مفارقة جهادية/ أنوار بوخرص
أصبحت المجموعات السلفية الجهادية، جزءاً لايتجزأ من موجات التمرّد الحديثة في البلدان التي تضم مسلمين. ويعزو بعض المراقبين هذه الظاهرة إلى الخصائص الإيديولوجية لهذه المجموعات ولشبكاتها الثورية العابرة للأوطان.
لكن يشير آخرون، على نحو مقنع أكثر، إلى المحفّزات الاستراتيجية التي تؤدّي إلى تبنّي إيديولوجيات متطرفة. فالافتراض الأساسي هنا هو أن تبنّي هوية ثورية أصولية، يوفّر ميزة تفاضلية في جذب المقاتلين الأكثر تفانياً، الضروريين لإنشاء شبكة قوية تحظى بتمويل جيّد، من شأنها التفوّق على المجموعات المتمرّدة المنافسة لها وتوجيه ديناميكيات الصراع ومحصّلاته. وفي سياقات من اللايقين السياسي، أو الفساد المستشري، أو التنافس الإثني والطائفي، أو تبدّل أنماط التوزيع الاقتصادي، قد تحظى قوة مقاتلة تملك مشروعاً اجتماعياً وسياسياً تغييرياً وتَعِدُ بتوفير الحماية الأمنية، بولاء أو تعاطف أو قبول السكان المحليين الذين يعانون من تظلّمات جمّة.
بعبارة أخرى، يُعتبر انضواء المجموعات المتمرّدة تحت لواء السلفية الجهادية، قراراً استراتيجياً يرمي إلى كسب ميزات تنافسية عدّة.
بيد أن الجانب السلبي لتبنّي هوية ثورية مماثلة، هو أن المغالاة فيها قد تثير سخطاً شعبياً وتواجِه في نهاية المطاف تعبئة يقودها الخصوم. هذا ماجرى مع القاعدة في العراق في العام 2008، حين حدت تجاوزات التنظيم بالقبائل السنية التي كانت تنظر إليه على أنه حاميها، إلى الانقلاب عليه وإلحاق الهزيمة به. وقبل ذلك بعقد، لقي التمرّد الجهادي الجزائري المصير نفسه، إذ آلت وحشية التنظيم الإسلامي المسلّح إلى إقصاء مناصريه والمتعاطفين معه.
يُضاف إلى ذلك أن وجود الجهاديين، غالباً مايستدعي تدخّلاً عسكرياً إقليمياً ودولياً، أبرزه التدخّل الدولي الذي انطلق في العام 2014 لطرد تنظيم الدولة الإسلامية من العراق وسورية، والحملة العسكرية التي قادتها فرنسا في العام 2013 في مالي لطرد الجهاديين من المناطق الخاضعة إلى سيطرتهم. ولسخرية القدر، يبدو أن العوامل التي أدّت إلى ترسيخ صورة المتمرّدين الجهاديين كمقاتلين وحماة ومروّجين للعدالة القاسية، كانت هي نفسها العوامل التي آلت في نهاية المطاف إلى هزيمتهم.
تكمن المفارقة الكُبرى لموجات التمرّد الجهادية الحديثة في أن المتمرّدين الجهاديين يواصلون نشاطهم، حتى بعد فشلهم في تحويل المزايا التي يتمتّعون بها إلى نتائج إيجابية دائمة تصبّ في صالح أتباعهم. قد يكون من السهل أن يُنسب السبب في ذلك إلى تعاليم الإسلام الأساسية، والميل الطبيعي لدى الأشخاص الأكثر ورعاً إلى إسباغ قراءة عنيفة على النصوص الدينية. لكن، في العديد من المناطق التي تشهد صراعات، لايزال تبنّي الجهادية كأداة حرب يُعدّ قراراً عقلانياً للتعبير بشدّة عن رفض الوضع القائم.
تتألف المجموعات الجهادية جزئياً من قاعدة متفانية للغاية، وتبذل قسطاً كبيراً من الوقت والجهد على التلقين العقائدي لمجنّديها. لكنها قد تعمد أيضاً، من حين إلى آخر، إلى تخفيف القيود الإيديولوجية أو تعديل الرسائل الإيديولوجية لتتلاءم مع ظروف معينة. وفي بعض السياقات، تتداخل الإيديولوجيا الدينية مع الإثنية والانتهازية والأعمال الجرمية المشبوهة. لذا، من المنطقي أكثر تحليل المجموعات الجهادية، مثل تنظيم الدولة الإسلامية، باعتبارها جهات ثورية صودف أنها دينية.
