تدَيُّن بافلوفي وأزمة قيادة/ ياسين الحاج صالح
هناك نسق يتكرر في تعامل مسلمين مع استفزازات تستهدف معتقدهم الديني، نسق المنعكس الشرطي. يقوم هولندي بإخراج فيلم ينال من دين المسلمين، فيغتاله مسلم باسم دينه؛ ينشر رسام كاريكاتير دنماركي رسوماً تزدري الإسلام، فيهتاج مسلمون ويغضبون، ويعتدون على مصالح البلد المعني؛ وتعيد جريدة فرنسية نشر الرسوم فيتعرض مقرها لعملية إرهابية، ويسقط عدد من الضحايا؛ يعتدي متطرف في نيوزيلندا ويقتل عشرات من المسلمين، فتجري بعد حين عملية في سريلانكا تقتل عشرات بدروها، وتسوغ لنفسها بالعملية النيوزيلندية؛ ويحرق شخص نسخة من القرآن في مالمو، فينفعل مسلمون ويهاجمون محلات ويحرقون سيارات.
تعقب الاستجابة المنبه مثلما في المنعكس الشرطي، الذي هو أدنى درجات الحساسية، وعلى نحو متواتر يتيح التنبؤ بأن هذا النسق سيتكرر في المستقبل. محصلة ذلك أننا لسنا حيال فاعلين عاقلين أحرار، يستجيبون لما يعرض من تحديات بعد روية وتمحيص، ويختارون من الاستجابات المحتملة ما يعود على قضيتهم بالخير، وما يحبط مخططات أعدائهم. بالعكس، يبدو المعنيون مقروئين مثل كتاب مفتوح، واستجاباتهم المؤذية للذات هي ما تشجع المستفزين على الاستمرار في استفزازاتهم.
ترى، ماذا يقول هذا النسق البافلوفي عن الإسلام المعاصر والمسلمين المعاصرين؟ بقدر ما إن المنعكس الشرطي استجابة مباشرة، لا تمر بفكر وإمعان نظر، ولا يداخلها ترو وتبصر، فإن ما تقوله هو إن هناك أزمة تفكير، أو بالضبط أزمة قيادة شرعية وموثوقة. هذا مؤكد بشأن الإسلام السني، ويمكن المراهنة بقدر كبير من الثقة على أن المنزع البافلوفي شائع في التدين السني أكثر من الشيعي. هنا ثمة قيادة سياسية في شكل المركز الإيراني، وقدر من قيادات دينية موزعة بين قم والنجف. في العالم السني الذي يشكل نحو 85% من المسلمين في العالم، ليست هناك مراكز قيادية من أي نوع. وهذا بصورة خاصة حال المجال العربي، ومعلوم أن أكثرية مسلمي العرب سنيون. القيادات السياسية بصورة خاصة، قلما تحظى باحترام هذا إن لم يقل أكثر من ذلك. والقيادات الدينية التي ظهرت في إطار أزمة القيادة والشرعية في القلب العربي للعالم الإسلامي، تبدو أقرب إلى قيادات مضادة، عدمية ونافية للعالم، تستثمر في أشكال التدين البافلوفي المضادة للتفكير، وتقود تابعيها مرة تلو المرة إلى الدمار. أمثال الخليفة البغدادي وأبو محمد الجولاني، وأشباه لهم انتشروا كالوباء في سوريا بين 2012 وحتى سقوط «داعش» في 2017، هم مثال للقيادات المضادة، التي تقود من يسترشدون بها إلى التهلكة لا إلى النجاة، وإلى الفناء لا إلى حياة أفضل. سهّل التدين البافلوفي المقروء لأعدائه أن يسوقوه بالمحرضات المناسبة، نحو ما يناسبهم المرة تلو المرة. ولعل علم الحكم الأسدي بـ»برنامج» المجموعات السلفية، هو الذي يكاد يلعب بها في العراق وفي سوريا ذاتها، بعيد الاحتلال الأمريكي، وقدرته على التنبؤ بأفعال تلك المجموعات، هو ما كمن وراء إطلاق سراح معتقلين سلفيين جهاديين في يونيو/حزيران 2011.
كانت الإمارات السلفية التي تكلمت عنها بثينة شعبان بعد نحو عشرة أيام من بداية الثورة السورية، بمثابة نبوءة ذاتية التحقق. لا يلزم أنهم عملاء لأعدائهم، يكفي أن يكون برنامجهم معلوماً لهؤلاء الأعداء. ويبدو أن من ضمن برنامج هؤلاء المنعكِسين الشرطيين، إن جاز التعبير، التدمير الذاتي. لقد دمروا أنفسهم والأوساط التي انتشروا فيها في كل مثال معروف، وإن بعد تدمير غيري واسع. يمكن التفكير في القيادة بأنها تركيب بين ثلاثة أشياء، أولها وبالتعريف الاستقلال وعدم الانقياد أو التبعية؛ والثاني هو السير إلى الأمام، أو وجهة معلومة ومقبولة على نطاق واسع لحركة الجماعات والمجتمعات المعنية تيمم نحوها؛ وثالثها التروي والتمحيص، وتجنب ردود الأفعال المباشرة، أو الانعكاسية.
