جورج أورويل في مدن الجهاد: عندما يرث الروائي السوري مهنة السوسيولوجي/ محمد تركي الربيعو
في كتابه الأخير: «دولة الخلافة: التقدّم إلى الماضي»، حاول السوسيولوجي العراقي الراحل فالح عبد الجبار دراسة الحياة اليومية للناس في مجتمع العقاب، الذي كان يتشكّل في مدينة الموصل. فبعد سيطرة تنظيم «الدولة الإسلامية» على هذه المدينة، بدا لجبار أن الاقتراب من يوميات الناس هناك بدل الركون للأخبار السريعة هو وظيفة السوسيولوجي والباحث المحلي. وفي هذا السياق، قام بإجراء مقابلات ميدانية عديدة مع عدد من شرائح المجتمع الموصلي شملت شيوخ عشائر ومحامين وطلابا، ومؤيدين لوجود التنظيم.
وخلافاً لبعض السرديات الشائعة التي رأت أن تنظيم «الدولة» هو وليد المجتمع المحلي البدوي في المناطق الغربية/السنية في العراق، رأى الأخير أن فرضية الحاضنة الشعبية تبقى فقيرة على مستوى التحليل، لكونها تتناسى أن الأزمة تعود بالأساس إلى الأزمة الوجودية للدولة المشرقية الفاشلة، وإخفاقها في بناء الأمة أو إعادة صناعتها.
وتحت عنوان «مستعمرة العقاب»، يشير عبد الجبار إلى أن الأخبار والروايات التي نقلها له المخبرون المحليون حول علاقتهم بتنظيم «الدولة الإسلامية» دفعته لإجراء مقارنة بين «جند الله» وفق تعبير فهمي هويدي، وصورة «الأخ الأكبر» في رواية جورج أورويل «1984». ففي الموصل، لم يعد ثمة تفصيل في الحياة بعيداً عن عيون أهل الحسبة، من سوق المتبضعين والمارة، إلى الجوامع في أوقات الصلاة ومعاقبتهم على التخلف عنها، إلى مراقبة الموبايلات وتسريحات الشعر وبنطلونات الشباب ومراسم الزواج ودفن الموتى، وزيارة القبور «إنها حالة قصوى من حالات النظام التوليتاري الذي يخترق الحياة الخاصة في المجال العام» والقول هنا لعبد الجبار.
هذا الوصف أوالمقاربة بين النظام التوليتاري وسلوكيات تنظيم «الدولة الإسلامية» في المجال العام شكّل فكرة رواية «ليل العالم» التي كتبها الروائي السوري نبيل سليمان، وهو يرسم لنا طبيعة الحياة اليومية في الرقة بعد سيطرة تنظيم «الدولة» عليها.
روائي يرث عمل السوسيولوجي
خلافاً لغياب محاولات سوسيولوجية أو تاريخية سورية لدراسة حياة الجهاديين في سوريا، نجد أن بعض الروائيين السوريين حاولوا دراسة أسباب هذه الظاهرة في عدد من رواياتهم وأعمالهم، سواء قبل الثورة أو بعدها؛ فالروائي السوري، وربما ينطبق ذلك على ساحات عربية أخرى، استطاع أن يرث أحياناً عبر عوالم شخصياته دور المؤرخ وعالم الاجتماع الباحث في يوميات الناس وتقلباتها في الماضي أو الحاضر. اختار سليمان أن يبدأ روايته من المشهد ذاته الذي عاشه ربما في فترة ما داخل المدينة عندما عمل مدرساً فيها.
فأمام دوار الدلة، الذي غدا اسمه بعد قدوم «الدولة الإسلامية» دوار الخنق، نعثر على الأستاذ منيب (مدير مدرسة الرشيد للبنات)، وهو يتذكر مشهد قتل خطيبته هفاف «الكافرة» التي أُعدِمت من قبل تنظيم الدولة في دوار الدلة لاستمرارها في التظاهر أمام مقر الولاية.
