التالي… رغيف الشوايا الأخير/ عيسى الشيخ حسن
لم يمت التالي؛ فهناك حتما من تخبزه في أريافنا المنكوبة، وثمة من ينتظره وهو على الصاج، في الصباحات التي تتناوبها سمرة الغيم، وزرقة السماء، وبرد شباط الخارج من أربعينية صقيعية، إلى بردٍ يسرق لطف الربيع، فتعاقبه خمسينية السعود الأربعة.
يحدث هذا، و«صوبة»1 يتمهل خزان وقودها في ركض نقاطه نحو فرنٍ صاخب، وعائلة تنتظر «خَبْزة اليوم»، وقد تستعجل الأسرة فطورها مع وصول الرغيف الأول من «الفخيرية»2 إلى السفرة، كأول الغيث في يد أصغر الأولاد، مراسل الصباح بين الأم المنشغلة بإيقاظ النار كلما خمدت، والأسرة التي تتناقل «چيدانا»3 متوسطا تحيط كؤوسه بصحن خاثر.
لا يقع الأذكياء في تلك الخدعة، خدعة الإسراع إلى الفطور العاجل، بل يتريثون قليلا في انتظار «التالي»، ذلك الرغيف الذي لن تكفيه عبارة ناثر أو شاعر، حتى لو كان ابن الرومي الذي صور رغيفه البغدادي قمرا، وقد استحال من كرة في يد الخباز إلى دائرةٍ قوراء. يمكن القول إن «التالي» «سوبرمون الشوايا» قمرهم العملاق المشوي على صاجٍ صابرٍ على جيرة النار وجورها.
لا تعادل لمة الفطور لمةٌ أخرى، فقد يفلت أحدنا من الغداء، وقد يغيب أحدنا عن العشاء، ولكن الفطور شيءٌ آخر في مثل هذه الأيام، في عطلة منتصف العام الدراسي، يكون شباط المحتار قد أجل برده أسبوعا، ويكون في وسعنا أن نأخذ الأغنام إلى الحقول القريبة، فعند كل رأس حقل «چاير»4 مخصص للدواب، يكفي أهله مؤونة العلف. أخذ «التالي» اسمه من كونه الرغيف الأخير، الرغيف الذي شهد النهايات، نهاية النار والعجين وأوركسترا اليدين الضارعتين في الضرب على العجنة المكورة والتلويح بها دائرة بيضاء. في آخر الخَبز تتحول النار من هيجان اللهيب إلى حكمة الجمر، وتلتم كرات العجين الأخيرة خوفا من مصير عاينه رغيفا بعد آخر، فتجمعها الأم في كرة جديدة كبيرة هي «التالي». وفي «التالي» يلتقي خائفان، تحول بينهما دائرة المعدن الحدباء، لتنام فوقها آخر دمعةٍ للعجين، وتثور تحتها آخر دمعةٍ للحطب.
ينزل الصاج قليلا، تبقي الأم حجرة واحدة من الأثافي الثلاث، وتستنزف آخر جمرةٍ أخفاها الرماد، وتمد الكرة الكبرى برفق، وقد ثقبته قبل أن تغطي به الصاج، فيمتد الرغيف الأخير، برفق وهدوء. مديرا خده الأيمن لنارٍ حكيمة، أحدثت في وجه الرغيف العجوز ألوانا وخطوطا تجاورت فيها «قرمشة» الأشقر، وتفحم الأسود، وتمدد الحنطي والأسمر، وكأنه يحاكي ألوان بيت الشعر المتجاورة.
