أنا لستُ جملاً/ حمد عبود
يرقد الغبار بهدوء على رفوف المكتبة السوداء، ولكن لا بأس بذلك، فسماء اليوم الصافية تتيح لي الانشغال بملاحقة حركات الطيور البهلوانية، وعلى الرغم من أنني لا أرى الشارع أسفل نافذتي من الطابق الثالث، إلا أنّ صوت العمال المنهمكين بترميم واجهة المبنى المجاور يصلني من وقت إلى آخر. لا بدّ وأنهم يستغلّون الطقس المشرق للعمل، مع أن الواجهة الصفراء تبدو جديدة إلى درجةٍ لا تفهم معها ما الذي يهدفون إليه بالضبط؟!
لربما استيقظ العمال على همّة عالية دون أي وعكة في الجسد، فقرروا ترميم الواجهة تحسباً لمرض يُقعدهم عن فعل أي شيء. لربما تجديد الواجهات عادةٌ من عادات الصيف هنا، يشبه ما كانت الأمهات في دير الزور يفعلنه بغسل السجادات الكبيرة الملونة أمام البيوت وملء الشارع كله بالماء ورغوة صابون الغار، أما هنا في الحي الخامس عشر بالقرب من «مايزل ماركت» في فيينا، فإن الأمهات يفضلنَ إرسال السجاد إلى محل التنظيف، بينما يتكفل أزواجهنَّ باستئجار ورشة لتجديد الواجهات.
كانت سماء ليلة البارحة هادئة أيضاً، مع بعض الغيوم البيضاء التي تضيء الأفق وتجعل الجلوس أمام النافذة والنظر إلى الفضاء أقل رعباً مما قد يصيبك في ليلة دامسة أخرى. ولكن البرق كان يجرح صفحة السماء، وكأنه يتوعد بليلة ممطرة باردة.
تخرج امرأةٌ في المبنى المقابل إلى «التراس» المليء بالنباتات، ثم تصعد السلّم المعدني المُفضي إلى سطح بيتها حيث تمتد حديقتها الثانية، وفي اللحظة التي ينزل فيها ضوء البرق مرة جديدة تصعدُ نارُ قداحة المرأة غير مكترثة بما حولها، ولا حتى بشباك غرفتي الواقع على مستوى نظرها. تستطيعُ تحت الغيوم الناصعة تقدير حرص المرأة على صحتها وتدخينها سيجارة واحدة يومياً فوق السطح، ويُخيّلُ لك أنها تفضّل التدخين بين النباتات التي تبثُّ في ليلة كهذه روائحها المختلفة.
أما أنا فألفُّ سيجارة ثانية، وأتخيّلُ نبتة نعناع صغيرة في أحد أركان الحديقة، وتغيُّرَ طعم السيجارة لو هزّت الريح أوراق النعناع.
بينما أجلس أمام المكتب المحاذي للنافذة المفتوحة، يشغلني اتصال والدتي عن الأفق ومن فيه، لا بدّ أنها سمعت خبراً جديداً، فهي تتصل كلما سمعتْ عن عاصفة تداهم أوروبا، حتى لو كان ذلك في أقصى الشمال البعيد عني، أو خبراً عاجلاً عن ثلوج ثقيلة تغلق الطرق أو تعرقل حركة الطيران.
لا تعرف والدتي أنني أتجنبُ المواعيد كلما رأيتُ قطرة مطر واحدة في تطبيق الطقس على هاتفي، وأجلس في البيت عاريَ الصدر، منتظراً خلف النافذة مرور المطر ومستمتعاً برائحته، وهي لا تطمئن إلا بعد اتصال الفيديو لتشاهدني أغلق النوافذ وأرتدي سترة ثقيلة لتصدق بأنني أداري صحتي، وبأنها قادرة على ممارسة سلطة الأمومة بالرغم من إقامتها في بلد آخر.