تبدأ الأحداث بمشهد سقوط تمثال حافظ الأسد في المدينة بعد الانتفاضة عام 2011. فالمدينة التي تتحدث بعض الأخبار والحكايات عنها قبل الثورة بوصفها تشهد حالات تشييع واسعة يقودها الإيرانيون والنظام السوري، ها هي تنتفض في وجه النظام، لكن حالة الحرية التي عاشتها المدينة لن تدوم طويلاً. فخلافات الفصائل وتمتين شوكة تنظيم «الدولة الإسلامية» في العراق، سرعان ما ستدفع بالأخير إلى عبور حدود سايكس بيكو، وتوسيع رقعة «خلافته».
وكما فعل فالح عبد الجبار في وصفه لمدينة الموصل، نجد أن الروائي في الضفة الأخرى من دولة الخلافة، يستعين بشخصيات عديدة من المدينة ليرسم لنا بإحساس إثنوغرافي دقيق عوالم وحياة مدينة الرقة… رصد الحياة في المدارس والدكاكين والساحات ودوائر الدولة، طقوس فوكودية من القتل والتعذيب العلني باتت مألوفة في الفضاء العام للمدينة.
مدينة الرقة في بداية القرن العشرين
ما يلفت نظر سليمان في مستعمرة العقاب هذه؛ كما تنبه لذلك فالح عبد الجبار، عندما أجرى مقارنة بين عوالم جوررج أوريل وعاصمة الخلافة آنذاك؛ أن الطقوس الشمولية للحكام الجدد لا تختلف كثيراً عن طقوس حزب البعث والأجهزة الأمنية في السابق.
منيب (بطل الرواية) لا يمل من تكرار العبارة بشكل يومي «للدولة الإسلامية عيونها التي تخترق الجدران كما كان للدولة البعثية.. فالدولة الإسلامية مثل الدولة البعثية، تدرك الصمت وما أخفى». وفي مشهد آخر من الرواية، تعترض هفاف على قرارات «داعش» الجديدة في المدينة المتعلقة بالنقاب. وفي خضم هذا الصراع، لا تتوانى هفاف عن إجراء مقارنة أمام منيب بين حجاب «داعش»، وحجاب الخميني، بالقول «كله كوم يا أستاذ، وحكاية الحجاب كوم… بماذا تختلف دوريات الحسبة هنا عن دوريات الشرطة في إيران.
كما يذكر الروائي هذا التطابق بين البعث و«داعش» ونظام الخميني على مستوى احتكار العنف، ومراقبة الناس، في مكان آخر من الرواية. ففي أحد الأيام يُعتقل منيب من قبل أجهزة الدولة الإسلامية ويُطلَب منه ملء استمارة، هنا يذكر الروائي على لسان منيب «بأن هذه الاستمارة كانت شبيهة بالاستمارة التي ملأها في فرع الأمن السياسي، وفي فروع الأمن العسكري قبل سنوات، عندما كان متهماً بالمعاداة للبعث، ولاحقاً بعد أن سُجِن لمدة سبع سنوات بتهمة الانضمام للجان ربيع دمشق.. لكن الفرق الوحيد في ولاية الرقة الإسلامية هي إضافة حقول جديدة للاستمارة تتعلق بالحج والعمرة والعشيرة والمذهب».
بعد الحديث عن حياة الرقة السوداء، يعود بنا نبيل سليمان إلى الماضي، مرحلة السبعينيات والثمانينيات، وكأنه يحاول بهذه العودة القول بأن ما شهدته الرقة ليس سوى امتداد أو نتيجة لتلك المرحلة، التي سيتسلم فيها الأسد السلطة قبل أن يقوم بعدها بعقد تقريباً بتدمير مدينة حماه، «وكر الإسلاميين» كما عُرِفت لاحقاً.
