الحرب في سوريّا انتهت، لم تنته/ حازم درويش
لسنوات طويلة قبل الحرب، تحوّلت سوريا “رمزاً” للاستقرار في منطقة الشرق الأوسط. ففي حين كان العراق يتخبط في حرب أهلية دموية تلت حكماً ديكتاتورياً عنيفاً وحصاراً غربياً قاسياً، كان لبنان لا يزال يجترّ أذيال حربه الأهلية التي انتهت أوائل التسعينات، على شكل صراعات سياسية داخلية بين الطوائف المتقاسمة كعكة الحكم على مضض، واغتيالات وحروب صغيرة تارة مع إسرائيل، وتارة داخلية بين طوائف البلد نفسه. إضافة إلى الصراع المديد بين إسرائيل والفلسطينيين المتجدد بين الفينة والأخرى سواء في الضفة الغربية أو غزة.
سوريا كرمز للاستقرار حكاية كان يحرص النظام السوري على روايتها للسوريين بأشكال مختلفة صباح مساء، ليضمن استمرار تسلطه وخنوع السوريين لكل أشكال فساده وديكتاتوريته الظاهرة والمقنعة وتخليهم عن حقوقهم البديهية. وكان ينسى أن يروى مع حكاية “رمز الاستقرار” هذه جزء مهم فيها وهو أن النظام السوري كان لاعباً أساسياً في تقويض استقرار تلك البلدان التي يتم تخويف السوريين من اضطراباتها. وحين لم يكن متاحاً لجزرة “رمز الاستقرار” هذه أن تعمل دائماً مع الجميع، رُفِعت عصا التذكير بأيام القمع الدموية الرهيبة التي عايشها السوريون في ثمانينات القرن الماضي على يد هذا النظام نفسه. مع تأكيد أنها كانت من الأثمان التي تحتّم دفعها حتى نالت البلاد “استقرارها”.
في المقابل، لم تملك غالبية الناس لا الوقت ولا الرفاهية للتفكير في ما أخفاه هذا الاستقرار وما يستدعيه من أثمان وتهشمات في نسيج المجتمع السوري ستدفع لاحقاً. لكن كان واضحاً لمفكرين كُثر أن البلاد التي استقلت باسم سوريا عن العثمانيين أولاً عام 1920، ثم عن الفرنسيين عام 1946 وابتليت بحكم حزب البعث الديكتاتوري منذ 1963 ذاهبة بأعين مفتوحة إلى حرب أهلية لن تبقى ولن تذر.
قبل سنوات الحرب بلغ عدد سكان سوريا حوإلى 22 مليون نسمة من خليط متنوع من أديان وقوميات مختلفة يغلب عليها العرب السنة الذين تمركزوا في مدن البلاد الكبرى، لا سيما حلب ودمشق. غالبية السكان على رغم انفتاحها الظاهر على المكونات الأخرى لم تكن راضية بهذه النسبة أو تلك، عن وضعها ضمن خريطة البلد أو في مواقع السلطة. وهذا لم يكن النظام السوري سببه الحقيقي، بل أحد وجوهه. فمنذ استقلال البلاد عن فرنسا لم تعرف البلاد الاستقرار السياسي، على رغم تمتعها آنذاك بنظام برلماني وانتخابات ديموقراطية وجو من الحرية في الصحافة والمجتمع. فالطوائف والقوميات و”الولايات” التي تعايشت غريبة عن بعضها بعضاً وفي حروب متقطعة لقرون طويلة تحت كنف الدولة العثمانية لم تألف “الفكرة السورية” في الواقع.
