تجربة الهجرة والمنفى من زاوية التحليل النفسي/ علاء رشيدي
تُعتبر موضوعة الهجرة واللجوء من أكبر قضايا الحضارة الإنسانية خلال القرنين العشرين والحادي والعشرين. وقد جاء في تقريرٍ أصدرته الأمم المتحدة عام 1951، هو التقرير التمهيدي لمعاينة مشكلة اللاجئين: «اللاجئ هو بالضرورة من لا يملك وطناً. هو ضحية ضعيفة ومحزنة وبريئة لأحداث لا يمكن أن يتحمل مسؤوليتها».
لقد حدثت الهجرات منذ فجر الإنسانية، ويُطلِعنا كتاب التحليل النفسي للمهجر والمنفى1، لمؤلِّفيه ليون وريبيكا غرينبرغ، على الهجرة في الأساطير والديانات، ويَعتبر كاتباه أن أولى الهجرات هي التي حدثت بسبب فضول آدم وحواء، إذ حين تفتحت عيناهما وأدركا الخير والشر دفعا الثمن بعقوبة الطرد والنفي من الجنة وفقدانها أبداً. فيما أُرغم النبي ابراهيم على ترك مدينته أور مع قبيلته وقطيعه، وأُطلق على النبي موسى وجماعته اسم العبرانيين لأنهم هاجروا من مصر وعبروا البحر الأحمر باتجاه يهودا والسامرة.
في العصر الحديث، شهدت منطقتنا بشكلٍ خاص ظاهرة الهجرة بكثافة، من الهجرة اللبنانية إلى دول الانتشار هرباً من الحرب اللبنانية وبحثاً عن الفرص الاقتصادية، التي شملت نسبة 50 بالمئة من الشعب اللبناني، إلى الهجرة السورية الكبيرة التي برزت في أعقاب 2011 وشملت نحو ستة ملايين نسمة. تكاد لا تخلو مدينةٌ أجنبيةٌ من منفيٍّ أو مغتربٍ عربي عبر قارات العالم، إلا أن موضوعة الهجرة والمنفى لم تأخذ مكانتها المناسبة في الدراسات والكتابات العربية رغم ما يشغله المنفيون والمغتربون العرب من مساحاتٍ ساشعةٍ في بلدان العالم. ومن هنا تأتي أهمية التعريف بهذا الكتاب.
تأتي خصوصية هذا الكتاب، الذي ترجمه إلى العربية تحرير السماوي وصدرت نسخته العربية عن دار المدى، من تركيزه على الجوانب النفسية في تجربة الهجرة واللجوء والمنفى، ومعالجته هذه الموضوعات من زوايا التحليل النفسي وعلم النفس السريري، وتناوله عوارض فكرية ونفسية يمكن أن تكون عموميةً بقدر ما هي خاصة استُنتجت من تجارب هجرة عالمية متعددة وفي فترات تاريخية مختلفة.
الهجرة كصدمة وكأزمة
لا تحمل الهجرة طابع الصدمة بصورةٍ منعزلة، وإنما تبدأ من لحظة الفراق ومغادرة مكان المنشأ إلى لحظة الوصول إلى المكان المجهول الجديد حيث سيستوطن المهاجر. المُهاجِر والمَنفيّ يعانيان من أعراض الفوبيا، كالأرق والكوابيس التي تطرأ على شكل إنذارات خوف، تجبناً لفيض المخاوف ذات الطابع الكارثي.
وتُعتبر القدرة على إعادة تنظيم الحياة وتجاوز اللانظام، الذي يُحدثه المهجر ويتجلى في الخوف والتوتر والاضطراب، خلال فترة قصيرة معياراً لفشل أو نجاح الهجرة. يتطلب هذا امتلاك قدرة الاستيعاب والتكيف التي تقود المهاجر إلى تجاوز أزمته، والشعور بما يسمى «الولادة الجديدة» التي تساعده في تطوير قدراته الإنتاجية الإبداعية.
الهجرة إذن هي تجربةٌ ذات طبيعة صادمة وكامنة عصابياً، متمثلة في سلسلة من الأحداث التي تشكل حالة أزمة. فيما تؤدي الأزمة إلى الهجرة أو تكون نتيجة لها.
