تظاهرات درعا:أسئلة حرجة/ إياد الجعفري
تستطيع، هذه الأيام، التقاط الكثير من “الهمس” المشكك بعفوية التظاهرات الأخيرة في درعا، في أوساط النشطاء السوريين. لكن يندر أن تجد منهم من يجاهر بذلك التشكيك علناً، خاصة لو كان ممن تتم استضافتهم على وسائل الإعلام المعارضة. إذ يبدو أن هناك تواطئاً نخبوياً، على توصيف تلك التظاهرات بأنها دلالة على ضعف حاجز الخوف، الذي عمل نظام الأسد على ترقيعه، بشكل مكثّف، في الأشهر التسعة الفائتة.
في الأحاديث الخاصة، يصارحك أحدهم بتلميح لدور روسي. لكنه يقر مباشرةً بأنه من غير اللائق، المجاهرة بهكذا تلميح. ومجدداً، تسود حالة المسايرة لرأيٍ عامٍ، تقوده رغبوية، بتجدد الثورة، وفق سيرتها الأولى، دون توفر الظروف الموضوعية لذلك.
ويحاول المراقبون عبر وسائل الإعلام، شرح الملابسات التي منحت مئات الفتيان والشبان والرجال، الشجاعة الكافية، لتحدي انهمار الرصاص المحتمل عليهم، أو قذائف هاون مرتقب تنالهم، انطلاقاً من نقاط قوى النظام القريبة جداً من المناطق التي اخترقتها التظاهرات.
كيف أَمِن هؤلاء الاستهداف؟ يجيبك أحدهم ببساطة، أن الأحياء التي شهدت التظاهرات لا تخضع لسيطرة مباشرة من جانب النظام، وأن نقاط قوى أمن النظام، تقع خارجها، فتلك المناطق تخضع لسيطرة قادة فصائل المعارضة، التي عقدت اتفاقات تسوية مع النظام برعاية روسية. لكن لا يبدو هذا الدفع، مقنعاً، وهو يتجاهل أنباء سابقة، تواترت بكثافة خلال الأشهر القليلة الماضية، عن اعتقالات نفذتها أجهزة أمن النظام بحق قيادات في فصائل التسويات، وأيضاً اغتيالات، وكذلك، مداهمات وسوق لشبان إلى الخدمة العسكرية، من المناطق ذاتها، التي يخبرونا اليوم بأنها ليست خاضعة لسيطرة النظام! فكيف خرج فيها متظاهرون، بوجوه عارية ومكشوفة، ليرفعوا شعارات تُهين النظام، في تظاهرات مصوّرة؟ ألا يخشى هؤلاء من أن تداهم أجهزة النظام الأمنية بيوتهم لاحقاً، لتعتقلهم؟ يجيبك آخر، هذه المناطق تخضع لحماية الشرطة العسكرية الروسية، أو بكلمات أخرى، تشكل هذه الشرطة حاجزاً بين النظام وبين هذه المناطق. الأمر الذي يحيلنا للتساؤل التالي: إن كانت مناطق التسويات في درعا تحظى بحماية من الشرطة العسكرية الروسية، فكيف نفسر التجاوزات التي مارستها قوى أمن النظام بحق أهالي درعا، وبشكل مكثف، في الفترة السابقة؟
يحيلك الجواب الشائع على التساؤل السابق، إلى محاولة أخرى لدفع أي تشكيك بعفوية التظاهرات، إذ يجري ربطها بحالة الاستياء المتفاقمة في المحافظة، جراء تجاوزات النظام، وعدم التزامه ببنود التسويات التي عقدها مع بلدات المحافظة المختلفة، إلى جانب إخلاله بالتزاماته على الصعيد الخدمي والاقتصادي. ويشير البعض إلى أنها تطور طبيعي لحوادث تمرد متصاعدة كانت ملحوظة في الأسابيع الفائتة، بدأت بكتابات على الجدران، قبل أن تتطور إلى عمليات استهداف مسلحة ضد حواجز أمنية أو عسكرية تتبع للنظام. لكن ذلك الدفع لا يبدو مقنعاً أيضاً، فهو يربط بين حراك مناوئ للنظام يتوخى أساليب المقاومة السرّية، وبين حراك علني لا قناع يُخفي فاعليه. وفيما يمكن فهم حدوث النوع الأول من الحراك، بل وتوقع أن يتطور، يبدو أن فهم حدوث النوع الثاني، مستعصٍ، إن أخذنا بعين الاعتبار، خبرة التعامل مع القوى الأمنية للنظام، التي يعرفها كل السوريين، في بدايات الحراك الثوري عام 2011.
