فارس حلو بكاميرا رامي فرح… توثيقُ معنى آخر للمواجهة/ نديم جرجوره
عنوانان لفيلمٍ واحد يختصران سيرةً، يُراد سردها فيه. عنوان أول باللغة العربية يروي “فارس حلو: حكاية ممثّل خرج عن النصّ”، بينما العنوان الإنكليزي يقول إنّ الفيلم يحكي قصّة “كوميديّ في مأساة سورية” (2019، 95 دقيقة)، علماً أنّ مفردة Comedian تعني ممثلاً أيضاً. العنوانان يتكامل أحدهما مع الآخر، ويلتقيان في سيرة الممثل السوري فارس حلو (1961)، التي يوثّقها السوري رامي فرح (1980) بكاميرا محمولة، وبمتابعة حثيثة لمسارٍ يخوضه حلو في بلده منذ مشاركته في “الثورة السورية” (2011)، حتى وصوله إلى فرنسا مع عائلته، بعد تهديداتٍ جمّة له ولها.
الفيلم وثيقةٌ، تتّخذ من الوثائقيّ نمطاً بصرياً لتسجيل لحظات يعيشها فارس حلو في مواجهته آلة القتل الأسديّ، مرتبطاً مع سوريين يُطالبون بكرامةٍ وعدالةٍ وحريةٍ. الفيلم تسجيليّ، يكتفي بأرشفة تلك الفصول الصعبة، التي يمرّ بها حلو في سورية وفرنسا، ويجهد في تحصين فعل المواجهة بجوانبها كلّها، وبعض الجوانب يتناقض مع أخرى (الخوف والقلق والهجرة رغم الرغبة في البقاء، مقابل التحدّي ومقارعة الظلم ورفض الانفكاك عن شعبٍ يواجه القتل سلميّاً، قبل بدء السلطة الأسديّة حرباً مفتوحة على البلد وناسه وتاريخه وراهنه وعمارته واجتماعه).
سيرتان في واحدة
فارس حلو ـ المنشغل في أدوارٍ كوميدية (غالباً)، تؤسّس حضوراً له جاعلةً من ملامحه وأدائه تمريناً على بلورة فنّ التمثيل (تلفزيونياً وسينمائياً أساساً) ـ يجد في اللحظة مُحفّزاً لقولٍ مباشر ينادي بحقّ، ويُطالب بشرعية الانتماء إلى بلدٍ يُراد له خراباً، وإلى شعبٍ يُدفَع إلى الموت والتهجير. والفيلم ـ إذْ ينبثق من ذاتيّة رامي فرح في علاقته ببلده، وعيشه طويلاً في ظلّ صورة قائدٍ واحد غير مُتبدّل إلاّ بوفاته ـ يمزج بين سيرة ممثل وسيرة مخرج، ينتمي كلّ واحدٍ منهما إلى “جيل” فني، وإلى قيمٍ وأحلامٍ وهواجس متشابهة، تتعلّق بالبلد والفنّ والكفاح الميدانيّ.
اللجوء إلى الفنّ، الذي يتحايل على الخوف كي يحكي عنه، كما في نصّ رامي فرح، يجمع مخرجاً بممثّل، “يُحبّه الملايين”، فهو “نجم حرّ لا يخاف”. يُضيف فرح بصوت الراوي: “وأنا أيضاً (لا أخاف)”ـ كأنّه يُعلن، منذ اللحظات الأولى لـ”حكاية ممثل خرج عن النصّ”، انعدام كلّ حدّ بينه وبين الشخصية الرئيسية، في مسائل آنيّة تجمعهما: المواجهة والتحدّي، ثم التواري عن الأنظار، والبحث عن منفذٍ لخروجٍ آمن، حمايةً للذات من التعذيب والقتل، وتأميناً لعيشٍ هانئ (وإنْ نسبياً) لعائلة مؤلّفة من زوجة (الفنانة سلاف عويشق) وصبيّتين في مقتبل العمر.
البداية مع انقلاب حافظ الأسد على سلطةٍ يُحوّلها إلى أداة قمع وترهيب. هذا منطَلقٌ حكائيّ لرامي فرح، يريده افتتاحاً لسيرة ممثّل يُقيم، مثله، في “جمهورية الخوف والقتل”، قبل انفضاض أناسٍ كثيرين، يُعلنون رغبةً في كرامة وحقّاً في عيش سليم وسوي. لكنّ الفيلم، المتحوّل بعد دقائقه الأولى إلى سيرة فارس حلو، لن يخرج من كلاسيكية وثائقيّة تتواضع في تسجيل لحظاتٍ، تُصبح أرشيفاً مُصوّراً عن حالة وتبدّلات وقلاقل وانفعالات. والدقائق الأولى تختزل بعض تاريخ سورية مع عائلة الأسد، بالاستناد إلى تسجيلات بالأسود والأبيض عن “تبوّء” الأسد الأب رئاسة البلد، ليكشف لاحقاً، بالألوان، “تبوّأ” الأسد الابن المنصب نفسه، في مشهدية تقول إنّ شيئاً غير متغيّر في منطق سلطة ديكتاتورية، يتوارثها أبناء عائلة واحدة في بلدٍ يجعلوه مُلكيّة خاصة.
