أبوخليل القباني وصراع علماء دمشق على لباس الممثلين «الافرنجي»/ محمد تركي الربيعو
بعد أحداث عام 1967، كان السؤال حول أسباب الهزيمة هو ما يشغل بال جلّ المثقفين العرب. غير أنه خلافاً للبحث في الأسباب السياسية أو العسكرية التي تقف وراء هذه الهزيمة، سرعان ما اندفع المثقف اليساري إلى البحث عن «جينالوجيا الهزيمة» – إن صح التعبير- في تربة العقل الديني. فهذا العقل، وفقاً لكتاب صادق العظم «نقد الفكر الديني»، هو الذي يقف وراء أزمتنا، ويحمل في ثناياه كل أفكار الهزيمة والتقليد.
من هذا المنطلق، رأى العظم وغيره من المثقفين العرب أن لا سبيل لتجاوز محنة الهزيمة، إلا عبر القطيعة مع الأفكار الدينية والثورة عليها إن كان ذلك ممكناً.
وتحت وقع ضربات اليسار آنذاك، حلّ الهجوم على الدين في مرات عديدة محل الهجوم على الأنظمة العسكرية، فالدين هو سبب بلائنا وقابليتنا للاستبداد. وبقي نص العظم هو النص الأكثر رواجاً وانتشاراً بين المثقفين، لكن المتابع لتلك الفترة يرى أن هناك نصوصاً أخرى، وإن لم تكن فلسفية، حاولت الانطلاق من المرجعية ذاتها والفكرة التي انطلق منها العظم للتأكيد على ضرورة مواجهة التيار الديني الذي يتحمل كل أسباب هزيمتنا.
وكمثال على هذه النصوص، أُشير هنا إلى مسرحية الراحل سعد الله ونوس «سهرة مع أبي خليل القباني» التي أعدّها عام 1973. ففي هذه المسرحية نعثر على قصة مواجهة الشيخ سعيد الغبرا مع مؤسس أول مسرح في دمشق أبي خليل القباني، ودور الغبرا لاحقاً في إجهاض أولى التجارب المسرحية/التنويرية.
حاول ونوس آنذاك من خلال المقابلة بين شخصية القباني (التنويري) وشخصية الشيخ سعيد الغبرا (الدينية/الرجعية والمتحالفة مع الإقطاعية) دعوة المثقف العربي من خلال بوابة المسرح، إلى إدراك أن سبب هزيمتنا يعود بالأساس إلى انتصار العقل الديني على العقل التنويري في نهاية القرن التاسع عشر، وأن لا إمكانية للنهوض إلا عبر خوض معركة من جديد مع العقلية المحافظة. ورغم أن نص ونوس لم يلق الاهتمام الذي لقيه نص العظم، إلا أنه كان له تأثير وسلطة سردية حيال كتابة تجربة أبي خليل القباني الرائدة؛ فالرجل وفقاً لهذه السردية كان يعيش فترة من تبني السلطات له قبل أن يتحالف السلطان عبد الحميد الثاني (السلطان الأحمر كما عرفته بعض الروايات السلبية) مع رجال الدين المحافظين لإغلاق مسرحه. هذه الرواية بقيت بمثابة المسلّمة والطاغية لدى جل المثقفين السوريين، كلما عاد الحديث عن القباني ومسرحه.
سلطة السردية هذه، دفعت مؤخراً بالباحث والمؤرخ تيسير خلف إلى إعادة البحث من جديد في بعض زواياها وتفاصيلها، عبر كتابه الصادر حديثاً «نشأة المسرح في بلاد الشام» عن الهيئة العربية للمسرح.
ففي عام 1871، يُعيَّن الوالي صبحي باشا حاكماً على دمشق. كان هذا الحاكم قد نشأ في الجو الاصلاحي المجيدي (نسبة للسلطان عبد المجيد)، وقد شاهد في إسطنبول المسرح الفرنسي، وتشكّلت لديه قناعة بدور المسرح في الإصلاح الاجتماعي، ولذلك عندما تسلّم الرجل زمام الحكم في المدينة بادر إلى لقاء أبي خليل القباني ليطلب منه كما يذكر محمد كامل الخلعي (تلميذ القباني) أن «يؤلف جوقاً للتمثيل يرقي بواسطته الأفكار السقيمة (خيال الظل)، إلى مكارم الاخلاق والمبادئ القويمة».