يخرج «التالي» مع الخَبْزةِ الجديدة، إلى منتظرين شغوفين، لا يمهلونه، وبينما تُطوى الأرغفة، وتوضع في سفرة قماش، أو «مخمر»5 من خشب. يكون التالي قد نال نصيبه من «التقسيم» والتهشيم والتكشيم، وحين يمر جدي ندعوه صارخين أن يقاسمنا «التالي» وأن نخصه بالقسم الأكبر، فيضحك ويدعونا أن نتقاسمه بالعدل. كان جدي دائم الحنين إلى رغيف الذرة «الجلف»، وقد طلب من حبابتي صنع رغيفٍ منه، حين زرعوا الذرة البيضاء، ولكنه لم يستسغه، فعافه. يمكن القول إن مقاسمة «التالي» غير المنصفة منطقيا، هي أول حروب الإخوة، ونزاعاتهم، واستئثاراتهم. ولكنه «التالي»، الذي لا يمكن التأمل في معنى تقسيمه، وتركه يبرد، بل يجب الإسراع في التهامه قبل أن يبرد، وإغماض العين على التقاء أكثر من طعم: تهشم المقرمش، وسخونة اللين، واندغامهما معا ببرودة الخاثر، أو لذعة الشاي. وفي تلكم اللقم القليلة، يكون احتفال «التالي» قد انفض، فتمتد الأيدي إلى الرغفان النحيلة، معتذرة.
في الربيع، تنطلق الجِداء والخراف في قطيع ثانٍ صغير، تاركاتٍ لأمهاتها حرية الرعي، بعد أن يخف الحنين، وقد فُطمت معظمها، وباتت تقضم العشب بإشراف رعاةٍ صغار يتدربون على عد خرافهم. وهناك حيث تراكم الأمهات الزبدة من حلْبتي الصباح والمساء، يكون لـ«التالي» دورٌ جديد، في صناعة حلوى الشوايا.
لا تعدو حلوى الشرق ثلاثية العجين والسكر والسمن، وحين تجمع الأمهات الزبدة، يفطن الجميع إلى «السياييل»6.
في السياييل، تخبز الأمهات أكثر من «تالي»، ثم تضع الأرغفة السميكة فوق بعضها تتخللها الزبدة المرشوشة بالسكر، فيلتم حولها الكبار، بكثير من المتعة وهم يداوون ألم الحنين، بعدما خُطفت السياييل من صنوف الحلوى الجديدة، التي تصاحب الفواكه الاتية من المدن القريبة، كالمشبك. تركنا «التالي» عندما تناثرت المخابز الجديدة في القرى، وحل خبز الأفران محل رغيف الصاج. لم تكن الأرغفة الجديدة مثل خبز الطابونة، أو خبز حلب. الأرغفة التي وقفنا من أجلها عددا من الساعات أمام أفران ضخمة، نسفت آلاف التنانير والصيجان دفعة واحدة، ورمت إلينا سيورها المعدنية عجينا معالجا بقليل من الولع والخبرة والانتظار، أرغفة تملأ الفراغات في سؤال الجوع، ليس إلا.
ولكننا استعدنا بها «التالي» حين قرمشناها في الصباحات والليالي على «الصوبة»، واستعدناه في الخبز الثخين المتطاول، أو ما نسميه «خبز الأصابع» وفي أرغفة التنور في قرى الكرد وبعض القرى العربية، ولكن أين هي من «التالي».
وهنا في الدوحة؛ بحثت عن «التالي» في الخبز الإيراني الذي ينضجه شباب صابرون على وهج النار والرطوبة، بقمصان بيضاء ومآزر فضفاضة، بحثت عنه في الخبز الأفغاني القريب من أرغفة التنور التي أكلتها يوما في «شوطي» و«نعمتلي»، وبحثت عنه في الخبز المصري الساخن «وفير النخالة»، وبحثت عنه في المطاعم التركية التي تخبز أرغفتها، مع الشواء.
يمكن القول إن الخبز الساخن لذيذ في جميع حالاته، ولكن لا يمكن صناعة رغيفٍ كـ»التالي» يجمع بين عنفوان العجين وحكمة النار، وصباحات شباط، تلك التي نترك فيها المدرسة، ونطلق للحواس أجنحتها.
الصوبة: المدفأة
الفخيرية: موقد للنار
الچيدان: إبريق الشاي
الچاير: حقل صغير مخصص للماشية
المخمر: أسطوانة من خشب لها غطاء
السياييل: حلوى شاوية لذيذة تصنع من الخبز والزبدة والسكر، وقد تصنع بالسمن.
٭ شاعر سوري
القدس العربي