التوثيق البصري للتعذيب في سوريا: كيف تجاهل العالم كل هذا الألم؟/ سوزي لينفيلد
الحرب الدائرة في سوريا مأساة إنسانيّة متواصلة؛ وتعدّ أيضاً أكبر فشل سياسيّ في العقد الماضي، وهو فشل قد يعتبره المؤرّخون عارَ جيلِنا، سواء في الغرب أو الشرق الأوسط. على رغم وحشيّة هذه الحرب، فقد وُثِّقت على نِطاقٍ واسع من خلال الصور ومقاطع الفيديو والأفلام وعلى الهواتف الخليويّة التي ما زالت موجودة، وإن كان هذا التوثيق -كما يقول النقّاد- بصورة غير فعّالة.
يستند هذا النقد إلى سوء فهم للعلاقة بين التصوير والسياسة؛ وهي علاقة طُبِعَت بالرومانتيكية، منذ ذهب المصوّرُ المجريّ روبرت كابا ورِفاقُه إلى إسبانيا، وهذا ما أدّى إلى بعض الرؤى الثاقبة لسوزان سونتاغ في كتابها ” عن التصوير”. لمدّة 8 سنواتٍ، تابَع العالم قوّات الجزّار المجرم، الرئيس بشّار الأسد، تقصف وتغتصب وتعذّب وتشرّد وتقتل ملايين الرجال والنساء والأطفال في البلاد. لقد استخدمت القوّات مراراً الأسلحة الكيماويّة ضدّ المدنيّين، وخلَقَت ما سمّاه الصحافيّ اللبنانيّ مايكل يونغ “أزمة إنسانيّة من الطراز الموجود بالكتاب المُقدّس”.
دُمِّرَت البنية التحتيّة الماديّة في البلاد، مِن مدارس ومستشفيات ومدن وبلدات ومزارع ومحلّات ومرافق المياه والكهرباء؛ وبالقدر ذاته دُمّرَت العلاقات الإنسانيّة والنسيج الاجتماعيّ. سُجِنَ عددٌ لا يُحصَى من الناس، ربّما أكثر من 100 ألف، في غرَف التعذيب، وفَقدَ كثيرون أطرافَهم وعيونَهم وعقولَهم، وقد شَبَّه بعضُهم المجازرَ التي وقعت العام الماضي في الغوطة الشرقيّة بمجزرة سربرنيتسا أثناء حروب البلقان؛ وبحسب ما كتب أحد كتاب الأعمدة في صحيفة ذي غارديان، “يحوي هذا العنف من القسوة والوحشية ما لا يُطاق”. أصيب جيلٌ كامل من الأطفال بالصدمة، وحُرِم من التعليم، ويُتِّم؛ وإنّ المرء ليرتعِد من التفكير في الانتقام الذي سيُوقِعُه هذا الجيل في المستقبل.
وُصِفت الحرب السوريّة بأنها تمثّل موتَ فكرة التدخّل الديموقراطيّ أو الإنسانيّ أو الليبراليّ، وهي القضية التي دافعَت عنها سونتاغ وآخرون بكلّ قوّة في حالة البوسنة، وتمثّل أيضاً موتَ التضامن الدوليّ، ومسؤوليّة الحماية. مع ذلك، فإن المشكلة تكمن في أنّ سوريا ليست البوسنة (أو إسبانيا أثناء الحرب الأهليّة الإسبانيّة). إنّ من الصعب أن توجد في النزاع السوريّ القوى ذاتها التي أشادت بها سونتاغ في حالة البوسنة – قوى الديموقراطيّة والعِلمانيّة والتسامح الديني والمواطنة متعدّدة العِرقيّات، تُعارِض الجزّار -على نحوٍ مأساويّ- مجموعة من القوى التي تتساوَى معه في الفظاعة والبشاعة، ومنها -على سبيل المثال لا الحصر- تنظيمُ القاعدة وجبهة النصرة وأحرار الشام وتنظيم داعش.
