عودة السوريين: كتابٌ منسي وحافلة معطوبة/ أيمن الشوفي
الكتابةُ عن عودة السوريين إلى خرائب مدنهم وأحيائهم، تشبه التفلّت من حقل ألغامٍ مُفزِع، كأنما تبحث اللغة الوصفيّة هنا عن موطئ قدمٍ آمنٍ لها قبل أن تقول المعنى، وقبل أن تنهزم المخيّلة حال تتراءى لها من بعيد مخيمات فلسطين واليرموك والتضامن، وقد مالت عظامها بعضها على بعض، وتعانقت في الهواء الكامد. الموالون للنظام فقط يستطيعون العودة إلى هناك لتفقّد الندبات النافرة التي تركها القتال المسلّح فوق وجوه منازلهم، وهم الذين غادروها بعد دخول تنظيميّ النصرة وداعش بالتتابع إلى المخيمات الثلاث، ولديهم ما يثبت نسب تلك البيوت إليهم، فلا تلاحقهم سياط المرسوم رقم 10 لتجلدهم، تلك التي تجلد سواهم من المعارضين أو المطلوبين أمنياً، من الذين تركوا المخيمات الثلاث في فتراتٍ متلاحقة بدأت منذ العام 2012، ولا يستطيعون العودة لإثبات ملكيّاتهم التي هدرَ المرسوم دمها.
سؤال العودة، إجابة العودة
من الذي سيعود، وإلى أين سيعود؟ يدور النظام مراراً حول هذا السؤال، ولا إجابة شافية لديه ليقذفها بوجه المتشككين بنواياه. يناور الرأي العام بتطميناتٍ واهية يبثّها عبر إعلامه الرسمي، وتصريحات مسؤوليه. يصبح المشهدُ موحلاً أكثر في الغوطة الشرقيّة، ويصير مستوى الرؤية السياسيّة ضعيفاً للغاية لدى معاينة صور دوما وعربين وزملكا وجوبر، حيث القسم الأكبر من سكان تلك المناطق وقفوا مع الانتفاضة ضد النظام، وأسماءهم معلّقة على الحواجز تنتظر القطاف بين المطار والمعابر الحدوديّة، فمن أين لهم أن يعودوا وكيف؟
في أواخر شهر حزيران/ يونيو من هذا العام، هلّلت وكالة الانباء الرسميّة السوريّة لعودة عدد من النازحين عبر وادي حميد باتجاه جرود عرسال وصولاً إلى معبر الزمراني، قالت حينها بأن الدولة اتخذت جميع الإجراءات والترتيبات لاستقبال مئات المهجرين السوريين العائدين من الأراضي اللبنانية عبر منفذ الزمراني، وأنّ قرابة 380 نازح يرتّبون لعودتهم إلى بلداتهم في قرى القلمون، وذلك بواسطة سياراتهم الخاصة. بدت التصريحات حينها دعائيّة للغاية، وكأنها تساير انتصارات الجيش النظامي لا أكثر، فعن أيّ سيّاراتٍ خاصة كانت الوكالة تتحدث؟ إذ أن النازحين السوريين الملتصقين بمخيمات اللجوء في لبنان جلّهم من الفقراء، الذين ركبوا قطار الخوف في أول محطّة له، هرباً من الموت الجهنّمي الذي ترميه البراميل المتفجّرة وقذائف المدفعيّة والطائرات فوق رؤوسهم العارية.
حتى الآن، لم تقدّم السلطات السورية آلية عمل تطبيقيّة، يرافقها برنامج زمني يتيح عودة اللاجئين السوريين إلى مناطقهم التي تهجّروا منها، بضماناتٍ سياسيّة وأمنيّة لائقة. ما زالت تتفرّج عليهم وهم منكوبون في مخيمات اللجوء داخل دول الجوار، وكأنهم شعبٌ آخر لا يعنيها بشيء، كما لم تنجز السلطة في المناطق التي استعادت السيطرة عليها، في دمشق وباقي المدن الكبرى، أيّة دراسةٍ تفصيليّة تبيّن عدد المساكن التي يمكن ترميمها خلال وقت قليل والسكن فيها مباشرةً، أو تلك التي تعرضت لضرر شديد بحيث استحالت إلى ركام.