وعلى أي حال، تبقى الجهادية السلفية الشكل الوحيد المتاح للتمرّد المتطرّف. واستشهاداً بما كتبه الباحث الفرنسي في الشؤون الإسلامية أوليفييه روا، يجبرنا مصطلح “أسلمة التطرّف” على إعادة النظر في الأسباب التي دفعت بالأفراد الساخطين والمهمّشين والمقموعين إلى اعتبار الإيديولوجيا الجهادية الطريق الصحيح لتوجيه تمرّدهم ضد النظام. ويؤكد روا أن الجهاديين المعاصرين لايتحركون إلا للسعي نحو التدمير العدمي للوضع القائم. ومع ذلك، نجد من المنطقي أكثر القول إن المتمرّدين يتبنون الجهادية السلفية، لأنها تقدّم لهم الوعد بتخيّل بدائل عن نظام سياسي واجتماعي غارق في الفساد ومُفتقد إلى العدالة.
على سبيل المثال، تُظهر مناطق الساحل والمغرب العربي، أنه في بيئات تسودها حوكمة رديئة وتجتاحها اضطرابات شديدة في ما بين المجموعات وداخل كل مجموعة، يميل الأفراد والمجتمعات إلى احتضان أي مجموعة تقدّم لهم ضمانات للصمود، وللربح عندما يكون ذلك ممكناً. بمعنى آخر، يستند الأشخاص في انضمامهم إلى مجموعات وتحالفات، إلى حسابات القوة النسبية.
لقد وثّقت دراسات بحثية كيف أن ثمّة إغراءات كثيرة تدفع الأفراد المظلومين والمجتمعات المتضررة إلى الانضمام إلى المجموعات المسلّحة التي يمكنها الدفاع عنهم، في خضم اللااستقرار الاجتماعي والسياسي. كذلك، كشفت استطلاعات رأي شملت شباناً من الشعب الفولاني المقيم في المناطق المتأثّرة بالنزاع في مالي والنيجر وبوركينا فاسو كيف أن عدداً كبيراً من الشبان اليافعين الجهاديين برزوا كحلفاء منطقيين، في بيئات تنتشر فيها مجموعات مسلحة عديدة، يُعتقد أن بعضاً منها مدعوم من قبل الأجهزة الأمنية الظالمة. هذا وتتمتّع المجموعات الجهادية بقوة جذب، لأنها تميل إلى امتلاك قوة قتالية تكفي لمساعدة الفولانيين على الدفاع عن أنفسهم، فضلاً عن التنافس مع الفصائل الأخرى للحصول على الموارد الطبيعية، مثل مزارعي بامبارا ودوغون في وسط مالي ورعاة ايداكساهاك (Daoussakh) في شمال غرب النيجر.
بيد أن ذلك لايعني أن الهوية المشتركة لاتدخل في اعتبارات الأفراد. فحقيقة وجودها تُعتبر أحد أسباب تداخل الإيديولوجيا الجهادية مع تكوين المجتمع الإثني والطائفي والاجتماعي. على سبيل المثال، يشدّد كل من حركة أنصار الدين وحركة التوحيد والجهاد في غرب أفريقياعلى الإسلام المتطرّف، باعتباره حجر أساس لتعبئة مجموعاتهما، لكنهما لاتترددان في اللجوء إلى العرق والإثنية لتجنيد الأفراد، عندما يتناسب ذلك مع أهدافهما. فحركة التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا، سعت في البداية إلى تمييز نفسها عن المجموعات المسلحة الأخرى التي يعدّ تركيبها الاجتماعي عربياً، من خلال رسم نفسها كمدافعة عن الهوية الأفريقية السوداء. وعندما انتهى المطاف بالمجموعة بأن تكون مجرد كوكبة مؤلفة بمعظمها من قبائل عربية، سارعت إلى إعادة تحديد موقعها كحامية مقتدرة ضدّ “جماعات إثنية أخرى غير جديرة بالثقة”، مثل الطوارق.
والأهم هنا هو التركيز على الحماية والقدرات؛ إذ إن حركة التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا ومجموعات متطرّفة أخرى، تدرك تمام الإدراك أن التحالفات لاتستند في الدرجة الأولى إلى المعتقدات الدينية المشتركة والانتماء المجتمعي. علاوةً على ذلك، يعتمد عدد كبير من المجموعات الجهادية في اختيار تحالفاته أولاً وقبل كل شيء على الضروريات التكتيكية، وتكون مدفوعةً بالانتهازية، والاعتبارات الأمنية، كالخوف.
مركز كارينغي