الشركات القابضة السوريّة تستحم في بحر العقارات/ أيمن الشوفي
حفرت الشركة الأرض وانصرفت، ثم صارت الحفرة أشبهَ بقبرٍ رمزي لفكرة البناء، فلم ترتفع “أبراج سوريا”، المشروع الأكبر لشركة سوريا القابضة منذ إنشائها مطلع عام 2007 بواسطة أكثر من عشرينَ رجلِ أعمالٍ معروف، وبرأس مالٍ تجاوز 80 مليون دولار، وكأن المشروع اكتفى باستملاك الأرض فقط، وهي مساحةٌ شهيّة وسط العاصمة حيث كانت شركة الكرنك للنقل، وكراج دمشق – بيروت المعروف في منطقة البرامكة. وخلال شهر شباط/ فبراير من العام الحالي، زار رئيس الوزراء السوري الحفرة بصحبة وفدٍ وزاري، وقال حينها بأن استكمال المشاريع المتوقّفة هي من أولويات الحكومة.
لكن استكمال تلك المشاريع العقارية، أو الشروع بأخرى، ليس فيه أنسنة لمزاج الحرب الوحشي، بمقدار ما هو إعادة عزف “لنوتة” النيوليبراليّة التي تدرب عليها الجميع بعد العام 2008، فصارت عنواناً فصيحاً للاقتصاد السوري، ورتّبت لعهد الاستثمارات العقارية الفارهة من رتبة الخمسة نجوم. وبدلاً من أن تفكّر الحكومة بإعادة الاعتبار لقطاع الإنتاج الحقيقي، وترميم تهالكه خلال الحرب، نجد سعادتها تتدفق مع كلّ ترخيصٍ جديد تمنحه لشركة استثمار عقاري، وهذه غالباً ما تكون ذراعاً تنفيذيّة لشركة قابضة معروفة، وكأن الاستيلاء على الأراضي بحجة الاستملاك بات هو المسرحيّة الحقيقية خلف الستارة، وكأننا بذلك ننتقل من حفرةٍ صغيرة، إلى أخرى أكثر اتساعاً وعمقاً.
قانون جديد يخدم شركات جديدة
في شهر حزيران/ يونيو من العام الحالي تأسست شركة “خيتي” القابضة برأس مال مليار ليرة، وتعود ملكيتها لأربعة مستثمرين من مدينة دوما بريف دمشق. هذه الشركة، كسواها من الشركات القابضة، تستطيع وفق المرسوم التشريعي رقم 19 لعام 2015 أن تدير وتستثمر أملاك الوحدات الإدارية أو أجزاء منها، ما يعني أن الجهات العامة (محافظة، بلدية مثلاً) صار بمقدورها التخلي عن أراضٍ أو عقارات مستملَكة من قبلها لصالح شركاتٍ خاصة. وهذا ما حدث خلال شهر أيار/ مايو من العام الحالي، حين أوكلت محافظة دمشق لشركة “دمشق الشام القابضة” استثمار حي “الحمراوي” القريب من الجامع الأموي، وهو أحد العقارات التي تستملكها المحافظة منذ عام 1960. و”دمشق الشام القابضة” هي شركة حديثة ظهرت في أواخر عام 2016 برأسمال قارب 60 مليار ليرة، وأهم استثماراتها تقع في المنطقة التنظيمية للمرسوم رقم 66، ثم تمادت مخيلتها الاستثمارية فأسست أربع شركات للتطوير العقاري خلال العام الماضي لتكون أذرعاً لتنفيذ مشاريعها. ولم تكتفِ بذلك، بل أبرمت عقداً مع شركة “أمان القابضة” بقيمة 188 مليار ليرة. وهذه الأخيرة تأسست منتصف العام الماضي برأسمال 600 مليون ليرة، ورئيسها التنفيذي، سامر الفوز، هو مالك قناة “لنا” الفضائية التي لا تكفّ عن بثّ إعلانات تروّج لمشاريع الشركة القابضة.. بين المسلسلات السوريّة التي تعرضها بلا انقطاع.
