أفلام قصيرة صُوِّرت خلال الحجر المنزلي على نتفليكس/ هوفيك حبشيان
18 سينمائياً من العالم يدخلوننا إلى بيوتهم في عزلة كورونا واقعاً وتخييلاً
نتائج الحجر الصحي الذي فرضته جائحة كورونا حول العالم منذ مارس (آذار) من العام الحالي بدأت تظهر سينمائياً، ويمكن الجزم منذ هذه اللحظة أن بعضاً من أهل السينما لم يهدروا وقتهم داخل جدران بيوتهم الأربعة، في حين كان آخرون يبحثون عن مادة تسلية ليمر الوقت بسرعة. فسلسلة الأفلام القصيرة (إنتاج إيطالي – تشيلي) التي تُعرض حالياً على “نتفليكس” في عنوان “هوممايد” (“صُنع في البيت”)، هي من هذه المشاريع التي ولدت خلال الحجر المنزلي وكانت نتيجة حتمية له. هذا أول مشروع عن الحجر ولكن بالتأكيد لن يكون الأخير. فالعالم كله، بعد عبوره محنة كهذه، سيبحث كيف يمكن أن يوظفها في الفنّ والثقافة والأدب والفكر. الحاجة كبيرة جداً لتوثيق هذه الحالة الشاذة التي لم نشهد مثلها في زمننا الحديث. وبالدرجة نفسها رغبة التنظير في ما آلت اليه أحوالنا النفسية والاقتصادية والاجتماعية تحت سلطة الوباء، أي في زمن عدو لا نراه ولكن نخشاه.
سلسلة “صُنع في البيت” تتضمّن 17 فيلماً قصيراً، لا تتجاوز مدة الواحد منها الدقائق الـ11، وهي من إخراج 18 سينمائياً وسينمائية من العالم أجمع، بعضهم يتمتّع بصيت دولي كبير وبعضهم الآخر لا يزال على طريق التكريس. المخرج التشيلي بابلو لاراين هو الذي خرج بالفكرة فعرضها على منصّة “نتفليكس” التي رحّبت بها، فتم تكليف السينمائيين بإنجاز أفلام تلتزم بعض الشروط: تصوير يجري داخل الحجر المنزلي ولا يستخدم سوى الإمكانات المتوافرة، أي عدم الاستعانة بمعدات سينمائية من الخارج، كما أُعطي السينمائيون فقط عشرة أيام لإنجاز المهمة. من هنا عُنوِن الفيلم بـ”صُنع في البيت”. لاراين يقول إن المشروع أشبه بأن تنظم حفل عشاء في منزلك ولا تطبخ سوى ما لديك في المطبخ.
مقاربات وأساليب
بين الأفلام المقترحة تنوع واضح في المقاربات والأنواع والأساليب، وهذا بديهي عندما يجتمع هذا الكمّ من السينمائيين والسينمائيات خلف فكرة واحدة. هناك من بينهم مَن اختار أن يقدّم فيلماً على شكل يوميات، وهناك مَن ذهب أبعد من ذلك. في النهاية، يصعب تجاهل حقيقة أن صناعة فيلم في ظروف استثنائية شكّلت نوعاً من التحدي عند بعض السينمائيين، فكان عليهم اللجوء إلى المخيلة والاعتماد عليها أكثر منها على الإمكانات المادية. من الملاحظ كذلك الاستعانة بأفراد من العائلة كالأطفال وغيرهم.
تستعرض السلسلة، من بين ما تستعرضه، كيف تعاطت كلّ ثقافة من الثقافات مع العزل المنزلي في زمن كورونا. كيف تفاعل وتعايش معه، أو حتى كيف سلّم نفسه له؟ هذا وحده يمد السلسلة بأهمية تكاد تكون أنثروبولوجية، إضافة إلى أننا نجد أنفسنا أمام توثيق بصري يرينا إلى أي درجة تغيرت الحياة في فترة قصيرة. في المقابل، اللافت في هذه السلسلة هو أننا نقتحم بيوت بعض السينمائيين لنرى درجة الرفاهية التي يتمتعون بها. وهذا دليل إلى أن لا يوجد شخصان عاشا الجائحة بالطريقة نفسها. وفي هذا الصدد يقول بابلو لاراين أن آثار الجائحة ستبقى ماثلة فينا وقد تغيّر نظرتنا إلى الحياة في المستقبل.
