راقصات شرقيات.. يروين أخبار الرغبة ورسومها وطبقاتها/ وضاح شرارة
يعرض محمد الحجيري (العشق السري/ المثقفون والرقص الشرقي، رياض الريس للطباعة والنشر،2018) على “السواح” معارض قوية الشبهه ببعض الحوانيت القديمة، ويجاور بين “قطع” متباينة المصادر ومتفرقة الدلالة. فيقف ثماني صفحات (44-49 ثم 51-52) على أجزاء الرقص الشرقي، حركات ومواضعَ جسد ولباساً وصوراً وإيقاعاً ومراحل، ولا يعود إليها في مواضع أخرى من تناوله رقصاً بعينه في دَوْر سينمائي. ويتطرق إلى شارع محمد علي، وهو شارع الحانات وعلب الليل في أواخر العهد الملكي، ويحصي الحانات وأصحابها وصواحبها ونجومها. ويتركه إلى شارع (أو محلة) الهرم الذي خلفه، من غير مقارنة ولا وَصْلات. وقولي هذا ليس من باب التقويم أو تسويغ الرأي، بل هو أقرب إلى تبريري تخصيص مادة دون مادة بالانتباه. فإن كانت سياحة، من غير دليل فلماذا لا أكون دليلَ نفسِي؟
وعليه، أرى أن السير، سير الحياة، التي أرخت لتحية كاريوكا وبديعة مصابني وسامية جمال وسعاد حسني (وهي حبة في غير عقدها وناقة في غير سرحها!) وسهير زكي- وأترك ماتا هاري وشاكيرا على حدة- تُجمعن على وقائع وحوادث يشترك فيها، وقد تكون مدخلاً أو باباً على موضع الرقص الذي احترفته من الحياة الاجتماعية وعلاقاتها ومعاييرها في زمنهن. فتحية كاريوكا، وهي فعلاً بدوية محمد أبوالعلا النيداني كريم، ولدت، في قرية المنزلة بجوار الاسماعيلية، لوالد بدوي من أصول حجازية تزوج سبع مرات، آخرها زواجه بوالدة بدوية/تحية الأرملة الفتية فاطمة الزهراء. وتوفي والدها عنها بُعيد ولادتها، فتعهدتها جدتها لأبيها، وأنتزعها بكر إخوتها من أبيها، واستخدمها في بيته لزوجته المالطية، وقطع مدرستها. فهربت وهي في الرابعة عشرة الى “أرصفة القاهرة”، وإلى محطة القطارات، وأرادت رمي نفسها تحت العجلات، وترددت إلى مدرسة رقص (؟) ثم إلى بديعة مصابني “ملكة الليل” ومدربة الرقص، واقتبست رقصة الكاريوكا البرازيلية… وفي أثناء نحو العقود الستة التالية تزوجت النجمة المتلالئة زواجاً موثقاً ومدوناً بأثني عشر رجلاً (” أكثر من 12 مرة”، ص61 )، عددهم ضعفا عدد زوجات أبيها قبل زواجه بفاطمة أمها. وأزواجها على أنحاء وأبواب: الغني والمليونير والضابط الأميركي والمخرج السينمائي والطبيب والنجم والمطرب والموسيقي والرياضي والطيار… وكلهم قالت فيهم أنها لم تحب أحداً منهم “على الإطلاق (فهم) كانوا مجموعة رثة من الأوغاد”.
ويسكت المؤلف (شأن مصادره؟) عن حياة الفن ومجتمعه، على قول الصحف الكثيرة التي تعقبت أخبار أهله، في ثلاثينات القرن العشرين، في المجتمعات العربية، سكوته عن ملابسات زيجات تحية. وهذا الوجه- وجه التصدع العائلي والسكني والمعاشي والتعليمي في أطراف المجتمع المصري وهوامشه (بداوة الوالد والأم، رثاثة الشطر المصري من الاسماعيلية، استخدام الأخت من الأب في منزل الأخ، موضع جماعة “أهل الفن” من الجماعات الأخرى)- عامل راجح في ندب فتيات دون أخريات الى مزاولة الرقص على الوجه المصري الذي يزاولنه عليه. فالفتيات المصريات الشابات اللائي يحترفن الرقص إنما “يختارهن” (على قول إميل دوركهايم في المنتحرين، دلالة على علاقة سببية احتمالية بين الفرد والجمهرة) مجتمعهن في جماعات دون أخرى، أو يغلب اختيارهن في هذه الجماعات. وتصدر تحية عن دوائر حياة تضعف فيها ضوابط الأطر الزوجية على العلاقات الجنسية أو الجنسانية. وقد يترتب على كثرة الزيجات، وتفرق صنوف الأزواج ومصادرهم وسوابقهم، وعلى تقطع دوام الزواج وتقلب دوراته، انقطاع النسل، أي العزوف طوعاً أو كرهاً عن حمل الأولاد. وفي العشق السري إشارة واحدة إلى ولد من الراقصات الخمس، هو حمادة ابن سهير زكي في كلامها على اعتزالها الرقص باكراً (ص 185).
