أبو خليل القباني… الرحلة المجهولة إلى أميركا!/ خليل صويلح
أبو خليل القباني… الرحلة المجهولة إلى أميركا!/ خليل صويلح
يتناوب مشهدان متناقضان في اختصار سيرة أبي خليل القباني (1833- 1903): بيته المهمل على تخوم تلّة تشرف على وادي نهر بردى، وقد تحوّل إلى ما يشبه مكبّاً للقمامة بدلاً من ترميمه، ومشهد الباخرة الخديوية التي توقّفت في ميناء بيروت لتكمل رحلتها إلى الإسكندرية وصولاً إلى شيكاغو، وكان أبو خليل القباني وفرقته على متنها لتقديم عروضٍ مسرحية في معرض شيكاغو الدولي (1893) بتكليف من السلطنة العثمانية.
لن نستعيد مكابدات رائد المسرح العربي في دمشق، ولجوءه إلى القاهرة ثم إلى بيروت، بغرض الحصول على رخصة إقامة «تياترو» لعرض (لعبيات) باللغة العربية، سيراعي تحذيرات الحكومة في «اجتناب ما يخالف الآداب العامة». إلا أن ولاية بيروت لم تمنحه الترخيص، فعاد ثانيةً إلى القاهرة مع فرقة «مرسح العادات الشرقية» وبجعبته عروض مسرحية جديدة، إلى أن ظهر في بيروت مجدّداً استعداداً للسفر إلى شيكاغو.
في كتابه «من دمشق إلى شيكاغو: رحلة أبي خليل القباني إلى أميركا 1893» (ارتياد الآفاق- أبو ظبي)، يميط تيسير خلف اللثام عن وثائق نادرة تتعلّق بهذه الرحلة المجهولة وما رافقها من مصاعب وإشكالات وريادة في تصدير الفرجة العربية إلى الآخر. يتكئ الباحث السوري على مجموعة كبيرة من الوثائق في ترميم صورة أبي خليل القباني المغبّشة، نظراً إلى تضارب معلومات مؤرخي تلك الحقبة حول هذه الشخصية الاستثنائية، وحقيقة هذه الرحلة التي تجاهلتها الأدبيات العربية تماماً «ولولا الصحافة الأميركية لما عرفنا عنها شيئاً». إذ ذكرت تلك الصحف أخباراً عن العروض التي قدّمتها الفرقة في المعرض مثل «كوكب أميركا»، و«نيويورك تايمز»، و«ديلي أركنسو غازيتا». كما واكبت صحيفة «لسان الحال» البيروتية الجهود التي بذلها القباني في إعداد الممثلين وتلقينهم أدوارهم، بالإضافة إلى العروض التجريبية التي أقامها في بيروت. هكذا أبحرت السفينة بأعضاء الفرقة (58 شخصاً) حسب سجّل الواصلين، وبينهم بالطبع أحمد آقبيق، وهو الاسم الرسمي لأبي خليل، بالإضافة إلى الممثلة إستيرا حنائيل الحكيم المعروفة باسم طيرة الحكيم التي يُرجح أن القباني كتب ولحّن أغنية «يا طيرة طيري يا حمامة» بوحيٍ من اسمها. ويورد السجل اسم المطربة وعازفة القانون ملكة سرور من بيروت، والممثلتين بمبا وجميلة سعادة من دمشق.
ما إن وصلت الفرقة إلى شيكاغو، واستقرت في محل إقامتها حتى باشرت تدريباتها في مبنى «المسرح التركي» الذي كان نسخة من واجهة خان أسعد باشا الدمشقي. وستتضمن عروض الفرقة، وفقاً لدليل المعرض، رقصات ودبكات ومقاطع تمثيلية عن عنترة بن شدّاد وهارون الرشيد والعرس الدمشقي، وحكايات من الموروث المحلّي.
يصف مراسل «بيتسبيرغ ديسبيتش» أداء طيرة الحكيم بقوله «لم أرَ أي رقص يشبه رقص طيرة، لقد كانت قصيدة بايرونية (نسبة إلى الشاعر بايرون) أقوى من الكلمات، من دون أي تعبير على وجهها. لا أستطيع القول إن كان لديها أسراب من الطيور الصغيرة مخبأة في صدرها، أم أن قلبها فقط هو الذي يتحرّك كما تشاء».
