غياب السوري في السينما اللبنانية: أسئلة معلّقة/ نديم جرجوره
لماذا تغيب الشخصية السورية، المدنيّة والمسلّحة، في السينما الروائية اللبنانية، المعنيّة بالحرب الأهلية (1975 ـ 1990)، وبالتبدّلات الحاصلة بعد نهايتها الملتبسة والمزعومة؟
السؤال مشروع. العلاقات اللبنانية السورية متداخلة بقوّة منذ ما قبل اندلاع تلك الحرب. علاقات عائلية بين عائلات مُقيمة على جانبي الحدود اللبنانية ـ السورية؛ أعمال تهريب متنوّعة؛ مصالح تجارية بين الطرفين في بلديهما؛ العمالة السورية في لبنان؛ الدراسات الجامعية لشباب البلدين في البلدين؛ إلخ. الحضور المالي والمصرفي لسوريين عديدين معروفٌ، وهو قائم منذ نهاية الخمسينيات الفائتة. مرور بضائع دولية في سورية عبر مرفأ بيروت (ترانزيت)، وما يُنتجه من أرباح، ومن صفقات يتبادلها مسؤولون هنا وهناك. كتّاب وصحافيون وباحثون سوريون يُقيمون في بيروت، وينشرون مقالاتهم وأبحاثهم في صحف ودور نشر بيروتية، ويتابعون إصدارات بيروت، كتبًا وصحافة.
هذا سابقٌ للدخول العسكري السوري إلى لبنان (5 يونيو/ حزيران 1976). لن يكون نظام حافظ الأسد بريئًا من التحضير الخفيّ لهذا التدخّل، في الأعوام القليلة السابقة على اندلاع الحرب الأهلية. لكن التدخّل العسكري حاصلٌ، ونتائجه القاتلة ماثلةٌ، إلى الآن، في أجساد ناجين من بطشه، كما في أرواحهم وأفكارهم؛ وماثلةٌ أيضًا في نفوس من ينتظرون معرفة مصير مفقودين أو مخطوفين، يتحمّل النظام الأسديّ مسؤولية الإخفاء القسري لغالبيتهم؛ وماثلةٌ أيضًا في انفعالات معادين له منذ البداية، وهؤلاء أناس متضرّرون منه بأشكال مختلفة. وماذا عن الاغتيالات خلال الحرب، وفي مرحلة السلم الأهلي الناقص والهشّ؟
اللائحة طويلة. الحضور السوري في لبنان معروفٌ. الخروج العسكري السوري منه (30 أبريل/ نيسان 2005) لن يترافق وخروج سوري كامل منه، أمنيًا وسياسيًا على الأقلّ. حرب الأسد الابن على السوريين، بعد وقتٍ قليل على بداية حراكهم المدنيّ السلميّ العفوي (18 مارس/ آذار 2011)، عاملٌ لتهجير كثيرين منهم إلى لبنان، ما يؤدّي إلى تفاقم الصدام العنصري بين لبنانيين عديدين وبينهم؛ بل إلى بلورة خطاب قاسٍ في حقارته العنصريّة، خصوصًا مع تبنّيه من مسؤولين رسميين، مرتبطين بعلاقات ما مع النظام الأسديّ ذاك.
هذه كلّها محاولة اختصار عوامل أساسية في العلاقات ـ الملتبسة والمعقّدة والمتداخلة ـ بين اللبنانيين والسوريين، لكن اختصارها لن يلغي تفاصيل أخرى متداولة يوميًا هنا وهناك. اختصارها يهدف إلى تأكيد قِدَم تلك العلاقة وتنوّع أشكالها بين السلبيّ الغالب والإيجابيّ النادر. اختصارها نفسه مطلوبٌ لإعادة طرح سؤال غياب الشخصية السورية في السينما اللبنانية، الروائية أساسًا، المعنيّة بأحوال الحرب ومخلّفاتها، والسلم والتباساته، والعنف الأسديّ على السوريين ونتائجه اللبنانية.
