كشاشو حمام باريس/ مازن عزي
تقول دعابة تتداولها بعض أوساط السوريين في باريس، إن شاباً ثورياً متحمساً حضر اجتماعاً موسعاً مع موظفين في الخارجية الفرنسية، مطلع العام 2013، وبدأ كل من الحاضرين حديثه، على التوالي، بالتعريف عن نفسه، فلما وصل الدور إليه، قال بكل هدوء واتّزان: “(فلان).. مفجّر الثورة السورية”. أحد الموظفين الفرنسيين الحذقين، راح يسائله ببرود وجدّية: “في هذه الحالة، ماذا تقول يا مسيو، عن مسألة قطع الرؤوس في ثورتكم؟”، و”ماذا يا مسيو عن القتل على الهوية؟”.
دعابة لا تُعود مُضحكة، حين تتكرر في كل مرة مع إشارة إلى شخص مختلف. ذاك هو “مفجر الثورة السورية”، يغمز أحدهم، قبل تعريفك إلى آخر. “قائد الثورة” إياه، وبعد أن يستأمنك، يشير إلى آخر: “ذلك من إدعى أنه مفجر الثورة”. يقول أحد الساخرين، إن باريس وحدها تحتضن على الأقل 50 مفجراً ومفجرة للثورة السورية.
التأمل في مصائر اللاجئين السوريين في فرنسا هو قضية مقارنة؛ موجات اللجوء المتتابعة، تحمل علائم متميزة تبعاً لتوقيت الوصول. فاللجوء لم يبدأ مع العام 2011 ولم ينتهِ بعده. في عداد اللاجئين السوريين في فرنسا أجيال سابقة على الثورة من المعارضين، والمنفيين، لكن سمات بعينها تبدو رائجة، وإن تكن غير قابلة للتعميم.
قبل أيام، وفي ظل افتقادي لمكتبتي، عثرت صدفة على “المجموعات القصصية الخمس” لجميل حتمل، المعارض السوري والمعتقل السابق. حتمل قضى أيامه الأخيرة في مشفى كوشان في باريس في العام 1994، منازعاً الكآبة وقلة النوم، والغربة، محتمياً بذكرى نسائه الحبيبات، من طرف واحد. طائر حتمل الأزرق الجميل، التيمة المتكررة في قصصه، كان ملهماً لمراهقتي. العودة له، كانت مؤلمة، والقراءة شاقة. فجأة، باتت قصصه صدى باهتاً لحكايا بعض اللاجئين السوريين في فرنسا. نرجسية مراهق نزق صعب المراس، يتسلى بكتابة فوضاه الداخلية، وانكساراته. انكسارات تبدو خياراً ذاتياً، لا ظرفاً قاهراً.
وكما في قصص حتمل من انتظار لـ”الحبيبة”… يقول أحدهم، وهو يشرب البيرة “من نحن في باريس؟”، “نحن كشاشو حمام، ننصب سقالبنا، وننتظر عودة الطيور النادرة”. والسقلب، بلغة الكشاشين هو المصيدة المعدنية التي تُغلقُ عن بعد على العش، ما أن يدخله طير جديد. الراوي، كان يقصد بالطبع الباريسيات، الفاتنات منهن، اللواتي يندهشن من روايات البطولة والنضال التي عاشها ناشطو الثورة الأوائل.
لكن الزمن تجاوز تلك اللحظة، والثورة باتت أثراً بعد عين، ومتطلبات العيش في المهجر/المنفى تفرض ايقاعاً مختلفاً. التشبّثُ بلحظة الثورة، بهذا المعنى، ليس أكثر من معاندة للواقع ورفضه. انكار الواقع قد يكون إحدى أزمات اللاجئين، في ظل عودة مستحيلة، وتقدم ممتنع. إلا أن ذلك ليس الأزمة الأكبر.
الاندماج وتعلم الفرنسية، وايجاد عمل، هي مجموعة الأسئلة الأساسية للمقارنة. نسبة معقولة من لاجئي الثورة فضّلت البقاء في حيّز الحنين لزمنها الذهبي. العيش في الماضي الثوري هو الدرع الواقي من البلل في نهر الزمن الجارف. الاكتئاب، التقوقع، الانهمام بلحظة متخيلة، هي الأعراض الملازمة للرغبة بالاعتراف بالدور والمكانة. هنا، الاعتراف ليس محركاً للتاريخ، على ما قال هيغل، بل نكوصاً عنه وانحيازاً إلى عدم الفعل والفاعلية.
وما ينطبق على الأفراد يكاد ينطبق على الجماعات؛ دوائر بعض السوريين اللاجئين في فرنسا، تتقاطع أحياناً، كما دروبهم، لكنها لا تنحني. هي مسارات مصممة للتنافر. الابتعاد. الرفض للآخر، وعدم قبول مروياته للحدث السوري. تعدد المشاريع المتماثلة، حدّ التطابق، ورفض أصحابها التواصل في ما بينهم، قد يكون صورة أخرى للعَارضِ ذاته.
لا مظلة تجمع السوريين في فرنسا، ولا غيرها من دول الشتات. ورغم وجود رافعة الثورة السورية، فلا حوامل عملية لها، لا تيارات ولا أحزاب ولا قوى، تجمع المتفرقين. الإسلاميون وحدهم الأكثر تنظيماً، وقدرة على الحشد المالي والبشري، لكن دوائرهم مغلقة على سواهم. قوى التيارات العلمانية والليبرالية واليسارية، أشبه بفقاعات لا تكاد تظهر حتى تنفجر، مخلفة أثراً لا يحرك أجنحة الفراشة.
هزيمة الثورة وانتصار النظام فاقما الأزمة، فازداد التقوقع للأفراد والتشظي للجماعات. إتحد مفجرو الثورة بمروياتهم، مغادرين الواقع. وحدهم كشاشو الحمام ما زالوا في انتظار ذلك الطير الأزرق الغريب، طائر جميل حتمل، الهاجس بالحب من طرف واحد.
المدن