أنواع الهجرة
تتعدد أنواع الهجرات، فهناك الهجرة الداخلية كتلك المعروفة بين الريف والمدينة، والتي شهدتها سوريا بكثافة في الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين. والهجرة الاقتصادية كالتي عرفها لبنان باتجاه أميركا الجنوبية وأستراليا وأفريقيا. والهجرة الثقافية التي شهدها العالم العربي، المدفوعة بالفضول المعرفي وحركة التثاقف بين الشعوب، والتي تركزت نحو أوروبا بشكلٍ خاص، ثم أنشأت أدب المهجر العربي في القارة الأميركية. كان لهذا النوع الأخير من الهجرة أثر على الثقافة العربية، فتشكّلت في إثرها حركة النهضة العربية، وكثرت الكتابات المُقارنة بين الثقافة العربية والإسلامية من جهة والثقافة الأوروبية من جهةٍ أخرى.
ولعل من المفيد ذكر هجرات الشعوب الكبيرة نتيجة لعوامل تاريخية، وأقدمها هجرات القبائل في أوروبا وآسيا المركزية باتجاه الغرب إبان سقوط الإمبراطورية الرومانية. والهجرة الأوروبية والإفريقية إلى الأمريكيتين الشمالية والجنوبية ودول المحيط التي تسببت بتبعات تاريخية هامة.
هناك أيضاً الإبعاد القسري عن الوطن، كما هو حال المنفيين لأسباب سياسية ودينية وإيديولوجية، والمشردين والمطرودين واللاجئين الذين لا يستطيعون العودة إلى أوطانهم. وكما رأينا مع التجربة السورية أو تجربة الحرب الأهلية اللبنانية، فإن الهجرة الإجبارية لا تكون على مستوى الأفراد وحسب، بل على على مستوى الجماعات وفقاً لسياسة التغيير الديموغرافي. وكمثال من التاريخ للهجرة لأسباب سياسية أو دينية، أُرغم نحو عشرة ملايين نسمة بين عام 1974 و1950 على الهجرة من باكستان إلى الهند، فيما أُجبر سبعة ملايين على الهجرة من الهند إلى باكستان.
وبغض النظر عن العوامل الخارجية المُسبّبة للهجرة، فقد لعب الخيال اللاواعي دوراً مهماً في البحث عن المكان، الذي غالباً ما يُنظر إليه بمثالية لتوفيره الأمان المعيشي والحماية. وتحدث هجرات نتيجة بعض التغييرات الاجتماعية المهمة خوفاً من فقدان القيم والشروط الحياتية وخسران الذات، كما هو حال الهجرة التي يشهدها لبنان في الفترة الأخيرة، حيث يدفع ضيق الأفق وتغيّر شكل النظام السياسي والاقتصادي في البلاد إلى هجرة الأشخاص القلقين من هذا التغيير أو من انسداد الآفاق. يعجز الفرد في هذه الحالة عن مواجهة المخاوف التي تنتابه، وخاصةً الخوف من فقدان البنى الأساسية للمعايير الاجتماعية، ويُنتِجُ هذا إحساساً بغياب الأمان يستدعي العزلة والوحدة ويُضعِفُ الأسس الجوهرية للإحساس بالانتماء للمجموعة في المجتمع.
الهجرة والشخصية
يُصنَّف الأفراد بحسب نزعاتهم وميولهم للهجرة إلى صنفين: الراغبين بعلاقة مستدامة مع الناس والأماكن، والراغبين بالتواجد في أماكن مجهولة والتعرّف على أناسٍ جدد. ويعيد المحلل النفسي بالينيت هذين الصنفين إلى مفهومين إغريقيين عن الشخصية هما الـ«Oknophilie»، والـ«Philobatismus»، الأول هو التمسك بما هو متين ومضمون، والثاني هو البحث عن التجارب الجديدة والمثيرة. وهذان التعبيران مشتقان من الإغريقية، ويمكن ترجمة الأول بالتشبث أو القبض، والثاني بالسير على رؤوس الأصابع. ومن خصائص الأول التعلق بالناس والأماكن والميل إلى امتلاك العديد من الأصدقاء، أما الآخر فيتجنّب أي نوعٍ من الارتباط ويميل إلى حياة مستقلة.
