تحضيراً لما سيأتي/ هديل الصيداوي
حتى الأمس القريب، كانت السياسة الغربية تجاه سورية تركّز على دعم الحوكمة المحلّية وهيئات المجتمع المدني في شمال غرب البلاد، بحيث يمكن أن تصبح آليات للانتقال السياسي. لكن هذا التوجّه تغيّر، كما ظهر جلياً في القرار الذي اتّخذته الولايات المتحدة في شهر أيّار/مايو الفائت بسحب المساعدات من شمال غرب سورية وإعادة توجيهها إلى شمال شرق البلاد، من أجل منع عودة تنظيم الدولة الإسلامية إلى المناطق التي طُرد منها.
لقد أدّى هذا التحوّل إلى ظهور مجموعات مدنية في شرق سورية، تم تكليفها بسدّ الفجوة في توفير الخدمات المحلية. وقد أصبحت منظمات المجتمع المدني هذه نشطة على نحو متزايد، إلى جانب المجالس التابعة لقوّات سورية الديمقراطية والهياكل القبلية. وواقع الحال أنها باتت تبرز في المشهد السوري كوسيط بين المانحين الغربيين والقبائل والمجتمعات المحلية.
ولأن حاجات إرساء الاستقرار في المنطقة كبيرة، اضطرّت مجموعات المجتمع المدني هذه إلى إعطاء الأولوية لتقديم الخدمات على حساب المناصرة والعمل في مجال حقوق الإنسان. فقد دمّرت الضربات الجوية التي شنّها التحالف المناهض لتنظيم الدولة الإسلامية العام الماضي جزءاً كبيراً من الرقة والمناطق المحيطة بها، وحرمتها من الكهرباء أو المياه النظيفة، في حين فخّخ تنظيم الدولة الإسلامية البنية التحتية، ما جعل عودة السكان صعبة بشكل خاص. فعلى سبيل المثال، أحصت جمعية أهلية تُدعى “أمل أفضل للطبقة” 64 منزلاً مدمّراً في قرية جعبر التي تبعد 50 كيلومتراً غرب مدينة الرقة حيث تنشط. وردّاً على التدمير الذي شهدته الرقة والمناطق المحيطة بها، شاركت حوالى 30 منظمة مجتمع مدني بشكل أساسي في رفع الأنقاض، وإعادة تأهيل شبكات الكهرباء والمياه، وتوفير المساعدة النفسية للأطفال، ودعم برامج محو الأمية. إضافةً إلى ذلك، تبرز في دير الزور منظمات أخرى مختلفة عن تلك التي تقدّم مساعدات إنسانية بدعم من الأمم المتحدة. كذلك، بدأ المواطنون النازحون داخلياً في العودة إلى الشمال الشرقي منذ شهر تشرين الأوّل/أكتوبر 2017، وفقاً لتقارير صادرة عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية. ويظهر على ما يبدو نمط مماثل في المناطق التي تم تطهيرها من تنظيم الدولة الإسلامية في ريف محافظة دير الزور.
وسط الاضطرابات السياسية والأمنية في شرق سورية، حرصت منظمات المجتمع المدني على توفير الخدمات بدلاً من تأدية دور سياسي، وأنشأت بالتالي هياكل محلية. وبدءاً من شهر حزيران/يونيو 2017، أُنشِئ هذا النوع من المنظمات أساساً على يد خبراء عرب أو غيرهم – من أطباء ومحامين ومحاسبين ومهندسين ومعلمين – من المناطق نفسها، وغالباً ما كانوا ينتمون إلى القبيلة نفسها.
فعلى سبيل المثال، ينتمي أعضاء منظمة “إنماء الكرامة” التابعة للمجتمع المدني إلى قبيلة العفادلة وفروعها، وهي واحدة من أكبر قبائل هذه المنطقة. يعمل هؤلاء عبر شبكة من المتطوّعين، وكان بعضهم ناشطاً في المجالس المحلية ومنظمات الإغاثة بعد اندلاع شرارة الثورة السورية، ونجح في البقاء على قيد الحياة في ظل حكم تنظيم الدولة الإسلامية من خلال التواري عن الأنظار، والعمل غالباً في الزراعة وتجارة الماشية. صحيحٌ أن الأعضاء لا يتبنّون بالضرورة وجهات نظر سياسية مشتركة، إلا أنّهم لا يحبّذون أن يتم نسبهم إلى هياكل تابعة لقوات سورية الديمقراطية، ذلك أنهم لا يرغبون في الارتباط بالمشروع السياسي الكردي على ضوء العودة المحتملة للنظام السوري. ومع ذلك، فإنّهم يتعاونون مع هذه القوات لتحسين الظروف المعيشية المحلية.
