مافيا الواقع تُرهب مافيا السينما!: كيف حاولت المنظمة الإيطالية في نيويورك إيقاف فيلم «العرّاب»/ جيري هانسن
ترجمة: جلال نعيم
ما كان لفيلم «العرّاب» أن يُصوّر ويُعرض من دون موافقة المافيا الحقيقية، وليس مافيا شاشة السينما. ففي الوقت الذي كانت كاميرات كوپولا تدور لتُصور حياة عائلة دون كورليوني وتحولاتها، كانت المافيا تُطلق الرصاص على معارضيها في الشوارع نفسها التي صوّر فيها الجزء الأكبر من الفيلم، الذي ما كان يمكن إنتاجه لولا اتفاق پارامونت وآل رودي مع قادة العوائل التي كانت تحكم شوارع نيويورك آنذاك.
إيطاليا الصغرى
أول ما فعله فرانسس فورد كوپولا، هو إقناع القائمين على پارامونت بإلغاء فكرة تصوير الفيلم داخل الاستديوهات، أو نقل الأحداث إلى أيّ مدينة أخرى لتوفير النفقات، لأنها المدينة الأقدر على تجسيد الحكاية التي كتبها ماريو بوزو، ودوّنها كوبولا في خياله. استسلمت پارامونت للفكرة وعبر كوپولا أول عقبة لإخراج الفيلم، لولا أن غيوماً من نوع آخر صارت تتجمّع، وراحت تستهدف كل صنّاع الفيلم. فلم تكن نيويورك عاصمة المافيا الإيطالية في زمن العرّاب فقط (منتصف الأربعينيات) وإنما كان ذلك في زمن صناعة الفيلم أيضاً. فقد سبق للمافيا، بعامٍ أو أقل، أن دعمت منظمات راحت تُطالب بحقوق الجالية الإيطالية في أمريكا وترفض توصيف كل الإيطاليين باعتبارهم من رجال العصابات. وراحت هذه المنظمات تحمل شعارات على شاكلة: «لا أحد يؤدي أدوار الإيطاليين غير الإيطاليين أنفسهم»، وتشكلت من هذه المنظمات «جمعية» ضمّت هذه الحركات كلّها، وما أن نالت دعم المافيا، حتى قفز تعداد أعضائها ليتجاوز المئة ألف عضو في فترة قياسيّة، وكان واضحاً أن المافيا التي تحكم الشارع، وتفرض الإتاوات على المحلات، الفنادق والمطاعم في معظم أحياء نيويورك، لذلك ما أن تم الإعلان عن موعد البدء بتصوير فيلم «العرّاب» في «إيطاليا الصغرى»/نيويورك، حتى سارعت هذه الجمعية إلى إعلان رفضها للفيلم وبأنها «نذرت نفسها» ونشاطها كله لإيقاف العمل فيه، وبأنها ستقف ضده حتى يتم إلغاء فكرة إنتاجه من أساسها. ومن المفارقات أن يكون «جو كولومبو»، زعيم إحدى أسر مافيا نيويورك الخمس، الذي يجري التحقيق معه في أكثر من 14 قضيّة فيدرالية، هو أحد قادة وممولي هذه الحملة، الذي اتخذ منها غطاءً لينفي عنه هذه الصفة أولاً، وليستعرض قوته وشعبيته أمام السلطات الحكومية ثانياً.
عالم جو كولومبو
قرّر كولومبو إيقاف العمل بالفيلم، فبدأ حملة إرعاب وتخويف منظمة، استهدفت أولاً صاحب العلاقة الأول بالفيلم، منتجه (آل رودي) الذي بدأ يتلقي الكثير من التهديدات عبر الهاتف، وبأن طلقات الرصاص ستثقب صدره وجمجمته إن عاجلاً أو آجلاً.
