قسطنطين كافافي: المتعة أكمل مخلوقات الآلهة/ كمال الهلالي
تُفاجئنا قصائد كفافي بانتصارها لإمكانيّة العثور على المتعة والحبّ وعيشهما في أكثر الأمكنة قذارة: على سطح سفينة، في غرفة متداعية داخل ميناء قديم أو حانة سيّئة السمعة أو في دكان لبيع البضائع المقلدة أو في دكان التبغ.
هي ليست أكثر من غرفة “مدقعة عادية، مخيفة في أعلى حانة سيئة السمعة. بالإمكان رؤية الزقاق من النافذة، ضيقًا، قذرًا. ومن الأسفل، تأتي أصوات العمال القلائل الذين كانوا يلعبون الورق ويتمتعون بوقتهم”.
غرفة من الممكن أن تصادفها في الأحياء الخلفية للمدن الكبرى، لاشيء قد يشدّ انتباهنا إليها، سوى أنّها غرفة حقيقية، على الأرجح، في إسكندرية الثلث الأول من القرن العشرين، عاش بها سيّد حقيقي، هو الشاعر قسطنطين كافافي (1863-1933) الذي جمع في شخصه مفارقات عديدة؛ بين الشهوة والزهد: “لن أخاف من شهواتي كالجبان، سأكرّس جسدي للمتع الحسية، وفي اللحظات الحرجة، لسوف أعيد اكتشاف روحي مثلما كانت زاهدة”، وبين حكمة اليأس: “وكما خُرّبت حياتك هنا في هذه الزاوية، فهي خراب أنّى ذهبتَ”، وبين أحلامه بالعظمة التي تحقّقت بعد موته وبعد نشر قصائده التي كشفت لنا عن شاعر مختلف هو “أمّة لوحده”، يسكن في جسده وفي التاريخ.
“بهجة حياتي وعطرها
هما في ذكرى الساعات التي ألقى فيها اللذة وأمسكها
كما أردتها.
بهجة حياتي وعطرها
هما رفضي كل انغماس في الحبّ المألوف
عند الشباك الساطع لدكان التبغ
كانا واقفين بين آخرين كثار.
وحدث أن التقت نظراتهما
ووجدت رغبة جسديهما المتمردة، تعبيرها
خجلى، متردّدة.
ثم… خطوا خطوات قليلة على الرصيف
حتى ابتسما، وأومآ برأسيهما إيماءة خفيفة
وبعدها، العربة المغلقة، بالطبع…
والقرب الحار لجسديهما وانعقاد الأيدي، والتحام الشفاه
هو سيّد فائق الانتباه، “يسير ضائعا في الشارع، وكأنّه مُنوّم باللذة الشاذة”. يعرف أنّ المتع واللذات “أشياء خطرة”. عاش بالإسكندرية، باستثناء إقامة في إنجلترا وسفرات قليلة إلى الخارج (أنطاكية وباريس) كموظف في دائرة الريّ المصرية ولم يجهد نفسه في تعلّم اللغة العربية، عدا كلمات قليلة كان يتبادلها مع الخدم. اللقاء الوحيد الذي جمعه مع شاعر مصري، كان مع أحمد شوقي وتحدّثا فيه عن موليير بالفرنسية.
كان والده تاجر قطن فاحش الثراء، لأن محمد علي باشا، حاكم مصر آنذاك وهب مفاتيح الاقتصاد للأجانب. وحين امتلك المصريون قدرهم بأيديهم وسط التحولات الكبرى في بداية القرن العشرين، انحصر نفوذ الأجانب وكان كافافي شاهدًا على انحدار طبقته وملّته فالتجأ إلى رفاهيّة العيش في التاريخ، حيث كان يردّد أنّه “هيليني وليس يونانيًا”. وفي هذا السياق، تلاحظ الكاتبة والباحثة الفرنسية مارغريت يورسنار أنّ قصائد كافافي أعادت الصلة الحية مع الحضارة اليونانية التي نشأت خارج الأسوار في الإسكندرية وأنطاكية وآسيا الصغرى. أمّا الشاعر فكان يقول عن نفسه: “أعمل مثل القدامى. يكتبون التاريخ، الفلسفة، مسرحيات مليئة بالأساطير التراجيدية- مستلهمة من الحب- تماما مثلي”.
