جيل رفيق نجم.. الذي ابتلعه زياد الرحباني/ محمد حجيري
المرات القليلة التي التقينا فيها الفنان الراحل رفيق نجم، كان بعضنا، نحن الذين نكون في جلسة رصيفية – مقهوية، يعرّف به، بعد مغادرته، بأنه من “مثّل مع زياد الرحباني”، “هل تذكر دور نجيب في مسرحية “بالنسبة لبكرا شو”(1978)؟”.. يقول مَن يعرف رفيق، لآخر يجهله. وكان نجم قد نال شهرة في المسرحية المذكورة، الى جانب مسرحية “فيلم أميركي طويل” (1980) حيث أدى دور عبد الأمير، أستاذ المنطق في الجامعة الذي يؤلف كتاباً يكشف فيه الحقيقة والمؤامرة، قبل ان يتشاجر مع الرحباني، ويحل مكانه بطرس فرح، كما أوضح في إحدى مقابلاته.
كان اسم الرحباني كافياً لإضفاء طابع خاص على كل شخص عمل معه، أو مثل دوراً في مسرحياته، وكان الدور كافياً أيضاً ليهمش تجارب أخرى للشخص نفسه، وإن كانت معتبرة… سطوة الرحباني وقدراته الشخصية (الموسيقي والكاتب والممثل) وسياسته (اليسارية- الشيوعية أيام تمددها) وإرثه العائلي (ابن عاصي وفيروز)، كلها أمور كانت كافية لـ”يخطف” وهج العمل الجماعي بجدارة، فيما يعجز الآخرون عن الانشقاق بتجارب تتخطى الرحباني، أو تكون بمنزلتها الميديائية إذا جاز التعبير. كان الرحباني “عبقرياً” وقوّالاً وقادراً على اعطاء جانب من النجومية للكثير من الأشخاص، لكن تحت غطائه وتحت جناحه وبرعايته وبنكهته. والتعريف برفيق نجم بأنه عمل مع زياد الرحباني، كهوية، لم يكن الأول وليس الأخير.
فزياد اختار المواطن أو الحزبي، حسن اسماعيل، مثلاً، ليؤدي دور الدَّرَكي في مسرحية “فيلم أميركي طويل”، ولاحقاً دور “أخو الشهيد” في “بخصوص الكرامة والشعب العنيد”، وهي إدوار ثانوية كما نعرف، لكنها شكلت “هوية” حسن بيننا، نحن الذين كنا نلتقيه هنا وهناك، نقول إنه مثّل مع زياد، ويعيش الدور في الشارع: هل تذكر كيف يقول له “طلاع من الصورة يا حسن”؟ وكان حسن يأني ليمازحنا، وربما عرف أننا نعرف دوره في المسرحيات. ولا يختلف الأمر مع جورج قاصوف، وعبارة “عالطالع مصاري وعالنازل مصاري”، أو مع زياد أبو عبسي ورهاب “المحمودات”.
أتت مسرحيات الرحباني الابن، في مرحلة عيش لبنان مخاضاً مريراً وقاسياً، بين أوهام التغيير وواقع التدمير. وثمة جانب سياسي اجتماعي ثقافي، فرض انتشار مسرحيات الرحباني وأغانيه، بغض النظر عن قيمتها الفنية. وأصبحت في وجدان الجمهور، أفرزت فريقاً من الممثلين والفنانين، وحزباً من المتابعين أو الجمهور، استمر يتابع زياد الرحباني إلى الآن، بطريقة فيها ما يشبه التعلق الهستيري أحياناً، الى جانب التعلق الايديولوجي والحزبي، من دون أن ننسى الشرعية الفنية. أما فريق الممثلين والنجوم، فبعضهم اختفى أو تقاعد أو صمت أو أبدع (توفيق فروخ في الموسيقى نموذجاً، وكارمن لبّس في التمثيل). ولا يبوح بعض الكتّاب المروجين لزياد الرحباني، بديكتاتوريته في التعاطي مع الفنانين، إذ تشاجر مع زياد أبو عبسي، ورفيق نجم، وسامي حواط. وفي المحصلة، يأتي من يربط صمت الفنان هذا أو ذاك، باتفاق الطائف والسِّلم الأهلي المهزوز. وأبعد من ديكتاتورية الفنان، هناك ديكتاتورية الميديا، والهالة في الوجدان الاجتماعي والثقافي. ومع فنان مثل سامي حواط، الذي انفصل عن زياد الرحباني، بقي دوماً السؤال: لماذا لا يعود ويتعاون معه؟ كأن الشرعية الفنية لا تتم إلا مع زياد…
عمل حواط طويلاً. شارك في حفلات وسهرات وأمسيات، لكن صورته بقيت هناك، حيث غنّى في البدايات، أو في زمن “بلا ولا شي، بحبك”. هكذا يراه بعض الجمهور. والأمر نفسه مع زياد ابو عبسي، الذي عمل على مسرح شكسبير في الجامعة، وقدم مسرحيات عديدة، لكنه بقي هناك، حيث كان يعيش رهاب “المحمودات” في المسرحية الرحبانية… وحين رحل رفيق نجم، كان التعريف السريع به أنه مثّل دور “نجيب” مع زياد… حتى التعريف القديم في المواقع، يركز على عمله مع زياد، الى جانب تركيز هامشي على التعاون مع المخرج مارون بغدادي، وذِكر المخرج سمير الغصيني، وتغييب برهان علوية والألماني فولكر شلوندورف في فيلم “المزوّر” (1981). ليس هناك اي اهتمام بالتجارب الخاصة برفيق نجم في المسرح، والتي حاول تقديمها أواسط الثمانينات، مع التذكير بأن رفيق اشترك في عرض مسرحي قُدّم في مسرح “وست هول” في الجامعة الأميركية في بيروت في العام 1976، فرآه زياد الرحباني، وكانت بداية مشوار التمثيل في المسرح.
مات رفيق نجم، وقبله جوزيف صقر وحسن اسماعيل وزياد ابو عبسي، وحتى مارون بغدادي وجوزف سماحة. والملاحظ أن بعض الأقلام يحاول أدلجة الموت، وإخراجه من عاديته (وإن كان مفجعاً، فكل موت مفجع في الواقع) لوضعه كشعار للمواجهة أو لكتابة عبارة من هنا وشرقطة لفظية من هناك، مع كل الإجلال للراحلين وأدوارهم وحضورهم.
حين توفي جوزيف صقر، العام 1997، شكل موته صدمة لجيله ولجمهوره. فهو كان، للمرة الأولى، قد قرر أن يغني في مطعم. كان جوزيف صقر حنجرة زياد الرحباني، واستطاعا بتعاونهما أن ينتجا مجموعة من كلاسيكيات الذاكرة الشعبية، من “هدير البوسطة” إلى “بما إنو”. لكن بعض الكتابات اليساروية عن موته، لم تخل من أدلجة مملة وباهته. والقراءة الإيديولوجية للموت برزت بقوة أكبر بعد مقتل مارون بغدادي، إثر سقوطه في غرفة مصعد، ومن خلال كتاب “قضاء لا قدر” لجوزف سماحة. واستؤنفت الأدلجة مع رحيل زياد أبو عبسي، فقيل إن موته “احتجاج”، و”موته، مثل موت الناس الرائعين”، وهو “قَتْل. جريمة يتحمل مسؤوليتها هذا البلد التافه بكل من فيه وما فيه!”. ولا يختلف هذا النزوع في التوصيف الايديولوجي لموت رفيق نجم، من صحافي يشعر بالإنتشاء حين يسمع خطاب حسن نصرالله.
المدن