على رغم استعارتها الهوية العربية من ثورة الشريف الحسين ضد الأتراك في الحرب العالمية الأولى، فالفكرة بدت فضفاضة جداً على البلاد ومكوناتها. لذا راحت الطوائف والقوميات والمدن المتناحرة بعد الاستقلال تستخدم النظام البرلماني بداية ثم الانقلابات العسكرية بدءاً من عام 1949 لتسديد الأهداف في مرمى الخصوم وتحقيق المكاسب. يضاف إلى ذلك رغبة القوى الدولية المتصارعة التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية (الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وحلفائهما) بجرّ سوريا إلى هذا الحلف أو ذاك واستخدام الصراعات الطائفية والسياسية في البلاد لتحقيق أهدافها هذه.
وكان الصراع الأبرز في تلك الحقبة، والذي لم يهدأ حتى اليوم، هو الصراع بين المدينيتين التجارتين الكبريين في سوريا حلب ودمشق. المدينتان كانتا إبّان الحكم العثماني ولايتين مستقلتين عن بعضهما بعضاً، لكل منهما محيطه ومصالحه التجارية المختلفة. في خرائط ما بعد الحرب العالمية الأولى تم نزع المدينتين من محيطهما (حلب من أورفا وعنتاب وانطاكية)، (دمشق من لبنان والأردن وفلسطين) وجمعهما في “سوريا” واحدة، وفقاً لخرائط سان ريمو الفرنسية البريطانية. الشكل الأبرز لصراع المدينتين بعد الاستقلال كانا الحزبين اللذين تشكلا من نخبتي التجار والملاكين في المدينتين المتصارعتين واحتلا الساحة السياسية في البلاد؛ الحزب الوطني عن دمشق وحزب الشعب عن حلب. الحزبان كما نخبتهما التجارية عجزا عن مجاراة التطور السياسي الحاصل في العالم. كما عن التعامل مع الواقع الجديد للدولة السورية أو تموضعها ضمن خريطة التحالفات الدولية في المنطقة. ففي حين كان الحزب الوطني يدعو إلى تحالف مع المملكة السعودية، رغب حزب الشعب بوحدة مع العراق تعيد ربمّا لمدينة حلب مجداً خسرته بعد نزعها من محيطها وضمها إلى سوريا. الريف السوري الذي كان يتخبط في تلك الفترة في مشكلات إنمائية كثيرة تم نبذه وأهله، كذلك الأقليات التي لم تجد لها متنفساً من هذا كله إلا بالانتساب إلى الجيش أو إلى الأحزاب العلمانية المختلفة التي نشأت في تلك الفترة وأبرزها حزب البعث العربي الاشتراكي.
الحرب العربية- الإسرائيلية عام 1948 وهزيمة الجيش السوري الوليد فيها ساهمت في تعكير المزاج السياسي في البلاد أكثر وفي تململ فئات واسعة من الشعب من الطبقة السياسية الحاكمة كما من الجيش الذي سيبدأ مع حسني الزعيم في 1949 انقلابات متباعدة لا متناهية تحت مسميات وطنية تخفي نوازع طائفية وصراعات طبقية ومناطقية ومصالح دولية. من هذا كله ستهرب الطبقة السورية السياسية إلى الأمام مجاراة منها لمناخ القومية العربية المنتشر بقوة في العالم العربي في الخمسينات تحت تأثير الصراع مع إسرائيل وبروز كاريزما عبد الناصر إلى الوحدة مع مصر. الخطوة التي لاقت دعماً شعبياً وافقت عليها أغلبية المكونات السياسية والاجتماعية التي كانت منهكة من صراعاتها ورأت في الخطوة وسيلة لضغط كل هذه الصراعات وإخفائها أو لربما تحقيق مكاسب منها على حساب الفئات الأخرى!
