قصّة أم قتيلين سوريَّين… الأوّل مع الثورة والثاني مع النظام/ مكسيم عثمان
لم تكن أم محمد الستينية لتجري معنا مقابلة، جرّاء خوفها من غضب أولادها الشبّيحة، لكنّ ذكرى ابنها المقتول عام 2012 تحت التعذيب ما زالت تُشعرها بالذنب… لذلك قرّرت أم محمد أن تبوح بما في سرّها. إنه صدق خائف لسيّدة خسرت في الحدث السوري أولادها جميعهم.
تسكن أم محمد في إحدى أهم المناطق التي ثارت على النظام في اللاذقية، منطقة الرمل، وهي منطقة ذات أكثرية سنّية، اعتقل منها النظام في عامي 2011 و2012 ما يُقارب 7 آلاف شاب في اجتياح عسكري أنهى تجمّعات يومية لعشرين ألف مواطن في تظاهرات سلمية. اعتقل ابن أم محمد (س. ع) في نهاية عام 2011 وهو في الواحد والعشرين من عمره، وكان طالب اقتصاد سنة ثانية. أما سبب الاعتقال فكان مشاركته في تظاهرات ضد النظام. ولم تعرف أم محمد في بداية المطاف الجهة التي اعتقلته، كل ما عرفته أن ابنها موضوع في نفق مروري لم يستخدمه النظام منذ سنين، إلى أن حوّله إلى معتقل لآلاف السجناء. بقي ابنها هناك 5 أيام، تعرّض خلالها لتعذيب جسدي مروّع، فكسرت قدماه وكتفه. تخبر أم محمد: “قال لي جارنا إنه شاهد ابني مكسور القدمين، وكتفه اليسرى هابطة إلى أسفل، وإن الأمن أجبر معتقلين آخرين على حمله لنقله إلى المخابرات الجوية”، مضيفة: “جارنا يلي خبرني طلع من الاعتقال بمليون ليرة دفعها أهله فوراً وأنا ما كان معي لأدفع لحدا”.
تم نقلا ابنها إلى المخابرات الجويّة من أجل إجراء التحقيقات، ثم عُرف أنه نُقلِ إلى دمشق، لكن تواتر المعلومات ومحاولة الأهالي المتكرّرة البحث عنه أكّدت وجوده في المخابرات الجويّة، إذ أبلغهم عنصر في الأمن بمقتله تحت التعذيب، بعد وصوله إلى هناك بثمانية أيام.
خسرت أم محمد ذهبها من أجل معرفة مكان ابنها، وهذه الخسارات متوقّعة، فالنظام الأمني يُمكن اختراقه عبر عناصره، والذين يتاجرون بأوجاع الناس وبحياتهم بطريقة محترفة، وتدرج عادة في مدينة اللاذقية وغيرها من مدن سوريا، أن يُقال من قبل عناصر الأمن للأهالي “بقلّك وينو بمليون وإذا عايش أو ميت بمليونين”. صرف السوريّون ملايين اللّيرات فقط لمعرفة أماكن وجود أبنائهم. ومُنعت أم محمد منذ الوقت الذي أُخبرت فيه بوفاة ابنها تحت التعذيب من التصريح عن الجهة التي قتلته. سيارة أمنية مزنّرة بمسلّحين اجتاحت بيتها وسلّمتها هويّة ابنها، ولأن الأب ميت، أُجبرت هي على التوقيع على الوفاة بظروف جنائية، إذ يُلزم النظام بعض أهالي المعتقلين التوقيع على أوراق تُثبت أسباب الوفاة جراء أوضاع صحّية أو مشكلات جنائية مختلقة.