في نوى، ريف درعا الغربي، يحدث ما يُعقّد إمكانية فهم جانبٍ آخر من المشهد هناك: يجتمع وفد من الضباط الروس، مع قيادات لجنة التفاوض التي سبق أن عقدت اتفاق التسوية، قبل أشهر. ويتعرض الوفد الروسي لتهديدات صريحة من جانب لجنة التفاوض، باحتمال العودة للعمل المسلح ضد النظام، إن لم يلتزم الأخير ببنود التسوية. ويتعهد الروس بالضغط على النظام، بهذا الاتجاه. هذه هي تفاصيل ما دار في الاجتماع، حسبما يُشيع نشطاء ووسائل إعلام. فهل يمكن فهم كيف ستعود بلدات محاصرة من جانب حواجز قوات النظام، للعمل المسلح، بعد كل التنكيل الذي نال من حواضنها الشعبية، في السنوات الثماني السابقة، دون أي تغيّر موضوعي في موازين القوى؟!
حينما تحاول البحث عن أجوبة أكثر موضوعية للتساؤلات السابقة، عبر الحديث مع نشطاء من أبناء المحافظة، ويتمتعون بقدر كافٍ من الإطلاع على تعقيدات المشهد فيها، يخبرك هؤلاء أن هناك انقساماً بين أجهزة أمن النظام، فـ “الأمن السياسي” و”المخابرات الجوية” يخضعون لسيطرة النظام وإيران، وهي الجهات الأمنية التي تتحمل مسؤولية التجاوزات الكبيرة بحق أهالي درعا، في الأشهر القليلة الفائتة. فيما يبدو “الأمن العسكري” أقرب للسيطرة الروسية، وأكثر ميلاً للتسويات مع الأهالي. وهكذا تصبح الصورة أوضح نسبياً. فرفض الإقرار بوجود دور روسي، ولو غير مباشر، في الحراك التظاهري في درعا، يبدو ضرباً من الانفصال عن الواقع. وأمام ما يصلنا تباعاً من أنباء عن تنافس إيراني – روسي في بلدات درعا، وصل إلى درجة إغراء الشباب بالمال من جانب شخصيات محسوبة على إيران لإقناعهم بعدم الالتحاق بالفيلق الخامس “الروسي”، تصبح الصورة أكثر وضوحاً.
ما سبق، ليست محاولة للطعن ببسالة المتظاهرين في بلدات درعا، كما أنها ليست محاولة لتثبيط الهمم، أو بث روح انهزامية. لكنها دعوة لعدم تكرار مثالب سبق أن وقعت فيها نخب الثورة بسوريا، وأبرزها الرغبوية، وعدم مصارحة الجمهور بالحقائق، تجنباً لغضب الرأي العام، أو التخوين، أو الاتهام. فكانت النخب الثورية تزايد على الجمهور، فتقوده، ربما دون قصد، نحو تصعيد، قد لا تكون الظروف الموضوعية تخدم غاياته. فإذا كان الحراك التظاهري في درعا، مدفوعاً من قوى محسوبة على روسيا، فيجب الحذر، وعدم الاندفاع، وفي الوقت نفسه، لا بد الاستفادة من حالة الصراع الإيراني – الروسي، التي تصبح، يوماً تلو الآخر، أكثر جلاءً، شريطة ألا تصبح الحواضن الاجتماعية الثائرة، إحدى أدوات هذا الصراع، بصورة تخدم أهداف أطرافه، لا أهداف تلك الحواضن الثائرة. وبكلمات موجزة أكثر، يجب أن نحذر من أن نكون أدوات، مرةً أخرى.
المدن