لاحقاً، سيتبدى أن سنوات الوحدة الثلاث 1958-1961 كانت أكبر كارثة حلت على سوريا منذ نشوئها. فقد ألغى عبد الناصر النظام السياسي البرلماني في البلاد كما الأحزاب. قمع المعارضين ولاحقهم وأسّس نظاماً أمنياً بوليسياً متوحشاً لم تعرفه سوريا من قبل. أمّا على الصعيد الاقتصادي فقد ساهمت سياستي التأميم والإصلاح الزراعي التي فرضها عبد الناصر بشكل تعسفي بتعرية الطبقات الاجتماعية وإنهاك الطبقتين التجارتين العريقتين في حلب ودمشق. هذا كله فاقم الوضع الذي كانت تعيشه سوريا قبل الوحدة وأنهك المواطنيين ووضع الطوائف والقوميات والطبقات ومخاوفها في مواجهة بعضها.
الوحدة بين البلدين انتهت عام 1961 بانقلاب عسكري سلّم السلطة إلى المدنيين. الجميع التقط أنفاسه في البداية، لكن سرعان ماعاد الصراع السياسي الذي كان قائماً في البلاد قبل الوحدة مع مصر، بخاصة بين حلب ودمشق، حتى أنه أشيع كثيراً في تلك الفترة عن انقسام محتمل لسورية بين المدينتين. لذا لم يطل الوقت كثيراً حتى نفّذ حزب البعث الإشتراكي، الذي صار ملجأ الأقليات على اختلافها في وجه الطبقة السياسية السنية المتسيّدة والعاجزة في الوقت عينه في حلب ودمشق، انقلابه الأول في الثامن من آذار/ مارس لعام 1963 والذي أدخل سوريا في حقبة سياسية لم تخرج منها حتى بدء الانتفاضة الشعبية في آذار 2011. وكان من أبرز سمات هذا الانقلاب إعلان حالة الطوارئ التي قمعت كل الحريات في البلاد ودمّرت النظام السياسي فيها وأسست نظاماً أمنياً لا يزال يعمل حتى اليوم. ولم تُرفع حالة الطوارئ هذه إلا في نيسان/ أبريل 2011، في خطوة من الرئيس بشار الأسد لتهدئة الاحتجاجات الشعبية التي قامت ضده في مدن سورية عدة.
انقلاب حزب البعث عام 1963، تلته انقلابات مختلفة ضمن الحزب نفسه انتهت بانقلاب حافظ الأسد عام 1970 واستيلائه التام على السلطة. في الانقلابات المتتالية بين العامين هذين توضّح وترسّخ النفوذ القوي الذي بنته الأقلية العلّوية التي ينتمي إليها الأسد وتتركز مناطقها على الساحل السوري بين مدينتي اللاذقية وطرطوس داخل الجيش أثناء صراع الأغلبية السنية في حلب ودمشق على السلطة.
لم تكن الانقلابات في الستينات انقلابات عسكرية أو حزبية فقط بل أساساً كانت انقلابات طائفية ضمن الطائفة العلوية نفسها، خرج منها حافظ الأسد، الذي كان وزيراً للدفاع منذ عام 1966 وشهد الهزيمة العسكرية السورية أمام إسرائيل والتي انتهت بخسارتها لمرتفعات الجولان، متسيداً على منافسيه العلويين داخل الحزب والجيش كما على كل السلطة. في هذا كله تحوّل السنة إلى متفرّجين خسروا كل أدوارهم التمثيلية. لاحقاً لن يرضى حافظ الأسد لهم حتى بهذا الدور، بل سيبدأ بقعمهم وإخراجهم من أي دور فاعل داخل الجيش، الأمن ومؤسسات الدولة المدنية عبر الطرائق الممكنة مع الحرص على الاحتفاظ برئيس وزراء ووزير دفاع سنيان لا يملكان أي سلطة فعلية ولا يتمتعان بأي قبول لدى طائفتهما السّنية! ويذكر هنا أن قمع الأسد في السبعينات لم يستهدف السنة وحدهم، بل كل التشكيلات السياسية العلمانية التي عارضته من شيوعيين وبعثيين وقوميين سوريين. حيث حصلت عملية اعتقالات واختفاءات وكم أفواه بالجملة وعلى الشبهة.
