بيوت للشعر مشرقا ومغربا والشاعر لا يزال يبحث عن القارئ/ مفيد نجم
لو كان بإمكاننا توصيف حال الشعر العربي اليوم، يمكننا أن نختصره في كلمة واحدة هي “المفارقة”، حيث يعيش الشعر مفارقة غريبة، فمن جهة ارتفع عدد الشعراء والتجارب الشعرية، ومن جهة ثانية تراجع نشر الكتب الشعرية بشكل لافت، ومن جهة أثبت الشعر قدرته على مجابهة العصر المتقلب لكن تداوله تراجع أيضا، سلسلة من المفارقات يعيشها الشعر العربي تحتاج إلى وقوف على ملامحها.
كثيرة هي الأسئلة وقليلة هي الإجابات، هذا ما يمكن أن يخلص إليه المتابع لأحوال الشعر في هذا العام، والسبب هو غربة الشعر التي أصبح يعيشها، في واقع كان يتقدم على ما عداه من فنون أخرى. تبحث في إصدارت الكثير من دور النشر فلا تجد للشعر فيها مكانا، وتراجع الأعمال الفائزة بأهم جوائز الأدب العربية، فيكون الشعر هو الغائب عنها، وتفتش عن الإصدارات النقدية الخاصة بدراسة الشعر فلا تجد إلا القليل منها، وتسأل القائمين على بعض المجلات الثقافية، عن أسباب ضعف ما ينشر، فيقول لك بحسرة هذا أفضل ما وجدناه بين ما يرسل لنا.
فمن المسؤول عن هذا الواقع الذي أصبح يتكرر في كل عام، الشعر أم الشعراء أم الذائقة الجمالية، أم وسائل النشر، أم هي جناية قصيدة النثر على الشعر؟
لا أظن أن الإجابة عن هذا السؤال صعبة، لأن الشعر، في أحلك مراحل التاريخ الإنساني وأشدها رعبا ومأساوية، كان الروح التي تتمرد على شرطها، وتؤثث بالجمال عالم الخراب، أما قصيدة النثر التي شكلت إحدى ثورات الشعر الحديث في العالم، فمن غير الممكن أن نعتبرها هي المسؤولة عن هذه الحال، خاصة وأن هناك تجارب مهمة، استطاعت أن تفرض حضورها وتتحول إلى معالم مهمة في تاريخ هذه القصيدة.
مفارقات شعرية
إذا ثمة خلل في العلاقة مع هذه القصيدة، وثمة خلل أكبر في علاقة البعض مع الشعر كتجربة مفتوحة، تستدعي الاجتهاد والمثابرة المستمرة، وقبل كل هذا تطوير العلاقة مع اللغة وأسرارها، لأن مغامرة المخيلة هي مغامرة في اللغة ومعها، تستدعي تفجير طاقاتها، ومعرفة جماليات تشكيلها.
وفي الوقت الذي ساهمت فيه وسائل التواصل، في تحطيم جدار الرقابة على الشعر، فإنها خلقت حالة من الفوضى، بعد أن أصبح بمقدور من يشاء النشر تحت مسمى الشعر، من أجل الشهرة، في وقت تخلى فيه النقد عن وظيفته، في تسليط الضوء على التجارب المهمة، أو إغناء وتطوير مفاهيم الكتابة الجديدة في الشعر.
ما يثير الدهشة في هذا العام هو كثرة ما ينشر من شعر، وكثرة ما يظهر من أسماء جديدة، حتى تحول البحث عن الشعر الحقيقي في هذا المشهد، أشبه بالبحث عن معدن ثمين في منجم. فهل أصبح الشعر مع قصيدة النثر، التي لم تستطع أن تخلق حركة نقدية متجددة تواكبها، وسيلة للبحث عن الشهرة، وادعاء الإبداع، في وقت يبدو فيه حجم ما يباع من أغلب ما ينشر من دواوين جديدة مخيبا جدا، إن لم يكن محزنا. والسؤال إذا أي غواية تقود البعض لخوض هذه المغامرة، التي أصبحت تستنسخ بعضها البعض، أو تتحول إلى حالات من التهويم، بصورة أفقدت الشعر قيمته الجمالية والبلاغية والروحية.
المفارقة الأخرى أن هذا العام شهد تزايدا واضحا في عدد بيوت الشعر في مشرق العالم العربي ومغربه، كما تزايدت مهرجانات الشعر والجوائز التي تكرّم مبدعيه، وهذه إضافات مهمة لتحفيز الشعراء على تطوير تجاربهم وتعميق علاقاتهم بجمهور الشعر، لكن وعلى الرغم من ذلك، ما زال الشعر يبحث عن قارئ.