استقطبت عروض أبي خليل القباني جمهوراً غفيراً، لتميّزها بالإبهار البصري والاحترافية وكسر الجدار الرابع بين الجمهور والخشبة، بما يسبق تنظيرات برتولت بريخت بنصف قرن. لكن هذه العروض ستصطدم برقابات متعددة، تركية وأميركية، مثل مطالبة ممثلات الفرقة بارتداء الشال، والاحتجاج على حركات الرقص الشرقي التي تفتقد إلى الاحتشام وتتجاوز حدود اللباقة والأدب. في المقابل، دافع بعض النقّاد عن الرقص الشرقي بوصفه يتعلّق برموز في معتقدات الشرق القديمة. على خلفية تقارير أمنية وتحريّات جهاز «الخفية» في ولاية بيروت، وجد أبو خليل القباني نفسه متورطاً باتهامات ووشايات تطال «مرسح العادات الشرقية» بمؤامرة تستهدف مكانة السلطنة، ما جعله يختصر فترة إقامته في شيكاغو ويغادرها بعد شهرين من العروض. وربما تعرّض للمساءلة حول «تمثيل بعض العوائد والأشياء التي تمسَّ حساسيات أدباء بلادهم، وتحط في أعين القوم اعتبارها، وبناء عليه قيل إنه صدر أمر سامٍ لقصاصهم ومنع بعضهم من العودة إلى الوطن». ويشير تقرير لجهاز الخفية إلى أن من كتب التقرير الكيدي بالفرقة، قد بالغ في المسألة أو أنها اختلاق صرف، كما نفى وجود مسلمين بين أعضاء الفرقة للتستر على اسم أحمد آقبيق وحمايته من القصاص. وهذا ما استدعى سفر أبي خليل المفاجئ إلى لندن وباريس، على الأرجح ريثما تهدأ العاصفة، وظلّ متكتماً على خبر رحلته إلى شيكاغو تسع سنوات حتى وافته المنية في دمشق 1902، بعدما أصابه الوباء الذي عمّ البلاد ذلك العام.
يشتمل الكتاب (حائز «جائزة ابن بطوطة لتحقيق المخطوطات») على مجموعة من الوثائق العثمانية التي تتعلّق بالمسرح، ووثائق معرض شيكاغو، ودليل عروض الفرقة، ومقاطع من النصوص المسرحية التي كتبها القباني، وأخبار الصحف عن تلك العروض، بالإضافة إلى ملحق للصور التي توثّق تلك المسرحيات وبعض ممثلي الفرقة.
ملحق كلمات
أبوخليل القباني في رحلته المجهولة من دمشق إلى شيكاغو/ صقر أبو فخر
يحلو للكاتب والروائي تيسير خلف أن يرسم خرائط المدن وأحيائها وأزقّتها، لإضفاء المزيد من الواقعية التاريخية على الحوادث الجارية في هذه المدينة أو تلك. ويلوح لي أنه يجد لذة في تصميم شجرة العائلة للشخصيات التي ترد أسماؤها في رواياته، وهذان الأمران عنصران مهمان جداً في الرواية التاريخية، أو في الرواية التي تشتبك بالتاريخ. وهذا ما فعله في روايته “موفيولا” (عمان: دار فضاءات، 2013) التي تقصى فيها سيرة مدينة يافا وحكاية المصور والسينمائي الفلسطيني المجهول محمد صالح الكيالي، فراح يتتبع تفصيلات أيامه بشغف كأنه يكتشف، في كل يوم، سراً. وفي روايته “عصافير داروين” (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2018) يتعقب تيسير خلف ما جرى للمرمح الحميدي في معرض شيكاغو في سنة 1893، وكيف احترقت الجياد العربية، وما وقع للراقصين والمغنين السوريين الذين ذهبوا إلى المعرض الكولومبي المشهور في ذلك العام وكان معهم أبو خليل القباني. وفي رواية “عصافير داروين” لم يرد اسم أحمد أبو خليل القباني إلا مرتين: الأولى بصورة عابرة في سياق الكلام عن راجي الصيقلي من عكا (ص13)، والثانية شبه عابرة في الحديث عن احتراق الجياد العربية في غارفيلد بارك (ص150).