مع انعدام أي إمكان لانقلاب عسكري أو مواجهة سياسية ستلتزم الطبقتين التجارتين السنيتين في حلب ودمشق الصمت في ذلك الوقت وتحرصان على تجنب إغضاب الأسد ما أمكن حفظاً على أقل ما يمكن من مصالح تجارية تبقّت لهم وأصبح فيها الأسد شريكاً بشكل مباشر أو غير مباشر. في المقابل ستستغل جماعة الأخوان المسلمين التي كانت حتى السبعينات تحتفظ بدور صغير ضمن الحياة السياسية في سوريا قمع الأسد للطائفة السّنية لتزيد من نفوذها بين الشباب السني، بخاصة في مدن حماة وحلب ودمشق. ثمّ لتعلن عام 1979 تمرّدها المسلّح ضد نظامه والذي سيرد عليه النظام بحملة قمع وحشيّة لم تعرف لها سوريا مثيلأ من قبل. حملة القمع التي استهدفت الطائفة السنية كاملة وليس الأخوان المسلمين وحدهم شملت اعتقالات تعسفية واختفاءات قسرية وقتل على الهوية ومجازر مروّعة داخل السجون وخارجها كان أشدها في حماة وحلب وجسر الشغور. وانتهى التمرد عام 1982 بانتصار الأسد بعد قمعه الوحشي للتمرّد في مدينة حماة بعد حصارها وتدميرها بالكامل تقريباً وقتل ما لا يقل عن 30 ألف من سكانها.
منذ تلك اللحظة ستتحول سوريا إلى ذلك الرمز للاستقرار وسيصاحب هذا التحوّل تكريس استبعاد السنة كلياً من دائرة القرار وتفشي الفساد بشكل مروّع في كل دوائر الدولة، بما فيها الجيش نفسه. لكن مع حرص على تقديمات اجتماعية تقي السوريين المنتمين إلى الطبقتين الفقيرة والمتوسطة من الوصول إلى العوز الكامل. في الأثناء تفاقمت مشكلات الريف السوري. مع حرص شديد أيضا من النظام على إفقار الريف وترييف المدن وتغذية العداء بين أهل الأرياف وأهل المدن.
عام 2000 مع وفاة الأسد الأب وتولّي بشار الأسد السلطة، تنفّس السوريون (الأغلبية السّنية خاصة) الصعداء بعد أن تمّ الترويج طويلاً بأنّ الأسد الابن سيقود عملية انفتاح وإصلاح شاملة في البلاد، بخاصة مع خطاب القسم الذي أدلاه في 17 تموز/ يوليو 2000 وأكد فيه “أن الفكر الديموقراطي يستند إلى أساس قبول الرأي، وهو طريق ذو اتجاهين”. ليبدأ على إثر ذلك “ربيع دمشق” الذي شهد نقاشات سياسية وفكرية ساخنة ومنفتحة في صحافة ومنتديات فكريّة نشأت على عجل مع إفراجات محددودة عن معتقلين سياسيين، ثم لم يلبث هذا “الربيع” أن انتهى سريعاً في شباط/ فبراير 2001 بحملة اعتقالات لمثقفين معارضين وإغلاق لكل المنتديات الفكرية والصحف المستجدّة.
منذ ذلك الحين ستتحوّل كل وعود التغيير التي أتى بها بشار الأسد إلى إصلاحات شكليّة متفرقة لن تغير شيئاً مع الترويج إلى أن “الإصلاح الحقيقي” هو إصلاح إقتصادي سيقوم فيه النظام بتبني الليبرالية الاقتصادية الغربية بما يتناسب مع واقع البلاد. وتبعاً لهذه الخطّة تمت مملاءة الطبقة الغنية في البلاد برفع اليد الأمنية عنها وتشريع المارس والجامعات الخاصة وفتح باب الاستثمارات لشركات أجنبية وعربية مختلفة ورفع الدعم عن أسعار المواد الأساسية “الخبز والسكر والمحروقات”، على رغم ارتفاع معدل ما كانت تستخرجه وتصدره البلاد من الغاز والنفط. هذه السياسية التي استمرت حتى بدء الثورة في 2011 كانت المسمار الأخير الذي طُرِق في نعش “رمز الاستقرار” السوري. فهي قامت بإنهاك المفقرين (خاصة في الريف) وإفقار جزء واسع من الطبقة المتوسطة (في المدن) وعززّت تفسّخ النسيج الاجتماعي السوري.