كتب رضوان زيادة -وهو ناشط بارز في المعارضة السوريّة- في تناولِه هذا الوضع “تخيّلوا كيف يشعر المرء وهو يعرف أن بلادَه يديرها نظامٌ إرهابيّ وتنظيم إرهابيّ، بل أسوأ الأنظمة الإرهابيّة وأسوأ التنظيمات الإرهابيّة”. إنّ دمشق ليست سراييفو.
في سوريا كانت الحرب أخطر من ناحية التوثيق البصريّ، من الحرب التي دارت في البوسنة؛ إذ استهدفت الأطراف جميعها المصوّرين الصحافيّين (والصحافيّين كذلك) في الحرب السوريّة وعذبتهم وقتلتهم بمعدّلاتٍ غير مسبوقة. على رغم هذا، فقد التُقطت مجموعة واسعة من الصور ووزعها الجميع سواء من مدنيّين هواة تحت الحصار، مستخدمين هواتفهم الجوّالة، أو مُصوّرين مُحترفين غربيّين وعرب. كتبت سوزان سونتاغ، في كتابها “الالتفات إلى ألم الآخرين“ Regarding the Pain of Others، كيف أنّ الحرب ”تُخلِي العالم القائم وتمزّقه وتفكّكه وتَهدِمه“. ينطبق هذا بالتأكيد على الصور السوريّة (طالِع، على سبيل المثال، الصور التي نشرتها صحيفة ذي غارديان في شباط/ فبراير من العام الماضي).
كان الأمل التقليدي لدى المصوّرين الصحافيّين، بعرضهم قسوة الحرب، هو أن يتّخذ العالَم ما أسمته مارثا غيلهورن “مبادرة إنقاذ”، إلّا أنّ الجناة في هذه الحرب، سواء في نظام الأسد أو في الجماعات الإرهابية المعارضة له، قد صوّروا -بل روَّجوا- فظائعَهم الخاصة بأنفسهم، التي يبدو أنهم فخورون بها.
لذا فعلى رغم أهمّيّة توثيق جرائم الحرب وحيويّته، فإن الوظيفة التقليديّة للتصوير صارت الآن في موضع اختبار على نحوٍ خطير. صارت صور الجناة سيّئة السمعة على يد النازيّين والخمير الحمر؛ وقد أحدَثت تلك الصور طفرةً مذهلة في مطلع القرن الحادي والعشرين. إن معظم ما نعرفه عن فظائع “داعش” قد استقيناه من مقاطع الفيديو الدعائيّة التي يعرضونها؛ وقد ترسّخت في الذاكرة صورٌ من قَبيل ذبح الصحافيّين وغيرهم من الرهائن وحرق الطيّار الأردنيّ حيّاً.
“القيصر” هو الاسم الرمزيّ لرجلٍ عمل مصوّراً لحساب الجيش والشرطة في دمشق، أي مصوّراً حكوميّاً. (يعيش اليوم في مكانٍ ما في شمال أوروبا في ظلّ حماية الشهود). كان يصوّر قبل الحرب مسارح الجرائم والحوادث: تصادم سيارات وحالات انتحار وحرائق، إلّا أن عمَله وحياته تغيّرا مع اندلاع الاحتجاجات ضدّ نظام الأسد في ربيع عام 2011، وهي احتجاجات سلميّة كان أوّل مطالبها “الكرامة”. لم تكن له أيّ انتماءات سياسيّة، ولكن كما أخبر لوكين “يوماً ما أخبرني زميل أنّ علينا تصوير بعض الجثث لمدنيين”. على رغم وصفهم بالإرهابيّين، فقد كانوا في الواقع أناساً عاديّين من درعا، حيث اندلعَت التظاهرات السلمّية الأولى بشكلٍ عفويّ بعدما ألقِيَ القبض على مجموعة من تلاميذ المدارس ومِن ثَمَّ عُذّبوا تعذيباً، لم يكن ممكناً التعرف إليهم بعده، بتهمة كتابة شعارات ضد الحكومة على الجدران. انتهك الجنودُ حُرمةَ أجساد المتظاهرين الذين رآهم “القيصر” ذلك اليوم. وعلى رغم أنّ الموتى كانت لهم أسماء، إلّا أنه بعد وفاتهم صارت الجثث “مجرّد أرقام”.
