إسماعيل الحامض…غيابه ترك مقعدا للحزن في كل فرح/ ميسا صالح
“لا أحمل مسؤولية اختطاف أبي للثورة كفكرة، وإنما للأشخاص والمحيط الذي أرى أنه قصّر بالدفاع عن أبي ومحاولة معرفة مصيره. فأنا كان عندي ثقة كبيرة إنو حتى لما انخطف بابا إنو الرقة مارح تسكت لأن بابا كل العالم بتحبو”. هذا ما تقوله هبة الحامض عن والدها الدكتور “إسماعيل الحامض” المختطف لدى تنظيم “داعش” من مدينة “الرقة” منذ الثاني من نوفمبر عام ٢٠١٣، إذ تحكي لحكاية ما انحكت عن أثر هذا الغياب والفراغ الذي تركه غيابه لدى كل فرد من العائلة.
“عندي حلم وطموح بيوم من الأيام إنو ارجع عسوريا وافتح عيادة بابا. عيادتو بعدا موجودة بالرقة ما تدمرت”. هذا ما تقوله لحكاية ما انحكت، هبة الحامض، وهي الأبنة الثانية للدكتور “إسماعيل الحامض” المختطف لدى تنظيم “داعش” من مدينة “الرقة” منذ الثاني منذ تشرين الثاني/ نوفمبر عام ٢٠١٣، والتي تفكّر بعد إنهاء دراستها (العلوم السياسية) أن تدرس الطب الذي كانت بدأت دراسته في سورية “ليس حباً بالطب، وإنما لأكمل مشوار أبي وأعيد فتح عيادته”.
لم تكن فترة الشباب لإسماعيل الحامض سهلة وتقليدية، فهذا الشاب قاده طموحه بحياة أفضل، إلى مغادرة أهله وقريته (كفر نبل) في ريف إدلب، بحثاً عن تجارب وخبرات أكثر انفتاحاً، وأفقا أوسع يلبي رغباته الفكرية والثقافية والاجتماعية ويخوض معاركه الخاصة معها.
درس الحامض في كلية الطب في جامعة حلب وعاش في حلب عشر سنوات استمرت من عام ١٩٨١ حتى عام ١٩٩١، وهي المدينة التي أثرت وأغنت وعيه الفكري والثقافي الذي بدأ يتبلور بشكله الرافض للسلطة القمعية الحاكمة، وشارك آرائه مع أصدقاء معارضين ضمن وسط ثقافي ضيق، مؤسّسا لنفسه شخصية قوية وغير تقليدية بالنسبة لمحيطه الاجتماعي. ولتأمين حياة أفضل لعائلته بعد زواجه عام ١٩٩٠ انتقل إسماعيل الحامض إلى مدينة الرقة عام ١٩٩١ وفتح عيادته الخاصة هناك، ليبدأ العمل والتأسيس لعلاقة متميزة وداعمة ومحبة مع زوجته وأطفاله ومحيطه الجديد، علاقة تصفها هبة بالقول: “بتذكر أنو لما كنت صغيرة كنت دائما قول أنو بابا أشطر طبيب على الكرة الأرضية. لهي الدرجة هو شخص استثنائي بنظري”.
(درس الحامض في كلية الطب في جامعة حلب وعاش في حلب عشر سنوات استمرت من عام ١٩٨١ حتى عام ١٩٩١، وهي المدينة التي أثرت وأغنت وعيه الفكري والثقافي الذي بدأ يتبلور بشكله الرافض للسلطة القمعية الحاكمة)
تعزّز وجهة نظرها هذه بالقول لحكاية ما انحكت: “كان أبي والدا محبا وحنونا، يضع عائلته دائماً في أولويات حياته، وقد يكون هذا رأي جميع الأبناء، إلا أنني أرى أبي استثنائي بالطريقة التي اختار بها حياته. فهو شاب خرج من بيئة محافظة نوعا ما، ودرس الطب وتزوّج من أمي التي أحبها كثيراً، وانتقلا للعيش معاً في مدينة “الرقة”، وبدآ مشوارهما بالكثير من الحب والمشاركة والعناية، وعندما جئنا للحياة أنا وأخوتي (العائلة مكوّنة من أربع بنات وصبي)، كان استثنائياً بمشاركته برعايتنا وتربيتنا، وكان له دور أساسي بهذا”.