أودّ أحياناً لو أنني أُهاتفُ مسؤولي نشرة الأخبار لأطلب منهم الإشارة إلى بُعدِ النمسا في كل مرة تضرب عاصفةٌ ساحل ألمانيا، فتطمئن أمي بأن الكرة الأرضية ليست اسفنجية كفاية لتتبلل كلُّها جرّاء قطرتين من المطر في زاويتها البعيدة، لكنني لا أملك رقم هاتفهم على أي حال.
أنهيتُ اتصال أمي ونزعتُ الكنزة الثقيلة وتأكدتُ من أنّ النافذة شبه مفتوحة، ثم ألقيتُ بنفسي على السرير في الغرفة المعتمة التي كان البرق يضيئها بين الحين والآخر، كأنّ أحدَ «البابراتسي» يأخذ صورة كلما تحركتْ فكرةٌ في رأسي أو أفلتت تنهيدةٌ مني.
بعدما أُضيئتْ الغرفة عدّة مرّات، تقلبتُ في سريري نحو النافذة التي كنتُ أعطيها ظهري، لكي أسدل الستارة فيعجز الضوء عن الدخول، فتفاجأتُ لحظتها بأنني أنام على حافة السرير الكبير مُرخياً رأسي على زاوية الوسادة، وبأنّ ما تبقى من الفراش يمتد بيني وبين النافذة مكوياً كأن أحداً لم يقربه أبداً.
أعرف بأنّ كلاً منّا ينام على الجنبِ الذي يريحه، ولكنكَ لو رأيتني لاعتقدتَ بسقوطي الوشيك من السرير.
لربما كنتُ أستلقي على الجانب الذي يعوّدني على أقل قدر من الراحة، فأنتَ إذ تنامُ على جنبك فإنك تدرّبُ يدكَ وكتفك على حمل ثقلك كله، وهو تدريب غير متعمّد لشكٍّ في قرارة النفس بأنّ أحداً لن يعطيك كتفه ليسندك، فلا يبقى لك إلا زاويتك الحادة كما حروف المكان الضيقة لتحملك وتحتملك.
حتى في الأيام التالية، عندما كنتُ أتقصدُ الاستلقاء في منتصف السرير وأرخي رأسي فوق صدر الوسادة، كنتُ أستيقظُ وأنا على جانب السرير متكوّماً على جانبي الأيمن. لا بدّ وأنه سجنُ العادة الذي لا يمكنك التخلص منه مهما كبُر السرير واتسعتْ الرغبة بالاسترخاء.
عليكَ في وقت ما أن تدرّبَ نظامك المناعي وتحدّدَ له مساحة حريته، كما أن عليك رفع عتبة تحملك للألم وبناء حائط يناضلُ الألمُ لاجتيازه، تماماً مثل ذلك الحائط الذي يريده «ترامب»، عليكَ أن تكون ديكتاتوراً على جسدك وإن كنتَ محكوماً من قبل دكتاتور آخر، فأنتَ لا تملك امتيازات العمال الذين يرممون الواجهة الصفراء، الذين يستطيعون انتظار طقس جميل للعمل.
لربما تحكمُ عليَّ بقلة الحكمة وهو ما لا أنفيه أبداً، حتى إذا تنطقتُ ببعضها سهواً، فلقد خلعتُ أسنان العقل بعد أن فشلت محاولاتي بتتويجها وتثبيتِ رباطة جأشها منذ أول التماعٍ لبرق الألم في ظلام فمي الدامس.
وبرغم عتبة تحمّل الألم المرتفعة عندي لأسباب موروثة، وبرغم المضمضة بالعرق لتدريب الأسنان على عدم التخاذل والوقوف إلى جانبي طالما استطاعت، إلا أنني خسرتُها واحدة تلو الأخرى، مرة مع لقمة فلافل يابسة ومرة بعد التهاب في الأعصاب كان يهدّد سلامة القلب.