يكتب كافافي إذن التاريخ مثل القدامى وفي شعره نجد روايات أخرى وأبطالا آخرين من التاريخ الهيليني: شاب اسمه بايميس يحط رحاله في مرفأ سوري صغير لكي يتعلّم حرفة العطور، يمرض وقبل أن يموت يهمس عن البيت والوالدين العجوزين ويُدفن دفنًا بائسًا، دون أن يعرف أحد “أيّ مدينة هي مدينته من عالم اليونان الواسع”. نيرون في الثلاثين من عمره، يسمع نبوءة دلفي “احذر الثالثة والسبعين”، فلا يقلق لأن “الأجل الذي حددته الآلهة بعيد بما فيه الكفاية”. يعود إلى روما متعبًا، “لكنه تعب لذيذ بعد هذه السفرة التي لم تكن إلا أيام متعة في المسارح، والحدائق، وساحات الألعاب (…) ساعات المساء في المدن الآخيّة والأبهى من هذا كلّه، بهجة الأجساد العارية (…) هكذا فكّر نيرون، بينما في إسبانيا، كان “جالبا” يجمع سرًّا جيشه ويدرّبه، “جالبا” ذو الثالثة والسبعين”.
يبدو أنّ قدر كافافي ملتبس، بنفس التباس أقدار الشخصيات التي يرسمها في قصائده. عاش انحداره الشخصي بسبب الشيخوخة دون أن يدري أن العرب، مثله، لم يبكوا شيئًا كذهاب الشباب. كما ناء بأثقال مثليته الجنسية.
تقول مارغريت يورسنار: “الأثر الشعري لكافافي يشبه مقهى شرقيا، لا يرتاده إلاّ الرجال”. وفي قصيدته “جيش اللذة” ينصح بعدم الاستسلام للقوانين الأخلاقية وللشعور بالذنب: “واجبك أن تستسلم، أن تستسلم دائما، أمام المتع، التي تمثّل، من بين مخلوقات الآلهة، أعلى درجة من الكمال”. وتروي ابنة أخته هاريكليا فالييري كيف أنّه حين طلب منه أقرباؤه أن يغادر شقته رقم 10 في شارع ليبسوس بسبب شعورهم بالخزي والفضيحة من مثليته، اتجه نحو النافذة ورفع الستارة قائلا: “وأين يمكنني أن أحصل على موقع أفضل من هذا بين مراكز الوجود الحيوية الثلاثة وهي: خمّارة تُسكر، وكنيسة تصفح، ومستشفى نموت فيه؟”.
لم تكن مثليّة قسطنطين كافافي مسألة أخلاقيّة فقط، بل موقفًا من المسيحية ومحاولة لاستعادة وثنية الإغريق، بحسب الباحث الأمريكي بيتر بيين. بالعودة إلى قصيدة “مسرح صيدا 400 بعد الميلاد”، يرى بيين أنّ هذا التاريخ فارق لفهم الشاعر وقدره العجيب، خذل الآلهة بالمقدار نفسه الذي خذلته به: “يتوقع كافافي منّا أن نتذكر أنّ العام 400 بعد الميلاد هو الوقت الذي أجبرت فيه المسيحية المنتصرة وثنية الإغريق على لفظ آخر أنفاسها في صيدا والإسكندرية وبقية العالم الهيليني. ولهذا فإنّ القصيدة – بمضامينها الأوسع- هي واحدة من القصائد العديدة التي يندب فيها كافافي هذا التقهقر التاريخي لنمط الحياة الوثنية، ( والذي يعرّفه دائما بأنّه “ملذات مُختارة”) قبل أن تأتي المسيحية بتحريماتها ووقارها”.
أيها الجسد، تذكر…
ليس فقط شؤون حبك الكثيرة،
ليس فقط المضاجع التي رقدت عليها
ولكن، تذكّر أيضا تلك الرغبات التي كانت ستظلّ
ساطعة في عينيك،
مرتجفة في صوتك
تلك الرغبات التي أحالها إلى العدم عائق عارض
والآن وقد غدت كلها ماضيا
وكأنك قد وهبتها نفسك.