وعيه وعدم تقليديته ودفاعه عن حقه بالاختلاف، دفعه لتأسيس “عائلة منفتحة بالمقارنة مع المحيط في مدينة “الرقة”، خاصة داخل المنزل. نحن جميعاً حظينا بدعم كبير من أبي فيما يخص خياراتنا وعلاقاتنا مع الغير، إلى درجة أنّ أبي كان صديقا لي، وليس مجرّد أب. لم أكن أتردّد بإخباره تفاصل حياتي، حتى لو كنت على علاقة مع شاب، ما كنت لا أخاف إخباره، بل بالعكس، كنت أشعر بالثقة بشكل أكبر عند معرفته، وقد يكون هذا النمط من العلاقات بين الأبنة ووالدها غير موجود بالعائلات السورية التقليدية، إلا أن أبي هيّأ لعلاقة استثنائية بيننا تتجلّى بالحب والإحاطة والثقة”.
الأم وسفينة العائلة
هذه الثقة هي ما تفتقدها هبة اليوم بعد اختطاف والدها الذي ترك أثره على العائلة كلها، حيث تساندت العائلة كلها لمواجهة شبح هذا الغياب، إذ “تحولت أمي بسرعة إلى امرأة جبارة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، أصبحت هي الأب والأم، ومصدر قوتنا وسبب توازننا في العائلة، إذ رغم الحزن الذي كان يعصر قلبها،وجدت نفسها تحارب على جبهتين: الحفاظ على سلامتنا، ومعرفة مصيره”.
هذه الأم التي كان للزوج الغائب أثره عليها أيضا، إذ شجعها وهي في عمر الأربعين من عمرها على تقديم “البكالوريا” والدراسة الجامعية، و”حمل عنها عبء كبير بتربيتنا لكي تقوم هي بإكمال دراستها وتحقيق أحلامها” كما تقول هبة.
رغم قرار الأم ومن خلفها العائلة بالصمود وعدم الانهيار في وجه هذا الغياب، إلا أنّ الأمر لم يمر دون منغصات، إذ “أكثر ما يؤلمني ويشعرني بالقهر وإلى اليوم، هو اضطرار أمي للجوء إلى أناس “حثالة” من “داعش” لتترجاهم من أجل معلومات عن أبي”. تقول هبة وهي تعصر ذاكرتها بألم: “أذكر كم كان صاعقا ومؤلما بالنسبة لي، المرات الكثيرة التي تعاملت فيها أمي مع دواعش كل همهم إذلال النساء ، لأن أمي طالما كانت بنظرنا امرأة قوية ومستقلة ومناضلة، وهي كذلك حقا، إذ رغم وقوفها أمام “شبيحة بدقن” لتترجى من أجل معرفة مصير أبي، والجري وراء معلومات عنه، كانت تناضل لتحافظ على العائلة كما تركها وأحبّها ويعرفها، ولم تترك أي فراغ ليتسلل منه أحد من أفراد عائلة أبي أو أمي ليمارس أي نوع من السلطة علينا، تحت أي ظرف كان، كما يعود لها الفضل وحدها تماماً في نجاتنا وخروجنا أحياء وسالمين من سوريا إلى فرنسا. أنا متأكدة أن أبي سيكون فخورا بها”.
البحث عن “رجل يشبه أبي”
تغييب إسماعيل الحامض عن عائلته جاء في لحظة مصيرية بالنسبة لعائلته، إذ اعتقل وهم/ن في سن النضوج، فكانت الكبيرة ماري، والتي كانت تبلغ من العمر ٢٠ عام، هبة ١٩ عام، سارة ١٩ عام، ريم ١٤ عام، والصغير حازم كان ما يزال ١١ عام ، في وقت هم/ن بأمس الحاجة لمشاركة أحاسيسهم وهواجسهم معه ليقدّم لهم/ن النصائح، إذ
رغم “أنني الآن في مكان آمن ووضع عائلتنا مستقر نوعا ما، وتجمعنا روابط عائلية قوية، نحاول من خلالها جميعاً البقاء متماسكين وندعم بعضنا للاستمرار، إلا أنني أشعر أنّ هناك جزء كبير من خياراتي كإنسانة أصبحت مرتبطة بأبي بشكل كبير، مثلاً علاقاتي العاطفية التي مررت بها تعكس تماماً هذا الارتباط وتعلقي بأبي وبتجسيده في نظري للرجل المثالي، وأنني فعلياً إلى اليوم أجد صعوبة في إيجاد الشخص المناسب، لأنني ما أزال أبحث عن ذلك الرجل الذي يشبه أبي أو على الأقل بصفات منه، وأكيد ما رح لاقي متل بابا”.
