خدّي بيوجعني من بوس امْبارح.. الإباحية في أغاني الموروث الشعبي المصري/ خلف جابر
في غرفة داخل منزل العروس، تجمّعتْ بنات أهالي العروسين، تتوسطهنّ إمرأة تقوم بدور المُغنّي، بينما هنّ يجلسن في حلقة حولها يؤدين دورَ الكورس، تسمعهنّ دائمًا يُردّدن آخر كلمة من أغنيتها، أو جملة ثابتة؛ أغاني تعكس بيئتهنَّ البسيطة، وعالمهنَّ الخاصّ، إلَّا أنَّ أبرز ما يُلاحَظ في تلك الأغنيات أنّ معظمها جاء محتفيًا بالجنس، وكذلك كان للرّجال تجمّعاتهم الخاصة، والتي لم تخلُ أغانيهم أيضًا من الإشارات الجنسية.
كان ذلك هو المشهد السائد في أقاليم مصر قبل أن تغزوها أشكال أكثر حداثة للاحتفال بليلة ما قبل العرس الكبير “ليلة الحنة”، مثل موضة الـ”دي جي”، وحفلت أغانيهم الشعبية بتلميحات وتصريحات حميمية، مُناقضًا لما يُسمّيه المُشرّع المصري “خدش الحياء العام”، وهي التهمة التي كيلت على كُتَّاب ومغنّين، وأودعتهم السجون، ولكن تلك الأحكام لم تقضِ على تلك الحالة الفلكلورية بشكل نهائي، وبخاصة في المناطق الشعبية، وقرى الريف المصري، فضلاً عن أنها لم تمحُ تلك الأغنيات التراثية من الذاكرة الشعبية، خاصّة أن لكلّ نشاط إنساني أغانيه؛ فكما أن هناك أغانٍ للزرع، وأخرى خاصة بالحصاد، وثالثة تستدعى وقت الميلاد، ورابعة للموت، هناك أيضًا أغاني تحتفي بالجنس.
“رقصة النحلة”… تعليم وتأهيل لحالة التعرّي
بشأن وقت ظهور تلك الأغنيات، يُؤكِّد الشاعر والباحث في التراث الشعبي مسعود شومان، صعوبة رصد تاريخ تلك الأغنيات، يقول: “منذ تخلّق أجنتها الأولى لم تكن تلك الأغاني مُوثّقة، كما يحدث الآن لبعضها، فلم يُعرف راويها أو مؤلفها”، مضيفاً أنها لا تقتصر على النساء فقط، حيث يستأثر الرجال بترديد بعض الأغنيات في حلقات منفصلة.
ويشير شومان في حديث لـ”رصيف22″، إلى ارتباط ظهور تلك الأغاني بالطقوس المصرية القديمة، فمثلًا كانت هناك “رقصة النحلة”، والتي تتجسَّد فيها حالة التعرّي بإيقاعات خاصة، وذلك من خلال تتابع الأغنية التي تقول كلماتها: “دَبُّور قَرَصنِي”، فيردُّ الجمع: “قرصك فين؟”، لتذكر الفتاة أحد أجزاء جسمها، وهكذا بالتوالي، حتى تصل إلى المنطقة المُحرّمة، وفي كل مرّة تذكر فيها الفتاة منطقة من جسدها تقوم بتعرّيتها أيضاً.
ويرى الباحث مسعود شومان وجود جانب تعليمي في تلك الأغاني بالنسبة للرجل، وجانب تأهيلي في ما يخصّ الأغاني الخاصة بالفتيات، ومنها تلك الأغاني التي توصي الفتاة ببعض الأكلات التي تساعد في العملية الجنسية، مثل “أعملي له حلة محشي يغرق فيها ما يطلعشي.. أهو جالك أهو”.
