ما بعد الانهيار الشامل: نهاية الثقافة العربية؟/ محمد سامي الكيال
■ عرفت الدولة العربية «الحديثة» منذ نشأتها في بدايات القرن التاسع عشر كثيرا من الظروف الصعبة والأزمات الوجودية، إلا أنها استطاعت، مع استثناءات معينة، الاستمرار وتحقيق حد أدنى من الوظائف الاجتماعية الأولية: شيء من التنمية والصحة والتعليم والسلم المجتمعي والثقافة. هذا الوضع تغيّر منذ مطلع عقدنا الحالي، الذي شهد انهيارا شاملا للدولة العربية. فمن ليبيا إلى اليمن، مرورا بسوريا والعراق وحتى مصر، تحولت الدول العربية من صيغة الدولة الشمولية الرثة إلى دول فاشلة لا تستطيع، مهما بلغ عنفها ودمويتها، ضبط الأوضاع على كامل رقعتها الجغرافية، وتأدية مهماتها الاجتماعية الضرورية. بتنا اليوم نشهد أجيالا كاملة بلا تعليم، وعودة أمراض وأوبئة كنا قد حسبناها انقرضت، ومناطق بأكملها خارجة عن سلطة الدولة تدار بالعُرف، أو تحت سيطرة ميليشيات وجماعات متصارعة. إنها نهاية الدولة العربية كما عرفناها، وتفسخ شامل للمجتمع والثقافة.
يمكن للأفراد والجماعات بالطبع التأقلم مع هذه الشروط الجديدة، وإيجاد أساليب جديدة لكسب الرزق وإدراة شؤون الحياة ضمن ظروف الحرب والفوضى. اقتصاد ومجتمع الحرب كانا دوما من المواضيع المثيرة للبحث الاجتماعي، ولكن السؤال الذي يعنينا هنا: ما انعكاسات هذا الانهيار الشامل على الجانب الثقافي؟ وعن أي ثقافة عربية يمكننا الحديث بعد انهيار الدولة؟
الثقافة وحداثة الدولة
مهما كان رأي المرء بالدولة وحدود إدارتها للمجتمع، فهنالك حقيقة لا يمكن تجاوزها، وهي أنه لا يمكن وجود «ثقافة» بالمعنى المعاصر للكلمة بدون وجود دولة حديثة.
ليس فقط بسبب مؤسسات الدولة لإنتاج الثقافة العمومية، مثل التلفزيونات والإذاعات والصحف والمراكز الثقافية، بل أساسا لأن الدولة هي ما يؤسس الحيز الوطني العام الذي يتم فيه إنتاج وتداول أو استيراد أي منتج أو مؤثر ثقافي. فضلا عن هذا تصوغ الدولة البنية التحتية الأساسية التي تجعل الشرط الثقافي ممكنا: التعليم الأساسي الإلزامي، القوانين الناظمة للتعبير والنشر، بل وحتى اللغة أو اللغات الوطنية المعترف بها. فما نعتبره لغاتنا التاريخية المترسخة لم يكن ليوجد بشكلة الحالي لولا عمل الدولة لتشذيب وتوحيد، وبالتالي إنتاج، اللغات الوطنية. كل هذا من أساسيات الشرط الحداثي العالمي الذي لا يمكن تجاوزه.
ورغم كل نقد ممكن ومستحق لتخلف السياسات الثقافية للدول العربية، فلا يمكن إنكار أنها أدت مهماتها بالحد الأدنى، فأصبح يمكننا الحديث عن ثقافة عربية حديثة، عرفت أحيانا عصور ازدهار نسبي، وارتبطت بظهور فئات وسطى متعلمة (بالمعنى العالمثالثي لهذا المفهوم) كانت المنتج والمستهلك الأساسي لهذه الثقافة. خريجو المدارس والجامعات والمعاهد، وجمهور دور النشر والسينما والحفلات الموسيقية والتلفزيون، هم أبناء ثقافيون لحداثة الدولة العربية، مهما تمردوا عليها وثاروا ضدها. انهيار الدول العربية وفشلها يعني انهيار هذه الثقافات واللغات الوطنية. وإذا وضعنا بالحسبان أن هذا الانهيار والفشل جاء بعد فترة طويلة من الجمود والتبلّد الثقافي، الذي ارتبط بالأزمات السياسية والاجتماعية لهذه الدول، فيمكننا القول إن تعبير «الثقافة العربية» أصبح فارغا من كثير من معناه.