تواصَلَت الاحتجاجات، وتكدّست الجثث؛ وصار عمل القيصر أكثر بشاعةً وترويعاً. يتذكر القيصر قائلاً “لم أرَ هذا من قبل. فقبل الثورة، كان النظام يعذّب الناس للحصول على معلومات، لكنه الآن ببساطة يعذّب الناس حتّى الموت. رأيت الحرق بالشموع، وبعض الناس لديهم جروح عميقة بالسكّين، أو انتُزِعَت مُقَلُهم، أو كُسِرَت أسنانُهم، أو جُلِدوا بالسياط… وكانت هناك كَدَمات تقيّحَت وامتلَأت بالصديد… أحياناً كانت الجثث ملطّخة بالدماء، وكان الدم لا يزال غضّاً”. صورَت كلّ جثة بعناية مرات عدة: صورة “للوجه، وأخرى للجسد كاملاً، وصورة جانبيّة، وأخرى للرأس والكتفين، وأخرى للرجلين”. صنِّفَت كلّ جثة بحسب فرع المخابرات الذي له صلاحيات السلطة القضائية على الضحيّة المَعنيّة. أصدَرَ الأطباء الشرعيّون تقريراً بشأن كلّ جثّة، وعادةً ما كان سبب الوفاة يُعزَى إلى “مشكلة في الجهاز التنفسي” أو “سكتة قلبيّة”.
وإضافة إلى عذابات الجسد، تحكي الصور أيضاً عن المعاناة النفسية. وقال القيصر إن هؤلاء الضحايا “كانوا يعرفون أنهم موشكون على الموت… فقد كانت أفواههم مفتوحة من الألم، ويمكنك أن تستشعر الإذلال الذي لحق بهم”.
كان القيصر مصعوقاً من مهمات عمله الجديد، ومرعوباً أيضاً. وقال “كان عليَّ أن أرتاح بين الحين والآخر حتى لا أشرع في البكاء… كان بإمكاني في ذلك الوقت أن أتخيَّل إخوتي وأخواتي مكان إحدى هذه الجثث. جعلني ذلك الأمر عليلاً”. فقرَّر أن يبوح بسرِّه لصديقه المقرب سامي (اسم مستعار أيضاً)، في محادثة -مثل الكثير من المحادثات في دولة الأسد البوليسيّة- محفوفة بالخطر حتى لو أُجريَت مع أكثر أفراد العائلة ثقةً. أما سامي، الذي كان يعمل مهندساً إنشائياً في دمشق، فكان على علم بحقيقة النظام منذ عشرات السنوات حين كان طالباً في المدرسة، واعتُقِل أستاذه المفضل الكبير في السن، وتعرَّض للتهديد باغتصاب زوجته، ومن ثم “اختفى”. قال سامي مسترجعاً ذكرياته “أدركت حينها أننا لم نكن نعيش في بلد بل في سجن كبير”.
أراد القيصر أن يترك عمله ويهرب من سوريا، لكن سامي حثَّه على المثابرة. فرَّغ الصديقان أثناء عملهمها في دمشق لمدة سنتين 55 ألف صورة للرعب، وهرَّبا بعضها إلى الخارج لحفظها على الإنترنت. كانت بعض الصور تُتداوَل سراً داخل سوريا بالفعل؛ كتبت لوكين “أتاح بنك المعلومات المروِّع والسريّ هذا لأولئك الذين لم يعرفوا ولو خبراً واحداً عن أخٍ أو زوجٍ أو أختٍ، أن يحصلوا على تأكيد مقتلهم”.
