الطوف السوري السائل/ سمر يزبك
إلى من رحلوا، وهم يحاولون الابتكار لتقديم صورة سورية كريمة
ست سنوات مضت على حادثة بعد الظهيرة. زمنٌ معلق. متأرجحٌ بين شفرتي الدهشة والزوال. زمنٌ منسوب لبشرٍ يحشون أحشاءهم بالقهرمردّدين: المصائب تُحيي العظام، سنعيش خفّة الهواء! وهكذا، يوماً بعد يوم، صاروا حجارة. بشر جمعتهم يوماً ما حدود وهوية، “أنا” يسخر منها الغالبية باحتقار مشوب باليأس: “أنا جامعة“.
المكان؛ قرية كفرعويد في ريف إدلب “الخضراء”، وكم قرأنا عنها في كتب “البعث” والمناهج الدراسية المزيّنة بأشجار زيتونها. تقع قرية كفرعويد قرب بلدة معرة النعمان، إذا ما اعتمدنا التقسيم الإداري الذي عرفناه سابقاً.
الساعة الثالثة ظهراً. اليوم السادس عشر من شهر سبتمبر/ أيلول سنة 2012، تسقط القذائف، وقد اعتاد أهل القرية أمراً كهذا، لربما هي براميل. لنا ذاكراتٌ عديدةٌ كالعادة في يومياتنا نحن السوريين. الأكثر احتمالاً أنها قذائف، تلك التي سقطت ظهيرة ذلك اليوم في قرية كفرعويد. لا عسكر هنا، إنها منطقةٌ آهلةٌ بالمدنيين، والمستهدف كان مخبز القرية الآلي، حيث يجتمع الناس لشراء عيشهم. قتلت القذيفة ثمانية أشخاص، نساء وأطفال من عائلة مغلاج، لتسمّى المجزرة باسمهم.
مؤقتٌ ما بقي في الذاكرة، قبل أن يضيع في زحمة الرؤوس؛ إنه رأس فاطمة مغلاج. إذن، شكّل جسد الطفلة مقطوعة الرأس العلامة الأبرز في تلك المجزرة. لا تخبرنا صورتها الكثير. إنها بكماء. يابسة التعبير، ولا تُحيلنا إلى ابتداع تعبيرات رثاءٍ غنائية، فالعنف المُتجاوز حدود المعقول كان من الفداحة بمكان كي تموت اللغة. جسد بلا رأس لطفلةٍ بدت مثل شيء. غرض ما، تم عرضه باعتيادية أمام عين الكاميرا. وضعية جسدها جعلتنا نخمّن اللحظة المفاجئة التي طار فيها رأسُها. جسد مفرود باستقامة حادّة. لا انحناء في حركة الأطراف. تضاريس أفقية مشدودة إلى حد الشدّة. جسد ينزع قلب المُحدّق فيه فقط! “كولون” أبيض يغطّي ساقيها، في منتصف شهر أيلول، حيث النسيم باردٌ في الريف الأخضر، والمكان مثاليٌّ للحلم بالسعادة لأطفال تلك القرية النائية، لولا قصف الطائرات. وقد كان أيضاً مثالياً للحلم بالسعادة، لولا السياسات التي أغرقت الأرياف بفقرٍ فوق فقرٍ، تحت شعار الانفتاح الاقتصادي، الذي تم تداوله كإشارة لعهد الأسد الابن، في عملية تحديثٍ مُدّعاة.
ليس علينا استحضار الأمر الآن، إنه وحشيٌّ بما لا يناسب إنسانيتنا المرهفة! قرأناه كثيراً في
التاريخ، يموت المدنيون في الحروب، وهم ضحايا العسكر، ولا بد من تقبل القرابين، لأنها جوهر الاستمرار في العيش. لم تأت البشرية بجديد. لقد كنا هكذا دائما متوحشين! هذا رأيٌ يحبه كثيراً مروّغو الحقائق.