توضح أم محمد: “لم أجرؤ حتى على الصراخ بل ابتسمت في وجوههم، وأقسمت يميناً لهم بأنني لن أضع ورقة عزاء لابني ولن أقيم عزاء له”. وككل المعتقلين تحت التعذيب يمنع النظام إجراء مراسم الموت والتأبين، إذ على الميت أن يختفي اختفاءً تاماً، وتوضع سيارة أمنية أمام بيته لمنع الناس من زيارة أهله. النظام يحمي جريمته بقوّة عسكرية واضحة، وهنا في المدن استطاع النظام عزل أهالي الضحايا بقوّة عن المجتمع، وهذه العقوبة كانت كفيلة بجعل كل أسرة منكوبة تشعر بوحدتها في مصابها، من هنا كان التمرّد مُكلفاً.
بعد عامين من وفاة الابن، كان النظام قد أنهى كل تحرّك مدني للثورة في مدينة اللاذقية، وفتح باباً لآلاف الشباب للخروج من المدينة نحو الريف لقتاله، حيث كان النظام يستدرج معارضيه لحمل السلاح ضدّه، ما يعني جعل الحراك المدني مستحيلاً. منذ بداية 2014 شعر النظام بانهيار قوّات جيشه، والتزام العلويّين المُطلق في الجيش بات على المحك، فالاحتجاجات سلكت مسار الحرب الأهلية. غضب النظام جرّاء الاحتقان في المناطق العلوية لاعتماده الكلي على الشباب العلويين في القتال وفي الموت، فألزم النظام، ضمن خطة طوارئ، شباب سوريا القتال في صفوفه، وبدأت عمليات إلحاق كتائب الاحتياط وغيرها بالقتال. واعتمد النظام أسلوب الخطف للقبض على المطلوبين وإلحاقهم في الجيش. وهوجمت أحياء السنة الفقيرة ضمن عمليات منظّمة، لأخذ المطلوبين من البيوت، وحتى الشبّان الصغار من السنة قد أُخذوا من بيوتهم من دون إعطائهم فرصة معقولة لتأجيل إلزامهم بالجيش من أجل الدراسة. وكانت خطّة الإفقار الاقتصادي أيضاً عاملاً مهماً في دفع السنّة لإخراج أولادهم من المدارس إلى سوق العمل، وهذا يعني أخذهم إلى الجيش، فالسن القانونية للخدمة العسكرية باتت رعباً استغلّه النظام لجعل حتى معارضيه يقاتلون في صفوفه بل في الصفوف الأمامية. نجح النظام في هذا وبات ضحايا السنّة ممن يُسمّيهم النظام “شهداء الوطن” في تكاثر. آلاف المعارضين قُتلوا لأنهم زُجّوا بالجيش رغماً عنهم. إضافة إلى هذا، اخترق النظام الأحياء السنّية الفقيرة عبر المرتزقة، أي الميليشيات التي شُكّلت من المدنيين، وأغرت آلاف الشبّان بالانتساب إليها كنوع من مشاركة الجمهور في التسلّط، فالسنّة المحاصرون بالشبّيحة أصبحوا يطمحون إلى إنتاج شخصياتهم بما هو سائد، فالشبّيح يملك سلاحاً ومالاً وسلطة، وهذا ما أغرى الآلاف في سوريا لأخذ أموال وامتلاك سلاح داخل المدن كقيمة مصنوعة وأخيرة لما يستطيعه الفرد السوري.
اختُرق المجتمع السنّي بلوثة السلاح التي أشاعها النظام بين العلويين سابقاً. فقراء السنّة باتوا يملكون السلاح أيضاً، ويمارسون أفعال الشبّيحة بزهو. هذا ما أصاب ولدي أم محمد اللّذين لم يجدا حلاً للهرب من الجيش سوى الانتساب إلى ميليشيات النظام، لعلّهما لا يحاربان أحداً بل يحتفظان بالسلاح في بيتهما، ويضمنان رضا النظام عنهما.