لذا سيبدو منطقياً أن يتشجع هؤلاء الناس (بخاصة في الأرياف) الذين تم استهدافهم طائفياً وإنهاكهم طبقياً لأكثر من خمسة عقود ولم يعد لديهم المزيد ليخسروه للقيام بالثورة على هذا النظام والتظاهر ضده، متأثرين بـ”الربيع العربي” الذي بدأ بإسقاط الأنظمة في تونس ومصر. أليسوا هم أولى من جيرانهم؟!
الثورة التي بدأت برفع المتظاهرين وروداً في التظاهرات السلمية في مناطق سورية مختلفة، ونعت النظام أصحابها بالإرهابيين، سرعان ما ستتحول تحت ضغط النظام ومحاولات قمعه الوحشية لها، التي لم تستهدف المتظاهرين أنفسهم، بل حاضنتهم الاجتماعية أيضاً، كما تحت ضغط لاعبين خارجيين أيضاً، إلى حرب مفتوحة شاملة، بخاصة بعد انشقاقات محدودة لعسكريين سنة من رتب منخفضة من الجيش وإفراج النظام عن عدد هائل من المعتقلين المتطرفين السنة في سجونه والذين قاتل غالبيتهم لسنوات في العراق أو أفغانستان. مع تركيز على استهداف الوجوه المدنية للثورة والانسحاب من المدن الحدودية التي سهّلت تهريب الأسلحة إلى الداخل للمتظاهرين من الدول المناوئة للنظام بداية، ثم دخول المقاتلين الأجانب لا سيما الإرهابيين منهم إلى البلاد لاحقاً. هنا أيضاً لعب النظام على وتر تخويف الأقليات من “الوحش” السني الذي سيلتهم مناطقهم وحقوقهم في حال سقوطه. وكانت حركته الأبرز في مجال اللعب على حبال العلاقات المتوترة بين مكونات البلد هي تجنيس عدد هائل من الأكراد السوريين الذين ظلوا لعقود منذ عام 1962 محرومين من الجنسية والحقوق، ما ضمن له انكفاؤهم عن دعم الثورة في مناطقهم شمال سوريا ومباشرتهم حروباً ومناكفات أهلية مع جيرانهم السنة العرب.
منذ تحوّل الثورة إلى حرب أهلية أولا، ثمّ إلى صراع عالمي الأبعاد على الأرض السوريّة قبل أكثر من سبع سنوات تحدّدت ملامح الجهات المتقاتلة بالخطوط العريضة كما لا تزال عليه اليوم، على رغم حدوث بعض التغييرات الطفيفة مع الوقت:
الجيش النظامي السوري الذي يقوده الرئيس السوري بشار الأسد وأغلبية عناصره من الأقلية العلويّة (العلويون يتم نسبهم إلى الشيعة أيضاً) التي ينتمي إليها الرئيس. ويشارك الجيش السوري في معاركه المفصلية “حزب الله” الشيعي اللبناني، بناءً على أوامر إيران الداعم الأساسي للحزب وللنظام السوري (بخاصة في معارك ريف حمص وريف دمشق). أيضاً شاركه مقاتلون أفغان وعراقيون شيعة مدعومون من إيران. وفي بعض المعارك كان هناك ظهور مباشر للدور الإيراني القيادي عبر قاسم سليماني قائد فيلق القدس والذي يعتبر “رأس حربة” إيران في المنطقة.