يعتبر العالم النفسي وينيكوت أنّ المقدرة على مواجهة الوحدة هي علامة هامة على النضج، يتوصل إليها الفرد في طفولته لدى تعلمه كيفية التعامل مع مشاعره في إطار علاقته بأمه. فالطفل الذي يشعر بالبعد والاستغناء عن الوالدين في المشهد البدائي يكون أكثر قدرةً على ضبط ميوله وكراهيته، وينمّي قدرته على أن يكون وحيداً. وبالإسقاط على موضوعة الهجرة، فإن الأشخاص الذين يتّسمون بميلٍ حاد للوحدة والعزلة يواجهون، بالضرورة، صعوباتٍ أكبر، لأن هذا الإحساس يتفاقم في واقع الهجرة لفترة زمنية، مُضاعِفاً الإحساس باللا انتماء، فيشعر المهاجر أنه لم يعد ينتمي إلى العالم الذي تركه، ولا إلى العالم الذي وطأته قدماه.
تحليل ما قبل الهجرة
إذن، على المستوى الذهني والنفسي، تتضمن الهجرة مقداراً من التغيير. الفقدان الهائل عند المُهاجِر يشمل أكثر الأدوات قيمة ومغزى: الأشخاص والأشياء والأماكن واللغة والحضارة والعادات والمناخ، وأحياناً المهنة والمكانة الاجتماعية والاقتصادية. ويختلف الرثاء والحزن على الوطن المفقود إذا كان الفقدان نتيجة اضطهادٍ وملاحقة، حيث تستقوي المخاوف العصابية. أما إذا كان نتيجة قرار خياري فقد يعزز الكآبة والشعور بالذنب.
عن أثر الهجرة والرحيل على المستوى النفسي نذكر مثالاً، هو تلك الفتاة التي قرر والدها الهجرة لأسباب مهنية. كانت الفتاة تشعر بانقطاع تواصلها مع الناس، وبأنها «في عالمٍ آخر» ولا تستطيع حتى مشاركة الناس مشاعرهم. بدا لها أن أحداً لا يبالي بآلامها، وأدركت خسارتها وفقدانها للذين رحلت عنهم، رغم أنها تود العودة بعد بلوغها السن القانونية: «كان الرحيل مروعاً وقاسياً. يكون الاقتلاع مؤلماً حين تترك كل شيء وتواجه مستقبلاً مجهولاً».
في مجال علم النفس، تناولَ بيون الأفراد الذين لا يحتملون الألم والإحباطات، مشيراً إلى أنهم فاقدون للرغبة. بينما يرى بيتي جوزيف أنّ الألم والخوف الناتجَين عن تجربة الهجرة لا يشبهان الآلام المترتّبة عن الكآبة، فهي تحمل طبيعةً مختلفة.
الباقون في الوطن
ليس المهاجر وحده من يعاني من آلام عاطفية ونفسية، فالأقرباء والمقربون يعانون حتماً من مشاعر التخلي والفقدان والكآبة والحزن وشيء من العداء تجاه الراحلين لأنهم يعانون بسببهم. ويُنظَر أحياناً إلى الفراق كما يُنظَر إلى الموت، خاصةً في ظروف قسرية أدت إلى الهجرة. فالعودة غير قريبة والفراق نهائي منذ بدايته، وكما جاء في الأمثولة الشعبية: «الفراق هو قليلٌ من الموت». هذه المقارنة بين الرحيل والموت يمكن أن تتخذ شكلاً أكثر كثافة، فيُصبح الراحل بحكم الميت.
لا يعيش ذوو المُهاجِر حالة فقدان الابن كحالة موتٍ فحسب، بل يخافون أن يُفارقوا الحياة دون أن تسنح الفرصة لرؤيته مجدداً. في هذه الحالة، قد يُحمِّلُ الأهالي في قرارتهم الابنَ مسؤولية آلامهم وغياب أمانيهم المنتظرة وحرمانهم المؤبد. إلا أن هذه المشاعر تتغير إذا كان الرحيل قسرياً، لأسباب سياسية أيديولوجية مثلاً، فيكون الرحيل إنقاذاً لحياة الابن. في ظل هذه الظروف، يُستعاض عن ألم الفراق باليسر والراحة لابتعاد الابن عن الملاحقة والمخاطر. وهذا ما يحدث مع أهالي النشطاء السياسيين والاجتماعيين العرب، الذين يدفعهم ذووهم إلى الهجرة والرحيل خوفاً عليهم من الملاحقة والاعتقال، فينتاب الأهل مشاعر من الراحة لدى رحيل أبنائهم.