عمِل مع القيصر فريق مكون من حوالى 12 مصوراً. وقال إنهم حين كانوا يطبعون الصور، “لم نستطع أن نشيح بوجوهنا عنها”. وتابع “كان المعتقل يتجسَّد أمامنا مرة أخرى. كان بإمكاننا حقاً أن نرى الجثث ونتخيَّل التعذيب ونشعر بالضربات المنهالة. ثم يتوجَّب علينا أن نكتب التقرير.
تأخذنا لوكين من خلال شهادات كثر من الأطراف، بمن فيهم قيصر وسامي وأطباء وسجناء ناجون، إلى داخل “آلة الموت”. حيث تحولت المستشفيات إلى مراكز تعذيب. وحيث المحاكمات الصورية السريعة التي تفضي إلى أحكام حتميّة بالإدانة والسَّجن والتعذيب، وفي أغلب الأحيان، الإعدام.
عام 2013، مع ازدياد خطورة الوضع، هرَّب ناشطون معارضون للأسد القيصر وسامي -والقرص الصلب الخاص بهما- إلى خارج البلاد. يتذكَّر القيصر نفسه وعائلته قائلاً “قبل الثورة، كنا نعيش حياة بسيطة وعادية… لم تكن لنا طموحات كبيرة”. وتابع “لم نزر قط المناطق الجميلة من سوريا، لم يكن لدينا وقتٌ أو مالٌ لذلك، ولم أذهب إلى السينما إلا مرتين طوال حياتي”. لم يتخيَّل قط أنَّه سيصبح منفيّاً.
تثار أسئلة محيرة حول هذه الصور كما سبق وأثيرت حول الصور الوحشية التي التقطت للغيتوهات النازية، ومعسكرات الموت التي أنشأها الخمير الحمر: لماذا التقطت هذه الصور؟ لماذا توثق الدولة همجيتها، حتى لو لم يتخيل حكامها أن هذه الصور ستنتشر؟ لقد تساءل قيصر أيضاً حول هذا الأمر لكنه لم يقدم إجابات قاطعة.
ربما قد التقطت هذه الصور بسبب الممارسات الطويلة الأمد التي كانت تمارسها وكالات المخابرات داخل سوريا، إذ لم تكن تثق في بعضها البعض وكانت تسعى كل واحدة منها لحماية نفسها عبر توثيق أنشطتها. إضافة إلى ذلك تستخدم المخابرات الصور لإخبار العائلات عن مآل أحبائهم من دون الاضطرار إلى تقديم جثة مشوهة، أو إخبار أقاربهم عن المآل الذي ينتظرهم. وأظن أن هذه الصور إشارة إلى انفصال نظام الأسد عن العالم الواسع، والذي أدى -كما حدث مع النازيين والخمير الحمر- إلى ضمور أخلاقي. وفي كل حال، فإنها تبين بوضوح شعور النظام بإفلاته من العقاب وثقته غير المستحقة بأنه سيخرج منتصراً من الحرب.
القضية الأعمق التي تثيرها الصور هي استمرار وجود “العنف غير المجدي” الذي ذُكر في عالم بريمو ليفي. هذا العنف الذي ليست له غاية استراتيجية أو عسكرية، إنه يخلق نفسه، عالم ألم مغلق، لا يستجيب لأي أحد أو أي شيء داخله. الحرب والعنف ليسا أمرين غير عقلانيين، لقد كان ليفي محقاً عندما كتب “هل هناك شيء اسمه عنفٌ نافعٌ؟ نعم، للأسف”. ويضيف “الحروب فظيعة… لكن لا يمكن القول إنها غير نافعة لأنها تُشنّ لهدف معين، على رغم أنها قد تكون خبيثة وفاسدة”.