لكن صورة فاطمة هنا. صورة جعلت من الحدث حقيقةً فائضةً عن التصديق، فهي لفرط فداحتها غير قابلة للتصديق. لا معقوليتها إحدى مراياها. وهي نقطة البداية لدخولنا جماعيا بمرض “الشبح”. يسمّى علمياً ظاهرة “ما بعد البتر”، أي الألم الذي يشعر به الشخص في مكان العضو المبتور. أي عضوٍ يختفي من أجسادنا يبقى في عقولنا، ويتبادل معنا الألم. ولكن ماذا إذا كان هذا العضو رأسنا، ما الذي سيؤلمنا بعد ذلك؟ العقل في الرأس، وقطعه ما هو إلا دلالة فاضحة على تحويلنا إلى الوضعية البهيمية. فأين هو ذاك الرأس الذي يجمعنا؟ وأين هو العقل الذي يجعلنا نفكّر؟ جلياً كان جسد فاطمة. كان بلا رأس! إنه جميع رؤوسنا المقطوعة.
لا هوية للجسد من دون شحوب الوجه، ولا يمكن التصديق أن الكاميرا استطاعت رمي تلك الطفلة هكذا. هل رمتها الطائراتُ، أم رمتها عين الكاميرا؟ أم الاثنان معاً؟ تحجب عنا عين الكاميرا خراب المكان المقصوف. لم يظهر أثر القصف إلى جانب جسد الطفلة المرمي. إنها الفظاعة النظيفة. كانت رجلاها صغيرتيْن مغلفتين مثل أصابع سكر، تشوب الحلاوة تلك قطرتا دم فقط! الفستان “المكشكش” أبيض وأزرق لم يمسسه تمزّق! كانت الطفلة الأنيقة ابنة التاسعة وكأنها ترتدي فستاناً للاحتفال بعرسٍ ما، في قريةٍ لم يسمع بها العالم قبلاً، لكن المقصود لم يكن فاطمة نفسها، إنما نقصانها وفراغ رأسها. تشبه فاطمة في إعلان موتها المكان الذي تنتمي إليه، قرية صغيرة في ريف مهمل! والمنسيون في تلك المجزرة مثلها، صاروا في عتمة الذاكرة كذاك الرأس المنقوص.
هل يذكر أحد منّا عندها أم “فاطمة”؟ كان اسمها “نادية”، وهي لم تنجُ من الموت. كانت الرحمة بها وافرةً عندما لم ترَ صورة طفلتها. غرق اسمُها في النسيان، وبقيت الصورة الأشد هولاً، لتعلن عن المجزرة. قال الفرنسي جان لوك غودار عندما سُئل عن تصويره الواقع: “السينما ليست استنساخا للواقع. ولكن إذا سجلنا هذا النسيان، يمكننا عندئذ التذكّر، وربما الوصول إلى الواقعي”. ربما كانت صورة نادية مغلاج من الصور الأقل هولاً في تلك المجزرة، وتسجيل نسيانها فعل إعادة للذاكرة. هي دنيازاد الصورة المضمرة.
السؤال هو: لماذا يصوّر إنسان هذه الفظاعة؟ لم قام أحدهم بتصوير تلك اللحظة؟ لم يريد من نجا من الموت في المجزرة تحويل ضحاياها إلى مسرح للفرجة؟ كان عرض جسد فاطمة فعل إثبات وجودٍ عبر صورة الموت. وجود يتمثلونه بصورهم كموتى. كانت فرصتهم لإشهار حقهم في الحياة. إنه حقيقة وجودهم الحاصل لهم! في المقابل، كان هناك الطرف الآخر الذي يقول، منذ شهر آذار سنة 2011، إنهم يموتون لأنهم إرهابيون. متوحشّون. متآمرون وخونة. وُجب على أهالي القرية تكذيب ذلك. كانت الكاميرا أداةً لردع الشر عنهم والدفاع عن أنفسهم. وكانت ديمقراطية الصورة الرقمية، والتي أستعيرها من المفهوم السطحي لديمقراطية التلفزيون، تقول إن الناس قد امتلكت الحق في الكلام وفي التصوير، وامتلكت فضاءً كان محبوساً عنها. لقد أدارت الثورة الرقمية، ومن قبلها الصورة، واحدةً من معضلات الحوار البشري الذي لم نعرفه منذ أيام الإغريق، حتى أن سوزان سونتاغ عبّرت عن ذلك بقولها: “إن البشرية خرجت من كهف أفلاطون بعد الصورة الفوتوغراف“.