وعلى أية حال، فالباقون حالهم حال الراحلين، يتمسكون بآلية دفاعية تقيهم مواجهة الألم. وقد يغدو هذا الدفاع هوسياً يتمّ فيه إنكار الفراق أو تأييده. وتتجسد هذه الحالة في تعبيراتٍ من قبيل: «نبقى على اتصال» أو «سنلتقي قريباً» أو «كل المسافات قريبة بالتكنولوجيا والطيران». وفي بعض الأحيان يتخذ الدفاع سمةً عصابية، إذ قد يشعر الباقون في الوطن بأن المهاجر قد خانهم، فيصبح رد فعلهم مفعماً بالغضب والسخط واللوم، ويتهمون المهاجر بالتهور وعدم المسؤولية واللامبالاة تجاه من قاسمهم التجارب والحياة. وقد تفرز عملية الرحيل ردود فعلٍ سوداوية الطابع، يقوم فيها الباقون بصب اللوم والعتب على أنفسهم وتحمل الذنب ومسؤولية فقدان الراحل.
تتعلق الإشكالية الأساسية في عملية الهجرة، كفراق أو غياب، بالموت والحياة، في كونهما حركة ديالكتيكية دائمة. فمع الفراق يصبح الموت أكثر راهنية، وينبثق الصراع من أجل تجنبه.
الوصول
في شهادته الأدبية بعنوان يوميات مهاجر، يتطرق الأديب الإسباني ميجيل دليبس إلى التجربة العميقة والمحزنة في مواجهة الجديد والمجهول. البطل الرئيسي، لورنزو، الذي يهاجر من إسبانيا إلى تشيلي يقول: «نزلنا من سفينتنا في بوينس آيريس لنواصل سفرنا بالقطار إلى تشيلي. أحسست بالانقباض حين شاهدت ذلك الكم الهائل من البشر. لم أر له مثيلاً في حياتي. خمسة ملايين وجه يسير من أمام أنفي دون أن أتعرف على واحد منهم. قلت لنفسي: هذا أتعس من الصحراء. ثم شعرت بألمٍ شَمِلَ كل شيء، ولم أستطع إيقافه. بدأت أتذكر بلدي وبيتي وأصدقائي والمزارع، فسألت نينا، يا ترى ماذا يفعل أهلي الآن؟ وكم الساعة عندهم؟».
رهافة الشعور لدى المهاجر عند الوصول تكون جلية، وتشبه رهافة الشعور عند المولودين الجدد، إذ يكون الميل إلى قبوله كبيراً، كأن يبدي الآخر اهتماماً به أو يعامله بلطفٍ يوصل إليه الإحساس بأنه محبوب. بينما تعطيه المنغصات والمكدّرات في العالم الجديد إحساساً بالنبذ.
المُستقبِلون
لا بد هنا من الحديث عن المستقبلين، فردّ فعلهم من أهم العوامل في مصير الهجرة للقادم حديثاً، لأنه يؤثر على عملية استقراره وانضمامه إلى المجتمع بطرقٍ مختلفة. لكن سكان البلد يعانون بدورهم من صدمة تتعلق بقدوم المهاجرين، فبحضور الغرباء تتغير بنية المجتمع ونسيجه، وقد يصل الحد إلى إعادة مساءلة المعايير الأخلاقية والدينية والسياسية والعلمية. لذلك يصعب عليهم تقبل وجود الغرباء واحتضانهم.
ليس الغريب وحده هو من يشعر بالخطر بخصوص هويته، فالمجتمع المستقبل يتحسس، وبمستويات مختلفة، نوعاً من التهديد تجاه هويته الحضارية والثقافية ونقاء لغته وإيمانه الديني، وهويته الجماعية بالعموم. واتضح ذلك عبر تيارات اليمين المتطرف الأوروبي، مثلاً، إزاء المهاجرين وحركة اللجوء النشطة عبر المتوسط، وعبر بعض الفئات الجمهورية في الولايات المتحدة، التي تحاول باستمرار الوقوف في وجه ظاهرة الهجرة وقدوم اللاجئين الجدد خصوصاً من المكسيك.
في روايته القلعة يصور فرانز كافكا نفور أهالي القرية الكبير من قدوم بطل الرواية، مسّاح الأرض، فحتى الذين حاولوا مساعدته وحمايته قالوا له: «أنت لست من القلعة، أنت لست من القرية، أنت لا شيء. ولكن مع الأسف، أنت شيءٌ ما، أنت غريب، أنت شيءٌ زائدٌ يقف عثرةً في كل مكان ويثير المتاعب».