(هبة الحامض مع والدها. تقول هبة عن علاقتها مع والداها: ” أشعر أنّ هناك جزء كبير من خياراتي كإنسانة أصبحت مرتبطة بأبي بشكل كبير، مثلاً علاقاتي العاطفية التي مررت بها تعكس تماماً هذا الارتباط وتعلقي بأبي وبتجسيده في نظري للرجل المثالي، وأنني فعلياً إلى اليوم أجد صعوبة في إيجاد الشخص المناسب، لأنني ما أزال أبحث عن ذلك الرجل الذي يشبه أبي أو على الأقل بصفات منه، وأكيد ما رح لاقي متل بابا”.)
غياب الأب لم يترك أثره هنا فحسب، بل يكاد يحاصر كل تفصيل تعيشه هبة وأخواتها، بدءا من العلاقة مع الأقارب والجيران والأصدقاء، حتى الشارع، إذ تقول هبة لحكاية ما انحكت: “مثلا أختي وأنا تعرضنا أحد المرات للتحرّش من شخص بالشارع، وكان معنا أحد الأقارب الذي قام بالطبع بالدفاع عنا، إلا أنه كان شديد “الدبلوماسية” مع المتحرّش. وقتها أحسست بهذا الفراغ، وتذكرت فوراً موقفاً مشابها حدث لي في سوريا، وعندما عدت للبيت وشاهدني أبي أبكي، وأخبرته ما حدث، أصابه الجنون، ونزل للشارع ليبحث عن الشاب بالمواصفات التي سردتها له ويعيد لي حقي. متأكدة أن أبي ما كان ليتصرف بعنف إلا أنني متأكدة أنه لن يكون دبلوماسيا معه أيضاً”.
الأسوأ اليوم أنّ غيابه يشعرها بالضعف والتلاشي “أذكر أنني كنت أقوى حتى بمواجهة “داعش” ذاتها، لأن أبي موجود وأثق أنه سيحمينا منهم. ما بعرف كيف بس هيك كنت حس”.
مقعد للحزن في كل فرح عائلي
رغم محاولة هبة وعائلتها ممارسة حياتهم بشكل طبيعي كما كان يتمنى لهم أباهم، إلا أنهم أخفقوا دائما دونا عن إرادتهم، إذ كثيرا ما وجد الحزن لنفسه مقعدا داخل أفراحهم وكأنه فرد من العائلة لا مجرد ضيف، واصفة الأمر بالقول: “نشعر أن ممارسة الحياة بشكلها الطبيعي هو ذنب لا يجب أن نرتكبه، وهذا بحد ذاته كان يترك كارثة نفسية واجتماعية. حتى بعد وصولنا لفرنسا، أجد نفسي مبتعدة تماماً عن أي نشاط اجتماعي أو جامعي، أشعر أنه من المعيب أن أكون بأجواء فرح، وأن كل شيء يجب أن يكون متمحورا حول هذا الغياب وعنه”.
(رغم محاولة هبة وعائلتها ممارسة حياتهم بشكل طبيعي كما كان يتمنى لهم أباهم، إلا أنهم أخفقوا دائما دونا عن إرادتهم، إذ كثيرا ما وجد الحزن لنفسه مقعدا داخل أفراحهم وكأنه فرد من العائلة لا مجرد ضيف)
لم يتوقف الأمر هنا، بل وصل حد تحوّل الأفراح والأعراس إلى مناحات “أذكر أنّ عرس أختي، تحوّل إلى تراجيديا، رغم محاولتنا جاهدين أن نفرح، ولم يكن السبب مرتبط فقط بغصّة قلوبنا، أنّ أبي غير موجود ليفرح بزواج أول بناته، وإنما كان ألماً على مستويات عدّة، خاصة بالنسبة إلى أمي التي شعرت بثقل المسؤولية، رغم أنّ القرار بخيار العريس عائد إلى أختي، فخوفها من مسؤولية هذا الزواج، وكيف كان أبي تصرّف حياله وموقفه منه، سبّب لها ألما كبيرا” دون أن يتوقف الأمر هنا مرة أخرى، إذ تجدد “بعد أن أنجبت أختي ابنتها الأولى (تالا)، كان أبي حاضرا، ليس لعدم رؤيته حفيدته الأولى فحسب، وإنما بسبب الألم الذي سبّبته القصص التي بدأت أمي ترويها عن الطريقة التي كان أبي يربينا ويعتني بنا بها عندما كنا أطفال بدورنا، مستعيدة كل تفاصيل طفولتنا التي كان أبي موجودا فيها وحارسا لها”.