منذ أيلول/ سبتمبر 2015 بدأ التدخل العسكري الروسي الداعم للنظام الذي كان في ذلك الوقت قد شارف على الهزيمة أمام فصائل المعارضة المسلّحة. التدخل الروسي كبح تقدم المعارضة وقلب الموازين على الأرض لمصلحة النظام السوري.
المعارضة السنية المسلّحة التي تشكّلت في البداية من مدنيين وعسكريين سنة انشقوا عن الجيش النظامي وتكتلوا تحت مسمّى “الجيش السوري الحرّ”، وقُتِل معظمهم في المعارك. هذه المعارضة المسلّحة تتألف الآن بالكامل من فصائل إسلاميّة متشددة (بعضها إرهابي مثل جبهة النصرة التابعة للقاعدة).
الداعم الأساسي لهذه الفصائل هي تركيا، الولايات المتحدة الأميركية، بعض الدول الأوروبية (هولندا) وبعض دول الخليج العربية (قطر والمملكة السعودية).
تركيا تدعم هذه الفصائل في الشمال لمنع تشكل كيان كردي مستقر في سوريا على حدودها الجنوبية، الجيش التركي موجود الآن في شمال سوريا، بخاصة في إدلب. السعودية تدعمها لمواجهة الدور الإيراني الذي تحاربه في المنطقة.
شهدت السنوات الخمس الماضية تحوّلات كبيرة على فصائل المعارضة المسلّحة في سورية، سواء لناحية الحجم والتسليح ومناطق السيطرة وحتى الولاء، وذلك تبعاً للمتغيرات التي عصفت بها، إما بسبب الدول المتدخلة بالشأن السوري التي دعمت فصيلاً على حساب حجب الدعم عن فصيل آخر، أو تلك التي دعمت الطرف المقابل أي النظام والمليشيات الموالية له، فتسببت بإنهاء بعض الفصائل، أو بسبب النزاعات البينية بين تلك الفصائل على مناطق النفوذ التي أدت إلى تغيّر خارطة نفوذها، فانحسرت مناطق سيطرتها مجتمعةً إلى نحو22 ألف كيلومتر مربع من مساحة سوريا (185 ألف كيلومتر مربّع).
وشهدت فصائل المعارضة المسلحة في شمال سورية التغيّرات الأكبر في تاريخها، في الفترة التي تلت سقوط مدينة حلب، والتي عُدّت حدثاً فارقاً في مسار الثورة السورية بشكل عام والمسلّح بشكل خاص.
أما في الوسط السوري فقد سيطر عدد من الفصائل على منطقة شرق حمص، ضمن منطقة محاصرة من قوات النظام منذ نحو ست سنوات، ولم تشهد تغيّرات كبيرة في مناطق نفوذها بسبب الحصار المفروض عليها. كما شهدت فصائل محيط دمشق وريفها انحساراً كبيراً في مناطق نفوذها، كان أكبره أوائل العام الحالي الذي تم خلاله القضاء على مناطق نفوذ الفصيلين الكبيرين “جيش الإسلام” و”فيلق الرحمن” في الغوطة الشرقية، إثر إجبارهما على التهجير إلى شمال سورية، فلم يبقَ من فصائل محافظة دمشق سوى الفصائل المسيطرة في مناطق القلمون.
أما في المنطقة الجنوبية، فقد شهدت مناطق سيطرة الفصائل استقراراً نسبياً، خصوصاً بعد فرض اتفاق خفض التصعيد فيها وتوحّدها كلها ضمن الجبهة الجنوبية، وانحسار معاركها مع “جيش خالد بن الوليد” المتهم بالولاء لتنظيم “داعش”.