بالمقابل، هناك تيارٌ آخر مغاير الرؤية تجاه الهجرة وأكثر انفتاحاً، يرى في المهاجر غنى ثقافياً وتنوعاً اجتماعياً يعزز التعدد والانفتاح وتلاقح الثقافات في بلد اللجوء.
تطور عملية الهجرة والاندماج في المحيط
مما لا شك فيه أن على المهاجر أو المنفي الاستغناء المؤقت عن جزءٍ من فرديته كي يتسنى له الاندماج في المحيط الذي تبّناه. فكلما كبرت الفوارق بين الجماعة الجديدة والجماعة الأصلية، كبر الانقطاع. نستخلص هنا أن عملية الاندماج تتم ضمن مراحل ثلاث:
1. الألم المكثف في المراحل الأولى: الألم حول ما ضاع أو فُقد، والخوف من المجهول، وخوض تجربة الوحدة والعزلة، والعوز وانعدام الحماية.
2. بعد فتراتٍ زمنيةٍ يختلف طولها يستيقظ الحنين والهموم حول العالم المفقود: يبدأ المهاجر باسترجاع الذكريات بخليطٍ من المشاعر ويبدأ بتحمل آلامه. وفي الوقت نفسه، يضم إليه بتقدمٍ بطيء عناصر الحضارة الجديدة. ويصبح التفاعل بين دواخله والعالم الخارجي أكثر سلاسة.
3. يستعيد المهاجر في المرحلة الثالثة رغبة التفكير في الطموحات المستقبلية التي كان يخطط لها، وفيها تنجلي، تدريجياً، عن الماضي حالته المثالية بما هو الجنة المفقودة التي يرغب الفرد بالعودة إليها، ليستعيد المهاجر رؤية أكثر واقعية لماضيه.
الهجرة واللغة
تبين كتابات لاكان وتشومسكي أن اللغة تحدد تجربة العالم والفرد والآخرين، وتعطي دعماً للهوية الذاتية. لكن المهاجر يخسر لغته الأم، وهو يبتعد بذلك عن كل التجارب اللغوية التي عايشها في الطفولة والذكريات، ويخسر العلاقة التي يعرفها بين اللغة والدلالة على الأدوات والمعاني. كل ذلك لصالح لغة جديدة يجد نفسه مجبراً على التعبير والتواصل عبرها. وهنا يتحتّم على المهاجر أن يتعلم اللغة الجديدة، ويحاول التعبير بها، فيبتكر أساليب التواصل والتعبير، ويعيد بذلك اكتشاف العلاقة بين التواصل واللغة من جديد. ولأن المهاجر لا يتقن لغة بلد الهجرة فوراً، فهو يبتكر أساليب التواصل مع سكان البلد بحكم الضرورة، وذلك بإعادة التأليف أو التعديل في حقل الدلالات وتركيب الجمل والنحو.
الهجرة والسن
يختلف استيعاب تجربة الهجرة بين مرحلةٍ وأخرى من مراحل العمر: فالشباب أو من هم في مقتبل مرحلة النضج يعيشون التجربة باختلافٍ كبيرٍ عن المتقدمين في السن.
وبينت الدراسات النفسية أن الأطفال يعايشون تجربة الهجرة بصدمةٍ نفسيةٍ أقل وطأةً من تلك التي يواجهها الكبار، لأن الطفل يتمتع بإيجابيات أكبر، فبيئته المباشرة تقتصر على أشخاصٍ أقل: هم الأب والأم والإخوة. بالإضافة إلى أن الطفل أكثر ميلاً للتقليد، وأكثر قدرةً على استقبال الانطباعات والتعلّم والتكيّف.
لكن من ناحيةٍ أخرى، يعاني الطفل من افتقاداتٍ خاصة، فهو لم يساهم في قرار الهجرة، ولا يعي بصورةٍ عامة الأسباب الجوهرية التي أدت إليها، حتى لو حاول الأهل تفسيرها. ويعاني معظم أطفال المهجر بشدة من غياب الناس من محيطهم المألوف، كالأصدقاء والمعلمين والزملاء والأقرباء ومحيطهم الآخر كالمنزل والملعب والأماكن التي عرفوها. وهنا يمكن أن يُظهِرَ الأطفال اختلالاً بمختلف الأساليب والطرق، منها الارتباط اللصيق بالأم، وظهور أعراض الفوبيا، والانعزال ورفض المدرسة وصعوبة التعلم، والشعور بتهكم الأصدقاء واضطهادهم له لمجرد اختلافه عنهم في الشكل واللغة.