وللسؤال هذا شبيهٌ يتمثّل بغياب الشخصية الفلسطينية من السينما الروائية اللبنانية، المعنيّة بتلك الحرب، وبما قبلها وبعدها. الحضور الفلسطيني في لبنان أقدم وأعمق، فهو منطلقٌ من نكبة عام 1948، ومنفلش في أحوال وجوانب، بعضها ماليّ أيضًا، وبعضها الآخر متعلّق بكيفية الإمساك بزمام الأمور السياسية والاقتصادية والصحافية والفنية، فالمال الفلسطيني عامل أساسي في تفعيل الإمساك هذا والقبض على مقدّرات البلد وناسه، أعوامًا طويلة. الحساسية اللبنانية إزاء الفلسطيني يطغى عليها التزام لبنانيين الهمّ الفلسطيني في مواجهة نكبته المتمثّلة بنشوء الكيان الإسرائيلي في فلسطين. غير أنّ انفصامًا كبيرًا حاصلٌ في العقل والنفس اللبنانيَّين: حماسة كبيرة للدفاع عن القضية ومقاومة العدو الإسرائيلي لاحتلاله فلسطين، وقهر وقمع وتمييز بغيض بحقّ المدنيين، يتمثّل بقوانين جائرة تمنع عنهم مسائل إنسانية وحياتية وأخلاقية عديدة، أو بسلوك لبناني عنصريّ، سيكون له امتدادٌ عميق في التعالي اللبناني على المدنيّ السوريّ، المُقيم في لبنان منذ سنين عديدة، والمهجّر في مخيمات بائسة، في ظروفٍ قاهرة لعيش مُذلّ.
وكمعاناة المدنيّ الفلسطيني جرّاء ثقافة وتربية وسلوك ـ مرتكزة كلّها على عنصرية لبنانية ـ يمارسها مسؤولون ومواطنون على حدّ سواء، لن يتردّدوا (مسؤولون سياسيون وحزبيون) عن التعبير عنها بكلام فظّ ومقيت، وبسلوك أكثر فظاظة ومَقْتًا؛ هكذا يُعاني المدنيّ السوريّ سلوكًا لبنانيًا بغيضًا، لعلّه ناتج من تاريخ مرير من العلاقات المعقّدة، ومن ثقافات تُربّي أجيالاً على عدم قبول الآخر، بل على التعامل معه بفوقية وتعالٍ.
كما الفلسطيني، هكذا السوري. الصراع مع السلاح الفلسطيني والسوري مسألة تختلف تمامًا عن الحساسية الإنسانية (المفقودة غالبًا) إزاء المدنيّ. صحيحٌ أن “تشبيحات” كثيرة يُمارسها مدنيون فلسطينيون وسوريون، تاريخيًا، في لبنان؛ لكن هذا ناتج من انعدام الثقة بين الأطراف كلّها، أو أنه جزء من شخصية فردية، تجد شبيهًا لها في شعوب كثيرة أخرى. التعالي والفوقية اللبنانيان إزاء الفلسطيني والسوري حاضران أيضًا في العلاقات اللبنانية الداخلية، إذْ هناك كره بين لبنانيين منتمين إلى دين واحد، أو طائفة واحدة، أو مذهبٍ واحد. كأن العنصرية اللبنانية متأصّلة في تربية جماعية، يحصل أن يتمرّد عليها كثيرون، فيَصْدقُون بخروجهم على القبائل الطائفية والمذهبية، وبالتزامهم قضايا إنسانية وأخلاقية وحياتية إزاء مدنيين فلسطينيين وسوريين، وإزاء غيرهم من الأجانب المُقيمين والعاملين في لبنان.
لكن السؤال يبقى حاضرًا: لماذا تغيب الشخصيتان الفلسطينية والسورية في السينما اللبنانية، المعنيّة بالحرب الأهلية، وبما بعدها أيضًا، رغم حضورهما القوي والفعّال والمختلف في البلد ومع ناسه؟ والسؤال، إذْ يُطرح في لحظة “تجلٍّ” لبناني في النزعة العنصرية إزاء مدنيين سوريين، مُقيمين في بيروت ومدن مختلفة؛ فهو مطروح أيضًا في لحظة “تجلّ” متشابهة، يمارسها لبنانيون كثيرون بحق المدنيين الفلسطينيين، فيعجزون (اللبنانيون) عن التفرقة بين الفصائل المسلّحة والمدنيين الخاضعين لابتزازاتها وقمعها وسلطاتها. ورغم هذا كلّه، تبتعد السينما اللبنانية عن تلك الشخصيتين، مع أن زياد الدويري سيكون أول سينمائيّ لبناني يُقدِّم شخصية مدنية فلسطينية، كأحد البطلين الأساسيين، في آخر فيلم روائي طويل له، بعنوان “قضية رقم 23″، المُنجز عام 2017. ومع أن الفيلم مائلٌ إلى وجهة نظر يمينية بخصوص الحرب وأسبابها والدور الفلسطيني فيها، وهذا محتاج إلى نقاش نقدي هادئ، فإنّ ميزته الأساسية كامنةٌ في تقديمه الشخصية الفلسطينية من دون “أبلستها” أو التجنّي عليها. فزياد الدويري يروي سيرة كتائبيّ مُصرّ على التزاماته القواتية بعد سنين مديدة على نهاية الحرب، ويبدأ نزاعًا مع مهندس فلسطيني، يؤدي إلى كشف بعض أحوال تلك الحرب، ومجازرها وعنفها.