كيف كانت ساطعة،
تذكّرها، في العيون التي تنظر إليك،
وكيف كانت ترتجف في الصوت… من أجلك
تذكّر…
تبدو حسيّة كافافي أوسع من مقهى شرقي حيث يقول: “لقد عشت، حققّت، تخيّلت وركبّت في صمت متعا فريدة جدا”. وفي هذا التركيب تبدو حسيّته أشبه بمتاهة في مدينة هرمة تنتظر برابرة لا يأتون. وتنفتح أفكاره الحسيّة على أكثر من معنى. ثمة بدءًا قوة الحبّ وسطوته التي لا تُقاوم على الأجساد عندما “تتدفق الرغبات القديمة في الدم” ففي قصيدته “في قرية موحشة ” مثلا يتمدّد في السرير مستخدَمٌ شاب يعمل في مشروع تجاري يذهب كل ثلاثة أشهر إلى المدينة ليلقي بنفسه ” في المتعة والحركة الضاجة”:
يتمدّد الليلة، على فراشه، مريضا بكل ما عناه الحب،
كانت فتوّته كلها تضطرم برغبة الجسد
كل فتوّته العذبة في توتر عذب.
وفي منامه، جاءته البهجة.
في منامه، رأى وأمسك الشكل والجسد الذين أرادهما
قوة الحبّ هذه وسطوة المباهج الحسية لا تتهدّدها “السياسة، وتقاليد الأسرة، والواجب إزاء الوطن” فمن الممكن دائمًا سرقة واختلاس المتعة:
ارتويا حبا، نهضا من البساط،
ارتديا ملابسهما، مسرعين، صامتين.
وخرجا منفصلين، متسللين من المنزل،
وحينما كانا يسيران، مرتبكين، في الشارع
كانا يحسبان أنّ شيئا فيهما
يفضح نوع الفراش الذي تمددا عليه، قريبا.
ما يتهدّد المتعة، أكمل مخلوقات الآلهة، هو الزمن. ما يتهدّد أجساد الرجال الشابة الجميلة التي حظي بالحب معها، هو الشيخوخة وتحوّل الحب نفسه إلى شبح وذكرى مُعذبّة. لم يحتمل كافافي شيخوخته، وكان يجلس في العتمة كي لا يلاحظ عشّاقه علاماتها عليه من ترهّل ومن تجاعيد. موضوع عشقه المثالي هي الأجساد الشابة التي لا تتجاوز عقد العشرين. وهو يصف الجباه والشفاه والشعر والعيون والجسد بكُلّيته دون إحالة إلى الأعضاء التناسلية الذكرية. نعرف أن عشّاقه من الذكور باستعماله للضمائر فقط، تمامًا كمثل النحّاتين الإغريق الذين كانوا يرسمون الأعضاء الذكرية الغليظة بأحجام صغيرة وبشكل لا يؤذي العين، لأنّ ما يهمّ هو الجمال في كُلّيته وهذا ما نلمسه في قصيدته “المرآة في القاعة” حيث يدخل شاب يشتغل مساعد خيّاط، له جسد رياضي، إلى قاعة بيت ثري توجد به مرآة ضخمة عتيقة. ينتظر لمدة خمس دقائق، يُسلمّ الطرد الذي كان يحمله، ثم يتسلّم الوصل ويغادر:
لكن المرآة التي رأت، ورأت، عبر سنيّ حياتها الطويلة
آلاف الأشياء والوجوه،
هذه المرآة العتيقة، فرحةٌ الآن،
بأنّها استقبلت هذا الجمال، دقائق قليلة.
هذا الغياب للأعضاء الذكرية يسمح بسحب التجربة الحسيّة لكافافي على كلّ تجربة عشق، فالجسد الشريكُ في المتعة ولذائذ الحب هو فقط جسد مختلف دائمًا وآخرٌ. ما يهمّ هو اقترابه من مطلق الجمال. يُفاجئُنا في إحدى ملاحظاته بالقول أن أجساد الشبان الأغنياء مترهلة “يسطع فيها كلّ قبح السرقة وعنف مُورّثيهم المرابين”، أمّا أجساد الشبان الفقراء، الخدم، العمال، الموظفين الصغار، الباعة، فهي “رشيقة ومتناغمة، صقلها الجهد والحركة، ووجوههم وضّاءة عندما يشتغلون في الداخل أو برونزية عندما يشتغلون في الخارج، عكس الوجوه المريضة والحمقاء” للشبّان الأغنياء على حدّ قوله.
ومن بين القصائد التي تمثّل فنّ كافافي الحسّي، قصيدة “مرض كليتوس”. ففيها يفتح المعنى على معنى آخر ونجد فيها الموضوعات الأثيرة لشعره؛ السخرية من سخرية القدر. تُمسك الحمى التي اشتدّ بلاؤها بالإسكندرية بكليتوس، الشاب الجذاب ذي الأصول النبيلة، والمنهك بسبب حزنه على رفيقه، الممثل الشاب الذي لم يعد يحبّه ويريده ويهتمّ به:
إنه مريض مرضا شديدا، وأبواه خائفان.