لاجئون تحت خط الفقر وفوقه
بدأ موسوم لجوء السوريين في أواخر العام 2011، ولا تزال ثماره تتدحرج بين أقدام الدول حتى الآن، بحيث بات السوريون يشكلون نسبة كبيرة من العدد الكلّي للاجئين في العالم، ويمكن للمنظمات الدولية ترتيبهم بيسرٍ كأنهم سلعٌ فوق رفوف متجر الفرجة العالمي: 5,5 مليون نازح خارجي، و6,1 مليون نازح داخلي. هناك مليون نازح مسجّل في لبنان، و3.3 مليون نازح مسجّل في تركيا، وقرابة 650 ألف نازح مسجّل في الأردن. ومعظم هؤلاء تحوّلوا إلى فقراء، فلا منازل يعودون إليها، ولا منازل تنتظرهم ليذهبوا إليها إنْ لم يعودوا. يأكلون ويتنفّسون من المعونات الدوليّة. هناك لاجئين سوريين من الطبقة الوسطى، بمعنى أنهم يسكنون خارج المخيمات، في بيوتٍ يستأجرونها، ويعملون في لبنان والأردن وتركيا، وينتظرون فرصة الانتقال إلى بلدٍ آخر. وهناك اللاجئون الأغنياء، وهم قلّة من التجار والصناعيين الذين استقروا مع أسرهم في دول الجوار منذ العام 2012، ونقلوا أعمالهم إلى هناك، ولا يمانعون من العودة إلى بلادهم متى استقرّت الأوضاع السياسيّة فيها.
دمشق مدينة الحواجز، بلا هاون
دمشق مصابة بالاكتئاب المزمن، مصابة باللونين الرمادي والكاكي على وجه الدقة. لا تزال مطوّقة بالحواجز والنعاس، بالرغم من خروج الفصائل الاسلامية المسلّحة من محيطها الشرقي والغربي على السواء، وجفاف سمائها من قذائف الهاون. لكنها لا تزال مدينةً مريضة، الناس تفتّش عن ذرّات الاوكسجين في ملح الهواء، ويتسلّق الحزن وجوه الجميع بلا تفرقة، كأن للحزن بيتٌ يعرف باب، والبشر يتركون فراغاً حين يرحلون، ودمشق محاطة بالفراغ، لا أحد يعود إليها من وراء الأفق اليابس. النازحون في الداخل باقون حيث هم، في المنازل التي استأجروها داخل المناطق الآمنة، لا يفكرون حالياً بالعودة إلى منازلهم المكدومة. والنازحون في الخارج يتقاسمون الأخبار، وتغريدات ترامب على “تويتر” ونتائج المونديال، ثم يعيدون بثّها على صفحات مواقع تواصلهم الاجتماعي، حيث صارت سوريا بالنسبة لمعظمهم مطبّاً نوستالجياً. ومع ذلك فإن صحيفة “دي فيلت” الألمانية ذكرت في مقالٍ طويل نشرته هذا العام أن سوريا تبدو آمنة، مُحصيةً عدد اللاجئين السوريين، وطالبي اللجوء في ألمانيا بنحو 700 ألف منذ العام 2011. ثم تساءلت: “أليس عليهم العودة إلى ديارهم؟”.
تلك العودة تحتاج إلى بنيةٍ تحتيّة من التشريعات ليست موجودةً بعد، أقلّها إلغاء الخدمة الاحتياطيّة، وهذه مرتبطة باستمرار القتال في سوريا، ثم منع الملاحقات الأمنيّة للنازحين العائدين، وهذا يتطلب الانتقال إلى نموذج حكمٍ سياسي يبتعد عن الدولة الأمنية بصيغتها القائمة حالياً.
وكأن تلك العودة مؤجلة، كتابٌ منسي داخل حافلة معطوبة لا تتحرك، أو لعلّها رهنُ توافقاتٍ دوليّة كبرى حول سوريا، وحول المنطقة برمّتها. وفي الاثناء تظلّ وجوه السوريين تلاحق سرابَ الضوء، تدور بخفّةٍ ويقين قبل أن تقع.. وكأن أصحابها يحاولون تعريف حياتهم منذ سنوات ويفشلون.
السفير العربي