افتتح القباني المسرح بمسرحية «درويش وضاح وقوات الأرواح» ونالت استحساناً لدى الناس، عاد بعد ذلك بشهر لعرض مسرحية أخرى بعنوان «عطرشان وورد الجنان»، بيد أنها خلافاً للأولى سرعان ما أثارت ردود فعل غاضبة من قبل بعض رجال الدين، كونها جسّدت شخصية السلطان المملوكي نور الدين الزنكي، الذي كان بمثابة ولي من أولياء الله في عيون بعض متصوفة دمشق. ووفقاً لما تنقله جريدة ثمرات الفنون، فقد تضمّنت الحملة تأليف قصيدة في هجائه وتحريض الكراكوزانية على سرقة المسرح، ما كبّد القباني خسائر مالية اضطرته لإيقاف نشاطه لمدة ثلاث سنوات.
في عام 1878 تسلّم مدحت باشا ولاية سوريا، وطلب من القباني، كما ينقل تيسير خلف، إعادة افتتاح مسرحه، ومنحه سجناً مهجوراً في حي القنوات، يدعى دار البلطجية، لإقامة مسرحه. ورافق لاحقاً أعيان البلاد ومفتي الولاية الشيخ محمود حمزة لحضور مسرحية «الأمير محمود وزهر الرياض»، في هذه الأثناء بقي القباني يمارس نشاطه المسرحي، إلا أنه في عام 1883 سيُقال مدحت باشا، كما سيقوم بعض الشيوخ المناوئين للقباني بإرسال عريضة إلى نقيب الأشراف في إسطنبول أحمد العجلاني يطالبونه فيها بإغلاق مسرح القباني. وخلافاً للرواية التي تقول بأن قدوم السلطان عبد الحميد الثاني كان بمثابة نهاية الحريات وأفكار التنوير، وبداية تحالف بين الاستبداد ورجال الدين المحافظين، فإن تيسير خلف يكشف عن وثيقة عثمانية مصدرها ولاية بيروت، موجهة إلى مكتب الصدارة العظمى في إسطنبول، تتحدث الوثيقة عن طلب تقدم به «المدعو أحمد قباني، لمنحه رخصة إقامة تياترو (مسرح) في بيروت لعرض لعبيات باللغة العربية»، وأنه سيراعي تحذيرات الحكومة في «اجتناب ما يخالف الآداب العامة». وتوضّح الوثيقة أن التحقيقات التي أجرتها مباحث ولاية بيروت حول القباني قبل منحه الترخيص، بيّنت أن المسرح الذي أقامه في دمشق قد أُغلِق بعد ذلك بإرادة السلطان. ويبدو أن هذا التحقيق سيتوسع ليشمل مراسلات مع ولاية سوريا، ولاحقاً مراسلات مع وزارة الداخلية في العاصمة إسطنبول، التي حققت من جانبها في الموضوع، بدون أن تعثر على قرار سلطاني بهذا الشأن، ما دفعها إلى إحالة التحقيقات إلى الصدارة العظمى، وهنا تُبيّن الوثائق أن الصدر الأعظم أحمد حمدي باشا لم يرد على الرسالة، ما يعني، وفقاً لخلف، أن قرار إغلاق مسرح القباني قد جرى من وراء ظهر السلطان.
الشيخ طاهر الجزائري وموقفه من المسرح
وخلافاً لموقف الشيخ سعيد الغبرا الذي شغل مسرح ونوس وساحة المناوئين للمسرح، يبين تيسير خلف عبر حفرياته في مواقف رجال الدين آنذاك، أن موقف سعيد الغبرا لم يكن هو الموقف الطاغي في المدينة/ففي مقابل رؤية الأخير نعثر على رؤية مقابلة للشيخ طاهر الجزائري، الذي كان يعد من ألمع علماء دمشق وأكثرهم نفوذاً وتأثيراً.
إذ يذكر الجزائري في سنة 1881 أنه دائماً ما كان يُسألُ من الفضلاء عن رأيه الشرعي في موضوع الروايات (المسرحيات)، لا سيما أن القباني كان في أوج نشاطه يومها. وكان جواب الشيخ الجزائري: «أن في المسألة تفصيل لا يمكن الحكم بدونه، وأن من ترك التفصيل فما أجمل، وأن محمل كل رواية هو واصف موضوعها وما يقترن به من الأحوال، فإن كان الموضوع فيه فائدة وذكرى، ولم تقترن بما يكون نكراً، كانت الرواية بعيدة عن القدح جديرة بالمدح، وإن كان موضوعها ما يفسد الأخلاق ويعود على تقليد ممن لا حظ لهم في كمال الأخلاق، أو كانت مقرونة بأمر نكر، فهي بعيدة عن المدح، جديرة بالقدح لعظم مضرتها على الناس، لا سيما الأحداث الذين هم أقرب لقبول ما يرون ويسمعون من غيرهم».