وفي أحد الأيام أبلغه رجال شرطة قدموا خصيصاً من واشنطن لتحذيره قائلين بأن كل تحركاته باتت مرصودة من قبل المافيا، وهم يطاردونه في كل مكان، ومن خوفه طلب أن يستخدم سيارة سكرتيرته، التي لم تأخذ التهديدات على محمل الجد، حتى قادت سيارته إلى بيتها ولم يحدث شيء، إلا أنها استيقظت عند الفجر على إطلاق ما لا يقل عن خزّان من الرصاص أمام باب بيتها، وما أن خرجت بعد أن هدأ كل شيء حتى عثرت على سيارة آل رودي وقد تهشم زجاجها كلّه، وصُعقت أكثر عندما عثرت على رسالة تهدد آل رودي بالقتل إذا لم يعدُل عن تصوير الفيلم.
روبرت إيڤاسن، مدير الإنتاج في شركة پارامونت تعرّض للتهديد هو وزوجته الممثلة إيلي ماغرا، وقد هدّده أحدهم عبر الهاتف فأخبره إيڤانس: «ولكنني لستُ منتج الفيلم؛ آل رودي هو المنتج؟ ليردّ عليه الصوت: «الحيّة تُقتل بقطع رأسها أولاً».
ولكن رغم التحديات انتقل آل رودي وطاقم الفيلم إلى مقرّ الشركة المالكة لپارامونت في نيويورك. وتواصلت التهديدات.. فقد تم التبليغ عن زرع قنابل في مكاتب الشركة، وتم إخلاء البناية كلّها مرّتين على الأقل، ليعثر البوليس على قنابل زائفة مرّة، وقنبلة غير قابلة للانفجار مرّة أخرى، فقد كان واضحاً من أن الغاية من دسّها لم يكن إيقاع الضرر، بقدر ما كانت الغاية إيصال رسالة مُحدّدة. فوصلت الرسالة إلا أن التهيئة للشروع بتصوير الفيلم لم تتوقف أبداً.
راح كادر الإنتاج وتعاقد على تصوير بعض المشاهد في مطاعم ومحال تجارية وفنادق في «إيطاليا الصغرى»، ولكن ما أن ذهب طاقم التصوير والمخرج والممثلين، حتى فوجئوا بنقض الاتفاقات والعقود التي أبرمت معهم، من دون تقديم أسباب واضحة. وقد بدا واضحاً للجميع أن المافيا التي كانت متنفذة في تلك الأحياء للحد الذي تُلصق فيه على أبواب وجدران وزجاج نوافذ المطاعم والمحلات علاماتها المطبوعة على مُلصقات (ستيكرز) ليصبح جليّاً للجميع بأن هذا المحل محميّ من قبل هذه المافيا أو تلك، كما تفعل شركات الأمن والحماية المُرخّصة في الوقت الحاضر، وأن هذه المافيات هي التي منعت أصحاب المحلات من السماح بتصوير الفيلم في ممتلكاتهم. أما الأكثر طرافة وتعبيراً فهو ما جرى مع كوپولا نفسه، فعندما ذهب بشاحنة مُعبأة بمعدات التصوير، وما أن نزل مع مساعده ليصوروا بعض اللقطات التجريبية (Test Shots) وانشغلا بالتصوير قليلاً، حتى سمعا محرّك سيارتهما اللوري يهدر وتتحرك السيّارة وتنطلق بعيداً عنهما، من دون أن يجرؤ أيّ منهما حتى على محاولة اللحاق بها. عندها أيقن آل رودي بأنهم لن يتمكنوا من تصوير «فريم» واحد ما لم يكف عن تجاهل سلطة المافيا، وإلا فإن مصير الفيلم والعاملين فيه ستبقى في دائرة الخطر مع مافيا لا حدود لسلطتها، فجرى ترتيب الموعد للقاء قمة مع المافيا في فندق پارك شيراتون نيويورك، وكان الاتفاق على أن يقتصر اللقاء على مجموعة صغيرة من الأشخاص من كلا الطرفين. وهو ما لم يحدث. يقول آل رودي: «كان رجال المافيا في كل مكان، حول الفندق، عند الباب، وفي صالة الاستقبال، ثم ما أن دخلت إلى القاعة التي كان يُفترض بأن نلتقي فيها لوحدنا حتى وجدت جو كولومبو مع ما لا يقل عن 600 شخص، فقد احتلوا الفندق كله، أما أنا فكنت وحيداً».