الأكراد: بعد معارك واسعة، لا يزالون يخوضون بعضها، ضد تنظيم “داعش” في شمال شرقي سوريا، استطاع هؤلاء المقاتلون المدعومون أميركياً من هزيمة “داعش” في أماكن واسعة وإقامة مناطق سيطرة ذاتية منفصلة شمال البلاد.
تنظيم الدولة الإسلامية: الذي سيطر لبرهة من الوقت على مساحات واسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتعرض لضربات موجعة وهزائم متتالية حدت من قدراته. لكنه لا يزال يملك نفوذاً مهماً في مناطق مفصلية من البلاد. (دير الزور، البوكمال، ريف السويداء الغربي، ريف حماة الشمالي).
إسرائيل: توجّه ضربات في جنوب سوريا، بخاصة لمعسكرات ومخازن أسلحة تابعة لحزب الله اللبناني، منعاً لحصوله على أي أسلحة متطورة من إيران.
من الصعب تخيّل إمكان أن ينتهي هذا كله إلى أن تعود سوريا كما كانت قبل الحرب؛ الدول التي حازت نفوذاً سياسياً أو وجوداً عسكرياً داخل البلاد، لن تتخلى عنه بسهولة، بل ستسعى إلى تعزيزه ما أمكنها ذلك، قبل انتهاء المعارك ليصير جزءاً من أي خطة سلام قد تنهي الحرب يوماً ما. ملايين اللاجئين داخل البلاد وخارجها ومئات آلاف القتلى من المكونات الطائفية والاجتماعية المختلفة، التي أنهكتها المجازر والانتقامات المتبادلة كما التغيير الديموغرافي في كثير من مناطق البلاد، لا سيما في ريف دمشق ومدينة حمص التي كانت أغلبية سكانها من السنة قبل الحرب. حلب التي انتصر النظام فيها خسرت هويتها التاريخية والحضارية والأكراد ليسوا في وارد التخلّي بسهولة عن مناطقهم التي استقلّوا فيها شمال شرقي سوريا. كما أنّ إدلب وريفي حلب وحماة حيث تتمركز الآن قوى المعارضة الإسلامية وفصائلها لربما ستنتهي كحل يناسب أطرافاً كثراً إلى أن تكون تحت سيطرة الجيش التركي كما يُسمع في الفترة الأخيرة.
الحرب في البلاد وعلى عكس ما يروّج له ليست في وارد الانتهاء. فهي كلّما هدأت في منطقة، اشتعلت في أخرى. الدول المتنافسة لم تتعب من الحرب بعد ولم تحقق منها أهدافها جميعها (بخاصة روسيا وإيران). كما أن الأسد قد يستطيع تعزيز نفوذه بمساعدة حلفائه، لكن “انتصاره” بعد كل الجرائم التي ارتكبها وآلاف المعتقلين والمختفين المجهولي المصير سيزيد من شراسة المعارضة في وجهه، بخاصة أنّ الأسد لديه قائمة بأكثر من مليون مطلوب من السوريين في الداخل والخارج.
لهذا كله يبدو من الغباء و”العمى السياسي” الترويج لقرب انتهاء الحرب أو لعودة سوريا كما كانت قبل 2011؛ فالسوريون ذاهبون لأن يكونوا “الفلسطنيّين الجدد” في المنطقة كما سمتهم الإيكونوميست في عددها في حزيران/ يونيو الماضي، فهم، عندها، سيكونون شياطين المنطقة ممّن يدفعهم الظلم ونقص العدالة، مثلما دفع الفلسطينيّين قبلهم، إلى العنف والسلاح والفوضى.
وسوريا كما عرفناها منذ 1946 حتى 2011 لا تمكن عودتها وحكايتها كـ”رمز الاستقرار” في الشرق الأوسط، وقد انتهت إلى أن تكون على ما يقول حازم صاغية في “الحياة” مثل رواية ذات ألف نهاية، كل واحدة من تلك النهايات بداية أخرى، وكل بداية من تلك البدايات مأساة أخرى.
درج