أما عن الهجرة في العمر المتقدم، فيذكر الكتاب أنها تتسم بالخصوصية والصعوبة. وبشكلٍ عام، لا يرغب المتقدمون في السن بالهجرة لأنها تكلفهم الكثير، كترك أشيائهم العزيزة التي تصبح مصدر أمانٍ وطمأنينة. وإذا استسلموا للهجرة أو المنفى لأسبابٍ قاهرة، أو من أجل اللحاق بأبنائهم خشية الوحدة، يكون حظهم أكثر تعاسةً، ويشعرون بعدم الاستقلالية، وقد يواجهون حالةً من الارتداد أو النكوص كالأطفال.
الهجرة والهوية
أحداثٌ كالهجرة والمنفى تُحدث تغيراتٍ غاية في الأهمية في حياة الفرد، ويمكن أن تتحول إلى عوامل مُهدّدة للإحساس بالهوية. كان فيكتور تاوسك من أوائل الذين أدخلوا مصطلح «الهوية» إلى أدبيات التحليل النفسي، وهو يرى أن على الفرد الناضج اكتشاف أدواته ونفسه كالطفل تماماً، وتكرار تجربته وصراعه من أجل الحفاظ على نفسه عبر «مواجهة الذات» و«الإحساس بالذات». ولا بدّ للمهاجر أو المنفي في صراعه من أجل الحفاظ على النفس أن يتشبث بعناصر مألوفة من الوطن، كالموسيقى والذكريات والأحلام التي تعكس أوجهاً من البلد الأصلي، كي يظل محافظاً على «الإحساس بالذات».
في كتابهما السابق الهوية والتغيير يحلل الكاتبان تصوّر وفكرة الإحساس بالهوية كنتاج لعملية تفاعل دائم لاندماج ثلاث روابط، هي المكانية والزمانية والاجتماعية. واستناداً إلى هذه الصيغة، يعرضان أهمية هذه الروابط المُشكّلة لأساس الإحساس بالهوية: الاندماج المكاني، ويشمل علاقات مختلف أجزاء الذات فيما بينها، وضمنها الذات الجسدية. الاندماج الزماني، ويربط تمثلات الذات في الزمن وانعكاساتها ويوفر استمرارية ضمنية تُعدّ قاعدةً للإحساس بالذات. والاندماج الاجتماعي، الذي يضبط العلاقات بين أوجه الذات والأدوات.
تجربة الهجرة تُمسّ من جانب هذه الروابط الثلاث بشكل عام، ويمكن لأحدها التأثير على البقية حسب الاضطراب الذي يتخلله. ومن هنا نجد أن بيوت المهاجرين والمنفيين مليئة بأشياء تقليدية تذكرهم بالوطن والماضي. فالفنون والأعمال اليدوية والموسيقى الشعبية والصور أو الأشياء الصغيرة المحببة لدى المهاجر تحمل معنىً واحداً، وهو حماية الروابط الثلاث للإحساس بالهوية المذكورة آنفاً، وتضمن التمايز بينه وبين مواطن ذلك البلد، وتُبرز وجود الماضي في البلد الذي ترك فيه المهاجر حياته، كما أنها تُظهر راهنية العلاقة بالأشخاص المُغيّبين.
الهجرة والنفس
يعتبر وينيكوت أنه من الخطأ اعتبار الأمراض النفسية مجرد انهيارات، فهي نظم دفاعية مرتبطة في الأصل بمعاناة حقيقية. ويمكن تبيان الخوف من الانهيار بكونه خوفاً من الموت، أو خوفاً من الخواء. يستشعر المهاجر هذا الخوف قبل حدوثه، في حال فقدان مكانه في المحيط الجديد، ويشعر بخطر وجوده ضمن ظرفٍ استثنائي ووقوعه في حالة اللا اندماج.