بدايات الفيلم تُمهِّد لالتقاط نبض “انتفاضة” مدنيّة سلميّة عفويّة، وتترافق بصرياً مع اشتغالات فارس حلو، الراغب في عمل ثقافي ـ فني مستقلّ. لكنّ “المستقلّ” في سورية “يُشبه المستحيل”، ومع هذا يوفَّق حلو في تأسيس “البستان” (فضاء ثقافي ـ فني)، قبل تحطيمه على أيدي “شبّيحة” الأسد الابن، الذي يستلم الحكم عام 2000، حين يبلغ رامي فرح 20 عاماً: “20 عاماً من الخوف” تصنع، بحسب فرح، حاجةً إلى “تغيير الصورة إلى أخرى تُشبه الأمل والحرية”. فحلم الراوي (المخرج) يكمن في تحرّره من صورة حافظ الأسد “كي يرى بوضوح”. أما المستحيل نفسه فيتحقّق عام 2011، الذي يشهد كسر الشعبِ للخوف، للمرّة الأولى، بـ”نزوله إلى الشارع”.
وجهٌ مُغيَّب
أما فارس حلو، فـ”يمثّل شخصيات تُشبهنا وتحاكينا”، ومشروعه “محاربة الظلم والتطرّف بالجمال”، بحسب النصّ السرديّ لرامي فرح. الذاتيّ وثيق الصلة بالسيرة الخاصة بالممثل، وتغييب كلّ حدّ فاصل بينهما يهدف إلى إخراج الوثائقيّ من الذاتيّ والخاص، لجعل حكاية الـ”كوميديّ في مأساة سورية” أعمّ وأوسع، بتحوّلها إلى مرآة لسورية الثائرة، ولسوريين ينتفضون على بطشٍ يتحكّم بهم سنين مديدة. والكلام ـ الذي يقوله الراوي بين لقطات وصُور وأقوال وتصرّفات ومسالك وهواجس لفارس حلو ـ يُشبه تأريخاً شفهياً للحدث السوري السابق على القتل والتدمير والإقصاء والتغييب، التي تظهر لاحقاً عبر أشرطة وحكايات وانفعالات. يؤكّد الراوي أنّ أجمل ما في الثورة “أنْ لا رأس لها”، ومع هذا يُبدي حسرة مبطّنة، فغياب الرأس يمتدّ إلى عدم ظهور وجهٍ لها أيضاً: “مهمّ كثيراً للنظام أنْ يبقى الشارع بلا وجه، كي يتمكّن من تفصيل رأس على قياسه” (أي على قياس النظام).
معطيات معروفة تُكتب في البداية، عن الانتخابات “الديمقراطية” لحافظ الأسد، بنسبة 99 بالمئة دائماً، وهذا حاصلٌ مع بشّار الأسد أيضاً. تليها تسجيلات عن حراكٍ ومواجهات، وعن تظاهراتٍ وضحايا، وعن مشاركات حلو في هذا كلّه، فيوضع على لائحة سوداء لنظامٍ يرفض كلّ قولٍ خارجٍ عن “نصّه”. ومن مشاركة علنية إلى بداية رحلة التواري على درب الهجرة، يُصوِّر رامي فرح ساعاتٍ كثيرة، يولِّف منها (غلاديس جوجو) 95 دقيقة، ستكون شهادة حيّة عن فنان وأناس وعلاقات ومسارات ومصائر، وصولاً إلى باريس، وتنظيم تظاهرات واحتفالاتٍ بمشاركة مهاجرين آخرين، كالسينمائيِّيَن أسامة محمد وهيثم حقّي، والكاتب ميشال كيلو، وغيرهم.
يُكتب الكثير عن “حكاية ممثل خرج عن النصّ”، المُشارك في الدورة السابعة (20 ـ 26 أكتوبر/ تشرين الأول 2020) لـ”أيام فلسطين السينمائية”. فالفيلم ـ الذي يروي قصّة “كوميديّ في مأساة سورية”، والمُنجز في ذكرى مي سكاف وباسل صفدي وباسل شحادة وعمر أميرالاي، والمهدى إلى جنى وإلى الأطفال السوريين جميعهم المولودين بعد مارس/ آذار 2011 ـ يتضمّن لقطاتٍ (تصوير وتسجيل صوتي لرامي فرح) تقول مباشرةً أحوالاً ومشاعر وتفاصيل. استعادة مجزرة حماه، وخطاب الأسد الأب ضد الإخوان المسلمين (1982)، إشارةٌ إلى مُصابٍ يختزله الراوي بالقول إنّ الأهلَ صامتون وخائفون، وهذا يورّثونه إلى أبناءٍ، توقظهم “ثورة 2011” كاسرةً الخوف والصمت معاً.
مع فارس حلو ـ الذي يعود إلى التمثيل بعد أعوام عدّة من الغياب الفني، مؤدّياً دور جلاّد سوري هاربٍ من العدالة في إحدى حلقات المسلسل الفرنسي Le Bureau Des Legendes ـ يوثِّق رامي فرح راهناً سورياً نابضاً بالقهر والمواجهة والمنافي والخراب، في فيلمٍ (إنتاج ليانا صالح وسيندي لوتامبلييه وسينييه بيرجي سورنسن) متواضعٍ تقنياً وفنياً، لكنّه يمتلك توثيقاً بصرياً حيوياً وحسّاساً لفصلٍ من أعمال المواجهة السلميّة ضد نظامٍ فاشيّ.
مجلة رمان