لقد أدرك العديد من أصحاب التجارب الشعرية المعروفة هذه المعادلة، فمضوا نحو الرواية فكان أن ربحت الرواية مساهمات سردية جديدة، وخسر الشعر، فمن المسؤول عن هذا أيضا؟
لقد ساهم تراجع حضور الشعر في الثقافة العربية، وتراجع القيمة الإبداعية للعديد من التجارب في انصراف النقد والنقاد عن دراسة هذا الشعر، خاصة وأن مغامرة في هذا الاتجاه ستثير الكثير من الجدل والخلاف، وهو ما يؤثر النقاد الابتعاد عنه، في زمن نهوض الرواية والإقبال على قراءة كتب النقد المتعلقة بها تنظيرا وتطبيقا.
قد تبدو هذه الصورة الرمادية لعام مضى من الشعر قاسية في توصيفها لواقع الحال، أو هي مقاربة، فيها الكثير من التحامل على راهن التجارب ومنجزها كما قد يرى البعض. لكن من يدلنا على أسباب غربة الشعر وندرة قرائه، في وقت يعجز المتابع عن معرفة عدد الشعراء في بلد واحد لكثرتهم. صحيح أن الشعر في كل مراحل التاريخ كانت تتفاوت مستويات التجربة فيه بين شاعر وآخر، لكن لم تكن التجارب الإبداعية الحقيقية، في أي وقت هي الاستثناء، كما هو الحال الآن.
على خلاف التوجه العام لأغلب دور النشر العربية قامت دار المتوسط بميلانو الإيطالية بتخصيص جزء كبير من منشوراتها للشعر، خاصة للأسماء الجديدة. وتعد هذه المغامرة محاولة من هذه الدار لاستعادة حضور الشعر في سوق الكتاب العربي، وفي الثقافة العربية بعد أن أصبحت أغلب هذه الدور تعزف عن نشره، في وقت تقبل فيه على نشر الأعمال الروائية المترجمة والعربية على حد سواء. ويمكن القول إن هذه الدار كونت مكتبة مهمة من هذه الإصدارات، يمكن لمن يريد متابعة الحركة الشعرية العربية أن يعود إلى منشوراتها، خاصة وأن النشر فيها مفتوح أمام الشعراء العرب جميعا. ومن أجل الحفاظ على سوية إبداعية في ما تنشره من إصدارات، شكلت الدار لجنة قراءة مكلفة بمطالعة المخطوطات المقدمة للنشر وإبداء الرأي بمدى صلاحيتها للنشر.
والحقيقة أن هذه المغامرة التي قامت بها دار المتوسط، تشكل امتحانا كبيرا لها على مستوى الاختيار في عملية النشر، لأن رهانها يجب أن يكون على القيمة الجمالية لهذه الأعمال، وبذلك تحقق هدفين في آن معا، خدمة الشعر والتجارب الجديدة، والنجاح في رهانها على استعادة قارئ الشعر.
الإصدارات الشعرية
يتابع الشاعر العراقي المعروف صلاح فائق إصدار جديده، وقد صدر له عن دار الأشباح في الفلبين ديوانان هما “كتابة” و”أحوال”. كما صدر للشاعر والروائي السوري سليم بركات ديوان جديد بعنوان “تنبيه الحيوان إلى أنسابه”، وللشاعر السوري نوري الجراح ديوان “نهر على صليب”، إضافة إلى صدور الطبعة العربية الثانية من ديوان “قارب إلى ليسبوس وقصائد أخرى” عن دار المتوسط.
كما نجد إصدارات شعرية أخرى نذكر من بينها “لا وجه في المرآة” للشاعر اللبناني عبده وازن عن دار المتوسط، وعن نفس الدار صدر ديوان “عودة آدم” للشاعر عبدالرحيم الخصار و”الفهرس السوري” للشاعر السوري علي سفر.
كما قدمت دار المتوسط باقة أخرى من الدواوين الشعرية نذكر منها “غيابك ترك دراجته الهوائية في الباب” للشاعر السعودي محمد الحرز، و”أغنية للذبول” للشاعر الفلسطيني- السوري راسم المدهون، و”يا حياة أتوق إليك فتجيبني أتوق إليك” للشاعر اللبناني شربل داغر، و”في الزمن وخارجه” للشاعرة لمياء المقدم، و”الديوان الغربي للشاعر الشرقي” للشاعر العراقي عبدالزهرة زكي.
وصدر أيضا ديوان “أصافح ظلي” للشاعر اليمني حسين مقبل عن دار الآن ناشرون وموزعون، وديوان “قهقهات الفتى الأخرس” للشاعر اليمني محمد اللوزي عن دار ميارة بتونس.
