إمبراطوريات متخيلة ومتمردون منسيون: دراسات ما بعد الكولونيالية وصورها النمطية عن السكان المحليين/ محمد تركي الربيعو
شكّلت يوميات مصر، على مدار العقود الفائتة، مكاناً ومخبراً جيداً، لإعادة قراءة تاريخ الكولونيالية والدولة القومية الحديثة، أو إعادة قراءة السرديات الوطنية. وقد أدّى هذا الاهتمام، بلا شك، إلى تراكم كمٍ كبير من الدراسات حول الحداثة والإسلام والدولة في مصر، وهو تراكم قد لا نعثر عليه ربما سوى في الحقل الثقافي المغربي.
وقد ترافق، هذا التراكم، مع تعدد الآراء والمقاربات التي اعتمدها الباحثون؛ وبالأخص الغربيين؛ في سياق قراءتهم لعلاقة المستعمر بالأهالي مع بدايات القرن الثامن عشر. بدءاً بمفهوم الهيمنة لدى غرامشي، الذي تمارسه الطبقات الحاكمة على المحكومين بأسلوب ثقافي، مروراً بنظرية التبعية التي اعتمدها مفكّرون من أمثال الراحل سمير أمين، التي انطلقت من فكرة أن الامبراطوريات الأوروبية الحديثة نجحت في تقسيم العالم إلى «مراكز» صناعية رأسمالية متقدمة من جهة، و«أطراف» تابعة لها تعتمد عليها من جهة أخرى. وجاء اقتراب ما بعد الكولونيالية كمقترب ثالث وواسع، فغدا اليوم مهيمناً داخل أوساط غربية ومحلية عديدة معنية بدراسة تاريخ مصر. وقد انطلقت هذه النظرية، التي تأثرت بفوكو وأدوارد سعيد، من فكرة أن المستعمِر استطاع وضع حياة وجسد المستعمَر تحت المراقبة الدقيقة بهدف التحكم في المستعمَرة.
ورغم أن هذه المقاربات كان لها تأثير متفاوت وأحياناً مرحلي، يمكن القول إن رؤية مدرسة التابع، أو ما بعد الكولونيالية، بدت في السنوات الفائتة أكثر إغراءً للباحثين والقراء العرب، وهو ما تمثّل على صعيد الاهتمام بترجمة أعمال أبناء هذه المدرسة؛ ويمكن الإشارة هنا مثلاً للدور الذي لعبته دار مدارات في إعادة نشر أو طباعة وتوزيع عدد من الكتب، خاصة كتاب «استعمار مصر» لتيموثي ميتشل، الذي غدا بعد انتكاسة الربيع العربي ملاذاً للعديد من الشباب الباحثين عن أجوبة حول سؤال لماذا أجهضت ثوراتنا؟ كما أن هذا التأثر لم يقتصر على دُور نشر معينة أو أوساط إسلامية وجدت في خطاب ما بعد الكولونيالية خطاباً مثالياً؛ أكثر جذرية، بل شمل دور نشر كبيرة مثل المركز القومي للترجمة، الذي مال فيه المترجمون أيضاً ناحية دراسات ما بعد الكولونيالية، وهنا أشير مثلاً للكتاب الأخير لأمينة الشاكري «المعمل الاجتماعي الكبير: موضوعات المعرفة في مصر المستعمرة»، الذي بدت فيها الشاكري أكثر تطرفاً لأفكار هذه المدرسة. هذا لا يعني أن التاريخ المصري لم يشهد إعادة قراءة متجاوزة للرؤية الكلاسيكية لهذه المدرسة، التي لا ترانا سوى ذوات حداثية كولونيالية، كما في دراسات خالد فهمي، الذي فتح الباب أمام قراءة بديلة لعلاقة السلطة بالأهالي؛ وإن انطلق من ملاحظة أخيرة لفوكو «أينما وُجِدت سلطة، لا بد من وجود مقاومة» متجاوزاً بذلك أستاذه تيموثي ميتشل. مع ذلك بقيت هذه الرؤية البديلة، كما نرى أقل انتشاراً ومتابعة مقارنة بالرؤى السابقة.