ويختلف صاحب كتاب “المؤتلف والمختلف في شعر العامية المصرية” مع الرأي القائل بمنافاة تلك الأغنيات للأخلاق العامة؛ حيث يرى أن فكرة التزام النساء بما استقرَّت عليه المنظومة الاجتماعية من أخلاقيات لا تتنافى مع ترديد هذه الأغنيات في مناسباتها وسياقاتها، لأنّها أولًا وأخيرًا مبنية على لغة الانفعال القادرة على التوصيل، كما أنّ المفردات الجنسية الواردة فيها تستدعي “تاريخًا من الانفعال”، ما يمنحها “مبررًا اجتماعيًا”.
“الأرنب والغزالة” و”الرمّان عَ السجادة”
تشترك أغاني الزواج في ما بينها بسمات فنّية عدّة، فعلى مستوى الأداء الفني، يرى الشّاعر والناقد عمرو العزالي، أن هذه الأغنيات تتفاوت في ما بينها بين الترميز والإشارات الجنسية المرتبطة بسياقات معرفية متفق عليها في هذه البيئات، وتلك هي الآلية الرئيسية في تأليف هذه الأغاني، حسب قول العزالي لـ«رصيف 22».
ولعلّ الأغنية التالية تؤكّد ما ذهب إليه العزالي حيث نرى هنا توظيفاً لدلالة (الأرنب) في الموروث الشعبي، على سبيل المثال، حيث تقول:
“والعين تشيل وقية
م الكحل آبو دلال
هات لي خمرة نضيفة
وأقلعلك بالقميص
تحت الصرة بشوية
أرنب صايد غزال”
بالرّجوع إلى “موسوعة التراث الشعبي العربي” للدكتور محمد الجواهري، الصادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، نلاحظ أن الغلبة للأرنب في عملية الصيد بمحتوى تلك الأغاني على حساب الغزال، ونجد في رمزية الأرنب دلالة جنسية صريحة في الموروث الشفاهي؛ فكثير من الأساطير تصوّر الأرنب البرّيّ على أنّه يرمز إلى الشهوة والشبق بطريقة غير عادية، حتى أن الجواهري يذهب إلى أنَّ هذا الحيوان أصبح رمزًا للشهوة عند فنّاني وكتّاب العصور الوسطى، لذلك استخدم الموروث الشعبي ذكر الأرنب لا الأنثى، لأنّ أنثى الأرنب تصوَّر بأنها قادرة على الحمل دون الاتصال بالذكر، وعلى الاحتفاظ بعذريتها، حتى أنها عندما تظهر بجانب لوحة رسمت لـ”مريم العذراء” فإنه يرمز إلى انتصار العفّة والطهارة.
أيضًا في سياق الإشارات الجنسية، فهنالك في التراث ما يحمل أكثر من دلالة، مثل:
“إمتى يخش الخِل ويَّا خليله، ويقفش الرُّمَّان على السِّجادة”، فالشطرة الثانية تستخدم للإشارة إلى نهود الفتاة، استنادًا إلى تشابه استدارة الرمّان ونهود الفتاة البكر، وأيضاً قد تشير إلى عملية فضِّ غشاء البكارة، حيثُ يتشابه لون الدّم ولون الرمّان (الأحمر) والذي يعدّ دليلاً دامغاً على الشرف في تلك المجتمعات، حتى أنّهم يحتفون به في أغنيات مُستقلّة، مثل:
“دمها يا دمها
البت طِلعت لأمها”
“كُحل أبو دلال” و”قميص نوم مِفَرتِك”
ارتبطت الأغاني الشعبية في طقوس الزّواج بشكلٍ خاصّ بفكرة الاحتفاء بممارسة الجنس، والتحدّث بتفاصيلِه، واستعدادات الفتاة له بشكلٍ خاص، وقد سجّلت أدوات التجميل على سبيل المثال حضورًا قويًا في هذه الأغاني، ومن ذلك الكحل، والمراود، ولباس النوم؛ كهذه الأغنية على سبيل المثال:
“بيضة بياض اللبن
وأحلى من الفلة
وآدي صدرها ريش نعام
صفطه الهوى غنا
والعين تشيل وقية
م الكحل آبو دلال”.
وكذلك الأغاني التي تحتفي بالمثير من الملابس، ومنها:
“يا مفرتك يا قميص النوم
يا مهيِّج شباب اليوم”.
