هاني درويش: عن الثورة والملل الثوري/ سامر مختار
نادراً ما نجد إخلاصاً للكتابة الصحافية، من جهة اللغة، والأسلوب، والمضمون، يوازي لغة الكتابة الأدبية. فعملية التأمل أثناء الكتابة الصحافية، أقصر بكثير من تلك المخصصة لكتابة الأدب، ما يخلق تحدياً إضافياً للكاتب الصحفي.
تحتاج هذه الممارسة من الكتابة، إلى لياقة ذهنية عالية، وعين ترقب كل تفصيلة من حدث قد ينفجر، وتتبعثر شظاياه في لحظة، وتتغير ملامحه في اللحظة التالية. أضف إلى ذلك زاوية النظر التي ترى منها الواقع الذي تعمل على توثيق حركته اللحظية، وإلى أي درجة أنت منغمسٌ في إيقاعه، وإلى أي درجة أنت مدركٌ لخلفيات تغيّره، وسياقاته التاريخية، وما ينتج عنه من سجال فكري.
نستطيع القول، إن الكاتب والصحفي المصري هاني درويش، كان هذا النموذج من الكتّاب. لم يعش هاني عمراً طويلاً، إذ مات وعمره 39 عاماً في الثلاثين من تموز/يوليو عام 2013. ولد في القاهرة عام 1974، وكانت مهنته الأولى مدرساً للجغرافيا، لكنه ترك التدريس وعمل بالصحافة، في جريدة روز اليوسف، وأخبار اليوم المصرية، وجريدة البديل. لكن فرادة تجربته في الكتابة برزت حين بدأ الكتابة في الصحافة اللبنانية، كملحق نوافذ في جريدة المستقبل، وموقع المدن الإلكتروني. أهم ما ميّزَ كتابة هاني درويش تجازوها للأنماط الصحفية السائدة، في الشكل والمضمون. هذا الكاتب الذي يعشق كرة القدم، كانت مدينة كالقاهرة بقِدمها، واختناق شوارعها بازدحام لانهائي، بأطلال أحيائها القديمة، وعشوائية أحيائها الحديثة، كانت بالنسبة له بمثابة مساحة للعب والصدام معها. لم يترك هاني درويش شارعاً أو حارة، أو حيّاً عاش فيه، أو مرَّ منه في القاهرة إلا وكتب وعنه. حتى محطة انتظار الأوتوبيس في شارع قصر العيني بوسط القاهرة، عندما جلس ينتظر مكتب جريدة روز اليوسف حتى يفتح، لأنه جاء قبل الموعد المعتاد، نظراً لتغيير المواعيد في بداية شهر رمضان، لينتج عن هذه الساعة من زمن الانتظار مقالٌ بعنوان «من أعلى دكّة النهر الجارف لشارع القصر العيني ساعة من التأمل في غياهب المدينة»، هذا التوصيف شديد الدقة لشارع القصر العيني، حتى أنه لو فكر شاعر عابر من هذا الشارع بكتابة قصيدة شعر عنه، لما نتج عنها هكذا توصيف. ولا أجد أدق من هذا التوصيف لكتابة هاني درويش: إنها كتابة أشبه بالنهر الجارف.
بالتزامن مع اقتراب ذكرى وفاته، صدر عن دار كتب خان في القاهرة، كتاب هاني درويش – يوميات الملل الثوري. والكتاب عبارة عن يوميات ومقالات كتبها هاني في جريدة المستقبل اللبنانية، وموقع المدن الإلكتروني، ما بين عامي 2011 و 2013. وتم تجميعها حسب سياقات مواضيعها، انطلاقاً من ثورة 25 يناير 2011 في مصر، وما نتج عنها من صراعات وتخبطات على مستوى الخطاب السياسي والفكري والاجتماعي، ما بين أحزاب وقوى كانت موجودة قبل الثورة، وتكتلات وتشكّلات لأحزاب وقوى، إما منشقة عن تلك القديمة، أو جديدة قيد التشكل والنشوء. يسبق ذلك تغطية ميدانية لمظاهرات في ميدان التحرير ومحيطه في الثمانية عشر يوماً الأولى.
