أخوّة استشراقية/ صبحي حديدي
في كتاب جيب لا يتجاوز 120 صفحة، صدر بالفرنسية مؤخراً تحت عنوان «مالرو، قيامة الأخوّة»، يحاول الكاتب الفرنسي جيروم ميشيل استعادة المكانة المركزية التي حظيت بها قيمة الأخوّة في أعمال الأديب والفيلسوف والوزير الفرنسي أندريه مالرو (1901ـ 1976)، واستكشاف تداخلاتها الاجتماعية والسياسية والأخلاقية. المسعى كبير، بالطبع، خاصة حين يكون التنقيب في وقائع السيرة الشخصية هو الأعلى تركيزاً في الكتاب، ويكون المقام محدوداً بالقياس إلى عدد الصفحات، والموضوع جليلاً وإشكالياً في آن معاً.
بيد أن ميشيل يساجل منذ البدء في الواقع، وعلى سبيل الفرضية المسلّم بها مبدئياً، أنّ الأخوّة كامنة عميقاً في قلب كتابات مالرو، الروائية منها أو الجمالية أو السياسية؛ لأنها شرط مسبق للعدل، وعامل لا غنى عنه لكي يتحقق العدل، سواء بسواء. إنها، كذلك، القيمة الوحيدة القادرة على الشهادة ضدّ الشرّ، والردّ على الإذلال في أي مجتمع ذي كرامة. وهذه مطارحات لا تثير الكثير من الجدل أو الاعتراض بالمعنى العامّ، لولا أنّ شخصية مالرو ليست على هذا القدر من الانبساط والوضوح، لكي لا يتحدث المرء عن التسطّح، حتى تُقبل بصددها سلسلة تعميمات أخلاقية حول الأخوّة. وإذا جاز أنّ الأعمال الروائية قد تشفّ، من خلال حركة الشخصيات عبر الأزمنة والأمكنة، عن أبعاد شتى للأخوّة، وعن تجليات متقاطعة تارة أو متطابقة تارة أخرى؛ فإنّ حصيلة مالرو الرجل الفعلي، في أقواله وأفعاله ومواقعه ومناصبه، مسألة أخرى مختلفة تماماً.
كلّ هذا بصرف النظر عن مقادير التوافق أو الاختلاف حول هذه أو تلك من الاعتبارات الرئيسة التي اكتنفت حياته، أديباً ومفكراً وناشطاً سياسياً، ورحالة في الثقافات والجغرافيات الآسيوية. وفي العام 1996 اتخذ الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك واحداً من أبرز قراراته الثقافية، حين كرّم شخص مالرو بنقل رفاته إلى مبنى الـ«بانتيون»، حيث يرقد رهط من كبار رجالات فرنسا؛ أمثال جان جاك روسو، فكتور هوغو، إميل زولا، وجان جوريس. كان القرار سليماً بالمعنى الثقافي، وكان كذلك يتوخى التكريس الأخلاقي لرجل لا يجادل أحد حول السجلّ الحافل الذي تركه في ذاكرة فرنسا المعاصرة، ابتداءً من نضالاته ضد النازية والفاشية في فرنسا وإسبانيا، وليس انتهاء بأدواره الحاسمة في تطوير الثقافة وضمان حرية المثقفين حين أسس وتولى أوّل وزارة ثقافة في عهد الجنرال شارل ديغول. ومع ذلك فقد اختلف البعض حول مدى جدارة مالرو بالخلود في مبنى البانتيون، وتلك كانت خصومة محلية نابعة من رؤية الفرنسيين لتاريخهم وأبطالهم، والمعايير التي تقرّها أو تستبعدها المخيلة الرسمية والشعبية في إعادة تأهيل الفرد، في هذا الطور التاريخي أو ذاك.
في المقابل، مضى وانقضى ذلك الزمن الذي كان فيه مالرو موضوعاً فرنسياً خالصاً، أو حتى أوروبياً؛ لسبب جوهري هو أنه تناول ثقافات الآخرين، كما سلفت الإشارة، وأدخل الصين والهند الصينية في صلب أعماله الروائية، فاكتسب بذلك شخصية عالمية وكونية. وإذا كان أمراً مؤسفاً أن تغيب الثقافتان الإسلامية والعربية عن نصوصه، وذلك رغم ترحاله في المنطقة ومعرفته بثقافتها، فإننا لا نعدم بعض الكتابات والمواقف التي تخصنا؛ على غرار تلك النصوص الفاتنة عن اليمن وملكة سبأ، والقرار الشجاع الفريد الذي اتخذه حين أمر مدفعية ميناء مرسيليا أن تطلق 21 طلقة في استقبال تمثال الملكة زنوبيا القادم من سوريا إلى معرض فرنسي.
وبهذا المعنى فإن المرء لا يستطيع تجاهل جملة حقائق أخرى حول الرجل، تكاد تناقض على طول الخط الصورة اللامعة الطاهرة التي يبدو عليها في العموم، أو تخلّ في قليل أو كثير بالمكانة المركزية التي يزعم ميشيل أنّ قيمة الأخوّة شغلتها في حياته. أولى هذه الحقائق أنّ مالرو لم يستطع الخروج من دائرة الاستشراق القاتلة، في معظم أعماله التي تتناول موضوعات آسيوية وتنطوي على قيام مغامر أوروبي باختراق هذا «الشرق المظلم»، لتنويره، وتولّي «عبء الرجل الأبيض» وتنفيذ «المهمة التمدينية» الشهيرة. وكما كانت الحال عند رديارد كبلنغ وجوزيف كونراد ولورانس العرب (الذين أعرب مالرو مراراً عن إعجابه الشديد بهم)، نحن أمام شرق مجرّد من التاريخ الفعلي، خاضع للفانتازيا والتنميطات التقليدية السحرية والجنسية، محتاج أبداً إلى الغازي الأبيض الذي سيتولى أعباء التحديث والعقلنة.
أم هي أخوّة على الطراز الاستشراقي مثلاً، وعلى غرار ما نلقاه نحن عند قراءة أعمال مالرو الكبرى، في «إغواء الغرب» كما في «الدرب الملكي» و«الوضع البشري» و«الغزاة» و«مذكرات مضادة»…؟ هو، بالفعل، شرق ألف ليلة وليلة دون سواه؛ وهي الهلوسات حول الحريم والأميرات والسحرة والعفاريت والإبل (حتى في أعمق مجاهل الغابات الكمبودية العذراء!)، فضلاً عن أكلة لحوم البشر.. لا يكاد ذلك «الشرق» يغادر صورته المتخيَّلة، المنضوية في حالة دونية أمام الغرب، المنتصبة كمرآة لا غنى عنها كي يرى الأوروبي نفسه ويختبر معضلاته الميتافيزيقية في الأقاصي الاستعمارية.
وإذْ يمتلك المرء رفاه حفظ الفارق بين «شرق» مالرو، وعوالمنا التي شرّق حولها وغرّب أمثال لامارتين وفلوبير، فإنّ حصيلة المقارنة قد لا تتجاوز تسجيل حكم القيمة على زاوية النظر، وليس على طبائع ارتسام المنظر.
القدس العربي