العلاقة مع سوريا والثورة
لم يتردد إسماعيل الحامض باصطفافه مع ثورة الشعب السوري، وكان داعماً لها منذ البداية حيث قرّر مغادرة السعودية مع بداية الثورة عام ٢٠١١ التي كانت مكان عمله منذ عام ٢٠٠٩، وعاد إلى سوريا لينضم للثوار في مدينة الرقة، وعرف بمواقفه المعارضة الواضحة ضد نظام ديكتاتوري عنيف. ولا ينكر أحد من مدينة الرقة ما قدمه الدكتور إسماعيل لدعم الثورة والمجتمع المحلي قبل أن يتم اختطافه عام 2013.
(لم يتردد إسماعيل الحامض باصطفافه مع ثورة الشعب السوري، وكان داعماً لها منذ البداية حيث قرّر مغادرة السعودية مع بداية الثورة عام ٢٠١١ التي كانت مكان عمله منذ عام ٢٠٠٩، وعاد إلى سوريا لينضم للثوار في مدينة الرقة)
اعتقال الحامض على يد “داعش” والتي تعتقد هبة “لأنه شخصية مؤثرة في الشارع ومعارض شرس للتنظيم والنظام، ما كان يخاف يعبر عن رأيه بالتنظيم، وعبر كتير عن رفضه ومعارضته إله”، وهو الأمر الذي ترك أثره على عائلة الحامض التي وجدت نفسها في موقف دفاع، إذ تقول هبة: “أكثر ما يزعجني هؤلاء/ت الذين يحاولون استخدام اختطاف أبي من قبل داعش لتحميل المسؤولية إلى “الثورة” التي دعمناها وتبنيناها، معتبرين/ت أن “داعش” نتاج لها”.
والأسوأ، برأي هبة، أن يصل البعض حد تخييرك بين “داعش” و”النظام السوري”، عبر “محاولة جرّ الأهالي لفكرة أنّ الاصطفاف مع الثورة هو الذي أدى لاختفاء أحبابهم، وهذا الشيء مؤلم فعلاً، لأنني رغم الذي حدث وقسوته، أحاول دائماً أن أوضح موقفي وعدائي “للنظام السوري” الذي أوصلنا بالأصل “لداعش”، هو عدوي الأساسي، دون أن ينفي عدائي لداعش. وبالنسبة لي التنين متل بعض واحد بكرافيتا والتاني بدقن وهاد ما بيلغي إنو الطرفين أعدائي. لذا من المتعب حقاً أن يضعك العالم أمام الخيارين، وكأن خياراتنا السياسية كعائلات يجب أن تكون بهذه السطحية”.
(تقول هبة الحامض لحكاية ما انحكت: “، أحاول دائماً أن أوضح موقفي وعدائي “للنظام السوري” الذي أوصلنا بالأصل “لداعش”، هو عدوي الأساسي، دون أن ينفي عدائي لداعش. وبالنسبة لي التنين متل بعض واحد بكرافيتا والتاني بدقن وهاد ما بيلغي إنو الطرفين أعدائي. لذا من المتعب حقاً أن يضعك العالم أمام الخيارين، وكأن خياراتنا السياسية كعائلات يجب أن تكون بهذه السطحية”. المصدر: مؤسسة دولتي، وهي تنشر بموجب الاستخدام العادل والحقوق محفوظة لأصحابها)
ولكن رغم حبها للثورة وانتمائها لها ودفاعها عنها، تقول في لحظة يأس: “بس أكيد لو كان إلي الخيار بأول الثورة وكان خياري أنقذ بابا أو اختار الثورة أكيد حأختار أنقذه واطلع برا سوريا، حتى لو كان هاد الحكي أناني”.
