سأضحك كثيراً في رأس السنة/ رشا عمران
ما الذي يمكن أن تفكّر فيه امرأة وحيدة في منتصف خمسينيتها، والعالم يتهيأ لاستقبال عام جديد، لا شيء يدل على أنه سوف يكون أفضل من الأعوام السابقة، للبشرية، ولنا نحن، مجاميع وأفرادا، سكان البقعة المنكوبة المسماة عالما عربيا؟ ما الذي يمكن لامرأة عربية خمسينية، تعيش في العالم العربي، ومنفيّة من بلدها، ولا تملك بيدها أي طرفٍ لأمل في العودة إليه، ولا حتى لتحظى فيه بقطعة أرضٍ صغيرةٍ تتسع لجسدها حين فنائه، قطعة أرض بحجمها يصدف أنها تحت شجرة سنديان أبدية الخضرة، يمكن لنسغها أن يمتصّ خواص الجسد الفاني، فتعود هي على هيئة ثمرة (دوّام) أو بلوط، كما يعرفها الجميع، يأكل نصفَها سنجابٌ بلدي، بينما تتناهب نصفها الآخر عصافير الدوري المستوطنة هناك.. هل من جمالٍ أكثر من أن يتحوّل الكائن في حياة أخرى، لو قيّض له أن يتحوّل إلى ثمرةٍ تأكلها العصافير، وهي تزقزق بسعادة؟
أفكر في السنة الماضية التي مرت علي من دون أحداث شخصية تذكر، من دون أي أثر مهم، سنة (فلات) إن استطعنا إطلاق هذه الصفة عليها، ليست هادئةً، لكنها ليست متوترة، لا إنجازات فيها، لا سعادة، لا حزن، لا حب، لا عداوات، ولا صداقات جديدة. كل ما فيها هو إرث السنوات السابقة، هل في سياق وضع السوريين، يمكن القول إنها كانت سنة جيدة لي؟ فنحن، السوريين، أصبحنا نعتبر الحياة عادلة معنا، حين تمر أيامُنا من دون أحداثٍ شخصيةٍ تذكر، فأحداث حياتنا تنبع من منطقة واحدة، منطقة الحزن واليأس والقهر والموت، وكأن لحياتنا جهة واحدة فقط. كأن الجهات الأخرى قد سقطت كلها بسقوط أحلامنا. كأن من حوّلوا الحلم إلى دماء، وسورية إلى مقابر، كسروا الاحتمالات الأخرى تماما. لم تعد ثمّة طريقة لترميمها، أو هيكلتها من جديد.
علي إذا أن أمتنّ للحياة، لأنها لم تضعني العام الماضي في مهب الحوادث. علي أن أرى نصف الكأس الممتلئ، كي لا أستدعي ما هو سيئ، إذ يقال في علم النفس إن معظم ما يحدث معنا يكون لاوعينا قد استدعاه سابقا.. تخيلوا لو أن مقولةً كهذه حقيقية! سيكون أن لاوعي السوريين والعرب، عموما، منذ مئات السنين، وهو يستدعي البؤس والقهر والخراب والموت والظلم، حتى أتى بكامل موكبه وجهوزيته، كي يحضر لنا ما طلبنا! يا للمهزلة حقا.
ما من جديد أيضا على الصعيد العام. لم يحدث ما ليس متوقعا عند العرب وفي العالم، حتى احتجاجات السترات الصفر لم تكن مفاجئة، فالتوحش الرأسمالي يصل إلى أقصاه في فرنسا، في معظم أوروبا، في العالم أجمع، التوحش الرأسمالي والتطرّف الأيديولوجي، ديني وقومي، ومنطق الشركة الضخمة التي يتم بها حكم العالم. لا جديد أيضا عند العرب، الإجرام فقط نوّع وجوهه، لكنه لم يكن جديدا، فالعرب يعيشون، منذ سنواتٍ طويلة، عهد الإجرام، يضاف إليه حاليا أن المجرمين يملكون صفةً أخرى، جنون العظمة، وكأن الثورات العربية أظهرت كل جنون العظمة لدى الحكام العرب، فعملوا ما في وسعهم لإحداث ثوراتٍ مضادّة، نتيجتها ما نراه اليوم في بلادنا.
ما الذي يمكن لامرأة وحيدة في منتصف خمسينيتها أن تفكّر فيه، عشية وداع سنة عادية مرت عليها. هل من باب اليأس أن أفكّر في الحياة التي تتسرّب من بين أصابعي كما الماء، وما زال كثيرٌ مما أريد فعله ينتظر خطوتي نحوه، خطوتي المتردّدة كما لو كان أحدٌ يجرّني نجو الخلف، وأنا أقاوم قوته بلا فائدة؟ أفكر أنني ربما نجوت من الحرب، من الموت أو الاعتقال أو الخطف أو الضرر أو أي شيء مما كان يمكن أن يتعرّض له من بقوا في سورية، لكن أثر الحرب مديدٌ وواسع الطيف، ثمّة منطقة في جوفي الباطني دخلتها الحرب، وتركتها مدمرة، مثل أي مكانٍ دمرته هناك، يمسك بي، ويجعلني حياديةً تجاه ظل الأشياء. هل هذا ما أرادوه لمن منا لم يمت موتا ماديا؟ ربما.. يقول لي صديق مصري: لم ينجُ أحدٌ من العرب من تداعيات ما يحدث. تقول صديقة أردنية الكلام ذاته، أصدّقهما وأصدّق نفسي، وأنا أتابع انتصارات الأنظمة العربية علينا، نحن الشعوب التي ابتليت بكل شرور الأرض.
سأرى نصف الكأس الملآن عشية رأس السنة، قلت لصديقتي المصرية: سأذهب معك إلى السهرة، وسأستقبل السنة الجديدة بضحكة. من يدري، ربما تصدق مقولة علم النفس “ما يحدث معنا يكون لا وعينا قد استدعاه سابقا”. سأضحك كثيرا في ليلة رأس السنة، إذ ما نحن فيه لا يعبر عنه سوى بكاء مرير أو ضحكٍ يهزأ من هذا العالم المنحط.
العربي الجديد