عن “الصواب السياسيّ” اليوم…/ حازم صاغية
حثالة. كلاب. حيوانات. عبيد. لواطيّون. عاهرات…
هذه بعض التعابير والتسميات البذيئة، بل المنحطّة، التي بتنا نسمعها في العامين الأخيرين، صادرةً عن حكّام وقادة، بعدما سبقهم إليها تلفزيونيّون وأصحاب مواقع ألكترونيّة لا يُخفون اختلاط وعيهم الإيديولوجيّ الشعبويّ، وأحياناً الفاشيّ، بالبذاءة والتشهير.
وقد علّمنا أكثر من تحقيق ميدانيّ، قرأناه أو شاهدناه، أنّ هذه التعابير تحظى بشعبيّة لا يُستهان بها عند قطاعات من السكّان تؤيّد الزعماء الشعبويّين وتقترع بحماسة لهم. فمثل تلك المصطلحات تبرهن لذاك الجمهور أنّ الناطقين بها “رجال” لا ينافقون ولا يساومون، وأنّهم يتكلّمون “مثلنا”، من دون فذلكة واصطناع ومواربة ممّا يمارسه مثقّفون لا نفع من علمهم وثقافتهم. وأخيراً وربّما كان هذا هو الأهمّ، أنّ تلك الكلمات – الأهاجي إنّما يستحقّها مَن يوصفون بها: أليسوا هم من “النخبة” السارقة والفاسدة والمتعالية والمتحذلقة والمتحكّمة بالإعلام؟
ولربّما جاز القول، بالتالي، إنّ القاموس المنحطّ هذا إنّما يوفّر مُتنفَّساً يبحث عنه من يصفون أنفسهم بأنّهم “أصحاب أصوات لا تصل”. فإذا كان “الإعلام القويّ” هو ما يمنع أصواتهم من الوصول، كما يقولون، فهذا ما لا يستطيعه ذاك الإعلام حيال أشخاص “أقوى” منه كدونالد ترامب أو ماتيّو سالفيني!
قبل سنوات قليلة، ومع بلوغ “الصواب السياسيّ” (political correctness) ذروة قوّته في الإعلام والأكاديميا، كان من غير المُتخيَّل ظهور كلمات كهذه على السطح والواجهة. وإذا صحّ أنّ كتاب ألان بلوم “إغلاق الذهن الأميركيّ”، الصادر في 1987، كان النصّ الأبرز في نقد “الصواب السياسيّ”، صحّ أيضاً أنّ تأثير هذا الكتاب انحصر في دوائر ضيّقة يغلب عليها الطابع المحافظ.
والحال أنّ أنصار “الصواب السياسيّ” ينطلقون بالتأكيد من حساسيّة أخلاقيّة هي أرقى بلا قياس من إطلاق الكلام الموروث على عواهنه. فهم يختارون وينتقون من المخزون اللغويّ بما يراعي الأضعف والأشدّ قابليّة للعطب، بل هم أيضاً يؤلّفون من الكلام الجديد ما يخدم الغرض هذا. بيد أنّهم، مع هذا، يعبّرون عن ميل قمعيّ تتعدّى مفاعيله إثراء اللغة ببضعة مصطلحات محترمة، والتنبيه إلى فوات مصطلحات أخرى طاغية أو موروثة وإلى رعونتها. فهنا، نحن حيال نظام يقارع نظاماً، بدل أن تكون الحرّيّة هي ما نتوسّله لمقارعة النظام البائد. لكنّنا أيضاً نجد أنفسنا حيال استعادة للنصوصيّة الدينيّة التي ورثتها الأحزاب العقائديّة الحديثة ورمتْ من لا يلتزم بها بالهرطقة والتحريف والانحراف (قلْ، لا تقلْ). وقد لا يكون بلا دلالة أنّ الاستخدام الأبكر لتعبير “صواب سياسيّ” إنّما سُجّل في الخمسينات والستينات الأميركيّة، في بيئة الفرق اليساريّة المتساجلة التي خرج من بعضها مَن عُرفوا لاحقاً بـ “المحافظين الجدد”. وهذا فضلاً عن افتراض تبسيطيّ وضمنيّ، لا يخلو أحياناً من كاريكاتوريّة، حول تغيير اللغة بالإرادويّة المحض لأفراد عارفين وحسّاسين يريدون أن يكونوا “طليعة” انقلابيّة هنا أيضاً.
أغلب الظنّ أنّ أحد أهمّ الأسباب وراء هذه الظاهرة، في الولايات المتّحدة خصوصاً ولكنْ أيضاً في أوروبا، ردم الهوّة بين القوّة المتحقّقة في الدوائر الجامعيّة والأكاديميّة (والإعلاميّة) والضعف في المجتمع والسياسات العامّة. هكذا تغدو المماحكة اللغويّة هي السياسة في ظلّ انعدام التأثير في المجتمع وقراراته الفعليّة. وبدل أن ينجم عن ذلك تغيير تدريجيّ للغة السائدة يحصل العكس تماماً: تتعاظم قطيعة “الصوابيّين” مع “الناس” الذين ينفجر المكبوت فيهم على شكل تطرّف في الخطأ ردّاً على نظام متطرّف في الصواب. وإذّاك تتدفّق الأوحال التي تخرج من أفواه ترامب وأشباهه وسط استحسان شعبيّ تشوبه الشماتة وحسّ الانتقام!
درج