في كتابه الجديد “من دمشق إلى شيكاغو”، يكشف تيسير خلف أن أبو خليل القباني كان مديراً للممثلين والمغنين السوريين المشاركين في “مرسح العوائد الشرقية”. ورحلة أبو خليل القباني إلى أميركا في سنة 1893 ظلت مجهولة إلى حد بعيد، إلى أن أزاح تيسير خلف الأستار عنها وأصدرها في كتاب بعنوان “من دمشق إلى شيكاغو: رحلة أبو خليل القباني إلى أميركا 1893” (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2018)، ونشرها في سلسلة “ارتياد الآفاق” التي تصدرها دار السويدي للنشر في أبوظبي ويشرف عليها الشاعر السوري نوري الجراح، وقد نال عنها جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلات في سنة 2017. ويبدو لي أن اشتغال الكاتب على تحقيق رحلة أبو خليل القباني تلك وفّر له معلومات جمة. ومن هذه المعلومات تمكّن من صوغ رواية “عصافير داروين”. غير أنني لا أعرف، على وجه اليقين، هل جرت الأمور على هذا النحو حقاً. وربما أكبّ تيسير خلف، في البداية، على تجميع قصة المرمح الحميدي واحتراقه، وفي أثناء البحث والحفر اكتشف أن أبو خليل القباني هو الذي تولى إخراج العروض المسرحية في “مرسح العوائد الشرقية”، فانتقل إلى تحقيق رحلته المجهولة. والحقيقة أن قراءة الرحلة القبانية إلى شيكاغو لا تكتمل إلا بقراءة رواية “عصافير داروين” معها مباشرة.
البداية
في 9/2/1891 تلقى السلطان عبد الحميد من الرئيس الأميركي بنجامين هاريسون دعوة إلى المشاركة في المعرض العالمي الذي سيُفتتح في مدينة شيكاغو في 1/5/1893 ويستمر ستة أشهر متواصلة. وبعد معاناة وتفصيلات تنظيمية وتأليف لجان فنية وإدارية لهذه الغاية، تمكنت البعثة العثمانية من الإبحار من بيروت في 15/3/1893، فوصلت إلى ميناء نيويورك في 16/4/1893، ومنه بالقطارات إلى شيكاغو. وبلغ عدد أفراد الفرقة الفنية التي شكلها أحمد أبو خليل القباني 58 شخصاً سورياً، منهم المطربة ملكة سرور (يهودية بيروتية ذات أصول حلبية) وأستيرا الحكيم (التي اشتُهرت باسم “طيرة” والتي لحّن لها أبو خليل القباني أغنية “يا طيرة طيري يا حمامة”). وفي ذلك المعرض الكولومبي التاريخي، قدّم أبو خليل القباني عدداً من المسرحيات، مثل “الدراما الكردية” و”الدراما القلمونية” و”المروءة والوفاء” (وهو نص لخليل اليازجي)، علاوة على مشهديات تمثيلية مثل العرس الدمشقي وعنترة بن شداد وهارون الرشيد وغيرها. وعلى الرغم من العناء الكبير الذي واجه الفرقة، ومع أن الإقبال كان كبيراً على عروضهم المسرحية والغنائية، إلا أن الخسارة حاقت بهم نتيجة سوء الإدارة والبلبلة. ومهما يكن الأمر فقد تعقّب تيسير خلف هذه الرحلة في عدد من المصادر مثل جريدة “كوكب أميركا” (وهي أول جريدة عربية ظهرت في القارة الأميركية، وقد أصدرها في نيويورك في 15/4/1892 الدمشقيان إبراهيم عربيلي وشقيقه نجيب)، وبعض المجلات المصرية مثل “الرسالة” (1951) و”الشتاء” (1906) و”المصور” (1938) و”الهلال” (1905)، علاوة على بعض الصحف الأميركية مثل شيكاغو دايلي غلوب (1890) وشيكاغو تريبيون (1893) ونيويورك تايمز (1892) وملتقطات من الأرشيف العثماني.