وقولهم في أغنية أخرى:
“هاتلي خمرة نضيفة
وأقلع لك بالقميص”
وكذلك سجّل ارتباط الملابس بحالة ممارسة الجنس، استنادًا على التردّد بين الكشف والحجب، وبين التمنُّع والمداعبة والاستسلام.
وبجانب ذلك ضمّت تلك الأغاني بعض المقدّمات الجنسية البسيطة، والتي خرجت من رحم تلك البيئات، وهو ما أكّده الباحث مسعود شومان بقوله: “يُمكننا النظر إلى رمزية «القرص»، ومدلوله الجنسي في التراث الشعبي، ذلك بجانب بعض الحركات المرتبطة بتلك البيئة البسيطة، والموجودة بقوّة في تلك الأغاني مثل «العضّ» و«البوس»”.
المرأة.. “نداهة الجنس” في أغاني الفلّاحين
من خلال استقراء مضمون مثل تلك الأغاني، يتّضح اعتمادها على تضخيم دور المرأة في هذه العملية الجنسية، حيث نلمح أن الخطاب الذي تصدره هذه الأغاني يعكس استمرار التعامل مع المرأة بوصفها آلة لإنتاج الجنس، حتى إنها قد تدعو الرّجل إليه، ونرى ذلك في قولهم:
“الليل طويل وحركاته كتير
أنا اللي بطني بتوجعني
لا واد ولا بنتي هتنفعني
أنا عاوزة حبيبي يدلعني
ويشيل ويحط على السرير”.
إذ تُسلِّط تلك الأغاني الضوء على دورهنّ الأساسي، كما هو راسخ في العقل الجمعي لتلك المجتمعات، وهو تقديم المتعة للرّجل، فرغم تغيّر نمط حياة كثير من هؤلاء الفتيات في كثير من قرانا ونجوعنا، وفي كثير من أحيائنا الشعبية، وانتقال معظمهنّ إلى مراحل متقدمة في التعليم، إلَّا أنّ هذه الأغاني تؤكّد طوال الوقت فكرة فحولة الرجل وقوّته، وسعادة المرأة بتلك الفحولة، كما جاء في إحدى الأغاني على لسان المرأة:
“المغني: بوّط فيا وارميني على الفرشة يا جميل
بوّط من تحت بزازي
وحاسب على ضلعتي
المجموعة: حاسب على ضلعتي
نوم السرير شوكني
ونوم دراعك حرير
المجموعة: نوم دراعك حرير
والواد من كتر هزاره
كسر رجل السرير
المجموعة: كسر رجل السرير
المغني: وآدي السرير من تعبه
يدعي ع النجارين
المجموعة: يدعي ع النجارين”
وكذلك قولهم في أغنية أخرى (حاسب على بيتنا بانيينه امبارح):
“شَعري بيوجعني
المجموعة: من إيه؟
المغني: شَعري بيوجعني من شدّ امبارح
المغني: خدّي بيوجعني
المجموعة: من ايه؟
المجموعة: خدّي بيوجعني من بوس امبارح
المغني: وسطي بيوجعني
المجموعة: من ايه؟
المغني: وسطي بيوجعني من رقص امبارح
المجموعة: ضهري بيوجعني
المجموعة: من إيه؟
المغني: ضهري بيوجعني من نوم امبارح
المجموعة: يا اللي على الترعة حوّد على المالح
المغني: حاسب على بيتنا بانيينه امبارح”
ويرى الشاعر والباحث عمرو العزالي، الحاصل على جائزة “الشارقة للإبداع العربي” فرع النقد، أنّ هذه الأغاني لا تعكس بالضّرورة تبنّي نظرة دونية للمرأة، بل على العكس، فلعلّ هذه الأغنيات تعكس نضجًا لدى هذه المجتمعات ذات التكوين المعرفي الفطري في التعامل مع فكرة الجنس بشكل واضح وبسيط، يحمل من العلن قدر ما يحمل من الإشارة، بينما في المجتمعات المُعقَّدة اجتماعيّاً ربّما نجد الكثير من الترفّع عن ترديد مثل هذه الأغنيات، حتى في مناسباتها، ووضعها دومًا في هامش المخفيّ، وغياهب المسكوت عنه.