ويصدق هذا بعضه أو كله، في بديعة مصابني (1888 – 1974)، الدمشقية المولد لوالد يعمل في مصبغة، رحل باكراً وترك 7 أشقاء لابنته. وهؤلاء خسروا المعيل ومصدر الرزق بعد احتراق المصبنة وسرقة مجوهرات الأم. وفي السابعة، اغتصب “صاحب خمارة” يعمل شقيقها المدمن فيها، الطفلة. فتركت بقية الأسرة دمشق الى ماردين، فإلى شيخان في جبل لبنان “سيراً”، فإلى أميركا الجنوبة فمصر. وفي الأثناء احترفت الخياطة وخدمت في البيوت. وفي القاهرة، تنقلت بين الصالات في شارع عماد الدين، وشارع علي الكسار، بحثاً عن عمل. ورحَّلت والدتها الى دمشق تخففاً من وصايتها ورقابتها على عوائد ابنتها، وعلى أشياء أُخر. وعادت إلى بيروت “راقصة ومغنية” في مسرح فاروق، ثم إلى القاهرة صاحبة نوادٍ ليلية و”تياترو” وصالات وكازينو عمل فيها فنانون لا يحصون. وحكْمت بين أهل الفن وبين الفتوات في الاسكندية والقاهرة، وبين الزبائن من التجار والضباط البريطانيين وبين الفنانات. واستقدمت في الحرب، “الفتيات المشتغلات في النوادي الليلية من الأرياف ومن الخادمات السابقات” (ص94).
وروت سامية جمال سيرة “عائلة مشردة انفصل فيها الأب عن الأم وتزوج بامرأة أخرى، فلاقت سامية الذل عن يد زوجة أبيها” (ص 107)، وحاولت هذه تزويجها بالقوة، فهربت مرتين. وحين رقصت أولى رقصاتها المنفردة، تعثرت بكعبها العالي “فتعالت صيحات السكارى مستنكرة” (نفسه). وفي الصالات لم تر “سوى ذئاب كاسرة”. وكانت في جملة الباحثات عن “أدوار الكومبارس” في التابلوهات السينمائية. ولابست وقائع سيرتها رجالاً مثل فاروق وفريد الأطرش ورشدي أباظة. وتزوجت أميركياً “مليونيراً”… وكان والد سعاد حسني “مزواجاً”، وله من الأبناء 16… (ص 128).
ولا ينفك الكاتب، وكتّابُ السير الذين يستشهد رأيَهم والراقصات أنفسهن، شأن سعاد حسني (ص 152)، لا ينفكون يقابلون بين رقص شرقي يجاري الإسفاف والبذاءة والخلاعة… والجنس وبين آخر يترفع عن هذه ويتسامى عنها إلى “إيروسية” معلقة الرغبة الفجة لا إلى غاية وتميتها، على قول الشنفري الصعلوك (“أديم مطال الجوع حتى أميته…”). ويبدو القطع أو الفصل هذا متعسفاً ومخالفاً لمزاولة الرقص واجتماعيات الراقصات، وموافقاً لثقافة مترجحة بين مراتب الحكم الأخلاقي التقليدي وبين حداثة ترفع من قدر التقليد شرط تأويله وإقراره على معانٍ محدثة. والحق أن النساء “الشرقيات” الراقصات يُخترن، على معنى الاختيار الاجتماعي المعياري، من جماعات ضعيفة وطرفية، تختلط في مباشرتها الجنس أحكام تخرج على الأحكام المتعارفة والنافذة في العمل و”السترة” والزواج والمجيء والزواج والإنجال والمال وغيرها مثلها. وإشارة سامية جمال الى الذئاب السكارى، وتسويغ بديعة مصابني أداءها أدوار الغانيات والمحظيات بطلبها الثأر من الذين “مرغوا شرفها في الوحل”، يصف ما تضمره حالهن من جوار وقرب من جنس “بري”، ومن شهوات ثائرة. وسير الآباء قد تنهض قرينة على “وراثة ثقيلة”، على قول طبي، وتلمح من طرف غامض إلى سفاح هو ذروة المحرمات.