الفخ
أخبرهم آل رودي بالحقيقة، وأن هذا الفيلم «لن يكرّر الكليشيهات المعهودة عن الإيطاليين والمافيا، كما درجت على إظهارها هوليوود». وضمن لهم بأن الفيلم لن يسيء للإيطاليين بشيء، وبأنه سيتضمن رجالا فاسدين من أصول أيرلندية، يهودا ورجال شرطة أكثر فساداً وإجراماً. ثم أضاف: «لم يقرأ أحدكم السيناريو ليحكم مقدماً على ما سيجري تصويره فيه». عندها طلب جو كولومبو بأن يحصل على نسخة من السيناريو. فتعهد آل رودي بجلب نسخة منه شرط ألا يقرأها أحد غيره.
وتمّ إرجاء الاتفاق حتى قراءة كولومبو للسيناريو. في اللقاء الثاني، كان كولمبو قد حضر فعلاً مع عدد محدود من رجاله «وضعتُ أمامه المئة وخمس وخمسين صفحة من السيناريو وقلت له أنت الوحيد من خارج طاقم الفيلم الذي سيُسمح له بالاطلاع عليه. فالسيناريو هو من أكثر الوثائق سرّية بالنسبة لأي فيلم قبل أن ينزل إلى دور العرض. وضع النظارة على عينيه وراح يقرأ. مرّت لحظات فإذا به يتململ ثم يضيق ذرعاً بالقراءة. كان واضحاً بأنه من المستحيل عليه أن يقرأ مئة وخمس وخمسين صفحة وسط ذاك الضجيج كله، وحتى لو قرأها فلن يفهم منها شيئاً. أبعد الأوراق عن عينيه ثم راح يوزعها على رجاله فصحت به ضاحكاً:
– وماذا عن اتفاقنا يا رجل؟
نظر إليّ وأمر رجاله بإرجاع صفحات السيناريو. لفّها كلّها في قبضته معاً وضرب بها الطاولة وقال وهو يوجه الكلام لرجاله:
ـ هل تثقون بهذا الرجل؟
همهم البعض، والآخر هزّ رأسه ومنهم مَن ظلّ صامتاً، وسمعتُ منهم مَن صاح نعم. عندها اشترط بألا يجري، في الفيلم كلّه، أي ذكر لكلمة مافيا. فوافقت، وتعهدت له ولهم بذلك واتفقنا. وعندما عدت إلى مكتبي في مقرّ الشركة أخذت السيناريو وحذفت كلمة مافيا من السيناريو. والحقيقة إنها لم تُذكر في السيناريو غير مرّة واحدة، ولكنني خشيت أن أقول له ذلك كي لا يتمادى ويطالب بما هو أكبر».
انزاح هم كبير عن صدر آل رودي والعاملين في الفيلم، وظن الكل بأن كل العوائق أزيحت وأن الطريق إلى تصوير الفيلم باتَ ممهداً، لولا الهاتف الذي رنّ في مكتب آل رودي، الذي ما أن رفع سماعته حتى جاءه صوت جو كولمبو يطلب منه الحضور الى مقر الجمعية الإيطاليّة فوراً.