جون أميري هو كاتب آخر ينتمي، مثل ليفي، لمجموعة مقاومة ونجا من معسكر أوشفيتز. كتب أميري بعد الحرب عن العذاب الذي لقاه على يد الغيستابو. بالنسبة له إغراء العنف -إذا كان من الممكن استخدام هذه الكلمة- يكمن في قابليته على مد الفاعل بالشعور بسلطة غير محدودة. كتب أميري أن التعذيب يمثل “إنكاراً راديكالياً للآخر”. “يرغب الجلاد في أن يلغي هذا العالم، من طريق إلغاء أخيه الإنسان… لتحقيق سيادته الكاملة… بهذه الطريقة، يصبح التعذيب الانقلاب الكلي للعالم الاجتماعي، الذي يمكننا العيش فيه فقط إذا قدمنا ضماناً لحياة أخينا الإنسان، وخففنا معاناته، وكبحنا رغبة أنانيتنا في التوسع. لكن في عالم التعذيب يوجد الإنسان عبر تدمير الآخر الذي يقف أمامه”.
أصر بشار الأسد في مقابلة أجراها مع مجلة فورين أفيرز عام 2015 أن صور قيصر لا تثبت شيئاً: ” من التقط الصور؟… من قال إن الحكومة قامت بذلك وليس الثوار؟ من قال إن هؤلاء ضحايا سوريون ولسوا ضحايا آخرين؟” وأشار في وقت لاحق إلى أن الصور معدلة بالفوتوشوب وأنها مجرد “بروباغندا”.
غير أنه منذ وصول الصور إلى الغرب تم التحقق منها من طريق خبراء قانونيين وشرعيين، بمن فيهم مكتب التحقيقات الفدرالية ومُدعي نيابة جرائم الحرب. وانتشرت بشكلٍ واسعٍ. نشرت مقالات حولها في كلٍ من “نيويورك تايمز” و”واشنطن بوست”، و”الغارديان”، و”لوموند”. ونشرت “هيومن رايتس ووتش” صوراً كثيرةً منها وتقارير مستفيضة عنها على موقعها، الذي ما زال بالإمكان إيجادها عليه. وعرضت الصور في متحف الهولوكوست التذكاري الأميركي، والبرلمان الأوروبي، والأمم المتحدة. كما قامت كريستيان آمانبور بإجراء مقابلة مع قيصر (الذي ظهر متخفياً) على قناة CNN، والأهم أنه أدلى بشهادته متخفياً أيضاً أمام الكونغرس عام 2014. (رفضت مستشارة الأمن القومي سوزان رايس والرئيس أوباما مقابلته، لكن السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة سامانثا باور والسيناتور جون ماكين قابلوه).
في وقت سابق من ذلك العام، وفي باريس، شاهد مجموعة من أرباب السياسة الخارجية العالمية من بينهم وزير خارجية الولايات المتحدة جون كيري ووزير خارجية فرنسا لوران فابيوس عرضاً لصور القيصر. كتبت لو كين قائلة “شاهد الحضور العرض صامتين، جامدين من هول ما يرون. خرج الوزراء تباعاً من دون أن ينبسوا ببنت شفة وكان جون كيري شاحب اللون”. وصف مصدر مقرب من فابيوس الصور في وقت لاحق بأنها “صور لم نر مثلها منذ محرقة اليهود وجرائم الخمير الحمر”. تعود بنا مجموعة الصور 60 عاماً إلى الوراء. باختصار، شاهد هذه الصور كثيرون من الناس، بعضهم ذوو شأن.
صور قيصر، مثلها مثل آلاف الصور، من بينها صور آلان كردي الممدد على الشاطئ التركي، لم تفعل ذلك، لأنه لم يكن لها أن تفعل ذلك. لا تطيح الصور بالمستبدين، بل كل ما يمكنها أن تفعله هو أن تعزز وعياً سياسياً موجود أصلاً، ولو كان بين قلة من الناس.