من يتحمل المسؤولية؟
“لا أحمل مسؤولية اختطاف أبي للثورة كفكرة، وإنما للأشخاص والمحيط الذي أرى أنه قصّر بالدفاع عن أبي ومحاولة معرفة مصيره. فأنا كان عندي ثقة كبيرة إنو حتى لما انخطف بابا إنو الرقة مارح تسكت لأن بابا كل العالم بتحبو”. إلا أن شيئا من هذا لم يحصل، الأمر الذي انعكس على علاقة هبة مع سوريا نفسها، إذ تقول: “لم أعد أشعر بحنين إلى سوريا وأحمد الله أننا نجونا منها، لم تعد سوريا بلدي الآمن فهناك خُطف منا أبي، وتُركنا وحدنا مع شبح الخوف المستمر على باقي أفراد العائلة. فعلاقتي مع سوريا كتير متناقضة وكتير أحيانا بكره هاد المكان اللي كنا فيه وبتمنا لو ما كنا. وبنفس الوقت عندي حنين لا أستطيع نكرانه وهو مرتبط بعائلتي بشكل كبير، بحن لبيتنا أكتر من الرقة بحن لغرفتي”.
تمسكو بالحياة ولا تفقدوا الأمل
تختلف قدرات وأدوات كل عائلة بالتعاطي مع فاجعة غياب أحبتها، إذ لا يوجد عائلة تشبه الأخرى بآليات تعاملها مع الحزن، حيث ترى هبة أن العائلة هي الأساس في تخفيف الألم وتضميد الجروح، وهي من تُقدم الدعم لكل فرد منها ليكون قويا وينجو من الانهيار، على الرغم من قسوة فكرة الاستمرار بحياة طبيعية، إذ تقول: “أكيد أننا بحاجة للبكاء والانهيار والحزن، فأنا كان لدي قدرة كبيرة على البكاء، وكنت في الشهور الأولى من اختطاف أبي لا أستطيع التوقف عن البكاء، وخاصة بأول زيارة لي لبيتنا في “الرقة”، ومشاهدتي للوضع المأساوي الذي وصلت له أمي بعد أن خسرت الكثير من الوزن، وشحب لونها، وشاب شعرها، وكأنها كبرت ألف عام، إلا أنها لملمت كل انكساراتها وقهرها لتحتضن العائلة، وتحافظ على استمرار الحياة، وهذا ما فعلناه جميعاً، فلولا قوتها نحنا ما قدرنا كملنا ونوقف عإجرينا ونتعايش مع الوضع”.
التمسك بالأمل بأن الأب سيعود يوماً ما، وتحقيق الإنجازات التي تصفها ب “الصغيرة لتكون محل فخر أبي بي وما وصلت له”، هو ما يساعد هبة على مقاومة الانهيار، متمنية “لو أن أخبارنا تصل لأبي، ويعرف أن أمي نجحت بحمايتنا، وكيف تصرفت، والقرارات الذي أخذتها، وكيف أننا اليوم جميعا بخير ونتابع دراستنا ونكمل حياتنا سيكون مُطمئنا علينا ويهدأ قلق قلبه علينا”.
كان ألم هذه العائلات يوماً ما قضية عامة، شارك فيها وطن مفجوع بأبنائه، وشارك فيها المجتمع والأصدقاء، الا أنه في النهاية تحّول ألما شخصياً، مزمنا، يشعر به، فقط، أفراد العائلة، كل على طريقته، وتبعا لارتباطه/ها بالغائب، وهم/ن وحدهم/ن من سيبقى الحامل الأساسي لهذا الألم، والذي من الممكن ألا يجد نهاية له وقد يصبح عابراً لأجيال هذه العائلات.
تختم هبة قائلة لحكاية ما انحكت: “غياب بابا فتح عيوني على حجم المسؤوليات والجهد والمقاومة اللي بقدمها الأب والأم لنجاة العائلة، وكل حدا فينا عم بيحاول ياخد جزء من هي المسؤوليات وعم بيحط كل طاقتو بكل التفاصيل لنكون مناح، بس دائماً رح يبقى محل بابا فاضي ودائماً حنبقى عم ننتظر اللحظة اللي يرجع عحياتنا ويمليها ويرجع يعبي كل التفاصيل ونكبر بكل إنجازاتنا وتجاربنا قدام عيونو”.
حكاية ما انحكت