شكك كثير من الكُتّاب ومؤرخي الفن في هذه الرحلة؛ فقال حسني كنعان إن أبو خليل القباني سافر بالفعل إلى واشنطن (الصحيح شيكاغو) لكنه عاد من إيطاليا جراء دوار البحر (ص24)، فيما أنكر الياس طعمة في رسالته لنيل الماجستير (الجامعة اللبنانية، 1967) تلك الرحلة من أساسها، وقال إنها مختلقة (ص 25)، ولا أدري ما سيكون موقفه اليوم حين يقرأ هذا الكتاب. لكن جريدة “كوكب أميركا” أكدت وجود أبو خليل القباني في شيكاغو في خبر عن زيارته مكاتبها (ص 155)، كما نشرت خبر مغادرته أميركا في 30/6/1893. والحقيقة أن في الإمكان العثور على تفصيلات ذلك المعرض في قصيدة كتبها ميخائيل أسعد رستم مؤلفة من 52 بيتاً، ومنشورة في كتابه “الغريب في الغرب” (نيويورك: المطبعة الشرقية، 1895). وحبذا لو تنبّه الكاتب إلى هذا الكتاب الذي كنتُ أول من أعاد التذكير به في مقالة نشرتُها في مجلة “المصير” البيروتية (العدد 20، تشرين الثاني 1984)، ثم في مقالة ثانية في جريدة “السفير” (21/1/1992)، الأمر الذي جعل دار الحمراء في بيروت وصاحبها الصديق الراحل أسعد رزوق يبادران في سنة 1992 إلى نشر الكتاب في طبعة جديدة بعناية الدكتور يوسف إيبش. وفي قصيدة ميخائيل أسعد رستم، سرد على بحر الرجز لكل ما جرى للمرمح الحميدي في المعرض الكولومبي كالحريق الذي شوى الجياد العربية، والإفلاس الذي حل بالمتعهدين، واحتيالات الوكيل شومان، والعقيد “بوفالو بل”… إلخ. وأبعد من ذلك، فإن معظم ما جاء في رواية “عصافير داروين” في شأن المرمح الحميدي تجده في كتاب “الغريب في الغرب” بالتفصيل، مع فارق واحد هو أن ميخائيل أسعد رستم لم يذكر البتة اسم أبو خليل القباني.
الرائد أبو خليل
يقول تيسير خلف إن أحمد بن محمد بن حسين آقبيق، المعروف باسم الشيخ أحمد أبو خليل القباني، مولود في دمشق سنة 1842 (ص15)، ثم يضيف أن بعض المصادر الأخرى تذكر أنه مولود في سنة 1833 (ص43). ما هي تلك المصادر؟ ولماذا لا يُفصح عنها؟ ومع أنني، مثل المؤلف، ميّال إلى الأخذ بالعام 1842 كتاريخ لميلاد أبو خليل القباني، فإن الدقة العلمية والأمانة المهنية تقتضيان الإشارة، ولو من باب النقد، إلى كتاب المؤرخ الموسيقي السوري صميم الشريف، الموسوم بعنوان “الموسيقى في سورية: أعلام وتاريخ” (دمشق: منشورات وزارة الثقافة، 1991) حيث يرد فيه أن أبو خليل القباني مولود في سنة 1833. وعلى المنوال نفسه يؤكد تيسير خلف أن القباني توفي في دمشق في آخر يوم من عام 1902، أي في 31/12/1902، فيما يذكر أحمد الجندي في كتابه “لهو الأيام” (بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، 1991) أنه توفي في سنة 1901. ومهما يكن الأمر، فإن أحمد أبو خليل القباني الذي اشتُهر بأنه رائد المسرح في بلاد الشام، أو أحد رواده الكبار، جرى إغفال شأنه الموسيقي، وقليلون يعرفون أنه صاحب ألحان الأغاني التالية: يا مال الشام، يا طيرة طيري يا حمامة، يا مسعدك صبحية، صيد العصاري، موشح ما احتيالي. وبهذا المعنى، فإن أبو خليل القباني له فضل عميم على الغناء العربي في مصر، على غرار شاكر الحلبي الذي هبط مصر في سنة 1840 ولقّن الفنانين المصريين أصول الموشحات ونقل القدود إليهم، والشيخ عمر البطش الذي أكمل بعض موشحات سيد درويش التي ترك بعض خاناتها ناقصة مثل “يا شادي الألحان” و”منيتي عز اصطباري”. وسيد درويش نفسه لم تتّقد فيه جمرة الإبداع وتطوير الغناء العربي إلا بعدما اصطحبه السوري أمين عطا الله إلى سورية في سنة 1909 حيث أقام نحو السنة، ثم عاد إليها ثانية في سنة 1912 وأقام في حلب سنتين. وفي حلب تعلم الموشحات والقدود وأصول فن الإنشاد وكان من أساتذته الشيخ صالح الجذبة، واتصل بالملا عثمان الموصلي نزيل حلب واقتبس منه لحن “زوروني كل سنة مرة” (أصله “زر قبر الحبيب مرة”) ولحن “طِلعتْ يا محلى نورها شمس الشموسة” (أصلها “بهوى المختار المهدي”).