عالم الإمبراطوريات المتخيلة
ويأتي نشر المركز القومي للترجمة كتاباً للمؤرخة المصرية زينب أبو المجد «إمبراطوريات متخيلة: تأريخ الثورة في صعيد مصر» مؤخراً، في سياق استمرار ترجمة ما يُنشر عن مصر من كتب ورسائل دكتوراه. نُشِر الكتاب الصادر بالإنكليزية عن دار نشر جامعة كاليفورنيا في 2013، وهو في الأصل رسالتها للدكتوراه التي قدّمتها في جامعة جورج تاون. وبعيداً عن حياتها الأكاديمية، تعود المؤلفة بجذورها الاجتماعية لمدينة قنا في صعيد مصر. وقد دفع هذا الاحتكاك المباشر بذكريات وتاريخ المدينة الاجتماعي، أبو المجد إلى العكوف لسنوات طويلة على دراسة تاريخ العلاقة بين القاهرة والصعيد (من خلال التركيز على حالة مدينة قنا)؛ وتوصلت أبو المجد، بالاعتماد على سجلات المحاكم الشرعية والأرشيف البريطاني وغيرها من المخطوطات غير المحقّقة ليومنا هذا، إلى أن عملية التأريخ السائد لمصر كدولة قومية قد تجاهلت نضالات أهالي الصعيد، ووضعت القاهرة والدلتا في مركز تدوين التاريخ الرسمي للدولة، وجعلت من وجهة نظرهما المتمركز حول الشمال الرواية الوحيدة للأمّة المتشكّلة.
ولا تنفي الكاتبة أن هناك جهوداً قليلة حاولت سرد تاريخ نضالات الصعيد المنسية. فعلى سبيل المثال، سلّط المؤرخ الأمريكي بيتر جران الضوء على صعيد تعرض للإفقار مع وصول الحداثة لمصر، واستناداً إلى الاقتراب النظري الماركسي، استعار جران مفهوم المسألة الجنوبية من الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي الذي ابتكره لتحليل أوضاع جنوب إيطاليا الفقير في مقابل شماله الثري ليستخدمه كعدسة يفهم بها صعيد مصر. أما المؤرخة مارتينا ريكر فقد طبقت منه «دراسات التابع» على المسألة الصعيدية تحت الحكم البريطاني ومن داخل الحدود المقيدة للدولة القومية.
مع ذلك، ترى أبو المجد أن إشكالية المقاربات السابقة، وبالأخص مقاربة مدرسة ما بعد الكولونيالية هو أنها وقعت عن غير عمد في خطأ كبير عندما أهملت الفاعلية لدى السكان المحليين، أو لكونها لم تر في «مساحة التفاوض والتغيير» وفق تعبير هومي بابا التي فرضها السكان الأصليون على السلطة؛ في حين حافظت هذه المدرسة (وتشير هنا إلى دراسة أمينة الشاكري سالفة الذكر) إلى أن الإمبراطورية هي بنية لا تقهر، لكنها رقيقة حاذقة في خفتها ولا يمكن لمسها، تستطيع أن تحتل ذوات من تستعمرهم عبر ممارسات ناعمة للسلطة. ولعل من الجدير الإشارة إليه هنا أن المؤلفة ترى أن الخطأ يعود أحياناً للتأثر برؤية أدوارد سعيد؛ لكن ما غاب عن بال المؤلفة وجلّ الباحثين الذين اعتمدوا على قراءة «أدوارد الشاب» إن صح التعبير في كتابه الاستشراق، هو أن الأخير قد أعاد الاعتبار لهذه الفكرة في كتابه «الإمبريالية والثقافة». وبغض النظر عن هذه الجزئية، تنطلق أبو المجد من فكرة الفاعلية أو المقاومة كما فعل خالد فهمي، لتعيد من خلاله كتابة وقراءة تاريخ العلاقة بين السلطة في القاهرة وأهالي قنا والصعيد عموماً؛ وهي فاعلية عبّرت عن نفسها بأشكال من الخلاف حول الأراضي ودفع الضرائب، أو الهرب من الخدمة العسكرية، أو استخدام العنف والهرب إلى الجبال، وهو ما عُرِف لاحقاً بظاهرة «مطاريد الجبل».