لكن ما حصل لهما كان عكس ذلك، فالأوّل قُتل في معركة في ريف اللاذقية عام 2016. تقول أم محمد: “مات قلبي وباقيلي ابن معو سلاح بيجي فيه عالبيت فرحان وما بسترجي إحكي ولا كلمة، متنا من جوعنا”. وتشرح أم محمد كيف وُعد ابنها بالعمل داخل المدينة، وكيف سيق فجأة وبأمر من صاحب الميليشيات للقتال في الريف.
انه الابن الثاني الذي يقتل لها بعد أن مات الأوّل تحت التعذيب. وحين قُتل الثاني، لم يتم تعويض العائلة سوى بمبلغ زهيد، لم يتجاوز المئة ألف ليرة سورية، حتى أن بعض مستحقّاته من الرواتب لم يقبضها. إلا أن ابنها المقتول مع الميليشيات حصل على احتفال خصّصته الميليشيات له بوصفه “شهيداً”، خلافاً لابنها الذي مات تحت التعذيب والذي لم يُسمح لها بأن تقيم عزاءه ولا بالاعتراف بإنسانيته التي أزهقت تحت التعذيب. هذا الاستثمار في الموت تشرحه أم محمد قائلة: “النظام يفرح بأولادي يلي ماتوا معو بمعركة، وصرت أم شهيد لأنو ابني مات مع النظام، أما ابني يلي قتلوه تحت التعذيب ما بصير جيب سيرتو. وحتى رواتب ابني الميت بالقتال ما أخذتها كلها، كلو كذب بكذب”.
هذه حال عامة، فالإغراءات التي يحصل عليها الشبّان تتغير ولا يُلتزم بها، ولم تجد مئات العائلات السنّية مخرجاً من الحرب، سوى عبر إرسال أبنائها للقتال مع الميليشيات، للتخلّص من فكرة القتال مع الجيش والموت في ساحات القتال. وحرص النظام على جعل المساقين من السنّة إلى الجيش عنوة يُقتلون بسرعة، وهذا ما تثبته أرقام تقريبية استطعنا جمعها، وذلك لتشكيل قضية سنّية داخل البلاد. إذ يُساق جندي الاحتياط من الشارع إلى واجهة المعركة من دون تدريبات جدية حتى، وكأن النظام يريد معنى الموت وانعكاساته، أكثر ممّا يهتم بالغاية العسكريّة.
ابن ام محمد الثالث نقله النظام عنوة من الميليشيات الخاصة إلى الجيش النظامي، وفق الإرادة الروسية الحتميّة التي أجبرت النظام على إلغاء الميليشيات الخاصة ونقلها إلى الجيش، إلا أنه عاد وتمرّد وانخرط مع ميليشيات خاصة، تعمل في اللاذقية حتى اليوم. تقول لنا أم محمد: “ابني يعمل في التهريب والقتل والسرقة وكل شيء، ولا يذكر أخاه الذي قتل تحت التعذيب، لقد حطّمت الميليشيات والسلاح بيتنا، لا أملك سوى القتلى في هذا البيت، ابني مكروه من أبناء الحارة، وهو يستقوي عليهم بسلاحه والسلطة الممنوحة إليه، وينادونه في الشارع بابن الدولة، أي شبه مجرم أو قاتل”.
فقدت أم محمد ثلاثة شبان، وهي تخاف من ابنها الحيّ الذي تتوقّع قتله في يوم ليس ببعيد، إذ إن نطاق أعماله يبدو مفزعاً.
قصة أم محمد اختصار بسيط لما استطاعه النظام، في اختراقه العائلات السنية وتنميطها بما يراه مناسباً، تماماً كما فعل سابقاً في البيئة العلوية.
من لم ينجُ من الحرب هرباً أدخله النظام إليها، إمّا كمعارض يحمل السلاح، أو كشبّيح يحمل السلاح أيضاً. الدولة ومؤسّساتها تصنع جوعاً هائلاً، فيصبح الجميع ضائعين يبحثون عن حيواتهم تحت هيمنة بواريد قد يوزّعها النظام لهم أو يسهل حصولهم عليها، من أجل حربه وانتصاراته.
درج