واختيارهن هذا يجيز في مجتمعات ترى المرأة كلها، أو بعضها في أحسن الأحوال، عورة وشراً، إباحة أجسادهن- من شعر الرأس إلى الخلخال والقدمين وبين هذه وذاك العنق والكتفين والذراعين ومنفرج النهدين، إلخ- للنظر وعرضها عليه. فهن يُطرحن من البيت “الحلال” ومن النسل أو النسب الصريح، وينفين من المصاهرة ومن حياة اجتماعية “سوية” (لا قوام لها من غير حرمة البيت، ومن غير الأولاد والأصهرة، وتمييز المحارم من خلافهم). والحجب عن النظر، والنهي عن المخالطة، واشتراط البكارة أو العذرية، والسكوت عن “جريمة الشرف” (اجتماعياً إن لم يكن قضائياً إلى وقت قريب)، كلها قرائن على كناية النظر وشهوته، تجويزاً أو حظراً، عن جسد المرأة كله وعن تداوله من غير قيد، أو الإيهام بانتفاء القيد.
والرقص النسائي “الشرقي” يخالف الإيهام هذا وينقضه. فهو، في أضعف صوره فناً، أداء أشكال ووتائر وإيقاعات ومواضع وإجابات ومجازات. وهو، على هذا، كلام ورسوم “أقوت”، على قول الشعر الطللي في بقايا المنازل، معانيها واستعصى فهمها علينا، نحن أهل الطبقات المتأخرة من الناس والأزمان. وما يؤيديه الرقص، ويلمح إليه أو يكني عنه، يتوسط في الأحوال كلها وقتين: وقت يقظة الرغبة ووقت قضائها أو ارتوائها. وفي الأثناء توقع رسوم الرقص المراحلَ الوسيطة، وتصف مواضع الرغبة “الماجنة”، أي المنتشرة على صفحة الجسد كله وفي ثناياه البارزة إلى النظر والخفية. فشعر الرأس في الرقص البدوي أو الغجري استعارة. ولا يعف التوقيع والوصف عن موضع واحد: الأظافر والأصابع والراحتين والساعدين والشعر المنسدل والفِرق في وسط الرأس والعينين تحت الحاجبين والجبهة تعترضها قلادة اللؤلؤ والأذنين تتدلى منهما الحلقتان أو القرطان…
ويمر الرقص بهذه المواضع كلها، لا يستثني موضعاً. فيقدم الموضعَ ويؤخره، ويبسطه ويقبضه، ويعرضه ويواريه، تباعاً، وعلى أوزان قد تشبه أوزان العروض، وتعاقب سكوناً بحركتين وثلاث حركات بسكون وحركة بحركة (ولا تعاقب بين سكونين!). وهذا داخل رسم مشترك يلم شتات التوقيعات في حركة “كبرى” تسري على شاكلة استدارات وانعطافات وانثناءات في الجسد كله، وتجمع العينين إلى الفم فالكتفين… إلى الكاحلين فأطراف الأصابع. ويتوسل الجمع بمجازات حيوانية: مثل الأفعى والفراشة والنمرة، على مثال كتاب “الكاماسوترا” الهندي. ولا يستثني المجون، على معنى نفي التخصيص العضوي والتناسلي على وجه التعيين، التشبيه الذكري. فطاقية ابن البلد على الرأس، والنبّوت على الكتف، وإيماء الأزعر (الغلام) بطرفه وغواية ابتسامته، تمثل على دمج ذكورة مشتبهة في أنوثة محكمة وطاغية. وفصول الرقص وأطواره، وقتاً بعد وقت، تمثيل على سيرورة الرغبة وأطوارها، وعلى تنقلها بين عبارات لا تجتمع في واحدة، وجزرها ومدها، وكمونها وثورانها، وجزئيتها وعمومها.
وحين تزف الراقصة، والتخت معها، العروسين، أي العروس إلى العريس فعلاً، تتقدمهما خطوات قليلة، وتختصر حركات رقصها وتقصرها على موضعين، الصدر والحوض، ركني الأنوثة الولودة والداجنة، يعود الرقص إلى حضن الأسرة ويرهص بها. فيتخفف من الزخارف المعقدة، ومن تأمل جسد الرغبة في أسراره المطوية، وفي “نواة الليل التي تعصى الكسر” وتسكنه. ويقف الرقص على عتبة الفعل الوشيك والمندرج في سياقة اجتماعية أساسية.
المدن