اللاجئون السوريون في تركيا: هواجس وتساؤلات/ بكر صدقي
في التاسع من شهر تشرين الثاني الماضي، قتلت شابة سورية في مدينة غازي عنتاب، جنوب تركيا. كانت نغم أبو صالح، ذات التسعة عشر عاماً، الطالبة في جامعة غازي عنتاب، جالسة في حديقة الحي الذي تسكنه مع أهلها، حين اقترب منها شابان على دراجة نارية وحاولا خطف هاتفها الخليوي من يدها. وإذ امتنعت غنى عن تسليم هاتفها، هاجمها الشابان بالسكاكين، هي وصديق لها كان معها، فطعناهما عدة طعنات وفرا هاربين. ماتت غنى على الفور متأثرة بجراحها، وتم إنقاذ صديقها في المستشفى.
شكلت الحادثة صدمة كبيرة للاجئين السوريين في غازي عنتاب وغيرها من المدن التركية التي ينتشرون فيها. مع ذلك كان كثير من السوريين ميالاً إلى اعتبار الحادث جنائياً بحتاً، لا علاقة له بنزعات كراهية ضد اللاجئين السوريين، برغم وفرة تداولها على وسائل التواصل الاجتماعي. أي أن الشابين التركيين مجرمان عاديان، وكان المحتمل أن تكون الضحية تركية أيضاً، الصدفة وحدها وراء اختيارهما لهذه الضحية السورية بالذات.
ولم تمض إلا أيام قليلة حتى أعلنت الشرطة عن إلقاء القبض على الجانيين وفتح تحقيق في الجريمة. وتداول السوريون هذا الخبر على وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي بارتياح صريح، مدفوعين بحاجتهم إلى الشعور بالعدالة.
كان لافتاً للنظر أن كلا القاتلين بعمر 17 سنة، أي تحت السن القانونية.
لكن الصدمة تكررت، مرة أخرى، في أوائل الشهر الحالي، حين تعرض طفل سوري لاجئ، في المدينة نفسها، للطعن بالسكاكين من قبل عصابة سرقت منه هاتفه الخليوي و400 ليرة تركية هي أجرته الأسبوعية التي كان قد قبضها قبل قليل. الطفل محمد ميمة، 15 سنة، نقل إلى العناية المشددة في إحدى مستشفيات المدينة، وفر الجناة.
يتداول سوريو المدينة شفاهةً، هذه الأيام، خبراً يقول إن قاتلي غنى أبو صالح تم إخلاء سبيلهما، ربما بكفالة، أو ربما بسبب سنهما. ليست هناك مصادر يمكن الإحالة إليها، لأن الخبر الجديد مر بلا اهتمام إعلامي، بخلاف خبر إلقاء القبض عليهما. كلا الحالتين، الاهتمام والتجاهل، تفسران بأسباب براغماتية، فلا السلطات التركية تريد انتشار خبر يؤجج مشاعر الغضب لدى اللاجئين السوريين، ولا هؤلاء يتجرؤون على رفع صوتهم طلباً للعدالة.
هذه تطورات خطيرة جدا، بالقياس إلى سوابق التوترات في العلاقات بين اللاجئين والمجتمع المضيف، سيترتب عليها انعدام الشعور بالأمان لدى ثلاثة ملايين ونصف من اللاجئين السوريين في تركيا، وبخاصة العناصر المستضعفة المعرضة للخطر كالأطفال والنساء. السلطات التركية تعالج كل حالة بصورة منفردة وباجتهادات ظرفية، كأن تنقل اللاجئين السوريين، في حي من أحياء مدينة ما، إلى المخيمات، إذا وقع حادث هوجم فيه السوريون من قبل جموع غاضبة من الأهالي، بسبب خلاف شخصي أو حتى إشاعة كاذبة تتعلق بشخص سوري، كما حدث الشهر الماضي في مدينة أورفة.
لا يقتصر شعور اللاجئين السوريين بانعدام الأمان، أو بغياب العدالة، على الحالات الجنائية كالمذكورة أعلاه، بل هناك هاجس المصير المجهول الذي يمكن أن يواجهوه في أي يوم. فالمطالبة بترحيل السوريين التي كانت تقتصر، في السنوات السابقة، على أحزاب المعارضة، بات يعبر عنها من قبل الحكومة أيضاً منذ ما قبل الانتخابات العامة والرئاسية التي جرت في حزيران الماضي. ففي أثناء الحملة الانتخابية، تحدث الرئيس رجب طيب أردوغان، للمرة الأولى، عن «إعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم» بعد انتهاء الحرب في سوريا. وتلقي وسائل الإعلام الضوء باهتمام على عودة طوعية لعشرات آلاف السوريين إلى مناطق سيطرة القوات التركية في «درع الفرات».
لا أحد يعرف ما هي الخطط المستقبلية للحكومة بشأن إعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم. هناك نحو سبعين ألفاً تم منحهم الجنسية التركية، بناء على معايير تتعلق بامتلاك اللاجئ للشهادة العلمية أو رأس المال الاستثماري. وقد صدر قرار، قبل أسابيع، يشجع السوريين على الحصول على الجنسية إذا كان اللاجئ يملك رأسمالاً يبلغ 250 ألف دولار فما فوق. لا حاجة للقول إن هذا القرار لا يخاطب إلا فئة ضيقة جداً من اللاجئين السوريين، قد يعد ببضع مئات لا أكثر.
يعكس القرار المذكور، من ناحية ثانية، وضع الاقتصاد التركي الذي يعاني بعض الصعوبات، وتجلى، في الأشهر السابقة، بعدم استقرار سعر صرف العملات الأجنبية، وهبوط القيمة الشرائية لليرة التركية بصورة حادة تضرر منها أصحاب الدخل المحدود.
لا يمكن إهمال حالة القلق الاقتصادي التي يعيشها المواطن التركي من الطبقات الدنيا، باعتبارها سبباً مباشراً للتحول النوعي في حوادث الاعتداء المتفرقة التي تعرض لها سوريون، كحالة الطالبة غنى أبو صالح والطفل محمد ميمة. فحين ينفجر الغضب من التردي الاقتصادي، يكون «المختلف» هو الضحية الأولى. والمختلف الأكثر عرضة لعامل الغضب والكراهية، في الوقت الحالي، إنما هو السوري الذي تستخدمه الأحزاب السياسية مادة للمزاودة أو شماعة لتعليق أسباب الصعوبات الاقتصادية، وتستخدمه الحكومة في تجاذباتها مع الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن أنه مستضعف بلا حقوق واضحة تحميه، يبحث عن وسائل العيش ويعاني من غلاء الأسعار بأكثر من معاناة المواطن التركي.
ومن جهة أخرى شددت إدارة الهجرة، مؤخراً، على موضوع تنقلات السوريين بين المحافظات التركية، فأصبح إذن السفر لا يعطى إلا لأسباب قاهرة، الأمر الذي ضيق من هامش البحث عن عمل ومورد رزق في مدن أخرى.
أسوأ ما في اللعنة التي التصقت بالسوريين، في الداخل والخارج على السواء، هي أنها بلا أفق منظور.
القدس العربي