مع ذلك مازال هنالك مثقفون وفنانون وكتّاب عرب، ومازال هنالك منتج ثقافي عربي ما، رغم انحلال «سوقه» الوطنية. ما يدفعنا للبحث عن الأسس التي مازال يقوم عليها الإنتاج الثقافي العربي.
علاقات عامة
لا يحدث الانهيار بشكل كلي وكامل حتى في أصعب الظروف وأشدها قسوة، مازال هنالك جمهور للسينما ومستمعون للأغاني وقرّاء للكتب في كل الدول العربية، إلا أن كم هذا الجمهور، وشروط تلقيه للمنتج الثقافي، لا يرقى، إلا في حالات استثنائية، لتشكيل سوق تجعل الإنتاج الثقافي مجديا، ليس فقط من الناحية الربحية، بل حتى من ناحية الجدوى الأيديولوجية، التي كانت تدفع عددا من الجهات والدول في ما مضى لتمويل مشاريع ثقافية خاسرة ماديا. هكذا بتنا نرى صحفا «عريقة» خسرت داعميها فاضطرت لإغلاق أبوابها أو إلغاء نسخها المطبوعة وتسريح موظفيها، ومؤسسات ثقافية كانت نشيطة في ما مضى أصبحت اليوم في حالة موت سريري. الإنتاج الثقافي العربي اليوم معتمد جزئيا على ما تبقى من هذه المؤسسات المدعومة لأغراض سياسة وأيديولوجية، ومضطر بشكل مباشر لتحقيق أجندات سياسية معينة، ما يجعله محاصرا بشدة على المستوى الفكري والإبداعي، ورغم أن الثقافة دوما كانت مرتبطة بتوجيهات الممولين وسياسات الدول، فإن الندرة التمويلية وقلة الجهات المانحة تجعل منتجي الثقافة مضطرين للتعبير عن هذه السياسات والتوجيهات بشكل بالغ الفجاجة.
في الدول الغربية مثلا يوجد إلى جانب الثقافة السائدة النشيطة، التي تديرها الدول وجماعات الضغط والمؤسسات الثقافية والإنتاجية الكبرى، ما يعرف بالثقاقة المستقلة، التي لا تكون بالضرورة ثقافة مضادة، بل تقوم على الأغلب على مبادرات مؤسسات وشركات صغيرة تتحسس بشكل مبكر التطورات في المزاج الثقافي العام، وتسوّق منتجا ثقافيا ذا نَفَس تجديدي، وخطابا أكثر تحررا من الناحية الأيديولوجية، مستهدفة دوائر أصغر وأكثر خصوصية من الجمهور، وفي حال نجاحها، سرعان ما تصبح منتجاتها جزءا من التيار السائد، تتسابق على إنتاجه وتسويقه المؤسسات الأكبر، إلا أن كل هذا يتطلب وجود سوق وطني كبير للتلقي الثقافي، أي يتطلب دولا قوية ومتطورة وديمقراطية.
وهنا نصل إلى جانب آخر للإنتاج الثقافي العربي المعاصر، فمع ازدهار قيم التنوع والتعددية الثقافية، وهجرة عدد كبير من مواطني الدول العربية، ومنهم مثقفون وفنانون، إلى الدول الغربية، بدأ عدد من المؤسسات الثقافية، التابعة لجهات حكومية أو مدنية غربية، بتمويل ودعم ثقافة عربية موجهة أصلا للاستهلاك الأجنبي، حيث يتم دعم أسماء معينة، وصناعة منتجات ثقافية عربية، تُعرض وتُنشر بعد ترجمتها بما يتفق مع شروط هذا الاستهلاك.