يعترف مخرجون لبنانيون عديدون، “متورّطون” بسينما معنيّة بالحرب الأهلية (بعضهم ملتزم قضية فلسطين، وعاملٌ في صفوفها، سينمائيًا ونضاليًا)، بأن “الموضوع” صعبٌ، وبأن أفلامه تلك تميل أكثر إلى مسائل حميمة خاصة بهم، وبأن الفترات الزمنية المختارة فيها لن يكون الفلسطيني حاضراً فيها بقوّة، أو بأنّ السينمائيّ نفسه غير ملتق فلسطينيًا في بلدته أثناء طفولته ومراهقته، خصوصًا أنّ تلك المرحلتين جزءٌ من سيناريو فيلم سيكون، بالنسبة إلى مخرجه، “سيرة ذاتية”.
لكن اللافت للانتباه أن غياب الشخصية الفلسطينية متناقضٌ وحضورها القوي في فنون أخرى، كالموسيقى والأغنية (ولاحقًا في بعض الروايات)، كما في أعمال الأخوين عاصي ومنصور الرحباني وفيروز ومرسيل خليفة وأحمد قعبور وخالد الهبر وغيرهم، من دون تناسي رواية “باب الشمس” (1998) للّبناني الياس خوري مثلاً، المقتبسة في فيلم بالعنوان نفسه (2004) للمصري يُسري نصرالله. هناك من يعتبر أن “الإحراج” سبب أهمّ في ما يُسمّيه “التغييب”: الإحراج من التعاطي مع الفلسطيني سلبًا أو إيجابًا. أو ربما عدم فهم هذه الشخصية وإدراكها، في مقابل تعميم لها، يُختَزَل بلاجئ أو مقاتل. والفلسطيني نفسه فاعلٌ في الثقافة والفنون، ومختلط بالمجتمع عبر الزواج أيضًا. ومع هذا، فهو غير موجود في السينما اللبنانية.
لكن، ماذا عن الشخصية السورية؟
تتّخذ الإجابة من الخوف (اللاواعي ربما) سببًا للتغييب أو الغياب. فالقمع الأمني ـ الاستخباراتي السوري في لبنان مُثير لمخاوف وتشنّجات، رغم أن صحافيين وكتّابًا ومثقفين غير متردّدين عن مواجهة الاحتلال الأسديّ السوريّ للبلد بكتابات وتعليقات، وبعضهم يُقتَل بسبب مواقفه.
ولعلّ القلق إزاء كيفية تناولها السينمائي يؤدّي إلى التغاضي عنها، أو عدم نضوج وعي معرفي بكيفية الاشتغال عليها، يتمكّن (الوعي) من منح السينمائي إمكانية التعاطي معها بصفاء وهدوء. ومع هذا، فإن اللبنانية صوفي بطرس تُنجز، عام 2016، “محبس”، الذي يتناول جانبًا من تلك العلاقة المعقّدة بين اللبنانيين والسوريين، من خلال لقاء بين عائلتين، لبنانية وسورية، بهدف إتمام زواج ولديهما، على خلفية الحرب والحقد والالتباسات والأسئلة الملتبسة.
يبقى السؤال معلّقًا، والإجابات غير شافية وغير مقنعة وغير حاسمة، مع أن العلاقات اللبنانية ـ السورية غنيّة بمعطيات درامية قادرة على صنع سينما روائية متنوّعة الأشكال والمضامين. أما الأسباب، فعديدة: ربما لأن الحرب الأهلية اللبنانية غير منتهية بعد، والمصالحات ـ بين اللبنانيين أنفسهم وبين اللبنانيين والآخرين ـ مرفوضة أو ممنوعة، والثقافة العنصرية طاغية، ورفض الآخر أهمّ من إتمام سلمٍ حقيقي، والتصالح مع الذات معطوب بل معطّل، والجريمة الأسديّة مستمرّة في قتل شعب وتشريده، وفي تفتيت مجتمع وتفكيك بلد وإلغاء ذاكرة وتاريخ. كما أن التعالي والشوفينية اللبنانيَّين أساسُ كلّ تواصل مع الذات والآخر.
لكن السؤال مفتوح، والنقاش مطلوب.
تلفزيون سوريا