النخبة الفنية في سوريا والسيد والعبد/ بشار جابر
“إذا ما نحن نظرنا إلى الخادم وجدناه يمر بتجربة وجودية مريرة: الرهبة من فقد الحياة والرغبة في الحفاظ عليها، أي تجربة الجزع من الموت لا الاسترسال إليها… فقد حس رعب الموت …. وإذا حسه، قد تسرب الذوبان إلى طياته الدفينة، ودبت الرعشة غي أعماقه وجميع ما قد رسخ فيه اهتز” (هيغل عن “خدام الأسياد”).
رغم هياج الفنانين السوريين على شاشات التلفزة، وهجوم المستثمر السوري والخليجي لاستثمارهم في الفن، أو ما ارتهن علينا في أن يكون فناً، والتراكم الزمني لوجودهم، وخروجهم علينا بوصفهم نخبة، إلا أنهم لم يكونوا يوماً سوى صنف من التابعين الأكثر شراسة في أن يكونوا خدَماً. خدمٌ بالمعنى العبودي الذي عناه هيغل تماماً، فالفنانون يهيئون الواقع/الخارج ليستفيد منه النظام الذي هو سيدهم، سواء في فنهم وما يقدمونه، أو بوصفهم ذواتاً خدمية، فما أن يظهروا كأشخاصٍ على التلفاز بمقابلة خاصة أو وعبر وسائل التواصل الاجتماعية الخاصة حتى يتسيدوا ذواتهم كخدمٍ مُنتجين يمجدون السيد/النظام، أو يمجدون سماته أو يلاحقون إيديولوجيته. إيديولوجية الواقع الذي خلقه لهم وللجميع، حتى بات فنانو التلفاز ما يمكن جعله نخبة، تُلاحق ويبدو التساؤل كبيراً حول آرائها وأقوالها وسلوكها. ما خلق واقعاً نخبوياً تشبيهياً، لا نخبوياً عقلانياً راشداً، نخبة عبودية كُيفنا عليها دون أن نسألها ولو سؤالاً واحداً عن جديتها.
لا نخبة مثقفة في سوريا، تلك النخبة التي تشكلُ هالة مسموعة إلى حدٍ ما، باعتبارها تملك إجماعاً عاماً بأنها تُشكل هوية لشكل المثقف السوري، ونواياه وقيمه، ولا يُشكل أي مفكر داخل سوريا حالة علمية معترف عليها من مؤسسات التعليم. فيبدو أدونيس، وهو أكثر المثقفين السوريين شهرة، مجهولاً لشريحة واسعة من السكان، ولولا صحف لبنان لما شعر السوريون أصلاً بمثقفيهم، ولا عرفوا تاريخهم بالمعنى الأدق أيضاً، فكل إشكالية يُفكر بها داخل اليومي السياسي أو الثقافي السوري تأتي من بيروت، حيث الروح السورية المتمردة تنمو خارج البلاد. بيروت مازالت دالة السوريين على روحهم.
في سوريا، تم التحكم في أدوات الإشهار الاجتماعية الفنية والثقافية، استقر وضعنا أداتياً على نظام قامع لحرية الكتابة والكتب، وإغلاق دور السينما والحد منها، لقتل أي فن مكثف ورمزي خالص، وتُرك مجالات فنية أخرى محدودة الحرية كونها محدودة الأثر، كالفن التشكي، الذي تطغى على أعمال فنانيه روح الذاتية العبقرية، وبذلك تبدو الإرسالية – اللوحة\ المنتج- شديدة الخصوصية أكثر مما تفضي فنونهم بعداً أثرياً عاماً، فلا يُمكن للوحة فنية أن تملك تأثيراً تحفيزياً لتشكل قبولاً وجماعة، والعالم الحديث تبدو فيه دعاية “بطاطا شيبس” جيدة الصوت والصورة أكثر انتشاراً من لوحة فنية لفنان تشكيلي سوري، لا بل بإمكاننا تصنيف الناس هوياتياً في سوريا من أذواقهم اليومية في أنواع المأكل والمشرب. هذا ما يجعل السوريين في حيواتهم يشكلون نُخباً عرضية، منغمسة بالواقع – الغريزة/الطبيعة – اليومي الرديء، وفي التراكم لم يتشكل جوهر نخبوي مرجعي من جهة فنية إبداعية، بل استقر السوريون على نخب رديئة غائياً وأداتياً، ويصح القول أحياناً أنها نخب بسيطة الشكل والغاية. فنخب الأجيال السورية منذ الثمانينيات منعدمة، واستعيض عنها بأفلام الكرتون وأبطالها، أغاني غرندايزر والصياد رامي وماوكلي، تشكل حميمية حقيقية ومثلى في عقول السوريين لحد اليوم، حيث كان الكرتون مُنقذاً وحيداً لحالة الروح الطفولية والشابة للتأمل فيها والاستفادة منها. هذا لا يعني أن ماوكلي وروبن هود نخبة السوريين، لكن معناه أن نقيض نخبة المكتوب الرسمي في جرائد سوريا ومكتباتها ودور نشرها ومسموحاتها، والأهم نقيض الأسد الأب وحزبه ذو الشعارات الفارغة كانت نخبة كرتونية وبعض النخب الخاصة جداً للمثقفين السوريين، التي لا تتجاوز شخصيات سياسية وثقافية صغيرة.