بدى استنفار الطبيب قبل خلع آخر أسنان العقل غريباً، إذ وصف لي مضاد التهاب ومسكنات متدرجة في قوتها. وكان استنفار صديقتي غريباً أيضاً، إذ أرادتْ تحضيري نفسياً لأوجاعٍ قد تصل إلى ما لا أحتمله، وتعدني بقدومها بعد عملها لتطمئنَ عليّ، متيقنةً من رؤيتي متلوياً من الألم على حافة الفراش، متمنيةً أن يعينني الثلج الذي ستحضره على النجاة.
ولكن الأكثر غرابة كان إبرة التخدير التي قدمها لي الطبيب، وكأنه على وشك تخدير جمل ومنعه من الفزع.
ولكنني لستُ جملاً، حتى إن كنتُ بظهر محدودب يمكن تشبيهه بالسنام جرّاء الجلوس أمام طاولة الكتابة، وحتى إن تمكنتُ من المشي وقطع الحدود لأيام طوال مكتفياً بذاكرة الماء في عروقي، والنوم وقوفاً أو جلوساً، واستعداد قدميَّ للنهوض في أي لحظة يقدحُ فيها صوتٌ أو يلمع فيها ضوء.
أنا لستُ جملاً، حتى وإن خسرتُ أسناني كلها وبدأتُ ألوكُ اللقمة بشكل مضحك، وأترك فكّي السفلي ينزلق نحو اليسار ليعود بعدها بسلاسة نحو اليمين.
حذّرني الطبيب بالطبع من التدخين بعد الخروج من عنده، ومن أنني لربما سأحتاجه خارج أوقات دوامه، وأنه لن يكون متوفراً لأجلي.
كان الغبار ما يزال على رفوف المكتبة عندما عدتُ إلى البيت، فجلستُ أمام المكتب أفكر في كمية الألم التي وعدني بها الطبيب وجهزتني صديقتي لمواجهتها، مما جعلني أتفحص المسكنات وأرتبها حسب قوتها، استعداداً للحظة يُعمى فيها على قلبي من الألم، فأعرف كيف أميزها وأتناولها بالترتيب.
في الأفق الممتد أمام المكتب، أشاهد المرأة تخرج مجدداً وتصعد السلم الحديدي إلى الحديقة العلوية وتدخّنُ وسط حديقتها غير مكترثة بالمطر الذي بدأ بالتساقط، مما ذكرني بحوض نعناع صغير أحضرَهُ أحد الأصدقاء وتركتُهُ في الغرفة المجاورة، فنهضتُ قبل أن يباغتني الألم المُنتظر وجلبتُ الحوض إلى غرفتي لأضعه أمامي على النافذة، ثم قطفتُ منه نعناعة صغيرة فركتها في راحة يدي اليمني التي أستعملها للتدخين، وبهذا أشمُّ رائحة النعناع كلما دخنتُ شيئاً من اللفافة الناعمة.
وضعتُ مضاد الالتهاب تحت لساني، ورحتُ أدخّنُ بالرغم من تحذيرات الطبيب، ثم نهضتُ وأعددتُ بعض الطعام وبدأت بالعمل على بعض الملفات القديمة والأفكار التي لا تزال تدور في ذاكرتي ريثما يصل الألم ويتعدى عتبة احتماله.
بعد عدة ساعات لم يحصل شيء، مما شجعني على مضغ لقمة صغيرة من الخبز المبلل بالمرق، ولكني لم أشعر بأي عصب يحرك ساكناً أو ينتفض محتجاً على السيجارة أو اللقمة، فقمتُ ورميتُ عُلَبَ الأدوية في القمامة ونظرتُ في المرآة متسائلاً إذا ما كنتُ قد عبرتُ الحدود هرباً في لحظة خوف، ولم أنتبه إن إحساسي قد هرب مني في اتجاه مختلف تماماً.