وخير ما يسلط الضوء على هذه الحيرة السائدة تجاه سوريا -وهي حيرة لا أستثني نفسي منها- هو كتاب يضم مجموعة مقالات بعنوان المعضلة السورية، حرره نادر هاشمي وداني بوستل. نشر الكتاب في 2013 ولم يكن الموقف حينها بشعاً بالقدر الذي أصبح عليه اليوم وظلت خيارات معينة مطروحة على الطاولة، لكن المواقف التي تبنتها مجموعة من المثقفين الغربيين والعرب -والفوضى الفكرية التي تمثلهاـ- ما زالت قائمة حتى اليوم.
توحي عناوين المقالات الواردة في الكتاب بأنها مجموعة من الحلول الجامحة يقدمها أشخاص يتشاركون كرههم للأسد ويتفقون على الأغلب على عدة قضايا. جاءت عناوين هذه المقالات كالتالي: “سوريا ليست العراق: لماذا يمنعنا إرث حرب العراق من فعل الصواب في سوريا”، “دعم الانتفاضة الأهلية غير المسلحة”، “ضد تسليح الثوار”، “سوريا، الوحشية، وحرية تقرير المصير: ما الذي يعجز معادو التدخل عن إدراكه”.
الشبح الذي يسكن هذا النقاش -أحياناً يعترف بوجوده وأحياناً يتم تجاهله- هي حرب العراق المستمرة، التي شنتها الولايات المتحدة عام 2003، إلى جانب الفشل المريع للربيع العربي. دعاة التدخل الذين يطالبون بكل شيء ابتداء من مناطق حظر الطيران والمناطق الآمنة إلى استخدام القوة العسكرية، يصرون على أن “سوريا ليست العراق”. وهذا صحيح بالتأكيد. لا تشبه أي دولة دولة أخرى، ولا يشبه أي صراع صراعاً آخر.
بالطبع، علينا أن نتجنب الخلط الناتج عن الكسل، كما هو واضح لدى أولئك الذين ساووا بين القصف الأميركي على ميلوسيفيتش والقصف الأميركي على هانوي. تكمن المشكلة في أنه على رغم من اختلاف سوريا عن العراق، إلا أنها تشبهها كثيراً، ولا تشبه البوسنة أو تونس إلا قليلاً. فسوريا الأسد كانت مثل عراق صدام حسين، دولة طائفية، علمانية بالاسم فقط، تديرها أسرة فاسدة أشبه بأسر المافيا، وأتباعها الذين تحكموا في ثروات البلاد حكموا من خلال حزب البعث الشمولي الذي مارس عقوداً من إرهاب الدولة ضد مواطنيه، وخلق شبكة واسعة من الأجهزة الأمنية والمخبرين.
القول بأن السوريين لم يكن لديهم سوى فرصة ضئيلة لإقامة نظام ديموقراطي متسامح متعدد الطوائف ليس قولاً من قبيل الاستعلاء الاستشراقي كما رأى البعض. بل هو إدراك رصين لحقيقة المجتمع المشوه الذي تنتجه سنوات من القمع العنيف، والذي يولد بشراً مشوهين عادة ما يجمحون للانتقام الطائفي أو السياسي.
لا يعني هذا أن السلبية الكاملة التي تبناها أوباما كانت الخيار الوحيد. فقد كان لأوباما خيارات في بداية الحرب، كلها سيئة. من الصعب، بل من المستحيل أن نعرف إذا كان قد اختار أقلها سوءاً أم أوسطها أو أكثرها. لكن من الواضح أن إحجامه عن الفعل كان هدية لروسيا و”حزب الله” وإيران الذين خاضوا الحرب بكل العنفوان الذي افتقر إليه الغرب.
هل يجب إظهار صور “القيصر” للعلن؟ في نهاية المطاف، تظل هذه صوراً غير محتملة. عرضت بعض هذه الصور، في مؤتمر بستوكهولم السنة الماضية، وأثناء إحدى فترات الاستراحة، اقتربت مني امرأة شابة ولدت في السويد، إلا أن والديها كانا لاجئين سياسيين من إريتريا.