كان الحوار والتواصل في التلفزيون يقوم على فكرة المتلقي الذي لا يملك حق التعبير، حيث
هناك شبكةٌ واسعةٌ من الصور التي تقدم تفسيراً لما يحصل من حولنا في العالم. ولم يكن من مجالٍ لإجراء رد فعل معاكس لآلية تلقّي كمية كبيرة من المعلومات، على الرغم من الحرية في خيار القفز بين القنوات (أو الـ Zapping)، والتي تدفع إلى الخضوع لمبدأ المنافسة على الجمهور (الـ Audimat)، وهذا ما يعطي إحساس الحرية للمشاهد الذي يملك جهاز التحكّم عن بعد. كانت حدود حرية المتلقي تقف عند هذا الحد من الاستهلاك، ولاحقاً مع إمكانية استخدام الصورة الرقمية، واستعمالها في التوثيق، وفضاءات وسائل التواصل الاجتماعي، صار بالإمكان توفير القدرة على امتلاك حق الرد، وحق الوجود، وحق تغير الحقائق والطعن بالأكاذيب عبر أشخاصٍ لا يمثلون مؤسسات إعلامية، ولا شبكات أخبار تلفزيونية، وقد لا يمتلكون الخبرة والتجربة والمعرفة.
اختلفت العلاقة بين البشر بمفهومها المتعارف عليه، الذي مثّله عصر التلفزيون. نحن الآن في عصر الهواتف الذكية، وتطبيقاتها المرتبطة بسرعة مدهشة، مع وسائل التواصل الاجتماعي، الذي يشكل مجتمعاتٍ افتراضية متجاورة، لكنها حقيقية جداً أيضاً! لدى كل شخصٍ جهاز هاتف نقال ذكي، أصبح مشروع مصوّر وصانع فيلم صغير واقعي عن كل ما يحيط به.
إذن، صار بإمكان شاب فقير في قريةٍ نائيةٍ في ريفٍ أن يخبر العالم كيف تقصف أهله الطائرات، وقد يعرض جثثهم ليخبر حكايته. حقيقة لم تكن هذه فقط ديمقراطية الصورة الملتبسة، بل هي انفجار شعبي للتعبير عن الذات والأنا، ولإيصال مظلوميةٍ ما، بأسرع الطرق وأبسطها. ضغطة زر واحدة تفي بالغرض. هذا عالم السرعة الرقمي! وهو نفسه العالم الذي قد يجيّش تقنيين بالآلاف، تابعين لمؤسساتٍ وحكوماتٍ لترويج الصور أو لدفعها أو منعها عن “الجمهور“.
وإذا ما عدنا إلى صورتنا، نجد جسد فاطمة القتيلة واضحاً، بينما تغيب صورة القاتل. أخمّن أن أحداً لا يستطيع تصوير اللحظة، والسهولة التي يضغط بها الطيار على زر الإطلاق مثلاً؟ كيف كان وجهه؟ بم كان يفكّر لحظة إطلاق القذائف أو رمي البراميل؟ لماذا لدينا لحظة تصوير الضحية، ولا يمكن لنا امتلاك لحظة الإجهاز على الضحية؟ تظل صورة القاتل مجهولة، وهو ما يجعلها أكبر وأضخم في عقولنا، بينما لا يمتلك المقصوفون إلا صورهم عن أنفسهم كضحايا. لقد صدّقوا أنهم ضحايا، لأن حقهم في النسيان لن يكون، حقهم في النسيان القادم، والذي يعني أن تكون أمامهم فرصة للعدالة. فالنسيان جزءٌ منه العدالة، والعدالة جزءٌ منها الذاكرة التي قد تعيد الحق للضحايا، وقد تحاسب مجرمي الحرب هؤلاء. ولكن هذه ليست صورة لاستخدامها قانونياً في مراكز توثيق، وهي ليست وثيقة إثبات، لأنها صورةٌ يمتلكها الناس، وهي جزء من يومياتهم، ولا تُؤخذ للحفظ في سجلاتٍ بعيداً عن الأعين. لا بل هي الأعين نفسها، وأصحابها لا يتوقفون عن الموت، فكيف إذا كانت الكاميرا بين أيديهم. لن يتوقفوا عندها عن صرخة استغاثةٍ، وهم منذ سبع سنوات يوثقون موتهم. كانوا يفعلون ذلك، بعد مضي أشهر على تصوير مظاهراتهم ورقصاتهم وابتهاجهم وغبطتهم بفعل التمرّد الذي خلقوه. كان لهم أخيراً الحق في الكلام والتعبير والانتفاض. لهم الحق بالكرامة والعيش، والأبعد من ذلك الحق في الإشارة إلى ما يحصل لهم، وما تصوير موتهم إلا جزء من تمردهم أيضاً.
