وظيفة تماثيل الأسد/ وجيه حداد
تحمل السرعة التي يرمم ويجدد فيها النظام تماثيله الأسدية معاني متعددة، يتمحور معظمها حول القوة المستعادة بوصف تماثيل الأب رمزاً لتلك القوة المطلقة، والتي انحدرت في تعبيراتها المجردة خلال الحرب إلى تقديس البوط العسكري وإعلاء شأنه وإقامة التماثيل له.
وباعتبار البوط العسكري رمزاً هابطاً فيه الكثير من الإسفاف والمباشرة، فإن استعادة تماثيل الأب القوي، بما تحمله من دلالات سابقة وحالية، تشكل واحدة من أولويات النظام السوري الفقير بالرموز عموماً.
فالنظام على صعيده الذاتي بحاجة ملحة معنوياً لتثبيت ما يعتبره انتصاراً، وفي المقابل فإن جمهور السلطة الذين أفقدتهم السنوات الماضية على الصعيدين النفسي والسلوكي كل مقومات الإيمان والانضباط حول قيم موحدة، باتوا من وجهة نظر الطرفين “سلطة وجمهوراً” بأشد الحاجة إلى إعادة التمحور حول الرمز الجامع لهم، وهو الرمز الذي يوحي لهم بأن القوة ما زالت حاضرة بكل جبروتها، وأن على عبيد القوة أن يعودوا إلى “حظائرهم” التي تشعرهم بالأمان. أما جمهور المشككين والمعارضين فهل من رمز يوحي بانكسارهم أكثر من عودة تماثيل “الأب الخالد” إلى الساحات العامة؟
ومثلما كان نزع واقتلاع التماثيل الأسدية قد شكل لحظة استثنائية في تاريخ الثورة السورية، ويصعب كثيراً على ذاكرة السوريين بمجموعهم واصطفافاتهم المختلفة أن ينسوا المشاهد الأولى لتحطيمها، فإن إعادة تلك التماثيل تكافئ مسحاً لهذه الذاكرة الجمعية الوليدة، واستعادة لبياناتها الأصلية وفق “النورم” الأسدي قبل أن يغيبها فيروس الثورة، وتكافئ استعادة البيانات هنا مصطلح العودة إلى حالة المصنع في الأجهزة الالكترونية باعتبارها جزءاً من المنتج، فوجودها من المسلّمات وغيابها هو الطارئ.
وجاءت أول عودة لتمثال حافظ الأسد، العام 2017، إلى ساحة العاصي مشحونة بالرمزية المركبة، خصوصاً أن تاريخ إعادته تزامنت مع ذكرى مجزرة حماة، وتم فهمها في سياق إعلان النصر الجديد الذي يذكر بسحق الخصوم في الثمانينات، ويشير من جهة ثانية إلى زوال خطر إسقاط النظام، وهي رسالة وُجهت لأنصاره وأعدائه على حد سواء.
وبعيداً من المعاني الدلالية الموحية باستعادة الزمن القديم القائم على الهيبة والسطوة، إلا أن عودة تمثال حماه، لو توقف الأمر عنده، لكان يمكن فهمه إجرائياً بعودة تمثال قديم كانت السلطة قد أزالته خوفاً عليه. غير أن الزخم، خلال الشهرين الفائتين، لجهة استعادة وتجديد التماثيل الأسدية، يوحي رمزياً بما هو أبعد من الفعل الإجرائي.
فمن تمثال حمص الذي بلغت كلفة إنشائه خمسين مليون ليرة سورية، وصولاً إلى البوكمال التي تم هدم “دوار الساعة” فيها ليصبح اسمه “دوار الرئيس” مع تحضيرات لنصب تمثال جديد لحافظ الأسد فيه، مروراً بورشة أنفاق جوبر الفنية التي تم تظهيرها بطابع عسكري، تبدو إعادة الإعمار الرمزية في أعلى اهتمامات النظام.