العثمانيون وشيخ العرب همام
يتناول الكتاب قصصَ خمس إمبراطوريات كبرى هبطت مدينة قنا في صعيد مصر. وهي الدولة العثمانية 1500 / 1800، والحملة الفرنسية 1798 /1801، ودولة محمد علي باشا 1805/ 1848، ثم الاحتلال البريطاني المباشر 1882/ 1952، والإمبراطورية الأمريكية الحالية. ترى المؤلفة أن الدولة العثمانية كانت إمبراطورية متخيلة في صعيد مصر، إمبراطورية لم تكن تحكم هامشها، بل كانت علاقة المركز والهامش في جنوب مصر في تلك الحالة معكوسة، فقد اعتمد المركز الاستهلاكي على الهامش الرأسمالي المنتج. ولفهم هذا الواقع، تتطرق بإسهاب لعلاقة شيخ قبيلة الهوارة الأمير همام مع العثمانيين في القرن الثامن عشر. إذ ظهر الهوارة في البداية بوصفهم تجاراً وحائزين للأراضي الزراعية، ثم أصبحوا القبيلة الأقوى والأغنى في الصعيد. وهو ما مكنهم من التحول من نخبة اقتصادية إلى نخبة سياسية حاكمة.
أنشأ همام هيكلاً جديداً للسلطة يقوم على مشاركة الأهالي فيها، وصاغ عقداً اجتماعياً جديداً مع الفئات الاجتماعية المهمّشة والنخب المحلية. كان الهدف الأسمى لهذا النظام الذي أرساه هو الحفاظ على الإنتاج الزراعي مستمراً بدون اضطراب وتأمين الحركة التجارية.
استعان العثمانيون ببعض المماليك لبسط سيطرتهم على الهوارة، ونجحوا في ذلك. بيد أن ما حدث هو أن الأهالي لم يقفوا مكتوفي الأيدي، فقد أعلنوا العصيان سريعاً متّبعين وسائل عدة للمقاومة، وبعد أربع سنوات فقط من وفاة الأمير همام، تحدّى مجموعة من الفلاحين العرب في قرية البصيلة نظام الحكم الجديد وذيول ملتزمي الهوارة، برفض دفع الخراج المالي والعيني في شكل غلال المطلوب منهم. في هذه الأثناء وبعد سيطرة العثمانيين وجنودهم المماليك على الصعيد كانت مدنه على موعد مع قدوم أكبر موجة من الطاعون منذ خمسة قرون كاملة. فمنذ ظهور الطاعون الكبير الذي اكتسح البلاد في القرن الرابع عشر، لم يجد الوباء سبيله مطلقاً إلى الصعيد بفضل كفاءة حكومة الهوارة، وإدارتهم الرشيدة للأراضي والموارد المائية في دولتهم. وعن قدوم الطاعون، تعود المؤلفة لعدد من التفسيرات التي ربطت قدومه بالتبادل التجاري. ونظراً إلى أن صعيد مصر آنذاك صار جزءاً لا يتجزأ من النظام السياسي والتجاري للإمبراطورية، نالت سفن المماليك الفرصة كاملة للذهاب للجنوب وإنزال الجنود والانخراط في معارك على أرضه. حملت تلك السفن معها الوباء الإمبريالي للصعيد. ومع انتشار الوباء فضلاً عن الطغيان المملوكي، بات التمرد والعصيان شأناً يومياً يمارسه أهالي قنا من سكان القرن والمدن والجبال.
