وردة في ليلة عيد الحب/ رشا عمران
ذات يوم من أيام عيد الحب، وأنا أجلس ليلة العيد وحيدةً في بيتي في القاهرة، رنّ جرس الباب على غير العادة في مثل ذلك الوقت، إذ لم أكن أنتظر أحدا، ولا يزورني الأصدقاء عادة من دون موعد مسبق. فتحت الباب لم أجد أحدا، ظننت أن أحدا قد أخطأ في عنوان الشقة، وأنا أغلق الباب انتبهت أن ثمّة وردةً جوريةً حمراءَ أمام الباب، وردةً ملفوفةً بورق سلوفان مزموم بشريط لامع، من تلك الورود الطبيعية التي تباع في الشوارع ليلة عيد الحب. طلبت المصعد سريعا، لأرى من وضع الوردة ونزلت، لم أجد أحدا، سألت بواب العمارة إن كان قد رأى أي أحدٍ دخل إلى العمارة وخرج سريعا، قال إنه لم ينتبه إلى الأمر. عدت إلى البيت، وضعت الوردة الحمراء في فازة صغيرة، وفكّرت في الشخص الذي وضعها: من هو؟ ما هو شكله؟ كم عمره؟ ماذا يقصد بهذه الحركة؟ لماذا لم يفصح عن نفسه؟ لماذا لم يترك معها ما يدل عليه؟ كلها أسئلة بقيت من دون إجابة. فقط شعرت بالامتنان لهذا المجهول الذي أفرح قلب امرأةٍ وحيدةٍ في ليلة عيد الحب.
لا أتذكر متى حدثت هذه الحكاية. قبل عام أو عامين، أو ربما أكثر، هل حدثت فعلاً؟ أقول لصديقةٍ، وأنا أحكي لها ما حدث تلك الليلة: يخيّل إلي أن ذلك لم يكن أكثر من سيناريو لا علاقة له بالواقع، مجرّد أمنية تمنيتها أن تحدث، ثم اخترعت تفاصيلها ورويتها، وصدقت أنا الرواية. كان بالإمكان أن تكمليها إذاً، قالت صديقتي، أن يكون ثمة رجل يحمل وردة حمراء، وينتظر أن تفتحي له الباب، ثم يخبرك أنه معجبٌ بك، وتخرجان معا وتحدث بينكما قصة حب عظيمة في ليلة عيد الحب. فكرت في ذلك كله أيضا. ولكن، كان ليكون سيناريو عاديا، لا جديد فيه، لا ترقّب ولا فضول ولا انتظار ولا أمل ولا مساحة للمفاجأة. هكذا، أنا تركت مساحةً كبيرة للخيال. في الوحدة يستطيع الخيال أن يتمدّد، الشعر أساسا ابن هذه المساحة، المساحة التي يتمدّد بها الخيال، حكاية الوردة الملقاة أمام الباب ليلة عيد الحب متفرعةٌ من شجرة الشعر، وإن كانت قد حدثت فعلا، فمن ترك الوردة هو قرين الشعر، إذ ثمّة وهمٌ فيها، وضبابٌ موارب، يؤكد حدوثها وينفيه. ليس هذا الوهم الشعر، بل قرينه، القرين الذي ينبهنا إلى ما يحجُبه الشعر عنا، فنتخيّل حدوثه غير المكتمل، فثمّة شيءٌ في داخلنا ينبهنا إلى النقصان الذي يحتل مساحةً ما من دواخلنا، النقصان الذي لا يعرفه سوى من يعيشون في حالة توحّد مع النفس، حتى ولو كانوا وسط مجموعةٍ كبيرةٍ من البشر، ومحاطين بالأصدقاء والأحباء. ثمّة نقصانٌ ما يجعلهم دائما متوجّسين من الاكتمال الذي يحقّقه الشريك العاطفي، فالحب المتبادل هو تكاملٌ واكتمالٌ في الوقت نفسه، ويحتاج إلى نفس طويل، عادة لا تملكه النساء اللواتي اخترن الوحدة، عادةً ما تكون علاقاتهن العاطفية قصيرة، متعدّدة وقصيرة، إذ ثمّة دائما خوفٌ من أن يفقدن هذا التوحد مع الذات، إن دخلن في علاقة حبٍّ طويلةٍ وندّية. لا أعرف عن الرجال الوحيدين بهذا الخصوص، وإن كنت أظن أنهم لا يختلفون كثيرا عن النساء الوحيدات.
تقول لي صديقتي إنني مخطئة، وإن علي أن أجرّب الحب طويل الأمد، فأنا، حسب ما تراني، أهرب من هذا الحب، كما لو أنه وباء، أعترف أنني فعلا أهرب منه، إذ ذات يوم أتلفَ هذا الحب قلبي، متآمرا علي مع التدخين الطويل وعادات الحياة السيئة. ولكن حتى ذلك الحب المتلف لم يستطع أن يحتل مساحة النقصان بي، ذهبت معه إلى الأقصى، كعادتي في كل شيء، كنت كلما انحزت له ازداد الفراغ في داخلي، كمن تتبع سرابا في صحراء، وانتهيتُ منه بمساحةٍ كبيرةٍ تحتلها الوحشة، وإحساس باللاجدوى جعلني أبتعد عن الحب، كما ابتعدت عن عادات حياتي السيئة. ولكن، هل ما أنا فيه طبيعي؟ هل يمكن لي أن أكمل حياتي وحيدةً إلى هذا الحد؟ هل تكفيني سيناريوهات وحكايا أخترعها وتطلع من رغبات دفينة؟ هل تساعدني الكتابة عن الحب شعرا ونثرا على النجاة منه؟ أفكر أحيانا أنني ربما إذا أحببت فثمّة من سيغلق الفراغات في روحي بورود بيضاء، ومسام جلدي بالفراشات الملونة، وربما رقصت في الشوارع من فرط الغبطة، ولكن ماذا بعد؟ سيتحول الأمر إلى عادي بعد حين، ستذبل الورود، وتطير الفراشات، ويتوقف الخيال عن الرقص في الشوارع، غير أن وردةً حمراءَ متروكة على الباب في ليلة عيد الحب يمكنها أن تجعل من قرين الشعر شريكا لا مثيل له، ما معنى الشعر إن لم يجعل شاعرةً تقترح ما يفرح قلبها في ليلة كهذه؟
العربي الجديد