من المقال الأول في الكتاب، «من قلب “مصر” الجديدة أحدثكم»، نستعيد أجواء الأيام الأولى لثورة 25 يناير، إذ نُشر بتاريخ 30 يناير 2011. يتحدث فيه هاني بضمير الأنا، منطلقاً من ارتباكه الشخصي حيال الساعات الأولى من انطلاق المظاهرات «فخروج مئات الآلاف لم يكن يخطر إلا في أذهان من اعتبرناهم مغفلين، عشرات من الناشطين الذين هم على هامش واقعنا الافتراضي، سخرتُ منهم بتعليق كتبته في لحظة تعالٍ قبل ساعات. تهكمت على “الغواية الشارعية”» لينقلنا من لحظة الارتباك والالتباس هذه، إلى لحظة يقين بأن ما يحدث ليس خيالاً، موثِّقاً ما يحدث ميدانياً خلال الأيام الخمس الأولى، خاتماً مقاله فيما يبدو قراراً حاسماً: «اليوم في تمام الساعة السادسة أتوجه إلى الميدان، اليوم … أشر وعمم… أنا في الطريق»
هذه الكتابة التي ستروي حركة الأيام التالية من خلال لغة حكائية، يختلط فيها الشخصي بالعام، التفاصيل اليومية التي كانت تذوب داخل الحدث الثوري، ستمتد على مدار سبعة مقالات يوثق فيها هاني كل تحركاته، منذ خروجه من بيته في منطقة الهرم، كمن يُجري عملية تمشيط «سردية» للمسافات والشوارع الفارغة منها، والمغلقة منها من شدة الزحام، أو الملغمة بالحواجز الأمنية وكمائن اللجان الشعبية التي تفصله عن ميدان التحرير، مستكملاً عند وصوله سرد تحركاته في شوارع وسط البلد. هذا السرد الميداني المتدفق، الذي يظل القارئ يلهث وراءه، يصل ذروته في أطول مقال في الكتاب، والأخير – ميدانياً- تحت عنوان «عندما قطعنا ذيل التمساح الميت ليلة الأربعاء» الذي يروي فيه هاني المعركة التي جرت في الليلة التي تلت نهار موقعة الجمل، ما بين الثوار المعتصمين في ميدان التحرير، وبلطجية حسني مبارك، والقناصة الذين اعتلوا أسطح المباني التي تطوّق ميدان التحرير وكوبري 6 أكتوبر. في قلب الميدان، حيث المعركة التي تدور هي؛ من سيسطر على الميدان؟ لا مجال لرفاهية أن تقف متفرجاً، أو متأملاً، سيلعب هاني أكثر من دور، من قاذف للحجارة والطوب تارة، ثم إلى اقتراحاته للمرابطين خلف المتاريس بالتقدم أو التراجع في الخطوط الأمامية للمواجهة، أو الذهاب لشراء أرغفة الفينو وعلب الجبنة المطبوخة وتوزيعها على الرفاق، من مصابين، ومن هم في الجبهات الأمامية. حماسة هاني في قلب المعركة لا تقل عن حماسته في الكتابة عنها، التي ينتج عنها جمل وعبارات إما شديدة الشاعرية في وصفها، أو في خفتها ومرونتها، كأن يقول واصفاً مصابيح الإضاءة في ميدان التحرير «لا راحة لمصباح يعاني من عيوب الصناعة المصرية الطبيعية»، أو أن يقول في مقطع يصف فيه الحال في الميدان «خبز وجبنة عند الفجر لكسر مرارة التبغ اللانهائي»، وحين يصف بطء دخول الليل يقول: «الدقائق تتمطع كجثة يحملها النمل»، وأثناء توزيعه لمثلثات الجبنة على الثوار يقول «كل واضرب». يدهشك بلامركزية نصّه، المتحرك كعاصفة رملية، هذه الكتابة التي برع فيها هاني بمقالات سبقت زمن الثورة، والتي جُمعت أيضاً في كتاب إني أتقادم – مسارات شخصية في أحراش القاهرة، والتي قدم فيها هاني ملامح أخرى لمدينة القاهرة في العصر الحديث، كتابة مزجت ما بين التأريخ الاجتماعي والجغرافي، في رحلة تمدد المدينة عشوائياً. وهذه الحركية اللامركزية في المكان، شديدة التجذر في أسلوب هاني في التفكير القائمة على اللايقين، والتشكيك الدائم