بدأ الأمر هكذا، وبدا لهم مؤقتاً، لكنه سرعان ما تحول إلى جزء من حياتهم اليومية، بل بات جزءاً من الاستهلاك الذي تمثل في طلب السوق العالمية على الصورة السورية في عالم الصحافة والميديا. إنه سوق الموت وصوره المغوية والمثيرة. ثم طالت الحرب، وطال القهر والظلم. تحولت صور المجازر إلى شغلٍ شاغلٍ لمن بقي حياً، عبثاً يحاول تثبيت فكرة موته، وصارت الأجساد المقطّعة تُعرض بلحظيةٍ اعتياديةٍ غير مسبوقة. كان الموت أهون ما يمكن أن يحصلوا عليه، والأحياء الذين بقوا ظنوا أن بمقدرهم لفت أنظار العالم إلى ما يصيبهم حين يجري تحويل موتهم إلى فرجة، وليقولوا للعالم: انظروا، نحن نموت. نحن نتعرّض لإبادة أمام أعينكم، انظروا، أعميان أنتم؟ أين رأس فاطمة؟ تلمسّوا رؤوسكم “الشبح”؟
لقد وجدتُ، من خلال البحث في محرّك غوغل، عنواناً لسلسلة رسوم عن تمثيل جسد فاطمة، كُتب عليها “رموز الثورة السورية”. لا عجب أنها رأس ثورةٍ مقطوعة الرأس، أو لا عجب أنها رأس سورية المقطوع.
ثم جاء الغضب والقهر بعد صورة فاطمة، لحقه غضبٌ وقهرٌ وعجزٌ لم يتوقف منذ سنوات، وسبقه أيضا الغضب والقهر والعجز نفسها، مصنع الشر نفسه لم يتوقف. القصف ازداد عنفاً.
“كان على الواقع أن يتغيّر كي تتغيّر الصورة. كان على القصف أن يتوقف. هذا هو الطبيعي. انظروا إلى هذه الوحشية”. هذا ما أراد أن يقوله لنا المصوّر، ولنا أن نتساءل هنا: أيمكن لمن التقط الصورة امتلاك ما يكفي من العقل للتفكير وهو يموت؟ نستطيع نحن وراء شاشاتنا الافتراضية امتلاك رفاهية عدم نشر تلك الصور، إلا أنهم يموتون، ولا يملكون سوى توثيق موتهم.
هل في لحظة المجزرة، علينا أن نطالب بميثاقٍ أخلاقيٍّ يضمن حق السوريين بتوثيق صورهم
بشكل كريم؟ من ضغط زر الكاميرا هو جزء من المجزرة، هو ناجٍ منها، وهو نفسُه لا يستطيع تصوير وجه القاتل، وهو نفسُه من حوّل هاتفه النقال أداة إعلام، فهو بحوزته دائماً. من يريد أن يلوم الضحية الناجية على توثيق صورة الضحية الميتة؟ إنه سؤالٌ مفتوحٌ على الرغم من أن الصورة السورية نفسها صارت مجالاً حيوياً للتجارة والتزوير والتلفيق، ولكنها أيضاً تحولت إلى مجالٍ خصبٍ للبحث والتفكير والتنظير، فإنها تلخص بكثافةٍ صورة عالمنا الجديد، ولعلها مسرح الموت الأكثر تراجيديةً وتعقيداً وعنفاً في عصرنا الراهن.