ملاحظات لا بد منها
يحتوي الكتاب على صور نادرة للمطربات ملكة سرور وجميلة سعادة واستيرا حنائيل الحكيم (طيرة الحكيم) والراقصة روزا. وفي باب الوثائق، نعثر على صورة الإخبار الذي أرسله المخبر حسني البيروتي، وهو أحد رجال “جهاز الخفية” (أي الاستخبارات)، إلى السلطات الاستخبارية العثمانية يفتري فيه على أبو خليل القباني ويتهمه بالإساءة إلى المسلمين وأخلاقهم. بيد أن فهرس الكتاب سقيم جداً؛ فكثير من الأعلام والأماكن وأسماء الجماعات والمؤسسات الواردة في المتن غير موجودة في الفهرس، فما فائدة الفهرسة إذاً؟ ويبدو أن المفهرس ليس متضلعاً في هذا العلم، فهو يورد أنطونيوس بطرس وأنطونيوس بيير وطانيوس بطرس في ثلاثة مواقع من الفهرس، والثلاثة واحد. وكذلك يورد أستير حكيم وطيرة الحكيم في موقعين، والأولى هي نفسها الثانية. وعلى هذا المنوال ورد عنتر بن شداد في مكان وعنترة العبسي في مكان آخر. والأنكى أن المفهرس لم يتورع عن قلب “ميد واي بليزانس” فصار بليزانس ميد واي، وهو اسم مكان لا يُقلب كما تُقلب أسماء الأعلام. فهل نقلب بيت لحم ودير الزور كي تصبحا: لحم، بيت والزور، دير؟ وحتى صاحب الرحلة أبو خليل القباني يضعه المفهرس مرة في حرف الألف (آقبيق) ومرة في حرف القاف (القباني)، وكان يجب إيراده مرة واحدة بحسب الاسم الأشهر، أي القباني، ثم إحالة آقبيق عليه. وعلى هذه الشاكلة اعتقد المفهرس أنه قَلَب اسم محمد الأمين ابن هارون الرشيد فأورده هكذا: محمد، الأمين، أي أنه لم يفعل شيئاً إلا وضْع فاصلة بين الاسم واللقب. وهذا مدعاة للتفكهة؛ فالأمين هو اللقب الأشهر وليس من أصل الاسم، على غرار المأمون شقيقه. وقد نجا هارون الرشيد من قاعدة القلب مصادفة وإلا كان أورده على هذا النحو: الرشيد، هارون. وفي جميع الأحوال لا يجوز قلب أسماء الملوك والأباطرة ومَن في حكمهم. وهذه الملاحظات وغيرها مثل استعمال عبارة “نبلاء المعبد” (ص45) بدلاً من عبارة “فرسان الهيكل” لا تؤثر في أهمية هذا الكتاب الذي يُعد، بحسب رأيي، من أفضل كتب التحقيقات التاريخية التي بذل فيها المؤلف جهداً لافتاً في اكتشاف ثم تحقيق رحلة مجهولة لفنان كبير معروف هو أبو خليل القباني.
ضفة ثالثة