بما يبرز من تفاصيل الأحداث المشتعلة التي تطفو على السطح، بعد أن خمدت نيرانها. فهاني درويش الذي ظهر في المقال الثاني عن الثورة في الكتاب يقول «عليّ الآن أن أوقف مواقيت البلاغة، وعند حدود الحد الأدنى من حمولات اللغة سأتحدث. هذه ليست إلا شذرات مضغوطة بكثافة المشاهد التي تنفك سريعًا في استطالات لا يستوعبها زمن الكتابة ولا زمن التأمل .. » بعد مرور عامٍ على الثورة سيعود في مقال «من يوميات الملل الثوري .. حيث لا عزاء في كأس مترعة» ليقول كلاماً لن يعجب كثيراً من الثوريين بالتأكيد في ذلك الوقت، ممن دخلوا في اصطفافات سياسية إما متحالفين مع الإخوان المسلمين أو مع المجلس العسكري: «ومنذ اتخذت قرارًا بالكفر بالجماعة، وأنا لا أثق إلا في الحروف وبلاغتها. لا أعوّل إلا على ما تضيفه كلماتي في كتاب مفتوح (…) أعذرني أيها القارئ المنتظر تحليلًا يطمئنك على الثورة في مصر، هي بخير بعيدًا عن هذا الكيبورد، لكن عليّ الآن أن أدمرها، أنصح هواة الطمأنينة بالابتعاد عن هذه السطور .. » هذا المقال سيكون بمثابة فاتحة لسلسلة مقالات نقدية، يبدؤها هاني من نقده لتيارات وقوى يسارية مصرية وموقفها من المرحلة الانتقالية بعد الثورة، ودعم بعضها للمرشح الإسلامي «المنشق» عن الإخوان المسلمين عبد المنعم أبو الفتوح، باعتباره ممثلاً للإسلام السياسي الأكثر انفتاحاً، منطلقاً – أي هاني – من موقفه بعدم قبول أبو الفتوح كمرشح للرئاسة. ويوضح في معرض نقده لتلك التيارات عدم تحميلهم مسؤولية المسار، إذ يعتبرهم تيارات نخبوية بلا جذور جماهيرية، فموقف تلك التيارات ومنظريها في اصطفافها السياسي البرغماتي ودعمها للمرشح الرئاسي «التوافقي» عبد المنعم أبو الفتوح، يرجعها لرؤية تلك التيارات وعدم فهمها للمكون التي جاءت منه الثورة، كتنويعات من شرائح الطبقة الوسطى، شبابية في جمهورها الأعم، مضادة للاستبداد السلطوي الأمني وهدره للكرامة الإنسانية على حد تعبير هاني. فيما الصورة المتخيلة لتلك التيارات عن المجتمع وعن طبقته الوسطى تحديداً على أنها إسلامية الهوى بالعموم، لكنها الطبقة ذاتها التي ستخرج بمظاهرات ضد الإخوان بعد ذلك رافضة حكماً يمينياً يعيد إنتاج النظام القديم.
كما أن النقد لا يطال فقط التيارات اليسارية، إنما سيمتد أيضاً لمراجعة دور الإخوان المسلمين قبل وصولهم للحكم، وحضورهم في المجتمع وفي مناصب حكومية أيام حسني مبارك، كأن يطرح مثالاً في إحدى المقالات عن وصول ابن عمه المحامي في الشؤون القانونية وهو (الإخواني والمعتقل سابقاً) إلى منصب مدير الشؤؤن القانونية لمحافظة القاهرة، في محاولة لخلخلة الصورة النمطية التي يقدمها هذا الحزب في المجتمع والإعلام، عن مظلومية لم يتخل عنها حتى أثناء وجوده بالسلطة.
هذه القدرة على الحفر وراء ما تفرزه الأحداث السياسية والاجتماعية والثقافية في مصر، من تغيّرات تبدو في راهنيّتها ولحظيّتها لا متوقعة، هي ما ميزت كتابة هاني درويش. هذه الكتابة التي تفوح منها رائحة قنابل مسيلة للدموع، وزجاجات المولوتوف، وفوارغ القنابل الحارقة. تلك الأيام، التي لا أحد يعلم متى ستتكرر في المستقبل.
في لحظتها الراهنة، باتت مصر أكثر تعقيداً مقارنةً باللحظة التي غادر فيها هاني هذا العالم إلى الأبد. لكن هل كان قد تَوقَّعَ ما سيؤول إليه هذا الوضع الكارثي اللامُتوقَّع؟