من بين السينمائيين الذين شاركوا في “صُنع في البيت”، الفرنسي لادج لي الذي صوّر في ضواحي باريس، حيث كان صوّر فيلمه السابق “البؤساء”، الإيطالي باولو سورنتينو، وريث فيلليني وصاحب “الجمال العظيم” والأفلام الإيطالية المغايرة، الذي صوّر في روما، الأميركية رايتشل موريسون التي اختارت لوس أنجليس، الألماني سيباستيان شيبر الذي كان قدّم قبل 5 سنوات فيلم “فيكتوريا” المؤلف من لقطة واحدة، وهو وضع كاميراته في برلين، اللبنانيان خالد مزنر ونادين لبكي اللذان صوّرا في مكان عزلتهما البيروتي، الأميركية كريستين ستيوارت صوّرت في لوس أنجليس، الأميركية ماغي غيلنهال التي صوّرت في فرمونت، وأخيراً التشيلي بابلو لوراين، صاحب الأفلام الصادمة كـ”النادي” الذي صوّر في سانتياغو.
رحلة إلى أقاصي الليل
طبعاً، في سلسلة كهذه، من الطبيعي ألا تكون كلّ الأفلام على مستوى واحد من الجودة، نظراً إلى مواهب السينمائيين أنفسهم التي لا تتساوى في ما بينها. لا مجال هنا لتناول كلّ الأفلام، لذا نكتفي بأفضلها، كذاك الذي صوّره باولو سورنتينو في عنوان “رحلة إلى أقاصي الليل”، بكاميرا تلفونه المحمول، استناداً إلى فكرة غير مسبوقة: لقاء بين الملكة إليزابيث الثانية والبابا فرانسيس. اللقاء يحصل في الفاتيكان خلال زيارة الملكة للحبر الأعظم، ولكن فاتيكان هذه ليست سوى بيت سورنتينو الذي اختار زوايا مدروسة لخلق الوهم بأننا في الفاتيكان. لا يوجد ممثّلون: البابا والملكة ليسا سوى مجسّمين يحركان يديهما فقط، واستطاعت كاميرا المخرج أن تدب فيهما الروح. الفيلم برمته يعتمد على التبادل الكلامي بين الملكة والبابا وينطوي على الكثير من الدعابة ليسرد في النهاية ما يُمكن اعتباره قصّة حبّ.
فجأةً، تطل علينا شخصية فيلم “ليبوسكي الكبير” ليبلغنا بأنه اتُخذ قرار الغلق، وأنه يتوجب على كليهما الالتزام بالحجر، الأمر الذي لا يزعج الملكة البتة، فهي، كما تقول، أمضت آخر 94 سنة من حياتها في الحجر. فقط عندما نسمع هذه الجملة، نعي عمّا يريد سورنتينو التحدّث: اختار شخصين عاشا كلّ حياتهما بين الجدران ليحكي من خلالهما قصّة وحدة وعزلة وميلانكوليا. وعليه، الفيلم مختلف جداً عن كلّ ما قدّمه سورنتينو إلى الآن، حتى أنه يسمح لنفسه بأن يأتي على ذكر أحد مسلسلاته “البابا الجديد”. هذا هو الفنّ الذي استطاع إنجازه في مثل هذه الظروف، وهي ظروف عمل ذكّرته ببداية عمله في السينما كما قال لجريدة الـ”غارديان”. فعندما كان شاباً يافعاً، أخرج هذا النوع من الأعمال مستعيناً بكاميرا “في أش أس”.
