عالمي مات وأنا أكتب لأعزي نفسي/ أرونداتي روي ـ ترجمة: صالح الرزوق
في أوائل مايو/أيار، (قبل القنبلة) غادرت الوطن لمدة ثلاثة أسابيع. ظننت أنني سأعود. كان لديّ كل النية بالعودة. لكن، بالطبع، لم تنجح الأمور تماما بالطريقة التي خططت لها. وحينما كنت بعيدة قابلت صديقة لي لطالما أحببتها، فهي، من بين أمور أخرى، لديها قدرات استثنائية على الجمع بين المودة العميقة والصراحة، التي تصل لحد الهمجية والمباشرة. وبادرتني بالقول: «كنت أفكر بك وبروايتك «إله الأشياء الصغيرة» بكل محتوياتها، وما يحيط بها من أجواء، وما يجري تحتها من أفكار، وما يدور حولها، وما يهبط عليها من إيحاءات».
ثم صمتت لفترة. ولم أشعر بالطمأنينة لهذا المنطق. ولم أكن متأكدة أنني أرغب بسماع بقية كلامها. ومع ذلك، كانت مصممة على أن تتابع. وقالت بإصرار: «في السنة المنصرمة ـ بالحقيقة أقل من سنة ـ كان لديك الكثير من كل شيء ـ الشهرة والمال والجوائز والتملق والنقد والإدانة والسخرية والحب والكراهية والغضب والحسد والكرم ـ كل شيء. بطريقة ما كانت لديك ظروف مثالية. حياة مزخرفة كأنها من العصر الباروكي. ولكن المشكلة أن نهايتها سعيدة جدا، ولم تجدي مفرا من مأزق هذه النهاية البليدة». كانت عيناها مصوبتين عليّ، وفيهما وميض مشرق وساطع. وكانت تعلم أنني أعرف سلفا ما تريد أن تقول. فهي مجنونة مثالية. وكانت ستقول إن ظروفي في المستقبل لن تجاري هذه الشهرة، التي أمرّ بها في أي حال من الأحوال. وأن كل ما تبقى من حياتي لن يكون مرضيا، وسيغلفه الشحوب. وربما أفضل طريقة لتبديل هذه الخاتمة هي الموت. موتي.
في الواقع دارت هذه الفكرة في ذهني أيضا، بالطبع كانت في ذهني. فكل ما يجري، هذا الانبهار العالمي ـ هذه الأضواء التي تبرق أمام عيني، والتصفيق، والزهور، والمصورون، والصحافيون، كلهم تركوا أثرا عميقا في حياتي (ومع ذلك توجب عليّ أن أكافح لأضع الأمور والحقائق في نصابها). كان حولي رجال رسميون، وحمامات لماعة مع مناشف طويلة بدون نهاية، وفنادق فخمة، أمور لا أتوقع احتمال تكرارها. وكنت أتساءل بصمت: هل يحسن بي أن أفوّت الفرصة؟ أم أنني أسيرة الحاجة لها؟ وهل أنا مدمنة على الشهرة؟ أم ستتطور عندي دلائل توحي بالرغبة في الانسحاب؟ كلما فكرت في الأمر، اتضح لي أن استمرار هذه الشهرة سينتهي بأن أكون أول ضحية لها. شهرة قاتلة.. ستقتلني وتضربني حتى الموت بهراوة المجاملات النظيفة. وأعترف بأنني استمتعت بشكل كبير بأول خمس دقائق منها، ولكن جوهريا لأنها لم تستمر أكثر من ذلك. ولأنني كنت أعرف (أو اعتقدت أنني أعرف) أنه بمقدوري أن أعود لوطني وبيتي، بعد أن يصيبني الضجر، حيث أجد ملء الحرية لأسخر من الجو كله. وأن أجد الوقت لأتقدم بالعمر وأتحول لإنسانة مهملة غير مسؤولة. وألتهم ثمار المانغا في ضوء القمر. وربما أجد الفرصة لوضع كتابين فاشلين – سيكونان الأسوأ مبيعا – وهكذا أكتشف الجانب الآخر من الحياة.