هوليوود تصافح المافيا
توجه رودي إلى هناك، وما أن دخل القاعة الوحيدة في الجمعيّة حتى ألفاها تغصّ بكاميرات وميكروفونات ومراسلي القنوات التلفزيونية الأمريكية الشهيرة الخمس آنذاك: «أي بي سي»، «أن بي سي»، «سي بي أس» وغيرها، وقد هُيئت الأجواء لإجراء مؤتمر صحافي سرعان ما سيجري بثّه على الهواء ليصل للولايات الأمريكيّة كلها. والغاية هي: إعلان الاتفاق الذي جرى بينهما على الملأ. فبعد أن شحنت الجمعية الجالية الإيطالية على هذا الفيلم طوال تلك المدة، جعل لزاماً على المافيا أن تبرّر موافقتها على تصوير الفيلم من جهة، واستعراض لقوة وسطوة وغيرة جو كولومبو على الجالية الإيطالية وسمعتها من جهة أخرى. بدأ المؤتمر الصحافي بإعلان كولومبو عن الاتفاق الذي جرى مع پارامونت على ألا يجري ذكر المافيا في الفيلم، ثم جاء دور آل رودي الذي أعلن عن سعادته بالاتفاق، وتعهده بأن الفيلم لن يُسيء إلى الإيطاليين الأمريكيين بأي صورة من الصور. وعندما سُئل إذا ما جاء هذا الاتفاق، وهذا الإعلان عنه نتيجة تهديد أو تخويف من قبل أي جهة كانت، فأجاب بالنفي، وأنه على العكس لم يجد غير التعاون والتفهم من الجالية الإيطالية وممثليها. وتكتّم، كما هو متوقع، على كلّ وسائل التهديد والضغط والابتزاز التي تعرّض لها حتى ساعة إبرام هذا الاتفاق.
«هوليوود تُصافح المافيا الإيطاليّة في أمريكا»، «المافيا الإيطالية تُجبر هوليوود على بلع لسانها» كانت هذه بعضاً من المانشيتات العريضة التي طلعت بها الصحف الأمريكية في صباح اليوم التالي. وكان كل عنوان منها كفيلا بأن يجعل أسعار أسهم جي+ دبليو ــ مالكة بارامونت ــ تنزل إلى الحضيض، وهو ما حصل، فخسرت الشركة الملايين من قيمة أسهمها في السوق. ورأى «الرأس الكبير» بولدهورن بأن آل رودي، الذي ذهب من وراء ظهره ليتفق مع المافيا من أجل فيلم هو السبب، فطرد آل رودي من وظيفته، وصار مشروع تصوير الفيلم مُعلّقاً في الهواء من جديد!
مضت أيام، وهدأت الأجواء والصحافة وسوق الأسهم والنفوس قليلاً، فوجد كوپولا بأنه صار لزاماً عليه أن يتدخل لإعادة إحياء مشروع حلمه. فذهب إلى «الرأس الكبير» بلودهورن وأخبره بأنه لن يتمكن أحد من تصوير الفيلم من دون آل رودي واتفاقه مع المافيا. «فإذا أردت أن تُصوّر هذا الفيلم، في هذه المدينة، وبهذه الميزانيّة فلا بُدّ أن تُعيد آل رودي إلى عمله». وهو ما أعاد آل رودي ليكمل إنتاج الفيلم.
وبدأ تصوير «العرّاب»
رأى العاملون في الفيلم بأعينهم أن الرجال الذين كانوا يهددونهم ويتوعدونهم من أجل إيقاف الفيلم، صاروا يستغلون الفرص، وعلى رأسهم الزعيم دون كولومبو كما راحوا يسمونه، لتجري اتفاقات تأجير المطاعم وأماكن التصوير من خلالهم فقط، ليفوزوا بالغنائم وهم يجمعون إتاواتهم مُقدّماً، ولا يلقون للمالكين الأصليين غير الفتات. هكذا وجد طاقم الفيلم أنفسهم في «إيطاليا الصغرى»، مُحاطين برجالات مافيا حقيقيين، من لحم ودم، ولا ينقصهم غير قبعات مافيا الأربعينيات، ليدخلوا في الكادر، وتصوّرهم الكاميرات، في واقع ينسخ نفسه، وإن كان الفارق ثلاثين عاماً.
٭ فصل من كتاب «العرّاب: التراجيديا المُلهمة» الصادر مؤخراً عن دار «نابو» في بغداد.
كلمات مفتاحية
القدس العربي