وبما أن هذه المنتجات الثقافية مصنوعة أصلا لدعم قيم أيديولوجية معينة، ومخصصة أساسا للتعريف بـ«الآخر» بدون اهتمام كبير بقيمتها الفكرية والإبداعية، فهي تفقد كثيرا من أصالتها وصدقيتها، وتصبح أشبه بحملات علاقات عامة، تديرها المؤسسات الثقافية في مواسم ومناسبات خاصة.
لا يقتصر هذا النمط من الإنتاج الثقافي على المهاجرين للدول الغربية، بل نجده حتى في الدول العربية نفسها، حيث يصنع العديد من المنتجات الثقافية المعدة لـ«التصدير»، لا يكون همها معالجة قضايا اجتماعية وثقافية معينة، بقدر ما تُعنى بـ«تعريف» بهذه القضايا للمتلقي الأجنبي. لا تكمن المشكلة في التمويل الأجنبي لهذه المشاريع الثقافية أو سعيها لمخاطبة «الآخر» والوصول للعالمية، بل في حالة عامة من الزيف والتلفيق والضحالة التي تتخللها لكي تستطيع تأدية ما صُنعت لأجله. يمكننا هنا الاستشهاد بالمخرج الروماني كريستي بيو، الذي عبّر عن هذا الحال بشكل فظ بعض الشيء، عندما قال عن أحد أفلامه في مقابلة مع جريدة «النهار» اللبنانية: «إنه مشروع سينمائي فاشل استقبله العالم الذي ينظر إلينا نحن الرومانيين بصفتنا قردة، أدهشهم أن القردة تستطيع إنجاز الأفلام».
العربية من ثقافة إلى فلكلور
عندما تفقد الثقافة العربية قاعدتها المحلية، وتنحسر دوائر متلقيها بشدة، وتصبح في الكثير من الحالات مجرد حلى ثقافية قابلة لتسلية جمهور أجنبي، فمن الأجدى أن نبحث عن مفاهيم أخرى لتعريفها: لم يعد ينطبق على المنتجات الثقافية العربية التعريف الحداثي لـ«الثقافة»، إلا في حالات محدودة، مثل ما تبقى من السينما المصرية، وبعض الصحف الإلكترونية الرائجة في بعض أوساط الشباب المتعلم. العربية اليوم هي أشبه بفلكلور شعبي لمجتمعات خسرت ما كان يمكّنها من إنتاج ثقافة، فلم يبق لها إلا بعض التراث والتقاليد والعادات والمرويات المثيرة أنثروبولوجيا، أكثر من كونها «خطابا» مؤثرا اجتماعيا أو سياسيا.
بالإضافة لجانبها الفلكلوري أصبح للعربية أهمية أخرى، وهي دورها في الغرب في فهم جماعات الإسلام السياسي وظواهر التطرف. ما جعلها مُختزلة في القضايا الدينية البحتة، وصار يمكن لأي باحث في الإسلاميات أن يتحدث عن المجتمعات العربية المعاصرة، وكأن المعرفة بالتراث الإسلامي وحده كاف لفهم كل الظواهر العربية في عالم اليوم، أو أن العرب يعيشون في بطون الكتب القديمة.
لا نسعى هنا لمجرد رسم صورة سوداوية أو الغرق في التشاؤم والاكتئاب، فبعد كل شيء مازالت هنالك بعض الدول العربية التي احتفظت بقاعدتها الوطنية، رغم كل مشاكلها، مثل تونس والمغرب، وبعض الحراك الثقافي الشبابي المبشّر في عدد من الدول الخليجية، فضلا عن الأمل في الأجيال العربية الجديدة التي ستنشأ في الخارج وتنفتح على تجارب ثقافية أكثر تطورا، إلا أن كل رجاء بإعادة الثقافة إلى العالم العربي مرتبط حتما بظهور مشاريع سياسية جديدة، تسعى بفعالية لإعادة بناء الدولة العربية الحديثة. حركات أقرب لـ«الإحياء القومي» تحوّل الفلكلور من جديد إلى «ثقافة».
٭ كاتب سوري
القدس العربي