كما صدرت دواوين “متاح للمشاهدة” للشاعر المصري أسامة حداد عن الهيئة العامة للكتاب بالقاهرة، و”الأعمال الكاملة لإنسان آلي” للشاعر المصري شريف الشافعي عن دار بتانة بالقاهرة، و”صمتك كثير وظهيرتي لزجة” للعراقية فيء ناصر عن المؤسسة العربية للنشر بعمان، و”سماء لطائر من ورق” لمؤيد نجرس عن المؤسسة العربية للنشر، و”الأعمال الكاملة” في طبعة جديدة للشاعر عبدالمعطي جازي عن قصور الثقافة بالقاهرة، و”الأعمال الكاملة” للشاعر اللبناني الراحل بسام حجار عن دار الرافدين العراقية وتكوين الكويتية.
رغم تراجع الإصدارات النقدية المخصصة للشعر شهد هذا العام بعض الكتب التي تناولت راهن الشعر العربي وقضاياه، فنجد مثلا كتاب “ما الشعر” للشاعر المصري رفعت سلام الصادر عن الهيئة المصرية للكتاب، وكتاب “النزوع الدرامي في شعر نوري الجراح” للناقد التونسي أيمن باي عن المؤسسة العربية للنشر، و”ظاهرة شعراء الظل” لعلوي الهاشمي عن نفس المؤسسة. كما صدر كتاب “جمالية التلقي في الكتابة الشعرية: من العتبات إلى المتن” لماجد قاسم مرشد عن منشورات مقاربات.
جوائز ومهرجانات
شهدت المسابقات الشعرية تطورا ملحوظا، واللافت أنها أصبحت تغطي مساحات واسعة من العالم العربي بعد أن كانت تقتصر على جوائز محددة وبلدان بعينها، ما يتيح أمام الأصوات الشعرية العربية أن تنال نصيبها من التكريم. وقد شهد هذا العام مجموعة من هذه المسابقات من أهمها كانت مسابقة ديوان العرب الشعرية، التي رعتها مؤسسة عبدالعزيز سعود البابطين الثقافية، ومسابقة سوق عكاظ الدولية للشعر العربي الفصيح، وجائزة الديوان الأول للشعراء الشباب، التي رعتها جهات ثقافية متعددة منها بيت فلسطين للشعر والثقافة. وجائزة السنوسي الشعرية، التي أشرف عليها مجلس التنمية السياحية في جازان، ومسابقة الشعر العربي: جائزة الشاعر عبدالرزاق عبدالواحد.
ساهمت بيوت الشعر التي انتشرت بصورة ملحوظة في بلدان المغرب العربي في تأكيد الدور الهام، الذي تلعبه في تأكيد حضور الشعر، والتعريف بالأصوات الشعرية وتعزيز العلاقة بينها وبين جمهور الشعر. ويأتي مهرجان الشارقة للشعر العربي الذي تحول إلى تقليد سنوي، يستقطب مجموعة من الشعراء العرب، في طليعة هذه المهرجانات وأهمها، خاصة وأن المهرجان تواكبه حلقات بحث نقدية تختص بأحد مواضيع الشعر، كما هو الحال بالنسبة لموضوع التناص، الذي شاركت فيه مجموعة من الأكاديميين العرب، في مهرجان هذا العام.
ومن المهرجانات الأخرى مهرجان قصيدة النثر، الذي أقيم في إتيليه القاهرة، وشاركت فيه مجموعة من شعراء قصيدة النثر المصرية وشعراء من المغرب، وقد شهد المؤتمر ثماني أمسيات شعرية، وعقدت على هامشه ندوة نقدية، ناقشت قضايا جماليات قصيدة النثر، وتشكيلاتها الإيقاعية وإشكال تلقيها في مصر. كما عقد مهرجان القدس العاشر للشعر والثقافة الذي نظمته مجموعة المنتدى الأدبية، في بيت لحم بالتعاون مع وزارة الثقافة الفلسطينية. ومهرجان ربيع الشعر العربي الذي أقامته مؤسسة عبدالعزيز البابطين في شهر مارس بالكويت.
وكذلك مهرجان الشعر العربي بمراكش الذي احتفى بالتنوع الثقافي المغربي، وكرّم المرأة المبدعة من خلال ثلاث مبدعات، تلته ندوة نقدية تناولت موضوع أسئلة الهوية في الشعر المغاربي.
وعقد في يافا مؤتمر يافا الثقافي الذي احتفل بإشهار عدد من دواوين الشعر الجديدة، وشاركت فيه مجموعة من الشاعرات والشعراء. وأقيم مهرجان القيروان في مدينة القيروان، شارك فيه شعراء من تونس والوطن العربي، يمثلون تجارب وأعمارا مختلفة.
كاتب سوري
العرب