أخبرتي وقد علت وجهها ابتسامة وبنبرة خالية من الغضب أن عرض هذه الصورة يمَثّل إهانة لأولئك الظاهرين فيها. وسألتني عمّا إذا كنت سأُظهر الصور لو كان أقارب السجناء من بين الحضور؛ وعلى رغم اعترافي بأن هذا الأمر كان ليتسبب لهم بألمٍ بالغ، قلت لها إنني كنت سأفعل ذلك. عندها اتهمتني باستغلال السوريين واضطهادهم؛ فأخبرتها أن الأسد هو من فعل ذلك.
في جلسة طرح الأسئلة والرد عليها التي تلت تلك المحادثة؛ أثيرت هذه المسألة مرة أخرى. وأخيراً، وقف رجلٌ عرف نفسه بأنه شاعرٌ سوري -كان فرّ إلى المنفى قبل سنوات من عام 2011- وتحدث بانفعال وتأثر.
وقال إنَّ الناس في جميع أنحاء سوريا كانوا يمعنون النظر في تلك الصور –على رغم فظاعتها- أملاً بالعثور على أيّ أخبارٍ حول أحبائهم، وحث الناس في الغرب على ألا يديروا ظهورهم لمعاناة السوريين. سواء كان ذلك بذريعة الضعف أو الملل أو العجز أو التباس الأمور أو احتراماً لخصوصية السوريين أو أيّ حجة أخرى.
من المؤكد أن الصور لم تحقق ما كان يرجوه القيصر وآخرون. لكن من ناحية أخرى، لم تُقنع الصور الفظيعة للحملات النازية -التي وصلت إلى الغرب منذ الأيام الأولى للحرب العالمية الثانية- الولايات المتحدة بالمشاركة في المعركة؛ بل الهجوم الياباني (الهجوم على بيرل هاربر) هو الذي أجبرها على ذلك. على رغم أن صور القيصر لم تسفر عن إجراء فوري؛ فإنها سوف تُستخدم بشكلٍ شبه مؤكد في محاكمات جرائم الحرب؛ إذا ما أُطيح بالأسد وأتباعه يوماً ما.
إضافة إلى أدلة القيصر، فقد هُربت أكثر من 600 ألف وثيقة خطية إلى خارج سوريا؛ تشير إلى تورط الأسد ومسؤولين آخرين مباشرةً في ممارسات التعذيب؛ وقد وصفتها مجلة The New Yorker، الأميركية بأنها “سجل لتعذيبٍ تحت إشراف الدولة، يفوق نطاقه ووحشيته كل التصورات”.
وكما كتبت حنة أرندت عام 1944، فإن صور القيصر تجبرنا على “حصْر وتوثيق الأمور التي يفعلها الإنسان بالإنسان”. آمنت أرندت أن هذا الحصر يقع على عاتق جميع البشر؛ وأنا أيضاً أومن بذلك. إلا أن هذا بالتأكيد غير كافٍ. لكن من المستحيل تخيل أيّ شكل من أشكال التضامن أو من الإجراءات السياسية العاقلة من دون ذلك التوثيق. ومن المهم تذكر أنّ صور القيصر لم تخذلنا؛ بل نحن من خَذلناها.
نشرت صحيفة The Washington Post، في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، مقالاً طويلاً موثقاً بالتفصيل، يفيد بأن سجون التعذيب التابعة للأسد قد باتت فارغة. كان ينبغي أن تكون هذه أخباراً سارة، لكن كما هي الحال غالباً في الحرب السورية، لم تكن كذلك. أوضح مراسلو صحيفة The Washington Post، أن “تقلّص” عدد السجناء يعود إلى زيادة عمليات الإعدام. وتضيف الصحيفة أن، “الحكومة السورية لم تستجب لطلباتٍ بالرد على ما ورد في هذا المقال”.
هذا المقال مترجَم عن nybooks.com ولقراءة المقال الأصلي زوروا الرابط التالي.
درج