صوت استثنائي في الزمن الخطأ/ رشا عمران
قلة قليلة جدّا من “السّميعة” السوريين يعرفون من هي ربا الجمال، المطربة الحلبية أرمنية الأصل. أما العرب، فاسمها لا يعني لأحدهم شيئا، سوى لقليلين سمعوها ذات يوم في إحدى حفلات دار الأوبرا المصرية، وهي تؤدي أغاني أم كلثوم بحرفيةٍ عاليةٍ، أذهلت الحاضرين، وجعلتهم يقفون ربع ساعة كاملة، وهو يصفقون لها.
اسمها الأرمني الغريب، زوفينار قره بتيان، الذي لا يعرفه إلا المقرّبون جدا منها، كان السبب في أن وفاتها عام 2005 عن عمر 35 عاما، كانت وفاة المرأة الوحيدة والغريبة، إذ دخلت مستشفى دوما على أثر نوبةٍ عصبيّةٍ شديدةٍ مرّت بها، وسجل اسمها الحقيقي، لا الفني، في المستشفى، ولم يكن وجهها مألوفا كثيرا للعامّة. لم يعرفها أحد هناك كما قيل لاحقا، إذ قلما كانت حفلاتها تُعرض على شاشات التلفزيون السوري، وكانت ممن يرفضن فكرة الفيديو كليب، فقد اعتبرت أن التركيز فيه لا يتم على الصوت والأداء، بل على جسد المغنية، نوعا من التسليع الذي لا يجوز في الفن الحقيقي. إحساسها العالي بقيمة الفن والصوت جعلها تمتنع عن تصوير فيديو كليبات لأغنياتها الخاصة، القليلة نسبيا. لهذا لم يكن شكلها مألوفا، ولهذا أيضا دخلت المستشفى وماتت، ولم يكن في جنارتها سوى عشرين شخصا، ليس بينهم أحد من الوسط الفني السوري، فقد ماتت بوصفها زوفينار قره بتيان، الشابّة المصابة بنوبةٍ عصبيةٍ، والتي لا يعرفها أحد، أما ربا الجمال، الصوت الاستئنائي، فقد ظل متواريا داخل جسد زوفينار، وطمر بالتراب من دون أن يصرخ بوجه أحد أنه موجود، ومن دون أن ينتبه إلى كتمانه أحد. ماتت ربا الجمال في الظل، كما عاشت تماما، على الرغم من الحضور الطاغي لصوتها وإحساسها، إلا أن هناك نوعا من البشر يبقون في الظل والهامش، مع أن مقوماتهم الشخصية تصلح لأن يكونوا في مركز المتن.
ولعل شخصية ربا المتوارية هي ما جعلها تشتهر بأدائها أغنياتٍ لغيرها، إذ أبدعت بأداء أغنيات أم كلثوم، سيما “إسأل روحك” التي قال نقاد فنيون إن هذه الأغنية كما لو أنها لُحّنت لصوت ربا الجمال خصيصا، لا لسيدة الغناء العربي، وأن خطأ زمنيا وقع قد جعل من ربا الجمال مؤديةً ثانية لهذه الأغنية.
لعل هذا الخطأ الزمني هو نفسه الذي جعل ربا الجمال توجد في سورية، في مرحلةٍ تم القضاء فيها على أي قيمةٍ للفرد بوصفه نفسه بعيدا عن الجموع الجماهيرية العامة، وبعيدا عن مافيات شركات الإنتاج، المرتبطة بالمنظومة السياسية الأمنية الإقتصادية، وحيث لا وسائل إعلامية بديلة، يمكنها أن تستقطب من لا تضعه وسائل الإعلام الرسمية في الواجهة. ولم تشفع لها ما قدّمتها من قصائد “وطنية” لتكون من المرضيّ عنهم في الفن الغنائي السوري. قال من عرفوها عن قرب إنها كانت ترفض أن توضع تحت جناح أحد، ولهذا لم يعتمدها ملحن واحد، لحن لها عدة ملحنين أغنياتٍ ظهرت في ألبوم واحد فقط، اشتهرت منها أغنية “صعّبها بتصعب وهوّنها بتهون”، وهي عنوان الألبوم. ونادرا ما قدّمت في حفلاتها أغنياتها الخاصة، كانت دائما تؤدي أغاني أم كلثوم وأسمهان ببراعة مذهلة.
لا يعرف أحدٌ بالتحديد سبب الإهمال الذي ألحق بصوت نادر واستثنائي وحسّاس، مثل صوت ربا الجمال، ولا يعرف أحدٌ لماذا رفضت البقاء في القاهرة، على الرغم من كثرة الدعوات التي وجهت إليها للبقاء هناك، والتلحين لها، من كبار الملحنين المصريين، الأمر الذي كان سيغير مستقبلها وسيرتها تماما، ما يقال عنها إنها كانت شديدة التوتر والحساسية، وكانت تعتمد في حياتها على المهدّئات، وعادة ما تكون الشخصيات بالغة الحساسية، غير قادرة على الاستقرار، وتعاني من حالة قلقٍ مستمرّة، تجعلها تفرّط بفرص مهمةٍ كثيرة في الحياة، غير أن المؤكّد أن صوتا خارقا، مثل صوت ربا الجمال، كان سيشكّل فرقا كبيرا في الغناء العربي، لو أتيح له الانتشار والظهور، أو لو أنها لم تكن في الزمن الخاطئ وفي المكان الخاطئ، الزمن والمكان اللذين يجعلان من شبّيح مهرب وجاهل، كعلي الديك، مطربا مشهورا، وتفرد صفحات في الصحف الرسمية للحديث عنه، لكنه الزمن الخطأ الذي يحجب كل ما يصدر عن القلب لصالح قرقعة الأقدام.
العربي الجديد