الخادمة العجوز التي ربته، خائفة هي الأخرى
على حياة كليتوس.
وفي قلقها الفزع تذكرت صنما ألفت عبادته
أيام كانت طفلة، قبل أن تأتي هنا لتغدو خادمة
في بيت نبلاء مسيحيين، وتمسي مسيحية.
أخذت سرا فطائر، ونبيذا، وعسلا، وثمارا
ووضعتها أمام الصنم.
وبدأت تردد ما بقي في ذاكرتها من الابتهالة..
يا للمرأة البلهاء
ترى… هل تهتمّ الآلهة السود
إن شفي مسيحي… أو لم يشف…
إنّها، في الأقل، لا تعرف.
إذن، كليتوس يعيش خيبة حبّ، لكن تعتقد عائلته المسيحية كما الخادمة أنّ الحمى التي ضربت المدينة هي السبب في بقائه بالفراش. تلجأ الخادمة المحُبة إلى آلهتها الوثينية كي يُشفى. ولكن الآلهة السوداء لا تهتمّ. تختفي مثليّة كليتوس هنا كما تختفي مسيحيته، ليبدو فقط عاشقًا تعذبّه خيبته. الآلهة السوداء لا تعرف، على عكس أيقونة العذراء في قصيدة “صلاة”، التي أشعلت، قدامها، أمّ بحّار أخذه البحر إلى أعماقه، شمعة، كي يعود:
لكن بينما تردد الأم صلاتها
تنصت الأيقونة التي تدري
ساكنة
متألمة
عارفة أن ابنها لن يعود ثانية.
آلهة تعرف وأخرى لا تعرف، ذلك ما يقوله كافافي الذي يعرف معضلات كثيرة كهذه حيث يقول لنا في قصيدته “إيثاكا” التي تحمل دلالات رمزية كثيرة:
وأنت تزمع الرحيل إلى إيثاكا
تمنّ أن يكون دربك طويلا
أن تدخل في أسحار صيف عديدة
وبأيّ امتنان وأيّ فرح
مرافئ، تُرى للمرة الأولى
وينبّهنا إلى عدم التعجب حين نبلغ إيثاكا -رغم أهوال الطريق- شيوخًا أغنياء بما كسبناه في الرحلة:
إن وجدت إيثاكا فقيرة، فهي لن تخدعك،
إذ غدوت من الحكمة في هذه التجربة،
بحيث فهمت، فعلا، معنى هذه الإيثاكات
الجسد، هو إذن “إيثاكا”، نسكن فيها ونرحل فيها، ونكابد من أجل الوصول إلى “الجلال الخاطف للاتصال الجسدي”، كما يسمّيه في قصيدة “كان يسأل عن النوعية”، وهو جلالٌ حسيٌّ تتهدده الشيخوخة والعجز وخيبات الحب:
هرم جسدي ولم يعد لديّ احتمال لأي ألم.
فهات الآن دواءك، يا فنّ الشعر،
الدواء الذي يخفي الجرح، إلى حين.
*جميع القصائد المذكورة أعلاه هي من ترجمة سعدي يوسف.
المراجع المعتمدة:
بيتر بيين، مدخل إلى كافافي كازانتزاكيس ريتسوس، ترجمة سعاد فركوح، دار منارات للنشر، الطبعة الأولى، عمان 1985
كافافي، وداعا للإسكندرية التي تفقدها مائة وعشرون قصيدة، ترجمة سعدي يوسف، دار المدى للثقافة والنشر، الطبعة الثانية دمشق-بيروت 1998.
CONSTANTIN CAVAFI. En attendant les barbares et autres poèmes. Traduit du grec et présenté par Dominique Grandmont. NRF Poesie/ Gallimard. Saint-Amond (Cher). 2008.
CONSTANTIN CAVAFY. L’art ne ment-il pas toujours ?. Texte français et note Bruno Roy. FATA MORGANA. Saint Clément. 2011.
Marguerite Yourcenar. Konstantin Kavafis – Ein Einführung (1939-1953 ). Link: http://www.planetlyrik.de/konstantinos-kavafis-das-gesamtwerk/2011/02/