فرنسا والصعيد
مع هبوط جيش نابليون بونابرت إلى مصر المحروسة في عام 1798. زحف الجيش الاستعماري الفرنسي صوب الصعيد، حيث تتركز الأقلية القبطية والموارد الاقتصادية الهائلة، مع ذلك فقد منيت القوات الفرنسية بعد ثلاث سنوات بهزيمة منكرة أمام الجيش البريطاني المتحالف مع العثمانيين، ورضخ الجيش الفرنسي على إثرها وغادر مصر. وهنا تطرح أبو المجد فرضية مفادها أن الحظ العسكري العاثر لم يكن السبب الرئيس في الفشل السريع للإمبراطورية الفرنسية، وإنما يكمن بالأساس في أن الفرنسيين قبل قدومهم تخيلوا ورسموا صوراً مغلوطة عن الأهالي على أنهم أقل منهم منزلة في الثقافة ودونهم في الحضارة ويعانون الاضطهاد. وخلافاً لنظرية ما بعد الكولونيالية التي أولت أهمية بالغة للصورة النمطية التي خلقتها الإمبراطوريات، لكنه جهد يبقى، وفقاً للمؤلفة، غير كافٍ لكونه أهمل فكرة أن الطرف الفرنسي لم ينفرد وحده بعملية تشكيل وإنتاج هذه الصور في الصعيد، فقد رسم الأهالي أيضاً صوراً نمطية مختزلة عن المستعمر. رأوه أوروبياً ساذجاً تسهل مراوغته والاحتيال عليه. ويتضح هذا في ابتداع كل من الأقباط والعرب الحيل المختلفة ضد الإمبراطورة للحصول على المزايا منها ثم دفع مسؤوليها جانباً بدون مقابل.
وبالانتقال إلى فترة محمد علي، نرى أن الصعيد مثل المستعمرة الأولى في امبراطورية محمد علي. إذ تصف أبو المجد فترة محمد علي بوصفها فترة الاستعمار الداخلي، فهي لم تكن الحالة الأولى من نوعها في تلك الفترة. فقد أخضعت بريطانيا قبله إقليم إيرلندا المتمرد وضمته لحظيرة التاج البريطاني. واستناداً إلى ما كتبه خالد فهمي في كتابه «كل رجال الباشا»، يرى أن المؤسسة العسكرية لم تكن بنية وطنية خالصة تعمل لرقي المواطنين المصريين في دولة قومية على النحو الذي افترضه دوماً المؤرخ المصري.
طوّر إبراهيم باشا نظاماً جديداً للإدارة في الصعيد بعد غزوه. وقد أنهى سياسة تحرير الاقتصاد التي ابتدعها العثمانيون والمعتمدة على اللامركزية، وأحلّ مكانها سياسة تعتمد على التدخل المكثّف للدولة والتخطيط المركزي. وسرعان ما دعت هذه السياسات الأهالي إلى الثورة؛ فحشد الشيخ أحمد وهو شيخ صوفي أربعين ألفاً من الفلاحين الغاضبين لإسقاط حكومة محمد علي، وقد انتشرت الحركة بسرعة شديدة وأعلن وجهاء العائلات العربية انضمامهم لها.. وبعد شهرين من استحواذه على السلطة أرسل الباشا فرقة عسكرية من جيشه الحديث مجهّزة بمدافع البارود. والمفارقة العجيبة أن بعض جنود البك النظاميين كانوا في الأصل من أهالي تلك القرى، وقد وجدوا أنفسهم مأمورين بقتل أقاربهم وأبناء عشيرتهم، فقرر العديد منهم الانسحاب والانضمام إلى المتمردين. لم تقتصر الفاعلية على هذا الجانب، وإنما شملت أيضاً «مطاريد الجبل». وخلافاً للصورة السينمائية والدرامية عنهم بوصفهم مجرمين، تستلهم المؤلفة تصورات بعض المؤرخين الإيجابية حيال عصابات قطّاع الطرق، في أماكن مثل جنوب إيطاليا في القرنين التاسع عشر والعشرين، على اعتبار أن جرائمهم كانت من قبل الحركات الاجتماعية ذات الطابع التقدمي. هنا نجدها تتيح تفسيراً جديداً ينظر إلى هؤلاء المطاريد أو المجرمين بوصفهم مقاومين للسلطة. وأن الصورة التي رُسِمت حولهم لم تكن دقيقة، وإنما عكست مخيال السلطة حيال أي مقاوم لها في الصعيد.
٭ كاتب من سوريا
القدس العربي