عقب الهزيمة التي مُني بها تنظيم الدولة الإسلامية في الرقة في نيسان/أبريل 2017، شكّلت قوات سورية الديمقراطية مجلس الرقة المدني، وتبعتها في تشرين الثاني/نوفمبر الإدارة المدنية الديمقراطية لمنطقة الطبقة، ويتألف كلاهما من أغلبية عربية بقيادة مشتركة عربية- كردية. وتتسم العلاقة بين منظمات المجتمع المدني وهياكل الحوكمة التي تقودها قوات سورية الديمقراطية بالريبة المتبادلة. فقد فشلت الهياكل التابعة لقوات سورية الديمقراطية في جذب الشباب المهرة والمتعلّمين، وهي تنظر إلى مجموعات المجتمع المدني على أنها تتلقى الموارد التي فشلت هي نفسها في جذبها من الجهات المانحة الغربية، ما قوّض قدرتها على الاستجابة للحاجات المحلية. مع ذلك، أرغمت الولايات المتحدة مؤسسات قوات سورية الديمقراطية على تسهيل عمل منظمات المجتمع المدني.
يُطلب من مجموعات المجتمع المدني التسجيل لدى قوات سورية الديمقراطية في عين عيسى، ويتعيّن عليها تجديد تراخيصها كل ثلاثة أشهر. وفي بعض الأحيان، يُطلب منها الحصول على إذن قبل تنفيذ أنشطتها. لكنها مع ذلك تستفيد من مستويات أعلى من القبول والتسامح مقارنةً مع ما واجهته المنظمات المدنية العربية سابقاً في تل أبيض ومنبج. فقد أكّد عامل من إحدى المنظمات على أن توظيف عدد من الأكراد كان شرطاً للعمل في تل أبيض.
سعت مؤسسات الحوكمة التابعة لقوات سورية الديمقراطية، في محاولةٍ لبناء شرعيّتها، إلى استخدام الشخصيات القبلية لمصلحتها الخاصة. وعلى الرغم من أن الهياكل القبلية لا تزال موجودة في شرق سورية، حلّت عملية بناء الدولة ببطء محلّ النظام القديم على مرّ العقود، ما أدى إلى تحويل ولاء الأفراد من القبائل إلى المناطق. وتُعدّ الأسماء التي اختارتها منظمات المجتمع المدني لنفسها، والتي تسلّط الضوء على المناطق التي تنبثق منها، خير دليل على هذا الواقع، من ضمنها: “أمل أفضل للطبقة”، و”الجرنية”، و”إنماء الكرامة”، و”إعمار المنصورة”. علاوةً على ذلك، واجهت القبائل المحلية انقسامات كبيرة منذ بدء الصراع السوري، ما أضعف نفوذ قادتها. بيد أنّ قوات سورية الديمقراطية والسكان تعتبر أنها تؤدّي دوراً أساسياً في حلّ النزاعات أو التدقيق بهويات أولئك الذين تعاونوا مع تنظيم الدولة الإسلامية.
مع ذلك، وفي إطار هياكل السلطة الراهنة في شرق سورية، يُنظر إلى قادة القبائل وقوات سورية الديمقراطية على أنهم لا يتمتعون سوى بنفوذ محدود في تقديم الخدمات. ففي حين أن الأفراد المرتبطين بحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي داخل مجالس قوات سورية الديمقراطية قد تكون لديهم الكلمة الفصل في عملية صنع القرار، إلا أنّ الجهات المانحة الغربية هي التي تقرّر حجم التمويل. ومن جهتها، تؤثّر منظمات المجتمع المدني على الجهات المانحة بفضل عملية تقييم الحاجات التي تجريها في مناطقها المحلية، وقدرتها المتزايدة على الالتزام بشروط الشفافية المالية التي تضعها هذه الجهات. وقد أدى هذا الواقع إلى تعزيز ثقة الجهات المانحة بالمنظمات المدنية، ما منحها مزيداً من النفوذ من خلال السماح لها بالعمل كهياكل وسيطة ومؤثرّة وغير تقليدية، مع قوى خارجية في شرق سورية. فقد بات قادة القبائل، وأعضاء المجتمع المحلي، وحتى المجالس المدنية التابعة لقوات سورية الديمقراطية يسعون بشكل متزايد إلى الحصول على خدمات منظمات المجتمع المدني في مشاريع إعادة التأهيل وجهود مماثلة.
تسمح منظمات المجتمع المدني للتكنوقراط، والناشطين، والعمّال المهرة، الذين قد تهمّشهم الهياكل الحكومية الحالية، بأن ينشطوا ويشكلّوا نواة المجتمع المدني في فترة ما بعد الحرب، إذ أن وضعهم كأفراد معروفين ومحترمين ومتجذرّين في مناطقهم، وفي البنية القبلية التقليدية، يمنحهم درجة من الشرعية. صحيحٌ أن تأثيرهم مشروط باستمرار حصولهم على تمويل الجهات المانحة وضغطها لتمكينهم من العمل، غير أنّهم يوفّرون الخدمات التي تشتدّ الحاجة إليها في شمال شرق سورية غير المستقر سياسياً. وفي انتظار التوصّل إلى تسوية سياسية نهائية، يتعيّن على صنّاع السياسات أن يفكّروا في الانخراط مع هذه المجموعات في عمليات صنع القرار المتعلقة بمجتمعاتهم المحلية، لأنهم يُعتبرون الأنسب لتلبية الحاجات المحلية.
مركز كارينغي للشرق الأوسط