” لألفريد هيتشكوك عوضاً عن سيرغي أيزنشتاين، ويفترض بيارد أن هذا الاستبدال يُكسب العمل قيمة مضافة، أساسها الصورة المتخيّلة التي تبثها أعمال كل كاتب وما نعرفه من سيرته.
مقاربة بيارد ترى أن المؤلف نتاج مُتخيلات من عقل القارئ ويمكن إضفاء التعديلات عليه لتغيير فهم النص، أي يُسلم أن “المؤلف” علامة تؤثر على أسلوب القراءة وما نتوقعه من النص. لكن، هل يمكن تحقيق هذه العلاقة بين القارئ والمؤلف المتخيّل، أي أن يدرك القارئ حقيقة المؤلف المتخيل، ويقرر أن يضيف إلى سلسلة المصادفات التي تم عبرها تناقل الرسائل في “بريد الليل”، صدفة تبدأ بأن أجد أنا -أو أي قارئ- رسالة أنسبها إلى “هدى بركات”، أصحح فيها أو أكشف فيها حقيقة الرسائل، خصوصاً أنني أراهن على الادعاء الساذج الذي لا يمتد فقط إلى التطابق مع المؤلف المتخيّل، بل أيضاً القدرة على الإضافة إلى الرواية، ربما قد تبدأ الرسالة بالتالي: “هدى، أتمنى أن يكون غداؤك لذيذاً، ربما نلتقي قريباً، لأحدثك عن نفسك كما تخيلتك…”.
رصيف 22