“فرانس5” تتذكر مكتبة داريا.. الحلم تحت القصف/ حسن مراد
على أبواب الذكرى الثامنة للثورة السورية، بثت قناة France 5، الأحد الماضي، فيلماً حمل عنوان “داريا… المكتبة تحت القصف”.
تناول الفيلم بعض الجوانب الحياتية داخل داريا خلال سنوات حصارها الأربع، حيث اعتمد فريق الإعداد على مقاطع مصورة التقطتها كاميرات شادي مطر ورفاقه.
لكن الموضوع الأساسي الذي دار حوله الفيلم، هو المكتبة التي أقيمت في أحد ملاجئ المدينة في أوجّ تعرضها للقصف، مشروعٌ انطلق بعد عام ونيف على بدء الحصار، وسلطت عليه الضوء وسائل الإعلام في حينها سواء عبر التحقيقات الصحافية أو التقارير المصورة، كما انتشرت صور المكتبة في مواقع التواصل الاجتماعي.
عرضت المحطة الفرنسية ما صورته كاميرات شادي مطر ورفاقه المتطوعين، وهم يجمعون الكتب من مختلف الأماكن (المنازل، المدارس، المساجد…). فخلال شهر، توافر لديهم ما نحو 15 ألف كتاب، أعادوا ترتيبها وفرزها وقاموا بترقيمها. لكن قبل وضعها على الرفوف، دوّنوا في الصفحة الأولى من كل كتاب اسم صاحبه تمهيداً لإعادته له لاحقاً. لم يتوقف الفيلم عند هذه النقطة رغم رمزيتها الكبيرة، إذ دلت على أمل لم ينقطع لدى الأهالي في عودة الحياة إلى نصابها الطبيعي رغم كل جولات البراميل المتفجرة.
اشكالية الفيلم طرحها شادي مطر حين تساءل: لماذا ننقذ كتباً في وقت نحن عاجزون فيه عن إنقاذ الأرواح؟ والإجابة أتت على لسانه هو أيضاً، ولو بطريقة غير مباشرة عندما قال لاحقاً: قمنا بالثورة حتى نبني وليس لنهدم.
يعتبر شادي تلك المكتبة، التجسيد العملي للسلمية التي نادى بها الثوار السوريون. مكتبة مثلت للمحاصرين متنفساً ثقافياً واجتماعيا: فإلى جانب المطالعة اقيمت فيها محاضرات تثقيفية باللغتين العربية والإنكليزية. لكن أيضاً كانت مكاناً للفرح، من خلال حفلات الخطوبة، كما للحزن عند تشييع الشهداء.
وتناول الفيلم جوانب أخرى ومتعددة من الحياة اليومية لداريا، عكست التمسك قدر الإمكان بمواجهة الحصار بالوسائل السلمية كإطلاق جريدة محلية التي لأجلها كانوا يخافون على انقطاع الورق والحبر أكثر من خوفهم على أرواحهم. إلى جانب توفير وسائل للصمود كزراعة الخضراوات وتهريب المواد الغذائية لداخل المدينة رغم كل ما يحيط هذه العملية من مخاطر.
لكن التوثيق الأقسى لحال داريا المحاصرة أتى على ألسنة أطفالها، فيما كانت الكاميرا تصورهم ويلهون بالتراب، في محاكاة لتحضير قالب حلوى، سألهم المصور: “شو جاي على بالكم؟” فرد عليه أحدهم: “كل شي”.
رغم تناول حصار داريا من جوانب متعددة، ليس صعباً ملاحظة أن مشروع المكتبة هو الذي ترك الأثر الأكبر لدى شادي، ليس فقط لأن الفيلم تناولها في جزئه الأكبر، لكن لما أحدثته من فارق حتى على المستوى الشخصي له ولاثنين من رفاقه: جهاد وأحمد.
فعندما التقى شادي، الذي يعيش اليوم في إسطنبول، بجهاد في غازي عينتاب، جلب له النسخة الإنكليزية من كتاب “العادات السبع للناس الأكثر فعالية”. أما صديقهم الثالث أحمد الذي انتقل إلى ادلب بعد الخروج من داريا، فساهم في مشروع مكتبة متنقلة. وبعدما انتقل أحمد إلى تركيا والتقى بشادي في إسطنبول، حرص الأخير على أن يكون المكان الأول الذي يأخذه إليه المكتبة الذي يقصدها بانتظام. وحين انضم جهاد إليهم، أطلعهم أحمد على ما وثقته CNN بما حل بمكتبتهم بعد خروجهم من داريا، حيث عاثت فيها قوات النظام خراباً.
فيما تقترب الثورة السورية من إضاءة شمعة جديدة، من المفيد تنشيط الذاكرة على هذا النحو خاصة للمشاهد الغربي، فلا يغيب عن البال ما كانت عليه الثورة بحلوها ومرها وأن خلف الأحداث السياسية والعسكرية سوريين وسوريات مجهولين عاشوا وحلموا بغد أفضل وأجمل.
من خلال مكتبة داريا يختزل هذا الفيلم أحد أوجه الصراع في سوريا: ثوار أوائل أرادوا بناء الإنسان، ونظام دمّر العقل والجسد معاً. حال شادي ورفاقه اليوم مثل حال الآلاف من السوريين والسوريات في أصقاع المنفى واللجوء، بعدما داس النظام على كل ما شيدوه أضحت صلتهم الوحيدة بالماضي وذكرياته: كاميرا وفيديوهات.
المدن