إذا سبقت الموسيقى الكلمات/ إيمان مرسال
١
قرأت كتاب جوليوس بورتنوي الفيلسوف وفن الموسيقى وأنا طالبة في الثانويّ. لقد جذبني عنوانه في الهيئة العامة للكتاب بالمنصورة وكان سعره رخيصاً. لا أعتقد أنني فهمت منه الكثير ولكن كنت مبهورة بفكرة الكتابة عن الموسيقى. كانت الموسيقى بالنسبة لي شيئاً لا يمكن وصفه أو تحليله. مؤخراً، بدأت أنتبه لما يقوله الكتّاب عن الموسيقى وكيف يمكنها أن تقدم حلولاً قد لا يجدونها في النوع الأدبي الذي ينتجونه. على سبيل المثال، يحكي الشاعر الصربيّ–الأمريكيّ تشارلز سيميك أنه في شبابه كان لا يجد شعراً جيداً في الدوريّات الأمريكيّة التي يتابعها، وأثناء انشغاله بالبحث عن الشّعر الملهم، ذهب ليلة إلى بار واستمع إلى سوني روللِنز يعزف على الساكسفون. يصف سيميك كيف يقلب رولِلنر اللحن ويحطمه مكتشفاً إيقاعاته المستترة، وجمالياته اللحنيّة ثم يضيف:”الدرس الذي تعلّمته: جماليّات الفوضى المُحكمة. وجدتُ في روللنز، تشارلز باركر، وثلونيُوس مونك المثال الأفضل لما يمكن أن يكون عليه الفنان أكثر مما وجدتُ في معظم الشعراء”. بالنسبة لي، لا أستطيع أن أحدّد بالضبط كيف تؤثر الموسيقى على عملي، ولكن حالات السماع تبدو لي دائماً مصدر طاقة وإلهام وربما انفصال عن معركة الحياة اليوميّة بما فيها الكتابة نفسها.
٢
أغاني الثلاثي المرح من الراديو المصريّ في الصباح الباكر هي أول ما أتذكره من طفولتي. ما زالت أغنيات مثل يا صبح يسعد صباحك، و على نور العين ، تجعلني أستعيد في داخلي الصباح والراديو وأمي. يرتبط الاستماع لأم كلثوم بأبي، بليالي الصيف وجلوسنا في براندة البيت أو السطوح بحثاً عن نسمة هواء. فايزة أحمد لها قصة مختلفة؛ كان خالي يوصلني أنا وابنته يوميّاً من قريتنا إلى المدرسة الثانوية في مدينة دكرنس في طريقه لعمله. كانت سيارته تقطع المسافة في حوالي نصف ساعة في الصباح، طوال شهور كان كل ما نستمع إليه هو مختارات سجلها خالي بنفسه من أغنيات فايزة أحمد القديمة. السبب وراء ذلك كان أن هذا الشريط علق في كاسيت السيارة وفشلت محاولات إخراجه. لقد أدهشني أنني عندما بدأت الكتابة عن هذه الفترة من حياتي عدت للاستماع لهذه الأغاني. أظن أن الموسيقى تجعلنا نتذكر مزاج لحظات من الماضي أكثر من أي فن آخر. في التسعينيّات، قدم لي أصدقائي مثل المترجم أحمد حسان والكاتب ياسر عبد اللطيف نافذة جديدة على الموسيقى، فقد بدأ اهتمامي بالمغنيات الشعبيّات مثل شفيقة وببعض الفرق الموسيقيّة الغربيّة عبرهما. ثم في منتصف التسعينيّات قابلت مايكل فريشكوف الذي سيصبح زوجي، كان يعد رسالته للدكتوراة عن الموسيقى الصوفيّة في مصر، ورغم أنه عازف بيانو وجاز بالأساس إلا أن رحلاتي معه خلف الشيخ ياسين التهامي وأحمد التوني في قرى مصر وزياراتنا الأسبوعية لبعض الفرق الصوفيّة وحضراتها في القاهرة كشف لي مشهداً ثريّاً للاداء الموسيقيّ الحيّ ولجماليات السماع الجماعي. كنت ألمس جواً شبه إيروتيكيّ في مثل هذه الاحتفالات وحتى الآن لا أفهم سببه. التسجيلات التي أستمع إليها باستمرار في بيتي هي أسطوانات الجاز القديمة التي جمعها زوجي بنفسه أو آلت إليه من والديه، والغريب أننا نستمع إليها من جهاز تشغيل اسطوانات قديم ورثه من جدته التي كانت عازفة بيانو. إنه جهاز يشغل مساحة كبيرة ولا يخلو من حشرجة أحياناً ولكن درجة نقاء الصوت ووضوح الآلات تجعلك تفضله على أجهزة تشغيل الاسطوانات الحديثة.