ولم تسلم عودة التماثيل الأسدية من انتقادات موالية، لكنها اقتصرت في مضامينها على موضوع الكلفة المادية المخصصة لها، في وقت يشعرون فيه أنهم أَولى بهذا المال نتيجة ظروفهم المعيشية الصعبة، وأن أولوية الإنفاق يمكن لها أن تكون في مكان آخر. وكانت غالبية تماثيل الأسد الأب قد تهشمت أو اقتلعت من أماكنها خلال السنوات الماضية وعند تسلمه السلطة. لم يعط بشار أهمية للتماثيل الشخصية، خلافاً لوالده، ويمكن القول إن الظاهرة توقفت لحظة وفاة الأب عند الحدود التي كانت عليها، لجهة بقاء التماثيل القديمة في أمكنتها ورمزيتها، وبشكل ما، أسيء تفسير توقفه عن متابعة النهج، بما قيل يومها عن ميوله التحديثية، غير أن انه سرعان ما تكشف تهافت ذلك التصوّر.
وبالعودة إلى الوضع الحالي سيبدو من المثير للانتباه اكتفاء النظام بتجديد تماثيل الأب والتوكيد عليها، ولا يمكن مرة أخرى القول بزهد بشار في تموضعه رمزياً بجوار والده. فقد سبق له أن طبع صورته على العملة السورية الجديدة في لحظة كانت معظم خيوط السلطة متفلتة من يديه، كما انه يحاكي على الدوام مجريات ثورة2011 بما حدث في الثمانينات، بما يضعه رمزياً ووالده على قدم المساواة، أقله من وجهة نظره.
وبعيداً من عقدة الأب، وضعف الكاريزما الشخصية لديه، فإن التوكيد على أحادية تماثيل الأب محمولة على الرغبة في العودة إلى البدايات، من جهة، واستنفار واستثمار فائض المخزون القهري للأب في فترة حكمه.
فتمثال حافظ الأسد كما هو مترسخ في الأذهان تعبير عن السلطة الكلية غير القابلة للتنازع، ويمثل وجوده الدائم تذكيراً بالمسافة الفاصلة بين الحاكم والمحكوم في سوريا، تلك المسافة القائمة على الخوف والخضوع في آن واحد، والمغلفة بالتبجيل والاحترام الشكلاني.
إن ما يعني النظام في المقام الأول ليس الاحترام والتبجيل، وان ظهرا كعارض ناتج عن الخوف الشديد. فالنظام يدرك أن الاحترام عملية ذات بعد تفاعلي، وهو سليل القيم العليا، وواهب الاحترام يسعى لنيله، وهذا يتعارض مع السياسة الأسدية التي تصر على جعل الجميع عبيد أذلاء لا يتفاضلون في ما بينهم إلا بدرجة السطوة الممنوحة لهم من قبله.
جلّ ما يسعى النظام إليه ويحاول تعزيزه سلوكياً ورمزياً من خلال التماثيل المتجددة للأب المؤسس هو رمزية الخضوع الكلي، والإذعان المطلق، ففي الإذعان يتماثل الجميع، ولا تغدو للفروق الشخصية أي معنى، وتتساوى في ذلك دوافع الخضوع سواء كانت من منشأ ايماني أو قسري.
والإذعان قابل للكشف والظهور في التفاصيل السلوكية، سواء الفردية منها أو الجمعية، وهو ملزم للجميع، بلا استثناءات لأحد. وغياب مظاهره مكافئ لإعلان التمرد والعصيان، وهو أمر لا تتساهل فيه السلطات الأسدية على الإطلاق، خلافاً للاحترام ذي المنشأ الطوعي، فالطواعية تقوم على اختيار حر وإرادة ذاتية، وجوهر السياسات الأسدية قائم على تغييب الإرادات وقهرها.
في النهاية يمكن القول: إن العودة المكثفة إلى إنتاج ونصب تماثيل الأب، تهدف من وجهة نظر النظام إلى تحقيق معطيين أساسيين. الأول ذو بعد معنوي متصل بترميم انكساره السابق، والظهور بمظهر المعافى الذي نهض من كبوته. والثاني وظيفي يهدف لتكريس الخضوع وإنتاج الإذعان الذي انفرط عقدة عشية الثورة، وهو المعطى الأهم لدى النظام سواء كانت النتائج المتوخاة محمولة على تماثيل الأب أو على تماثيل البوط العسكري.
المدن