والظاهر أن المجال العربي السني يعاني من أزمة قيادة عميقة، سواء بتبعية الحكومات لقوى أجنبية تقودها، أو بفقدان الوجهة والعمل على تأبيد اللحظة الحاضرة، أو بضمور البعد الفكري المتصل بمعرفة الواقع، وحسن التدبير وبعد النظر، وبالعكس الغريزية أو التبعية لما هو أدنى في النفس البشرية من جشع للمال والسلطة، ومن محاباة للقريب، ومن تشوق للتعظيم. وبينما يعرض السلفيون من الإسلاميين السنيين بافلوفية غير منقوصة عبر معاداة الرأي والفكر، وانضباط الجسم والنفس بأوامر ونواهٍ لا تتبدل، وبينما يعرض الإسلام الحكومي انقياداً وتبعية جامعين لأنظمة ليس مستقلة هي ذاتها، فإن عموم الإسلاميين ماضويون، لا يقودون إلى أي أمام، ولا إلى رسوخ في العالم. نتكلم عن أزمة قيادة بفعل تعطل هذه العناصر الثلاثة لمفهوم القيادة، وبالعكس إشغال هذا الموقع من قبل منقادين أبديين تحركهم الغرائز.
بدون قيادات موثوقة، يستطيع أي غوغائي أن يهيج ويزايد، وأن يحرض جمهوراً حرّض على الغضب مراراً، ولم يدع إلى إبداء الرأي يوماً، أو يساعَد على التفكير وتقمص الغير. تبدو الفوضى الدينية بمثابة بيئة مثلى لمهيجين زادهم قليل من المعرفة الدينية ذاتها، وأقل من معرفة العالم المعاصر. وتبدو إدارة الفوضى الدينية هي الأمثل للحكومات في بلداننا. فهي تسهل لها تخويف المجتمعات عبر مهيجين تجيد إدارتهم، هذا إن لم يكونوا من عملائها (مثال أبو القعقاع، محمود قول أغاسي في حلب، وكان بعيد الاحتلال الأمريكي للعراق يقود مواكب تابعيه البافلوفيين في حي السليمانية ذي الأكثرية المسيحية في حلب) وترهيب حملة أي نوازع استقلالية ضمن المجتمع وضمن الدين نفسه. كما تتيح لها مساحة مناورة أوسع حيال الحكومات الغربية، بالتخويف من هؤلاء المتوحشين من محكوميها، الذين لا تجدي معهم غير القوة، أو غير «البوط على الرأس» وفقاً لمذهب بشار الأسد السياسي، على ما نسب إليه القول مناف طلاس في كتاب سام داغرAssad or We Burn the Country (وعلى مثل هذا المذهب يقوم التعاون الأمني مع المخابرات الغربية). ويبدو أنه بالتجربة صار الحفاظ على احتياطي من التدين الرث، وممثليه البافلوفيين رصيداً سياسياً لابتزاز الداخل والخارج، من قبل أنظمة لا تملك حلاً لأي مشكلات اجتماعية ووطنية، أي غير مؤهلة للقيادة.
وبينما قد لا يسعد الحكومات في الغرب وجود هذا الاحتياطي من التدين الرث بين مسلميها، فلا يبدو أنه يشغل بالها إلا حين ينقلب إلى خطر أمني. أما اليمين الشعبوي الأوروبي، ومن أوساطه تأتي الاستفزازات الأشد، فيجد في البافلوفية الإسلامية ما يعزز سياسة الخوف والكراهية، التي لا يكاد يجيد غيرها، وما ينفعه انتخابياً. نبدو اليوم منغرزين في أزمة قيادة أعمق بعد فشل الثورات العربية، وعلى خلفية أزمة قيادة متفاقمة في كل مكان. البعد الفكري للقيادة متدهور في كل مكان، وفقدان الوجهة سائد في كل مكان، ولا يبدو أنه يجري التعويض عنهما بغير تأكيد مهووس للاستقلال والعظمة القومية في عالم يزداد تشابكاً: أمريكا ترامب، روسيا بوتين، تركيا أردوغان، بريطانيا جونسون، وهند مودي… مع أتباع مثل بشار في سوريا والسيسي في مصر ومحمد بن سلمان في السعودية ونظيره بن زايد في الإمارات، نحن فاقدون لهذا التعويض، وهذا فوق فقدان الوجهة وفوق الغريزية.
كان يقال منذ تسعينيات القرن العشرين إن الإسلام هو الحل، الحل المفترض لمشكلة القيادة والسيادة والاستقلال. ظاهر اليوم أن الإسلام يتشكل بأوضاع المسلمين أكثر مما يشكلها، فيجنح لأن يكون بلا وجهة هو ذاته في مجتمعات بلا وجهة، أي بلا قيادة. ظاهر بالقدر نفسه أن الإسلام المعاصر لا يستطيع حل مشكلاته هو ذاته، كي يكون حلاً لمشكلات أخرى. بالعكس، يبدو إنتاج الهوموإسلاميكس، المسلم المبرمج، البافلوفي، مؤشراً على أزمة في الإسلام والتدين الإسلامي، أزمة الخوف من العالم والانسحاب منه، وليس بحال علامة على السداد وحسن التوجه في العالم.
كاتب سوري
القدس العربي