لكن عصر التلفاز كان مهيمناً لدى النظام السوري وتفكيره العملي، حيث إيديولوجية الإشهار الاقتصادية في أوروبا والتي استعانت بالعلوم الإنسانية لغاية اقتصادية، انتقلت للأنظمة السياسية كتقنية عمل مجدي. فأصبح الإشهار التلفزيوني المسموح فيه طريقاً لإنتاج نخبة فنية أحكمت سيطرتها على الثقافة العامة لدى السوريين، فأصبحت في التسعينيات حلقات ياسر العظمة مجالاً إدراكياً للفن والثقافة، والنقد الذي يُمليه في حلقاته وهو نقد بارد ومُسيطر عليه ومحدود الدلالة على واقع سياسي حكومي فاسد إلا أن هذا الفن يملك صك براءة دوماً، أي يملك حدوداً تجعله يبدو متحدثاً عن حكايا السوريين وهي حكايا يومية، بالتالي لا تحمل الرؤية الفنية أي عبقرية، سوى تسويغ الواقع بنصوص فنية درامية تراتبية حداثية، ونقل اليومي لا يُمانعهُ النظام بوصفه تثبيتاً إدراكياً لحالنا. استمر هذا النوع من الفن مع فسحة زائدة من الإنتاج بزمن الأسد الابن، وتطور عصر الإشهار والتسويق جعل النخبة الفنية تملك مردوداً أعلى جماهيرياً، وصولاً لتسطيح تام لأشكال النخبة المعرفية والفنية والثقافية، لتصبح سوريا ثقافياً عبارة عن مجموعة من الفنانين، باسم ياخور وبسام كوسا وسلوم حداد وغيرهم، أضف إلى ذلك علي الديك ووفيق حبيب. إن سكناً يومياً أصاب السوري أمام التلفاز. والمشكلة تكمن جوهرياً في أن يبدو التلفاز هو الطريق الوحيد للانغماس في الواقع وفهمه، لكن لا تليه مرحلة أخرى، في محاولة سحب هذا الواقع إلى بُعد تأملي آخر بالتالي إنتاج قيمة تأملية لما هو عرضي، والأكثر سوءاً أن يكون هذا الفن المتلفز هو نفسه اليومي السوري، نفسه بحذافيره، فيظن المتلقي للنخب الفنية أن الصورة التي يشكلونها هي شعورٌ بهم، ومحاكاة لما يعاينوه. إن درجات الحس المتبادلة وهمية، بين المتلقي والعمل الفني وعناصره. ويبدو ما نواجهه كُلنا لا النظام المُستبد، بل القدر، القدر حينما يُفصل حياتنا كلها بذلٍ وقهر من دون أن نتجرأ على معرفتهِ حتى.
لكن النظام احتاج النخبة التي لم يجد غيرها لمواجهة الثورة، فأتى بدريد لحام وجعله ملصقاً في كافة أنحاء سوريا، مُشهراً صورته بوصفه تاريخاً وفناً ونخبة، لكي يوجهنا لمحبة الوطن. وأرسل باسم ياخور ونضال سيجري المرحوم، إلى ساحات اللاذقية الثائرة، وأخرج لنا سلوم حداد عبر التلفاز، بدا النظام فقيراً في نخبه التي يُستمع لها، فقيراً أمام النخب التي أغرقها بالمال الخليجي الإماراتي السعودي بما يجعلها فوق الناس جميعاً، وبدأ بدفع النخب عبر التلفاز، والتي صعقت الجميع بوصفها تعرفُ قدر السوريين جيداً، لكنها تُريده فوقهم، قدرنا استبدادنا ذاته الذي يعرفوه تماماً، بدا ثقلاً علينا كلنا لكن نُخبنا توده وتكيل له المدائح والسمات الأكثر دينية من الدين. مَن ينسى ركوع الفنانين السوريين على العلم السوري الموسم بصورة بشار، أو فنان سوري آخر يضع الحذاء العسكري على حواف شفاهه مُقبلاً له بيدي ضارعتين مُحبتين ورعتين.
واشتداد الحرب جعلهم أكثر اعتيادياً على التكرارية الخاضعة، عوضاً عن العبقرية الخالقة، وكل ما حدث أن كاتب السيناريو أصبح النظام بدلاً من أن يكون مراقباً له، فاشتعل التلفاز بالأغاني التي قاد جوقتها علي الديك ومن خلفه، وبمسلسلات سورية يدفع بها الرقيب، لجعل الواقع الذي كان من الممكن نقده، إلى واقع علينا أن نتعلمه، خزينا وتخلفنا، وإسلامنا الديني والسياسي الذي يبدو عاراً، لحى وفصاحة عربية بدوية آمرة وعنيفة. لم نعد نملك حتى واقعنا، بل أصبح مُرعباً، زوجاتنا خونة، ولا يحلمون إلا بعرض مفاتنهن، طلاب مجتمعنا أقرب الى الحشاشين والمكبوتين جنسياً، لا طلاب علم لا يملكون منهاجاً جامعياً جيداً. هنا توازى الفن الدرامي السوري مع ضعف قدرة النخبة عن إيقاف الثورة، وأزال الثقل عليهم في تحمل تبعات الثورة، وجعلهم ممثلين دون أي عبقرية، مجرد قطع صغيرة تتحرك لمصلحة كاتب السيناريو والمسموح فيه.
المدن