في هذه العودة نتعرف على أحداث واختبارات تعيشها الشخصيتان الرئيسيتان (منيب، هفاف) وعلى معالجة روائية لبعض الأحداث التاريخية التي عاشاها، بأسلوب يخالف الرواية الرسمية للنظام حول تلك الأحداث، ولعل هذه المعالجة هي التي أدت إلى منع توزيع الرواية في سوريا لاحقاً. فأستاذ المدرسة منيب، يبدأ حياته التعليمية في الرقة، قادماً من مدينة بانياس (وهي مدينة تحتوي على وجود وقرى علوية) وهناك يتعرف على شخص من الطائفة العلوية (محسن)، حصل على منصب كبير بعد تولي الأسد للسلطة. وبما أن منيب قادم من بانياس لذلك يظن محسن أنه من ابناء الطائفة العلوية؛ في حين يكشف لنا سليمان أن أصله يعود إلى مدينة الرقة، بيد أنه اضطر للهرب قبل عشرين سنة وأكثر مع والديه وهو صغير إثر حوادث تتعلق بالثأر. بيد أن أصل منيب المتخيل سيدفع بمحسن إلى رفع اسمه لأجهزة الأمن كي يُعيّن (باعتباره مصدر ثقة وابن الطائفة) مديراً لأكبر المدارس في المدينة (مدرسة الرشيد) يفسّر الروائي هذا الدعم عبر الإشارة إلى أنه «لم يكن تعصباً جهوياً، أو مناطقياً، بل هو تعصب طائفي، فالرفيق محسن لا يخفي علويته ولا رعايته لمن في الرقة من العلويين». نعثر هنا على إشارة وجرأة من قبل سليمان لقوله بأن قدوم الأسد قد ترافق مع قدوم الطائفة العلوية للسلطة، وبداية خلق «العصبية العلوية» في الحكم.
وعن الفترة نفسها (وأعني بذلك فترة السبعينيات والثمانينيات)، يتطرق الروائي إلى تجربة منيب وهفاف في فترة صدام الإخوان المسلمين مع السلطة. وقد استطاع سليمان في سياق تفسيره لأسباب تعاطف منيب الشيوعي مع الإسلاميين تقديم تفسير قريب من تفسيرات سوسيولوجية عديدة، (كما في دراسة اليزابيث لونغنيس عن الإسلاميين والمهن) التي حاولت تفسير أسباب تزايد شعبية الإسلاميين في فترة الثمانينيات، عبر ربط ذلك بسياق التقلبات التي شهدها الحقل الاجتماعي والمهني للطبقة الوسطى في المنطقة، التي أدت إلى تهميش دورهم؛ بالإضافة إلى تنامي عنف الدولة، كلها عوامل أدت بمنيب وهفاف إلى التعاطف مع الإسلاميين آنذاك؛ هذه التفسيرات ربما لم تثن الروائي عن التلميح إلى كون تعاطف الرفاق اليساريين، قد جاء كذلك جراء تراجع دور اليسار وسردياته وشبكاته الحزبية في تلك الفترة: «يا منيب هذا الزمن غير زمن الشباب، لا بد أنك تتابع كيف يعلو صوت الإسلام في هذه السنين».
ولكن هل باتت سوريا موطناً للجهاديين؟
وفي ما تبقى من الرواية، يحاول سليمان تفكيك أسباب ما آلت إليه الأوضاع في الرقة، إذ لم يأت الجهاديون من عالم آخر، كما يؤكد على لسان أبطاله، بل هم نتيجة حتمية، كما يقول، لفشل الدولة السورية واستبدادها؛ نتيجة قريبة مما توصل إليه الراحل فالح عبد الجبار. فسجن صيدنايا، أو معمل الجهاديين السوري، كما يفضل البعض وصفه، هو نتاج النظام، وهو الذي أنتج مئات المقاتلين الذين حاربوا وحكموا المدينة لفترة من الزمن.
٭ كاتب من سوريا
القدس العربي