برهان غليون ووقائع ثورة لم تكتمل(*)/ نواف القديمي
أحسب أنني قرأتُ قدراً جيداً من السير الذاتية والسياسية، لكني لم أقرأ سيرة بالجرأة التي دوّن بها الدكتور برهان غليون كتابه الجديد. كتّاب السيرة عادة ما يتجنبون الحديث النقدي المباشر والجريء عن الشخصيات والتجمعات السياسية، بل يميلون غالباً إلى استخدام لغة دبلوماسية غير مباشرة، والتلميح لا التصريح. لكن برهان غليون في شهادته هذه لم يفعل ذلك، بل تحدث عن السياسيين والناشطين والمثقفين وقادة الفصائل والمجموعات السياسية بكل جرأة، وكأنه يتحدثُ إلى صديقٍ خاص في لحظة تجلٍ تسقُط فيها كل الحُجُب.
بعد مرور سريع على المشهد السياسي في سوريا خلال الستينيات والسبعينيات وما أعقبها من أحداث دموية ومواجهات بدأت في 1979 وانتهت بمجزرة حماة العام 1982، ثم فترة هدوء نسبي امتدت حتى “موت الديكتاتور” – والعبارة لرياض الترك – العام 2000، وما تلاها من نشاطات ربيع دمشق، ثم إعلان دمشق للتغيير الديموقراطي، وانقسامات الوسط السياسي في سوريا، وصولاً للحظة الربيع العربي وبدء الثورة والتي تمثل المادة الرئيسية لهذه الشهادة.
بدء الاحتجاجات، وبدء المواجهة الأمنية والقتل، وتوالي المواقف الدولية، وتصاعد المظاهرات، والنشاط المحموم – المليئ بالاستقطاب والمُحاصصة وعدم الثقة – لتكوين واجهة سياسية للثورة، فبدايات العسكرة والتسلّح والانشقاقات المتوالية من جيش النظام، ثم تكوّن الفصائل العسكرية تحت لافتة الجيش الحر وما أعقبها من نشوء الفصائل الإسلامية التي امتدت لأسلمة غالب النشاط الثوري المسلّح. إضافة لحديثٍ موسعٍ عن أدوار ومواقف كلاً من هيئة التنسق، ومجموعة إعلان دمشق، وجماعة الإخوان المسلمين، ومجموعة العمل الوطني، والأكراد ومطالبهم وطموحاتهم، وعشرات الأسماء لسياسيين وناشطين ومثقفين وعسكريين وقادة فصائل، كل ذلك تحدث عنه د.برهان غليون وطرح رأيه وشهادته في أدوارهم ومواقفهم بكل شفافية ووضوح.
كما احتوت الشهادة إطلالة على التاريخ السياسي الحديث لسوريا وطبيعة المجتمع وانقساماته الاجتماعية والسياسية والجهوية وعلاقة الريف بالمدينة، وتضمنت تحليلاً وافياً لمواقف كلاً من روسيا وإيران والغرب وتركيا والسعودية وقطر وتصوراتهم ل “سوريا كما يريدونها” وطبيعة أدوارهم وطموحاتهم فيها.
“عَطَب الذَّات: وقائع ثورة ثم تكتمل” ربما يكون أول شهادة موسعة وجريئة تتحدث عما جرى في الكواليس وفي العلن خلال أهم سنوات الثورة السورية بقلم أحد أهم الفاعلين فيها وأول رئيس للمجلس الوطني السوري. وهو ما سيُحفز كثيرين للرد والتعقيب وكتابة شهاداتهم عن تلك الوقائع والأحداث، الأمر الذي سيمنحنا – نحن القرّاء – روايات متعددة للحدث الواحد.