٣
مؤكد أن للموسيقى وظيفة اجتماعيّة في كل مكان، إنها لغة مشتركة، وذاكرة جماعيّة، ومكوّن أساس في الهويّة. لكن إذا كان عندي سؤال حول هذه الوظيفة فهو أسباب تحجيمها في مجتمعاتنا. أظن أن هناك سلطة محافظة تقوم بتنقيّة الموسيقى العربيّة مما تعده شوائب من وجهة نظرها أولاً بأول. هذه السلطة قد تكون سياسيّة في الأعم (حريّة شغل الميادين والشوارع في مجتمعاتنا ممرهونة بإذن السلطة البوليسيّة أو منعها). ولكن أيضاً هناك سلطة أخلاقيّة تمارسها الطبقة الوسطى التي ما زالت تسيطر على الإنتاج الفني، وهي تتبنى تصوّراً إشكالياً عن الحداثة يلخصها في إدخال آلات غربيّة أو في استلهام التراث الغنائيّ وتقييفه. هناك سلطة اقتصاديّة أيضاً لشركات الإنتاج والمتحكمين في الإعلام ومنظمي الحفلات وغيرهم. ربما يقول قائل إن هذا موجود في كل مكان، لهذا أضيف أن الأمر نسبيّ. في غانا على سبيل المثال؛ شاهدتُ بنفسي وجود الموسيقى اليوميّ والطقوسيّ، ما يمكن أن تسميه Community Music؛ هناك غناء وعزف ورقص جماعي لا يوجد فيه منتج ومستهلك، الشارع والميادين وساحات المعابد و الجامعة هي مسارحه. لقد حضرت جنازة في قرية دجباماتاي في إقليم الفولتا ويمكنني أن أقول أن كل فرد في القرية من أكبرهم إلى أصغرهم، من نساء ورجال، كان مشاركاً في توديع الميت بالرقص والغناء. لقد لفت انتباهي وجود عدة أطفال لا تزيد أعمارهم عن الخمس سنوات، أمسك كل منهم بوعاء وعصا ليشارك حتى أن واحداً منهم كان يعزف على زجاجة مياه معدنيّة فارغة.
٤
ربما لأن كلمات الأغنيات ما زالت مركزيّة في الموسيقى العربيّة، والشعر العربي نفسه لم يتطور فيما يخص تناوله لـ الحب أو الوطن وهما موضوعين أساسين في الغناء. عندما حدث خروج عن تقاليد وصف الملهمة والشكوى والهجر في قصيدة النثر العربيّة، ظل ذلك منفصلاً كليّاً عن الغناء. يلعب رأس مال شركات الإنتاج دوراً في ذلك؛ حيث يتم تدويره بنفس الطريقة مع كل ألبوم جديد لأحد مغنيها: البحث عن شاعر وملحن ومغني، هذا يجعل المغامرة محدودة وأهمية الربح المعقول تغلق الباب في وجه اكتشاف الجديد والذي قد يزيد الأرباح بالطبع ولكنه قد يفشل أيضاً. السبب الأهم في رأيي هو هذا الفصل بين المغني والشاعر والملحن، ليس عندنا الكثير من التجارب التي يقوم فيها المغني بكتابة كلماته وتلحينها، كما لا يوجد عمل جماعيّ كما يحدث في الكثير من المشاهد الموسيقيّة حول العالم. لهذا عندما تتأمل الأغنية العربية، تجد أن الاقتراحات المختلفة بشعر غنائيّ مغاير جاءت من خلال الفرق الغنائيّة وبعض الهوامش التي نجحت في دخول المتن مثل أغاني البحر أبو جريشة وأحمد عدويّة ومحمد منير وزياد رحباني وأغاني الراي والآن أغاني المهرجانات. مع ذلك، لا أعتقد أن المخرج من رتابة الكلمات سيكون على يد المغني المثقفتيك أو المتأدلج. هناك تجارب فردية يبدو فيها هذا النوع من المغنين وكأنهم مخلصون للأفكار أكثر من إخلاصهم للموسيقى، كما يعانون من التشتت بين ما يظنونه فن راقي وبين تبادل المتعة مع جمهور، وتكون النتيجة أنك تشعر أن المغني نفسه غير مستمتع بما يغنيه. ربما على الكلمات أن تتراجع في سيطرتها على الموسيقى العربيّة؛ أقصد، ربما إذا سبقت الموسيقى الكلمات سيتغيّر الاثنان معاً.
https://www.youtube.com/watch?v=Ku5F6bGvHjs