علبة الماضي
في فيلم بابلو لاراين، “الاتصال الأخير”، نرى رجلاً عجوزاً مريضاً يعيش في مصح يتصل عبر زوم بسيدة نفهم بسرعة من طبيعة الكلام الذي يقوله لها أنها كانت حبيبته قبل 30 سنة. يبدو أن العزلة التي حاصرته في زمن كورونا أعادت فتح علبة الماضي فأراد العودة إلى أحد فصوله. يعترف لها أنه لا يزال يحبّها على الرغم من أنه تخلّى عنها بأبشع طريقة ليتزوج غيرها. يحكي لها بشغف كم لم ينسَ التفاصيل العاطفية والجنسية، فهي تداهمه عندما يفكّر فيها. بدايةً، تستمع السيدة إليه، ثم ترد بأقسى العبارات معتبرةً أنه إذا كان فيروس كورونا اختُرع ليصيب أمثاله، فهو خير فيروس. نعي حينها أننا حيال زير نساء عذّب الكثير من النساء، والجائحة جعلته يسلك طريق التوبة. الفيلم بسيط جداً: الشاشة مشطورة شطرين: على يمينها الرجل، وعلى يسارها السيدات اللواتي يتحدّث معهن.
في فيلمه “كازينو”، صوّر الألماني سيباستيان شيبر يومياته خلال كورونا. نراه يستيقظ من النوم، يغسل وجهه، يجلس أمام الحاسوب للعمل، ثم يأكل الباستا نفسها كلّ يوم. وهكذا، تتكرر واقعه اليومي برتابة قاتلة. ثم تخطر في باله أن يعزف على الغيتار الكهربائي أغنية تقول “هناك مشكلة فيّ” التي هي أكثر كلام يعبّر عن حاله. لن يتفوه بجملة أخرى سوى ذلك. وفجأةً، يصبح سيباستيان شخصين بعدما يحلق شعر رأسه. فيبدأ الجديد بمراقبة القديم، كأنهما كائنان منفصلان بعضهما عن بعض، وهذا إحساس ربما داهم الكثيرين خلال الحجر المنزلي.
عزلة قاتلة
تقدّم الممثّلة كريستين ستيوارت فيلماً حميمياً “صراصير الليل”، فنراها تعبّر عن هواجسها. الكاميرا دائماً على وجهها، على بُعد سنتمترات منه. تقول ستيوارت أشياء غير مترابطة، بفعل المونتاج المتشظي، ثم في السرير، تتقلّب بلا نهاية. بصرياً، الفيلم هو الأجمل والأكثر ثراء، لا سيما في كيفية استخدامه للقطة المقرّبة على الوجه، على الرغم من أن ستيوارت لا تملك خبرة طويلة في الإخراج السينمائي. كلّ شيء، من القلق والملل والأرق، يتجسّد على وجهها والكاميرا تنقل هذا كله بأمانة عالية، معبّراً عن مأزق التواجد في عزلة قاتلة.
زميلتها الممثّلة ماغي غيلنهال التي تستعد قريباً لتصوير فيلمها الروائي الطويل الأول، قدّمت فيلماً في عنوان “بينيلوبي” لعب بطولته بيتر سارسغارد. إنه رجل يعيش وحده بعد موت عائلته، ويمضي وقته في الغابة إلى اليوم الذي يتلقى فيه هدية جهاز جديد لتحميص الخبز بدلاً من الجهاز الذي كان معطلاً. فيلم غيلنهال المصوّر في يوم ونصف يوم فقط، قد يكون الأقرب إلى الفيلم السينمائي الروائي، إذ يستوفي كلّ شروط السينما التقليدية ولا يشبه بشيء عمل “صُنع في البيت”، لا بل يحدث في المستقبل في زمن قيامة مفترضة، ويقدّم سرداً روائياً انطلاقاً من نظرية مفادها بأن الفيروس عدّل قوانين الفيزياء.