من جهة ثانية، يجب القول إن العيون التي اعتادت النظر الى صور الجثث والضحايا الممزقة الاشلاء لم تكتف بالنظر، كان هناك آلافٌ من الصور المتدفقة عن الموت السوري، وتراجعت صورة جسد فاطمة، لتحل محلها آلاف الأجساد. كان لدينا عامل الزمن الذي طال وراكم الصور الوحشية أمام الأعين، وعامل إشاحة النظر عن يد القاتل الحقيقي، بما شكّله الموقف الدولي والإقليمي من القضية السورية المتروكة، والتي، في أحسن الأحوال، تم التدخل فيها لصالح استمرار فعل الموت. لقد شاهد العالم وجه القاتل، وعرفه وأشاح النظر، ثم إن الأعين التي تبحث عن ذلك المجهول المسمّى موتاً لم تتوقف عن النظر. الأعين المراقِبة التي تُوقف آلية النشاط الدماغي والذهني. إننا لا نتنفس أمام صورة فاطمة، لا نرى ولا نفكر. إننا مخطوفون فقط. لا ننفعل كما يحصل في أثناء الخوف. نختنق فقط.
ستتوالى الصور، سُنرهَق ونتعب، وسنحفظ كل يوم في الذاكرة صورة نقصان رأس فاطمة. ويوماً بعد يوم، سيكون رأسُنا محشواً بالرؤوس والأشلاء والفظاعات المُخدّرة التي تحوّل الصور نفسها إلى جزء عادي من آلية استقبال دماغنا فكرة الألم والفظاعة. إنها جزءٌ منا، تعيش معنا وتستقر كجزء طبيعي في العقل والتفكير. إن العالم الواقعي ينزاح هنا، تصير الصور المتلاحقة جزءاً من إدراكنا الواقع، وكأن واقعنا هو الموت فقط. إننا بتحويل صور الضحايا الفظيعة إلى فرجةٍ مستمرة، خلال بحثنا عن دليل لعدالة قضية، قد نجعل من هذه الصور ممحاةً للتعبير عن تلك القضية، إذ علينا ألا ننسى أن السرعة التي يقتضيها توالي صور الموت السوري تماشيها السرعة الاستهلاكية الجنونية في صور تمثلات حيواتنا الاستهلاكية، من دعايات وإعلانات وموضة… إلخ. إنه مجتمعُ الصور المتدفق كجيش من الجراد. كان الشاعر الفرنسي، برنار نويل، الساخط على عالم ما بعد الرأسمالية، محقاً حين قال: “الإهانة التي نلحقها بصورتنا وأنفسنا تكون منظمةً من السلطات العليا إلى درجة أنه يتم استخدامنا فيها“.
ما حصل مع موت السوريين الموثّق، كصورة رأس فاطمة تلك الظهيرة، شبيهٌ بحالة قرص نيوتن، حين تدور الألوان السبعة، وتظهر واضحةً في البداية، ثم تتحول بالسرعة إلى لونٍ أبيض، فتختفي الملامح وتتعذر قراءة اللون. وتسارُع صور الموت بهذا الجنون جعل نطاقها لا يقف عند حدٍّ وفاصل، ليتداخل فيها مفهوم الخير بالشر، وتتماهى صورة القاتل الغائبة بصورة القتيل الحاضرة. لقد صوّر السوريون موتهم، حتى صارت تمثلاتهم عن أنفسهم هي صورة الموت التي دخلت في علاقات الأحياء ببعضهم بعضا، فصارت عاملاً محرّضا لنزعةٍ تدميريةٍ فيما بينهم أحياناً.
أطلق السوريون صرخة الاستغاثة والحشرجة. طارت بهم الأرض، انفصلوا عن الكوكب، وعامت صورهم مثل طوف خوسيه ساراماغو الحجري. لكن طوفهم هذا كان سائلاً على طريقة زيغموند باومان في وصف عالمنا الحالي، وبدلاً من أن تكون أداةً في مصارعة الشر، تحوّلت الصورة إلى إعادة إنتاج جزءٍ من هذا الشر المختوم بعلامتَيْ العصر: السرعة والإمحاء.
تلك الصور، صور موتنا الوحشي، في أحسن أحوالها، جعلت الشر اعتيادياً، وأفقدتنا من جديد حق الكرامة.
العربي الجديد