————
ثمة عشرات المواقف والقصص المدهشة والمهمة التي دوّنها د.برهان غليون في كتابه وتستحق أن تُروى، إما لما تضمنته من مفارقة أو لغرابتها وفرط وضوح أصحابها أو لانتهازيتهم، أذكر منها كنموذج هذين الموقفين:
……
يتحدث د.غليون في سياق حديثه عن توقيع بيان “إعلان دمشق للتحول الديموقراطي” الذي شارك في إعداده وصياغته المعارض السوري الشهير رياض الترك والذي كان هو وخالد بكداش يتزعمان أكبر فصيلين شيوعيين في سوريا:
“بعد مداولات طويلة، أرسل لي رياض الترك النص الأخير للبيان المزمع إصداره للإعلام عن ولادة التجمع الجديد. ودهشت لفقرة وردت فيه تقول إن الإسلام هو ديانة الأغلبية من السوريين وينبغي أن يحظى باهتمام خاص. قلت لرياض: هذه الفقرة غير ضرورية ومسيئة للبيان، إذا كان الإسلام دين الأغلبية فهو الدين المهيمن على الفضاء الثقافي والروحي، ولا داعي لتأكيد ما هو واقع، بالمقابل ما كان ينبغي عليكم أن تعيروه اهتماماً أكبر هو تطمين الجماعات الدينية الأخرى على موقعها لا العكس. لكنني طالبت بأن تُحذف الفقرة تماماً وإلا سأرفض التوقيع على البيان/ الإعلان (…) وفي انتظار جوابه، بعد المشاورات مع بقية الأطراف، اتصلت بصدر الدين البيانوني، وكان في موقع المرشد لجماعة الإخوان المسلمين، وسألته إذا كانوا مصرين فعلاً على هذه الفقرة التي تسيء للبيان والإعلان ومشروع العمل الديمقراطي المعارض معاً. قال: أبداً، لسنا نحن الذين وضعناها ولا نطالب بوجودها ولا نتمسك بها. نقلت ذلك إلى رياض، الذي أجابني أنهم لا يستطيعون حذف الفقرة لأن الوقت قد تأخر. قلت: هذه ذريعة واهية، الخطأ ينبغي أن يُصحَّح، ولا شيء يدعو للعجلة من أجل يوم إضافي. قال مباشرة: جورج صبرا هو الذي وضعها وهو مُصرٌّ عليها. فأعلمته بأنني أرفض التوقيع على بيان إعلان دمشق الذي كنتُ من أول الداعين له والضاغطين لإصداره”.
……
وبعد الثورة وتشكيل المجلس الوطني، حين كرر عليه في باريس صادق خرازي مستشار المرشد الإيراني بأن يلتقي بالإيرانيين ويزور طهران، أجاب الدكتور برهان:
“قلت: حسناً؛ قبل أن التقي بهم، أودّ أن تسألهم من طرفي: ما هي حدود تطلعاتهم في سورية، وماذا ينتظرون من السوريين بالضبط، وما الذي يتوقّعونه من المعارضة؟
وتتالت اللقاءات وذهب إلى طهران عدة مرات، وفي كل مرة يعود بكلام معسول لكن من دون أي جواب واضح. وعندما ألححت عليه لمعرفة ماذا يفكر بالضبط المرشد ومستشاروه كمخرج من الحرب السورية التي هم شركاء رئيسيون فيها، أجابني بأنهم لم يقدموا أفكاراً واضحة ولكنهم متحمسون للقائي في أية ظروف، وأنني إذا ذهبت إلى طهران سوف نتفاهم على كل شيء. قلت: سأدع ما يفكر فيه الإيرانيون وأطلب منك أن تحدثني أنت عن انطباعاتك عما يمكن أن يفكروا فيه، وعن رؤيتك أنت للوضع. قال: “ليكن هذا بيننا. الإيرانيون يريدون أن تكون سورية كاملة لهم أو معهم، فهم في حرب مع المملكة السعودية، وأنتم في نظرهم أقرب إليهم، أي إلى إيران، بل أنتم جزء من حضارتهم، ولا علاقة لكم ببدو جزيرة العرب. وهم مستعدون، كما قالوا لي، أن يقدموا لكم ضعف ما يقدمه لكم الخليجيون من أموال وتبرعات لقاء ذلك؛ إذا قدموا لكم مليارين فإيران تقدم أربعة”. لم أُدهش لكنني جمدت. فسألني: ما هي الرسالة التي تود أن أنقلها للإيرانيين من طرفك؟ قلت: قل لهم إن الشعب السوري ليس معروضاً للبيع، وهو جزء من العالم العربي ولا يمكن أن ينفصل عن حاضنته العربية، وليس هذا موضوع مساومة ولا مفاوضات. وكان ذلك إعلان بنهاية الحوار. وقد انقطع الاتصال بالفعل مع طهران، وعرفت بعد ذلك أنه لا حوار ممكناً مع طهران”.
(*) مدونة كتبها الباحث نواف القديمي في صفحته الفايسبوكية
(**)يقع الكتاب في ٥٢٨ صفحة، وستُقام فعالية حول الكتاب في مكتبة الشبكة العربية باسطنبول يوم السبت 16 مارس/آذار الساعة السادسة مساءً، يتحدث خلالها د.برهان غليون عن كتابه ويوقع نسخاً منه.
المدن