ما يرغب خلف بقوله من خلال عرض رأي الجزائري أن موقف العلماء في دمشق لم يكن موحداً في رفض المسرح، وأن هناك رجال دين كثر أثنوا على دور المسرح، كما حدث لاحقاً، حين أشار الشيخان جمال الدين القاسمي 1905 وعبد القادر المغربي في سنة 1907 إلى أن المسرح ليس مجرد مكان للهو، ولا ليتمتع الحاضرون برؤية جمال النساء، بل هو «كالحقل ينبت فيه أحرار البقول ويتخللها الكثير من النباتات الضارة».
بيد أن خلف لا ينفي وجود تيار آخر يرى أن الحرمة واقعة على المسرح، إلا أن هذا التيار لم يتمكن من بلورة موقف واضح، وأكثر تأثيراً إلا بعد سقوط السلطان عبد الحميد عام 1909 وقدوم حركة الاتحاد والترقي، خلافاً لمن يرى أن الموقف تبلور في عهد عبد الحميد المستبد بعد فترة ما عُرِف بالتنظيمات العثمانية المجيدية. إذ شكّل خلع السلطان عبد الحميد مقدمةً لتبلور تيار سياسي صوفي في مدن بلاد الشام، معاد في جوهره لسلطة الاتحاديين. وكان أحد مظاهر تعبير هذا التيار عن نفسه إصدار مجلة «الحقائق» عام 1910 على يد عبد القادر الإسكندراني، التي انتدبت نفسها للدفاع عن حياض الدين في مواجهة نزعات التفرنج ودعوات الإصلاح والتجديد.
ضمن هذا الواقع، كان لا بد أن يكون المسرح (الإفرنجي) أحد الأماكن التي تتعرض للهجوم من قبل رجال الدين المعادين للاتحاد والترقي. وقد جاءت الفرصة بعد عرض مسرحية «زهير الأندلسي» التي قام بتمثليها لفيف من غلمان المدرسة العثمانية الدمشقية؛ اشتملت على ارتداء بعض الممثلين لأزياء إفرنجية؛ وحضرها الشيخان جمال الدين القاسمي وعبد الرزاق البيطار، وهو ما شكل مناسبة لتشكيل حملة من قبل عدد من علماء دمشق وبيروت وحلب وعينتاب وحمص.
وقد وجد الشيخ محمد القاسمي الحلاق أن التمثيل تلبيس وتدليس وكذب، لأنه إلباس الغلمان لباس الملوك الماضيين والأمم السالفيين. كما رأى الشيخ يحيى القلعي أن ارتداء الممثلين لزي إفرنجي هو نوع من التخنث الذي لعنه رسول الله، ونوع من الغيبة، ولذلك «يتحتم منع هذا التمثيل والحضور فيه». أما صاحب مجلة «الحقائق»، فقد شنّ هجوماً على دعاة الإصلاح متهماً إياهم بالدعوة إلى الفواحش «فإذا كان قصدكم بهذا إصلاح الأمة فاعلمو أن الأمة لا تُصلح بتقليد الإفرنجة واتباع عاداتهم»، في إشارة إلى تشجيع علماء الإصلاح على مشاهدة المسرحيات.
خلاصة ما يرغب خلف بقوله في الكتاب، إن علماء الدين في بلاد الشام أيام السلطان عبد الحميد الثاني لم ينظروا إلى فن التمثيل بوصفه مجالاً للتحريم أو الإباحة، بل عدّوه من اختصاص السلطان أو الصدر الأعظم، ولذلك لم يتجرأ أحدهم على وصم أبي خليل القباني بالكفر، كما بقيت اعتراضاتهم ذات طابع اجتماعي تتعلق بالتقاليد التي لا تستسيغ تشبّه الشبان بالفتيات أو انشغال العمال عن أعمالهم وإنفاق أجورهم على مشاهدة المسرحيات. إلا أنه بعد الانقلاب على خليفة المسلمين تغيرّت الأمور، وغدت معركة التمثيل فصلاً من فصول صراع ديني بين بعض التيارات الصوفية والتيارات الإصلاحية.
٭ كاتب سوري
القدس العربي