عدم التواصل هو من أول العوامل في تشكل الاختلال، ويصبح أكثر حدةً في تجربة الهجرة. فخصوصية لغة الغربة والعادات غير المألوفة وأساليب العلاقات الجديدة، كلها عوامل بانتظار المهاجر لمواجهتها. حالة الفراق عن الأدوات المعروفة، فضلاً عن انقطاع التواصل مع المحيط وتضاؤل المساحة التي يحتاجها المهاجر لخلق الروابط بين أدواته، تؤدي إلى معاناته من تجربة الفقدان وغياب الأدوات الحامية، لذلك هو معرض لخطر التقلبات النفسية والتزعزع.
المنفى
استُخدِمَت عقوبة النفي في العصور القديمة، فكان الإغريق ينفون مواطنيهم لأنهم اعتبروا النفي أشد العقوبات التي يمكن أن تنزل بالمواطن، وكانت تتم على الأغلب لأسباب سياسية.
في حالة النفي، تصبح كل العقد والمشاعر الأليمة المرتبطة بالهجرة أشد كثافةً وأكثر معاناةً وألماً. فالمَنفيّ الذي يُبتر من وطنه ومحيطه عليه أن يغادر حاملاً ألم الفقدان والخسارة دون توديع الأهل والأصدقاء. يعتبر سانشيز فيرلوسيو أن الوداع فعلٌ طقسي يهدف إلى حماية الحدود. لكنّ المنفيين حُرموا من طقس الوداع الواقي، وعلى الأغلب يُرحَّلُ المنفي بطريقةٍ فجائية وعجولة، فيتحول في أعماقه كل من أحبهم ولم يستطع توديعهم ويخشى من فراقهم للأبد إلى أمواتٍ لم يفترق عنهم بشكلٍ طبيعيٍّ يُرضي النفس. كما يشعر في الوقت نفسه بأنه إنسانٌ ميتٌ بالنسبة لهم. يضاف إلى ذلك أن العديد من المنفيين يعانون من أعراض النجاة من الموت، وترك الآخرين في حالة الخطر واحتمال الاعتقال أو الموت.
في المراحل الأولى يشعر المنفي بشيءٍ من البطولة، وخاصةً عندما يتم قبوله بإعجاب وترحيب واضحَين. أو يشعر، بسبب عقدة الذنب التي يحملها، أنه عاصٍ أو مرتدٌ أو خائن. وهذه الأحاسيس تؤثّر فيما بعد على اندماجه في العالم الجديد، لأن المنفي يعتبر هذا الاندماج نوعاً من الخيانة؛ خيانة القضية ومن تبقّى في مواجهة الخطر أو من فقد حياته. لقد عبّر بينيديت عن ذلك بقوله: «المنفى يسحق المرء ويطحنه. المنفى يعني التعذيب، فلا بد أن يتم إسقاط اللوم والذنب على أحدٍ ما، ويكون عادةً على أقرب المقربين للإنسان المنفي».
وفي الحالات القصوى، يواجه المنفي، لأنه أُرغم ولم يُخيّر، ظروفاً مؤلمةً كالمحكوم عليه أو المُعاقَب. وقد ذكر العديد من المنفيين أن العالم المحيط بهم يبدو كسجنٍ كبير، لأنهم مُنِعوا من البقاء في المكان الوحيد الذي يودون العيش فيه، أي الوطن. وكل الذين عايشوا تجربة السجن شعروا بأنهم منفيون، لأن الوجود داخل جدران السجن يعني الحكم بالنبذ والنفي. والموت بعيداً في أرض الغربة، يحمل موتاً أكثر من الموت نفسه، بسبب استحالة العودة/الحلم.
ختاماً، نذكر أنه مهما انطوت تجربة الهجرة على حالة من الألم والصعوبات النفسية، إلا أنها تمثّل حافزاً لشخصية الفرد، كي يكون أكثر انفتاحاً واستقلاليةً عبر السفر والانتقال والتعرف على الحضارات والثقافات الأخرى وتنمية الحس النقدي والمعرفة الإنسانية. ويمكننا اعتبار تطور حياة الإنسان كتعاقبٍ أو توالٍ من الهجرات، من حيث ابتعاده التدريجي عن أدواته ومفرداته الأولية في الطفولة، لكن بغاية اكتشاف لغات وأدوات وروابط أخرى محتملة لربطه مع العالم والوجود. ويمكن اعتبار الهجرة بذلك حالة تساؤلٍ وتجريب، ذلك أنها تسهم في توسيع الخيارات الذهنية والتجارب النفسية.
1. Psychoanalytic Perspectives on Migration and Exile.
موقع الجمهورية