عن المعتصمين بحَبْل الصنَم../ ملاذ الزعبي
يحتشد طلاب خارج بوابة مدرستهم الثانوية في حي المزة بالعاصمة السورية دمشق، يؤدون بشكل ساخر تصفيقاً طلائعياً. تصفيق وصفير، فيما السيارات تعبر بمحاذاتهم، ومن ثم يؤدون تحية العلم الصباحية، بما يشمل غناء النشيد الوطني “حماة الديار” في الشارع بدلاً من باحة المدرسة الداخلية.
يعود المشهد السابق لاعتصام طلاب من ثانوية “بسام بكّورة”، وفقاً لما نقلته شبكات تواصل اجتماعي مؤيدة للنظام السوري. اتضح لاحقاً أن الفيديو يعود للعام الماضي، لكن وسائل إعلام مؤيدة للنظام تحدثت عن اعتراض راهن ومتجدد لطلاب الثانوية على إقالة مدير المدرسة وسام نوفل، نتيجة نفوذ طالب “مدعوم” بعد مشادة كلامية بين الاثنين. فيما تداولت شبكات أخرى مقطعاً مصوراً يُظهر امتناع العشرات من طلاب الثانوية عن دخول مدرستهم وتناثرهم خارجها، قيل إن تاريخه يعود إلى 23 تشرين الأول/اكتوبر الجاري.
ليست هذه المرة الأولى التي تشهد فيها البيئات المناصرة للنظام، أو تلك التي لم تلتحق بالثورة السورية على أقل تقدير، نشاطاً احتجاجياً. سبق لموالين أن اعتصموا في اللاذقية في العام 2015 للاعتراض على مقتل العقيد في جيش النظام حسان الشيخ، على يد سليمان الأسد، قريب رأس النظام السوري بشار الأسد، بسبب خلاف مروري.
أواخر آب/أغسطس الماضي، اعتصم عشرات من ضباط الرتب الأدنى في جيش النظام أمام قصر الروضة بدمشق للاعتراض على قرار وزارة الدفاع بتسريح الضباط في قوات النظام المصابين بنسبة عجز تفوق 40%.
في الحالتين، وهما مجرد مثالين، وجد النظام نفسه يستجيب للمحتجين بشكل أو بآخر. أرسل سليمان الأسد الى السجن، وعدّل قرار وزارة الدفاع. وفي الحالتين، كنّا أمام نشاط احتجاجي على أرض الواقع، يتفاعل ويتضاعف تأثيره عبر، وبفضل، وسائل التواصل الاجتماعي. تماماً كما كان الحال، ويا للمفارقة، في وضع الثورة السورية ومظاهراتها.
يتقاطع الاعتصام الطلابي مع بعض تجليات الانتفاضة السورية ويختلف عن تجليات أخرى. سبقت الإشارة إلى دور مماثل للسوشال ميديا، إلّا أننا هنا أمام احتجاج ينفذه يافعون ينتمون إلى شريحة اجتماعية ما كان للنظام أن يعاملها بالعنف ذاته الذي تعامل به مع الاحتجاجات التي اندلعت ضده في طول البلاد وعرضها، وتحديداً في الأرياف السورية وأطراف مدنها.
لكن الطلاب الراغبين في استعادة مديرهم، والموالين الناقمين على مقتل العقيد، والضباط الباحثين عن “إنصافهم”، جميعهم لا يطالبون بتغيير في بنية النظام السوري كما كانت الاحتجاجات التي عمت سوريا على مدى أعوام خلت. لا تقترب هذه الاحتجاجات أبداً من ركائز النظام الرئيسية: الأسد والأمن والجيش، بل يتوسل بعضها، صُوَر رأس النظام، والهتافات تمجده، كوسيلة لإظهار الولاء بالتوازي مع التعبير عن الرفض والغضب.
تظهر السوشال ميديا مرة أخرى كأحد عوامل التغيير العربية والسورية، رغم كل المحاولات المتتالية للسيطرة عليها والإمساك بمفاتيحها (لا بد من الإشارة إلى عدد هائل من الفيديوهات التي بث -وما زال يبث- من خلالها موالون للنظام شكاوى واحتجاجات بخصوص قضايا فساد أو إهمال أو سوء معاملة رسمية أو للإشارة إلى تدهور أحوالهم المعيشية أو حتى للشكوى من اعتقال “ظالم” أو “كيدي” تعرض له أحد أقربائهم). التغيير هنا يستهدف شرائح اجتماعية يرتكز عليها النظام السوري، وإن كان يسير ببطء لا يقارن بمدى إلحاحه وضرورته، هذا فيما النظام ما زال يبحث عن الأبد.
صورة الأبد تمت استعادتها مؤخراً مع رواج صورة لتمثال جديد لرئيس النظام السوري السابق حافظ الأسد، تم تشييده في مدينة ديرالزور، وكشف النقاب عنه مع زيارة لوفد وزاري ضم رئيس وزراء النظام إلى جانب سبعة وزراء آخرين. تمثال جديد بينما المدينة مدمرة ومفتقدة لأبسط الخدمات، وقد تحتاج عمليات إزالة الركام والأنقاض منها شهوراً.
تحدث سوريون كثُر عن التمثال بوصفه صنماً، وللكلمة هنا دلالات على “تقديس الأسد”، والذي بات أشبه بديانة غير رسمية للبلاد منذ انتصار حافظ الأسد على معارضيه وسحقه المجتمع السوري في ثمانينيات القرن الماضي، وما تلا ذلك من تشييد لتماثيله في مختلف المدن السورية ومؤسساتها الرسمية.
بدأ النظام بإعادة نُصُب الأسد الأب مع تحقيق المزيد من الانتصارات العسكرية على مدى العامين الماضيين: في ساحة العاصي في مدينة حماة، والتي احتضنت كبرى المظاهرات ضد النظام في الثورة السورية. وفي حمص، عاصمة الثورة المجهضة. وحالياً في ديرالزور. ولاحقاً، على الأرجح، في درعا التي شهدت إسقاط أول تمثال لحافظ الأسد في 25 آذار/مارس 2011.
التماثيل اليوم لن تكون كافية للسيطرة على الفضاء الرمزي في سوريا. لم يعد هناك إعلام رسمي تقليدي يتسيد وحده المشهد، هذا إن كان ما زال ثمة من يتابعه أساساً. لكن التغيير أيضاً لن يكون سهلاً أو قريباً، وجوهره هذه المرة أنه بدأ ينحت في صخرة القاعدة الاجتماعية للنظام.
المدن