تقول أغنية أخرى:
“على سرير النّوم دلّعني
وأنا كتر البوس بيولعني
النار في العش تقيد وتزيد
وأنا نايمة وفاتحة السكة”.
حيث تعكس تلك الأغنية إشارة واضحة إلى عملية الاتصال الجنسي، ومراحلها، بدءًا من التقبيل وتهيئة المرأة، وصولًا إلى عملية الإيلاج، التي تظهر في “وأنا نايمة وفاتحة السكة”، مرورًا بالترغيب واستنفار غرائز الرجل، ومن ذلك الأغنية التي يتمّ ترديدها:
“أوعى البعبع مستنيك..
راح يتغدى ويفطر بيك..
أوعى تخش العشة يا ديك..
غير وانت قادر تحايله”
وكذلك في أغنية:
“يا منجد علي المرتبتين
وأعمل حساب رفع الرجلين”.
“يا مِنجّد علّي المرتَبتين.. واعمل حساب رَفع الرجلين”
كان أهالي الفلاحين في قرى مصر يتغنّون بـ”ليلة التنجيد”، وفيها يأتي “المِنجّد” إلى منزل العريس لصنع فراش النوم من وسائد وألحفة ومراتب، ولتلك الليلة أغانيها الخاصة التي توصي “المِنجِّد” بدرجة عالية من إتقان صنيعته، لتهيئتها لعملية جنسية مريحة لطرفيها، ومن تلك الأغنيات “يا مِنجِّد علّي المرتبة”:
“يا منجد علّي المرتبة
وأعمل حساب الشقلبة
يا منجد علي المرتبتين
وأعمل حساب رفع الرجلين”
بخلاف ليلة التنجيد، فهناك ليالٍ أخرى لها مكانة كبيرة في التراث الشعبيّ، ومنها «ليلة الصباحية»، وهي ليلة اليوم التالي للزواج، حيث تحظى بنصيب كبير من الأغاني، حيث تستعدّ لها العروس بتجهيز أفخر الثياب وأزهاها، لذلك جاءت أغانيها معتمدة على الثياب كمكوّن أساسي لها، مثل:
“هلبس لك لموني
وأقلع لك لموني
حاسب على عيوني
ليلة الصباحية
المجموعة: أيوه أيوه
هلبس لك مقطع
وأقلع لك مقطع
ع السرير واتمطع
ليلة الصباحية
أيوه أيوه
المجموعة: أيوه على أيوه”.
واستقت تلك الأغاني لغتها من بيئتها، لذلك نجدها في معظم مفردات وتراكيب وتصويرات هذه الأغاني، مفردات مثل: (الرُّمَّان، النَّجَّارين، التِرعَة، القُلَّة، التوم، الكُسبَرَة، المِشمِشة، الميكانيكي، الديك، الأرنب، إلخ)، أو تراكيب خاصة ترتبط بتفاصيل حيوات أهل تلك البيئة، وكذلك فإن معظم المشاهد والتصويرات تكون مستقاة منها مثل (وآدي السرير من تعبه.. يدعي ع النجارين، وآدي صدرها ريش نعام).
ويرى الناقد عمرو العزالي، أن هذه النصوص على الرغم من بساطة طرحها، إلا أنها تحمل ملامح تمنحها خصوصية ما، نظراً لكونها عملاً إبداعيًا، حتى وإن لم نعلم تحديداً المؤلِّف، إلا أنّه قد تكوّن بواسطة العقل الجمعي، وسوّته الخبرات الإنسانية، وربّما تَدخُل عليه بعض التعديلات والتغييرات ليوائم مُستجدَّات كلّ زمن، أي أنَّه يُمكننا القول إنّه فنّان واحد ألَّف تلك النصوص، مُوزَّعًا بين هؤلاء الشخوص المؤدين لتلك الأغنيات.
رصيف 22