لأنها “الست” فقط/ رشا عمران
ضع “تفاريد كلثومية” على محرّك البحث الموسيقي ساوند كلاود، وستقضي وقتا طويلا نسبيا، تعيش فيه حالة سلطنة الطرب والمزاج الموسيقي الذي لا يمكن لأي مغنٍّ في العالم أن يقدمه لمستمتع ما، كما تفعل “الست” أم كلثوم. ولتفعل هذا، عليك أولاً أن تكون من هواة التطويل والإعادة في الجمل الموسيقية، فالتفاريد هي مجموعة منتقاة من كوبليهات أغاني الست، مأخوذة من حفلاتٍ عديدة لها، خرجت فيها أم كلثوم عن اللحن، ليتفرّد صوتها في التطريب والتطويل، واستعراض قوته الاستثنائية، تاركةً فرقتها الموسيقية في حالة توقفٍ عن العزف، وتستعد للحاق بصوتها الخارق، حين تقرّر الست أن تعود إلى النوطة، وتكمل مع الفرقة باقي الحفلة.
هذه التفاريد، في الأغلب، خاصة بأم كلثوم، ليس لأنها الوحيدة من المطربين العرب التي كانت تخرج عن النوطة، تاركة لصوتها أن يحلق وحده، بل لأنه لم يوجد صوت عربي أو غيره يمكنه أن يحلّ مكان فرقةٍ موسيقيةٍ كاملة، في حفل جماهيري، على مسرح كبير، من دون أي نشاز أو خروج عن المقام، بل بقدرةٍ مذهلةٍ على التنقل بين المقامات، ثم العودة إلى المقام الأصلي، من دون أن يشعر أحد بذلك، ليس فقط لأن صوتها كان مدرّباً على هذا النوع من التنقل، بل لأن لصوتها خاصية السيطرة والسلطة والهيمنة الآسرة، التي تنتقل إلى مستمعيها، ليس فقط في المسرح، حيث يستمعون إليها مباشرةً، بل عبر وساط التسجيل المختلفة، قديمها وحديثها. والأهم، عبر الزمن الذي يبدو أنه عجز عن إيقاف هيمنة هذا الصوت المذهل، فها هو يفعل الفعل نفسه في مستمعيه، بعد مرور عقود طويلة جدا على وجود أم كلثوم على قيد الحياة، وبعد أن تغيّر المزاج الموسيقي والطربي واللحني في كل العالم تغيراً كبيراً، ودخلت أنواعٌ جديدةٌ على الموسيقا العربية، وبعد أن تحوّلت الأغنية إلى مشهد تلفزيوني أو سينمائي، ليس الصوت ولا اللحن ولا الكلمة هو الأهم فيه.
أفكر كثيرا بما كانت عليه هذه السيدة العظيمة، كيف استطاعت أن تبقى كاملةً، بهيةً، متألقةً، متجدّدةً، شاهقةً، أي ذكاءٍ خارقٍ كانت تتمتع به؟! يقينا أن صوتها كان استثنائيا وخاصا جدا. أما الملحنون والكتاب الذين اشتغلوا معها، فهم اشتغلوا مع غيرها أيضا، لكن كل معاصريها، من أتوا بعدها وقبلها بقليل، لم يملك أحدٌ منهم هذه الهيمنة التي كانت لصوتها، ولا سطوة أغنياتها، بحيث يمكن أن يقول أحد إن هذه الأغنية كان فاشلة. قد لا يحب أحدنا أغنيةً ما من أغنياتها، لكن لا يوجد لديها أغنية لم تأخذ حقها من الانتشار، حتى التي غنتها لجمال عبد الناصر، أو لفلسطين، أو الأدوار القديمة جدا التي غنّتها في بداياتها، كلها اشتهرت وعُرفت، طوى الزمن بعضها، بسبب انتهاء الأسباب التي غنّيت لأجلها، لكنها بقيت في الذاكرة الأرشيفية لمحبي الست الكثيرين. حتى أسمهان التي قيل عنها إنها لو قيض لها الحياة لكانت منافسة الست الوحيدة، لم تكن باستثنائية أم كلثوم.
ثمّة حدسٌ ما كان لدى الست، جعلها تستخدم الحياة كلها لتكون في خدمة فنها. أظن أنها وضعت في الهامش كل ما يتعلق بها: رغباتها الجسدية والعاطفية بالتحديد، متع الحياة البسيطة والمركّبة، كل ما يفعله البشري ليأخذ من الحياة ما في استطاعته قبل الغياب. بالنسبة لها، على ما يبدو، كان صوتها لها هو كل ما سبق. أظن أيضا أنها كانت من الذكاء بحيث استطاعت أن تختزل كل متع الحياة بالغناء، إلى حد أن عاشق صوتها يمكنه أن يصل معها إلى البرزخ الذي كانت تقف فيه دائما، وربما سيكون من التطرّف القول إنها كانت تدخل في حالة أورغازم خاصة بها وحدها وهي تغني. كانت قادرةً على استثارة جملتها العصبية كلها لتحول وعيها الجنسي وغريزتها إلى حنجرتها. حنجرتها هي أنوثتها وذكورتها في الوقت نفسه. هي أيضا الإيروس والثاناتوس لديها. هي الأمومة والأبوة. وفي البرزخ بين حالتين متناقضتين ومكتملتين، ستترك المستمتع إلى صوتها، لا هو يصل إلى الذروة، ولا يمكنه التراجع، كل ما يفعله هو المطالبة بالمزيد.
والمدهش معها أن ثمّة سيرة تعاد مع كل جيل عربي جديد، ففي فورة المراهقة وبداية الشباب، ترفض الأجيال العربية أم كلثوم نوعا من قتل الأهل وأمزجتهم. وبعد تخطي فورة الشباب، تعاد السيرة من جديد. صوتها سيكون حاضرا وقويا وعاليا ومتحدّيا أجيالا قادمة سترفضه في البداية، ثم ستعود إلى هيمنته راضيةً مرضية.
العربي الجديد