أنجب المرسوم 19 شركاتٍ قابضة جديدة، وسلّمها مفاتيح العديد من العقارات المستملَكة من قبل الوحدات الإداريّة، أو التي في طريقها إلى الاستملاك، لا سيما في ريف دمشق المنكوب أغلبه بالتهجير والدمار، حيث يتعذّر على الغائبين أو المتوفين حفظ حقوقهم، أو المطالبة بها. وفي هذا استلاءٌ خفيّ على الملكيات الخاصة من الصعبِ تقدير اتساعه، ومعرفة أسماء المستفيدين فعلياً منه، ذلك أنّ المراكز الماليّة الحقيقيّة للشركات القابضة لا تظهر عادةً على الملأ.
خارطة جديدة، يديرها لاعبون جدد
يقود معنى الشركة القابضة في اللغة الإنكليزية holding companyإلى الفعل hold بمعنى يُمسك، وهذا ما تفعله الشركات القابضة بالضبط، إذ أنها تملك / تمسك حصصاً من رأس مال شركات أخرى، ما يُمكّنها من السيطرة الإدارية والماليّة على الشركات التابعة لها، على الرغم من الاستقلال القانوني للشركات التابعة عن الشركة القابضة الأم. فالشركة القابضة تقوم على تركيز السلطة داخل مجلس إدارتها، أو ربما في شخص رئيس مجلس إدارتها، وتمليه على ما يتبع لها من شركات بواسطة مركزية قرار صارمة، وبهذا تدير عمل الشركات التابعة، وتربطها مع بعضها البعض، وهذا من جهة أخرى حلٌّ عملي لتعذّر اندماج الشركات إن تطلّب الأمر.
وفي سوريا، تبدو المحاصصة العقارية كما لو أنها الصوت الوحيد الذي يُبهج رأس المال المموّه داخل شركاتٍ نشأت كمتوالية يصعب تصديقها خلال السنوات الماضية، لتستولي لاحقاً على عقاراتٍ مستملكة أصلاً أو تسير على درب الاستملاك. وهذا أهم بكثير من فرضيّة الحصول على قروض كبيرة من بنوك إقليمية، باعتبار أن القروض المصرفيّة هي أهم أشكال تمويل المشاريع التي تديرها الشركات القابضة، وتنفّذها الشركات التابعة لها.
لكن هل يحتاج الشعب السوري بتعداده من المشرّدين والنازحين والفقراء إلى استثماراتٍ عقاريّة فارهة كأبنية “ماروتا سيتي” على أطراف دمشق؟ وهل يحتاج اقتصادٌ فقد جزء كبيراً من عائدات قطاعات انتاجه الحقيقية إلى اختبار ميول السلطة في محاباتها للنموذج الليبرالي الفاقع مجدداً؟ يبدو من المعيب الترويج لاستثماراتٍ عقاريّة فخمة منذ الآن – من سيقطنها؟ – والحرب لم تنتهِ بعد، وملف النازحين لا يزال وصمةَ عار تهرب منه الحكومة كلما تراه، فلا يكون ضمن جدول أولوياتها، كما هو حال الحفرة التي زارتها، وتساءلت بمرارة عن سبب بقائها مجرّد حفرة؟
يتلوّن صوت السلطة إذاً بغير أنشودة “مكافحة الإرهاب”. عليها أن تحتفل بما كسبتهُ يديها من دمارٍ مديد، قبل أن تحوّله إلى أبنية فندقية فخمة تحاكي بها نموذجاً مبيّتاً من التضخم والانكماش في نمو الاقتصاد الحقيقي (الإنتاجي لا الخدمي)، فضلاً على الموقع الاقتصادي والسياسي الجديد للدول التي دعمتها خلال حربها الطويلة. وما علينا هنا سوى أن نتذكر ما قال “أندريه بالكلانوف”، السفير الروسي السابق لدى السعودية على هامش منتدى الأعمال السوري – الروسي، الذي نظّمته غرفة التجارة الروسيّة أواخر شباط / فبراير من العام الحالي: “أنا مقتنع أنه حتى لو أخذ الغرب نظرة سلبية عن إعادة بناء الاقتصاد السوري، فإن الوضع في العالم مختلف الآن، وقد تصبح سوريا أول ساحة قتال اقتصادية، حيث ستبدأ إعادة الإعمار لتحقيق المزيد من التنمية الاقتصادية”.
السفير العربي