لمدة عام كامل كنت أتجول في العالم بعربة ذات عجلات، وفي ذهني ترسو فكرة واحدة هي العودة للوطن ومتابعة حياتي فيه. ولم أنغمس بالتكهنات والتوقعات وأخطط للهجرة. على العكس من ذلك. كان الحق بالعودة هو الذي يدعم معنى وجودي. هو مصدر وخلاصة قوتي كلها.
وبضوء هذه الأفكار أخبرت صديقتي أنه لا توجد حياة مثالية. وقلت لها إن تفكيرك يحمل تصورات متطرفة عن الواقع، والافتراض أن درب إنسان نحو السعادة، أو لنقل الرضا عن الذات، يصل لذروته (ثم ينحسر) بسبب اكتشاف «النجاح» وبالصدفة. مثل إنسان يسير في الطريق ثم يسقط، فجأة، في حفرة أمامه. وكان وراء هذه الأفكار دوافع غير فانتازية وملموسة، منها أن الشهرة والغنى أشياء سيادية تتوقف على أحلام وأمنيات الإنسان.
وتابعت أقول: أنت عشت طويلا في نيويورك، ولكنّ هناك عوالم أخرى، وأنواعا مختلفة من الأحلام، أحلام يكون الفشل فيها مقبولا ومشرّفا ولا عيب فيه، وفي بعض الأحيان يكون الفشل مدعاة لمزيد من النضال المحكوم بالخسارة. وهناك عوالم لا يكون تحقيق الذات فيها هو الباروميتر الوحيد للدلالة على الذكاء والقيمة، ويوجد العديد من الشجعان والأبطال الذين تعرفت عليهم وأحببتهم، وأعتقد أنهم أشخاص أكفأ مني، يحاربون يوميا، وهم متأكدون سلفا أن الفشل من نصيبهم. حقا هم أقل «نجاحا» بالمعنى المباشر والمكشوف للكلمة، ولكن هذا، بكل المقاييس، بسبب سوء أو قلة الحظ. وتابعت أقول: الحلم الوحيد الذي يستحق العناء أن تحلمي أنك ستعيشين ما دمت حية، وأنك ستموتين فقط حينما تكونين ميتة هو استباق، ربما.
قالت وهي ترفع حاجبيها بقليل من الارتباك: «ما معنى ذلك بالضبط؟».
حاولت أن أشرح، ولكن لم أنجح، ولو قليلا، بهذه المهمة. أحياناً أحتاج أن أكتب لأضخ الأفكار الملهمة في رأسي، ولذلك كتبت لها رأيي على فوطة من الورق.
وهذا ما كتبته: أن أحب. أن أكون محبوبة. أن لا ينسى إنسان أبداً تفاهته وهامشيته. أن لا نعتاد أبداً على العنف المفرط والتمييز الجائر والمبتذل الذي يغمر حياتنا. أن نسعى إلى الفرح في الأماكن الغارقة في الأحزان. أن نبحث عن الجمال في مكامنه. أن لا نبسط ما هو معقّد أو نعقّد ما هو بسيط. أن نحترم القوة وليس السلطة. وفوق ذلك أن نكون حذرين. وأن نحاول ونفهم. وأن لا نتهرب من مشاهدة الحقائق. وأن لا ننسى أبدا، أبدا..
لقد كنا متعارفتين منذ سنوات طويلة، فهي صديقة من صديقاتي، وكانت مثلي مهندسة معمارية، ظهر الشك على وجهها، كأنها غير مقتنعة تماما بما سجلته على فوطة – الورق. يمكنني أن أؤكد بشكل عام، وفقط بمصطلحات بسيطة، وبسياق سردي تنقله لنا الأشياء، لأنها تحبني تساوت عندها مشاعر التقدير لـ«نجاحي» مع خوفها من فكرة (وتوقعات) موتي. ولكن برأيي لا توجد بواعث شخصية وراء ذلك. وإنما هكذا تجري الأمور.
عن كتاب: «نهاية المخيلة».. أرونداتي روي..روائية هندية
القدس العربي